بحر الأنس
قال أبو الحسن الشاذلي:
«اللهم إنا قد عجزنا عن دفع الضر عن أنفسنا من حيث نعلم بما نعلم، فكيف لا نعجز عن ذلك من حيث لا نعلم بما لا نعلم؟ فمتى فتح لك أيها المريد باب الفهم عنه في المنع، وعلمت ما فيه من الشر والخير، وحسن النظر لك، عاد المنع في حقك هو عين العطاء.»
قال أبو العباس المرسي:
«أهل المحبة والشوق على قسمين: قوم اشتاقت نفوسهم على الغيبة، فلا سكون لهم إلَّا باللقاء، وقوم اشتاقت أرواحهم على الحضور والمعاينة والشهود، فلا سكون لهم إلَّا بالغوص في بحر الأسرار، وتنزُّل المعاني على قلوبهم.»
أزعجت عباس الخوالقة شائعة تناقلتها الأفواه في الحلقة، أن الحكومة ستمنع صيد الترسة. هي عدو القناديل، ولا بد أن تحيا، وتتكاثر، لتواجه خطر القناديل.
قال لمحمود في لهجة تحذير: هذه مسئوليتك.
منذ اختطف الموت مصطفى، ترك لمحمود التعامل مع مصلحة المصايد وخفر السواحل، وصيادي البلانسات، والسماكين، وشروات الحلقة، وإيجار شقق العمارتين في الحجاري والكورنيش. لا يسأله عن تصرُّفاته. يأخذ ما يُعطيه له محمود، يدسه — بتلقائية — في جيب السيالة، أو الجلباب.
قال جابر برغوت بنبرة متوعدة: هذا نذير.
وداخل صوته المتسائل غضب: ألَا بد — لكي تصدقوا — من ظهور الدابة والمسيخ الدجال؟!
راعه نور لامع كالومضة، عبر الأنفوشي من خلف مساكن السواحل إلى سراي رأس التين، واختفى. خطف نظره، فغابت ملامحه، وما إذا كان شهابًا أو معجزة إلهية يقتصر فعلها على أولياء الله الصالحين.
لو أنه أطال النظر، ربما اكتملت الإشراقات والإشارات النورانية.
لاحظ أنه يُطيل — في الفترة الأخيرة — مراقبة حاله مع الله، ويترصَّد خطوات نفسه. أنس إلى الخلوة. استوحش ممَّن ضدها. وقف في محل المناجاة. تعلم أسرار الحضرة: المفاتحة، والمواجهة، والمجالسة، والمحادثة، والمشاهدة، والملاطفة، وصفاء التسبيح. قطع المسافات، وقاسى الشدائد والأحوال، واستقام في مواصلة السرائر، واستبصر بشموس المعارف، وتمكَّن من البساط من حيث القرب، حتى تكشَّفَت له الأنوار، وأدرك المقامات، وملأ نور المعرفة زوايا نفسه. تمنَّى أن يُحيي طرق الأنفاس الصادقة بعد درسها.
مضت أزمان وهو في حال التطهر عن محبة المخلوقين. أزمع أن يترك التقدُّم بين يدي الله، فكل شيء موقوت بأمره وشرعته. وكان يلزم معظم وقته مقام سيدي الأنفوشي في جامع علي تمراز. يتولى بنفسه تبخير المقام، ويوقد الشموع، يؤنس نفسه بالذكر، وتحصيل الأوراد، ويقرأ من حزب الشاذلي. يدرك أن مَن صدق في الولاء، وفي التوجه، وسلامة القصد، لا يحتشم من مقاساة العناء، وتحمل الأذى. وكان يردِّد «السلام جل جلاله» ليسلم من شياطين الإنس والجن، ووسوستهم، وكيدهم.
