حلاوة القرب
تنبَّه لصوت محمد كسبة يغني.
كان يمشي على الكورنيش بلا هدف. أغلق الكشك لتناول الغداء والقيلولة. مضى خطوات ناحية البلقطرية، ثم مال — بعفوية — ناحية الكورنيش.
مال بأعلى كتفه يشاهد ما يجري. الفلوكة بالقرب من الشاطئ. الرجال فوقها، والغزل في الأيدي. وثمة أولاد تناثروا على المكعبات الأسمنتية، يشاهدون.
صياد ورامي الشبك … م الفجر في الميَّة
باسرح واروَّح يوماتي … أعد الموج في الميَّة
آهين يا عشاق … دا صيد السمك غيَّة
ما تكونش مكروش … لا البحر فيه وحوش … وتطب في الميَّة
صياد ورامي الشبك … م الفجر في الميَّه
صاح عم منجي: سمك المنشار غرس في البلانس.
ضرب محمد كسبة وجه الماء — بقطعة خشب — ضربات متوالية. ألقى قطعة الخشب على أرضية الفلوكة، ومسح جبهته بظهر يده: فصلت الجسم عن الرأس الملتصق بالسفينة.
واتجه إلى ولد في الثانية عشرة: اصطده يا رأفت بعد أن يطفو.
أطال الوقفة.
تأمل صيد الجرافة منذ البداية. ثلاث ساعات، وربما أكثر، قبل أن توضع الأسماك في الطبالي، وتُباع في شروات على الشاطئ، أو تنقل إلى الحلقة.
سار القارب في الماء نصف دائرة. مسح محمد كسبة المنطقة المحيطة بعينَيه. لا صخور كي لا تتمزَّق الشباك عند سحبها إلى الشاطئ، والموج حصيرة، فيسهل سحب الشباك. ألصق أذنه بقاع البلانس، ينصت إلى حركات الأسماك وأصواتها. تأكد من وجودها في المياه حوله. فدعا الرجال إلى إلقاء الجرافة.
ألقى الرجال الشبكة ذات الأعين الكثيرة. أسفلها مثقل بالرصاص، واتصلت من أعلى بعوامات من الخشب، وربط طرفاها بحبلَين طويلَين. الْتَقى نصف الدائرة عند وصول القارب إلى الشاطئ في موضع موازٍ. كأنما الشبكة بالون كبير الحجم، داخل المياه، لا يبين منه سوى الأطراف التي طفَت بقطع الفلين والعوامات. ثم بدأ مجموعتان من الرجال في سحب طرفي الحبلين، وقطع الرصاص تجرف القاع والأسماك والأعشاب والطحالب. تقافزت الأسماك داخل الشبكة. مختلفة، كبيرة وصغيرة. تنفذ البسارية من الثقوب الضيقة.
ترامى صوت محمد كسبة من أسفل الكورنيش: تريد عفشة يا سيد؟
اغتصب ابتسامة: يكفي الحظ!
قذف عم منجي بالغزل في الماء: إذا أخذنا صغار السمك. ماذا نصطاد في الأيام القادمة؟
شوَّح محمد كسبة في استياء: المنطقة مليئة بالكابوريا. تأكل السمك والغزل أيضًا.
قال صابر الشبلنجي: أحلَّ الله الزواج من ثانية. وأحلَّ الطلاق.
اربدَّت ملامحه: ماذا تقول؟
– من حقك أن تطلِّق الولية أو تتزوَّج عليها.
أغمض عينَيه، وهز رأسه: أنسية بنت حلال.
قال صابر: ومَن أنكر؟
غلبه التأثر: الطلاق مستحيل. وزواجي عليها يقهرها.
وقال في تأثره: ما عدا مسألة الخلفة. فأنا أشعر مع أنسية بالاطمئنان. ولا يمر بي من ناحيتها خاطر سوء.
وهز يده في الهواء: ربما لا أجد ذلك مع امرأة أخرى.
أطلق صابر شخرة: اقتنع بما أنت عليه إذَن!