فاض الوارد الإلهي عليه، غيَّبه عن نفسه، واقتطعه من مشاعره. احتدَّ بصره وبصيرته، وأصاخ السمع إلى الهاتف بداخله. استروح ما لاح له من مكاشفات الأقطاب، وسمع وَقْع أقدام النمل. أحسَّ بتعاظُم في داخله، فهو أكبر من الفراغ المحيط. زادت الأمكنة اتساعًا. امتلأت بالتكوينات المتراقصة والألوان والظلال. أشرقت الآفاق بضياء لم تألفه عيناه، وسرت أشعة الشمس ساطعة، باردة، بأشواق الروح في بدنه. تشكَّلَت حركات واختلاجات وتمايلات وارتعاشات. ارتفعت الأشكال الشفافة إلى الفضاء العلوي. تراقصت الحوريات في الجنة. انبعث من داخل النفس أصوات نورانية لم يستمع إليها من قبلُ، ولا يعرف كيف أتته. تعالت الهمهمات والقراءات والتلاوات والأدعية والابتهالات والتسابيح والأهازيج والزغاريد، وتردَّدَت الأصداء. اختلطت أهازيج السحر بأصوات الملبِّين حول الكعبة. تصاعد الذكر. شحبت — في ارتفاعه — كل الأصوات المتلاغطة، وعلت دقات الدفوف ونغمات الموسيقى وأصوات المنشدين والمغنين، وترنمات الأوراد الصوفية، وتضوعت روائح الورد والمسك والنرجس والكافور والطيب والعنبر.
تاه في عظمة الله. تحيَّر في قدرته. خشع له بدوام الانكسار. شغل قلبه بتسبيحه، عوَّد نَفْسه الاشتغال بذكره، ألزمها حجة الرحمن. شرب في كأس حُبه. غرق في بحر أنسه، وتلذَّذ بمناجاته. لا يتدبَّر، ولا يختار، ولا يريد، ولا يتفكر، ولا ينظر، ولا ينطق، ولا ينبسط، ولا يمشي، ولا يتحرك، إلَّا بالله العلي العظيم. تبدو له بوارق أمل في ضبابية الأشياء، فالمدد لا ينضب، والخصوبة لا تنتهي.
ركن إلى راحة ضميره. تيقَّن أنه قد قام بكل ما أوحى به إليه وأمَرَه أولياءُ الله الصالحين.
ظلَّ على نذره للرحمن بالصمت مع الخلق، وترك المخاطبة معهم. هجر هوى نفسه، وجانب ما يشغله ويحجبه عن الله. لم يحفل بدعوى الناس، ولا لما أصابه من بلاء، وظلَّ الصبر هو الغالب من أحواله، واستغرق الإيمان بالله جميع أوقاته.
قال للغضب في عيني أمين عزب: أنا مجرد ناقل رسالة.
زعق أمين عزب: مَن أرسلها؟ وإلى مَن؟
واجهه بعينَين محدِّقتَين: أمرني بحملها سيدي الأنفوشي إلى كل مَن رأيته ولو مرَّة في حياتي.
انتزع ابتسامة مريرة: هي ولاية إذَن؟!
دون أن يجاوز هدوءه: أنقل الرسالة. ثم أعود إلى الخدمة في جامع سيدي ياقوت العرش.
لم يحاول في نفسه أن يجاوز ما هو عليه: خادم سيدي ياقوت العرش. وضع على كتفَيه عبء التكليف، ومضى. يبحث عن ولي الله الأنفوشي في الجوامع والمساجد والزوايا وأضرحة الأولياء. يتلقى الأوامر وما ينبغي عليه فعله. ينفذ ما طلبه ياقوت العرش. لا يضيف ولا يحذف ولا يتصرَّف بالهمة، حتى يؤدي الأمانة بالتمام، فيعود إلى مألوف أيامه. لم يدَّعِ لنفسه العصمة، ولا الاطلاع على حقائق الأمور وأسرار الشرع، والاستغناء عن النظر والاجتهاد بالظن. تيقَّن أنه ليس من أهل الأسرار والإشارات. لا شأن له بولاية، ولا مطمح، ولا تطلُّع إلى حياة غير الحياة التي اعتادها. إن هو إلَّا محب للتصوف وأربابه، لم يذُق ما ذاقوه، ولا عرف ما عرفوه. يقف على ساحل السلامة، في حين غاص أولياء الله في البحر دون أن يخشوا الغرق. للقطب خمس عشرة كرامة، يصعب عليه أن يرقبها. الظل الوارف غاية السائرين — مثل الراكشي — في طريق الاجتهاد، لا يصرفه انشغال بدنيا ولا بآخِرة. أحوال أولياء الله مع الله، كما حال الناس قبل الخلق وإنزال الشرائع.
تفجر في داخله من الطاقات ما لا يقوى على كتمه. خربت الأرواح، فزايلتها الحقائق. لم يحصل الخلق على الموعظة في الوباء الذي بدَّدته بركات الأولياء، ولا في الحريق الذي أكل بيوتهم وأموالهم، ولا في قناديل البحر التي اقتحم بها الخوف كل البيوت. تلبست عليهم حقائق الأشياء، فظنوا القبيح جميلًا. سلكوا سبل الغي، وتنكبوا سنة الرشد، واشتغلوا بما يُلهي عن الحق.
طويت الصحف، وجفَّت الينابيع، وشحبت الألوان، وذوت، وانطفأت الإشراقات، وانطمست رائحة العطور. اضمحلَّت الديانة، واستولت الغفلة، ومحا الله الإيمان من القلوب، وعمَّت الفتنة، وفشت الضلالة، وقلَّ العلم، وشاعت الجهالة، وفشا الفسوق والعصيان، وقطعت الأرحام، وبيع الحكم، وعطلت الحدود، وعز الحق، وكثر أهل الفساد، فغلبوا، وقلَّ أهل الصلاح، ففقدوا، وأُهينت النفوس المكرمة، وهلك الفقراء من الناس، وتعطَّلَت الحدود في كل جوانبها، وعظم الكرب، واشتدَّ البلاء، وعظمت المحن، وشاع ما هو من أشراط الساعة. بدَّل الخلق نعمة الله كفرًا، ولم يقابلوا إحسانه لهم بالشكر. الناس في بحار القدرة، تتلاطم الأمواج حول سفينتهم، لا ينجو إلَّا مَن يشاء الله بنجاته.
صغرت الدنيا في عينَيه، وأثقله الفزع من العقاب. لم يعُد يؤدي صلاة الجماعة في مساجد الحي، وإن لم يدَّع إسقاط التكليف، ولا الراحة من أعبائه، ولا حاول مجاوزة السكون والرضا بحكم الذات الإلهية. الجماعة وحشة لا أنس، والبدع والمنكرات تتكاثر، فهي بلا حصر.
هل دنا فناء الدنيا، وزوالها، وأذنت بالوداع؟
لجأ — بالدعاء — إلى الأخيار من رجال الغيب. سبعة أو ثلاثمائة، لا يعنيه العدد. ما يعنيه مواضعهم بعد العمد، وقبل النجباء، لكنهم في سياحة دائمة بلا مسكن ولا مستقر، وإن أكدت الروايات أن إقامتهم في مصر. أكثر من الدعاء ليهتدي إلى البدلاء السبعة. يشرق على سره أنوار صحبتهم، ويقع عليه شعاعها. يُلامسه، فينقله من حال إلى حال. قيل إن البدلاء سبعة، وقيل: إنهم أربعون، يعرفون سائر الأولياء، ولا يعرفهم من الأولياء أحد. إذا نقص واحد من الأربعين أُبدِل مكانه من الأولياء. حتى النجباء القائمين بإصلاح أحوال الناس وحمل أثقالهم. لم يلتقِ بالمشاهدة، ولا بالإلهام، بواحد من الأربعين. قيل إنهم يتصرَّفون في حظوظ غيرهم، وإن كانت حظوظهم بلا مزية. تطلع إلى الأوتاد، الرجال الأربعة من رجال الغرب، في مقام التمكين، منازلهم على منازل جهات العالم الأربعة، ثبتت أركانهم، وبهم قوام العالم كالأوتاد للخيمة، مع كل وتد خيمة، فهم أفضل من البدلاء متبدِّلي الأحوال والمقامات، وأخص من البدلاء وأرفع درجة. ثبتت أركانهم.
ثمَّة لائحة برقت له من حيث لا يدري، ثم انطفأت. صبر على الوجيعة، وسلم النفس إلى مولاها، يظهر خصوصيته في أقوال وتصرُّفات. ينزل في ضيافة الحق: الخلوة مجلسه، والأنس شهوده، والجوع طعامه، والمحبة شرابه.
طال توقعه لما صدق المجاهدة في انتظاره، من ولي الله الأنفوشي، أو سواه من أولياء الله الصالحين.