خايله وجه أنسية، سمرتها الرائقة، وملامحها المنمنمة، وحركاتها الطفولية. لا يتصوَّر نفسه داخل شقة مع امرأة غيرها. هي الصورة الوحيدة للزوجة. لا يأتي في باله سواها. شحبت كل الصور قبل أن يظهر سيدي ياقوت العرش في حياتهما. حتى الأيام التي كان في حياتها، مثلما كان في حياتها رجال من بحري، لا تشغله، ولا يحاول تذكرها. ما يتذكره هو وجودها في حياته، منذ دعوتها له إلى بيت سيدي داوود. الأيام القديمة حلم لم يبقَ منه في الذاكرة إلا مشاهد غائمة، تختلط بمشاهد وجودها، في حياته، في البيت: انتظاره لها — في عودتها من بيت عبد الله الكاشف — على ناصية دحديرة أبو العباس. تناول الغداء على نجيل حدائق الشلالات. انشغاله بها إلى عدم النوم، بعد أن تطفئ قهوة كشك أنوارها. ليلة الزفاف في قهوة كشك. أنا مقطوع من شجرة. قول الطبيب: الحمل طبيعي ولا يوجد ما يقلق. دلق الماء الفاتر على قدميه المتعبتين. انشغالها بنسج ملابس تريكو للمنتظر. التماعة الخوف في عينَيها من لوك فص الأفيون. ترقبها لمجيئه خلف النافذة المواربة. قدومها بفرحة الحصول على الشقة. ياللي على الترعة حوِّد ع المالح. بيومي جلال يقذف بالطبلة إلى أعلى، ويتلقفها. الحانطور يقلهما إلى البلقطرية. تعدمني. أنت الآن زوجتي بالورقة والقلم. لن أبات جعانة وزوجي خباز. ضحكتها المكتومة وهو يداعب — من تحت الملاءة — باطن قدمها. عودته كل مساء بوردة من الحديقة المجاورة لمستشفى الملكة نازلي. جلستهما أول كرسي بالعربة العلوية في ترام الرمل، ينفسَّح أمامهما الطريق بناسه وميادينه وشوارعه وأنواره الملونة. نظرتها المتابعة، وتلويحها، قبل أن يغيب في نهاية الشارع. الوقفة بين ضلفتَي النافذة المواربة، تنتظر عودته. إغواء البلاط الأملس بالتمرُّغ عليه. ينقلبان عليه مرات، حتى يصطدما بالجدار، ثم ينقلبان ثانية. تقلص أصابعها في مقصورة أبو العباس، وعلى الوسادة بآلام المخاض المفاجئ. نذرها — إذا أنجبت — أن تتولى التسحير في شوارع بحري. إنصاتهما لنصائح الشيخ مكي قارئ سيدي نصر الدين. أنا أقبل من الله إصبع طفل. التعاويذ والتمائم والأحجبة وزيارة الأولياء، وتناول الأعشاب والوصفات. نشيجها الذي قتله حين أقدم على أذيتها.
زايله الضيق. حلَّت مشاعر إشفاق ومؤانسة. أزمع ألا يعيد على أنسية ما قاله الشبلنجي. يخشى أن تظن موافقته، وأنه يمهد لما يعد له. تذهب إلى بعيد، تتصور الطلاق نهاية. ما لم يكُن يخطر في باله ولا يشغله. ألفة وعادة وعشرة، لا يتصور الحياة بدونها.
كان مستلقيًا على كنبة الصالة. أسند ذراعيه على المسند بامتدادهما. جلست تحت قدميه، ومدَّت يديها — كما اعتادت — لتنزع حذاءه.
فاجأها — وفاجأ نفسه — برفسة من قدمه في صدرها. شهقت، ارتمت إلى الوراء، وهي تطلق صرخة مكتومة. تحاملت على نفسها، واستندت على يديها، ومضت — باكية — إلى حجرة النوم.
لماذا فعل ما فعل؟ لم يكُن ضايقها من قبل ولا آذاها، فلماذا فعل ما فعل؟ يثق أنها تكابد نفس مشاعره، وربما أشد.
علا صوت نشيجها. تقدم إلى حيث تجلس على طرف السرير.
– آذيتك.
احتضنها بنظرة ود: لن أسامح نفسي.
وربت صدرها: لم أعُد أطيق نفسي!
•••
دخلت علي تمراز مدفوعة بحكايات تعيدها إلى مكاشفات أبو العباس وياقوت العرش. جثت على ركبتيها، واقتربت من الشيخ جابر برغوت، في جلسته المتعبدة لصق المقام.
كان الصباح في أوله. الجامع بلا مصلين ولا زوار، فيما عدا الشيخ، وعم سلطان المشغول فيما لم تتبينه ناحية القبلة.
زحفت، حتى اقتربت. ألجمها التهيب، فحافظت على مسافة بينها وبينه. حاولت استعادة كلمات أعدتها، تصل بها إلى قلبه، وتحرك مشاعره.
ظلَّ الشيخ على إطراقه الهادئ. ثم فاجأها بالقول: لن ينسى الله عباده الصالحين.
أيقنت أن للشيخ سره الباتع. يعرف ما يجول في الخواطر، ويعلنه. الله لن ينساها إذَن. اقتص لها سيدي أبو العباس من الظلم، ووهبها سيدي ياقوت العرش ما بدا في حياتها كالمستحيل، فالله لن ينساها.
تراجعت في جلستها، حتى لامست جدار حجرة الشيخ عبد الحفيظ، على يمين الباب الرئيس.
قامت باللهفة.
عمق السكون السادر، صدى زغرودتها الطويلة، المجلجلة.