العودة إلى البحر
كان الصباح رماديًّا، ومرسى المراكب يتنفَّس الهدوء، حين فك الحبل من البروة، وقفز إلى لنش حمادة بك، وانطلق.
رحلة العودة — بعد ما حدث — نصف ساعة، أو أقل. ظلَّ البلانس في اتجاهه إلى الأمام، حتى ظهرت نصف الدائرة في امتداد الشاطئ بين السلسلة وقلعة قايتباي.
مضى باللَّنش في الاتجاه نفسه، وهو ينظر إلى الساعة المثبَّتة في التابلوه.
كان يتمشى بلا هدف، عندما رأى مفتاح اللنش متدليًّا من الموتور.
طقَّت الفكرة دون تدبُّر. أسقط الأسئلة والتوقعات.
يعلم أنه خرج لملاقاة سمكة بالذات. لا يدري تمامًا إن كانت كذلك، أم أنها وحش بحري، كما روى الرجال وأمَّنَ المعلم عباس الخوالقة، أم هو جن بحر، كما قال حمودة هلول. هو لن يستطيع ركوب البحر إلا إذا لقيها، تنتظر لقاءه. تصارعه. يقتلها، فيُتاح له العودة إلى البحر.
لما أسند الحقيبة القماش الصغيرة على كتفه، واتجه إلى داخل السيالة، كان يدرك أن رفضه لِما قرَّرَه عباس الخوالقة بلغ حدَّ القطيعة.
غادر حلقة السمك إلى الناحية المقابلة. ابتلعَتْه الشوارع الضيقة، الملتوية.
كان المعلم بمفرده يُحصي إيراد اليوم.
ظلَّ في مكانه إلى جانب الطاولات الفارغة.
– الجد السخاوي.
علَت وجه الخوالقة ابتسامة فاهمة: أعرف ماذا تريد أن تسأل عنه؟ لماذا أوكلت إليه وحده مسئولية البلانس؟
في صوت ممزَّق: طول عمري السكوندو …
قاطعه الخوالقة بإشارة من يده: أنا أدرَى بالصح والخطأ.
شوَّح بيده في تهوين: ما واجهناه في البحر مجرَّد سمكة.
رمقه بانعكاسات ضِيق: هل رأيتها من قبلُ؟
لَمْلَم جرأته: وهل رأينا كل أنواع السمك؟!
فاجأه استطالتها بالقرب منه. كأنها تقف بذيلها على الماء. لم يلحظ وجودها، ولم يلحظ حتى الخدوش في ذراعه، وهو يدفع — بعفوية — ارتطامها به. انطلقت الحَربة من يد إبراهيم فرغلي. أصابتها في كتفها، فانطلقت في سرعة مُذهِلة، وفي مدارات متقاطعة. وكان قد ومض في عينَيها ما أرعَبَه.
وهو يخطو على السقالة للرحلة التالية، منعه عباس الخوالقة بإشارة من يده: خذ إجازة يا قاسم.
حدَجَه بنظرة متسائلة: لماذا؟
قال الخوالقة في صوت باهت: الوحش يترصَّد لك. قد يُغرق البلانس كله.
داخلت صوته ارتعاشة: إنه مجرَّد سمكة … ولا تعرفني.
أدار الخوالقة عينَيه: يعرف رائحتك … ولن يفلتك إذا ركبتَ البحر.
واجه الرفض عند كل المعلمين.
بدَت السمكة، المخلوق الهائل، الوحش الذي لم يُرَ منه سوى عينَين ناريتَين، مساويًا لحياته. لن ينزل البحر ما دام الوحش في أعماقه. ما دام قد عرف رائحته، وينتظره. تخايل له، لاحَقَه، ارتسم له في أشكال لا تنتهي. حتى الصورة التي ظلَّت في باله لأيام، تداخلت بصور أخرى، رسمها الرجال، وأضاف إليها. جاوزت الصورة المحددة، وإن مالت إلى الطول والامتلاء والسحنة المخيفة.
همس حمودة هلول: لعله جِنِّي أغضبَتْه مخاواتك لجِنِّية البحر.
وانتزع ابتسامة: لعلك أخذتها منه.
الجد السخاوي تحدَّث — ربما لجرأته — عن مخاواته لجنية. أنت مخاوي يا ولد. تلقَّف القول، وتفاخر به.
قال: هذا مجرَّد كلام.
قال هلول في جد: الجد السخاوي لا يقول إلَّا ما يَعنيه!
قبل أن يغيبه زحام شارع الميدان، ظهر أمامه فكري، جرسون قهوة مخيمخ. دسَّ في يده ورقة مطوية، واختفى في الزحام.
رنا — بعفوية — في طريق العودة إلى الوجه الباسم في المشربية المُطلَّة على شارع الموازيني.
عندما سأله فكري في جلسته على قهوة الزردوني، تلفَّت في حيرة: إنها سيدة متزوجة.
قال فكري: أصارحك بأني كلمتُها في ذلك. قالت: إنها لا تحبه.
تململ في جلسته: ولماذا قبلَتْ؟
اقترب بفمه من أذنه: قالت: إنها لم تتزوج منه باختيارها. فرضه أهلها عليها!
دفعه الغرياني في كتفه: لا أقيم علاقة مع امرأة متزوجة.
رمقه فكري في توجُّس: هل هذا هو الغرياني الذي يعرفه؟
بدا التوجُّس ذهولًا عندما فزَّ قاسم: يكفيني وحش واحد!
ظلَّ على اندفاعه إلى الأمام، وإن بدا الطريق كثير الانحناءات، مملوءًا بالنتوءات الصخرية والطحالب والأعشاب.
هل أدرك عباس الخوالقة أنه يقذف به بعيدًا عن دنياه: البحر والبلانسات والصواري والقزق والغزل والمداري والجرَّافات والصيد والحلقة والسمك والجو العدل والغليني والشرد والنوات ونفضات الشعير وسحابات الطير ورائحة الملح. لا يتصوَّر دنيا غيرها.
لا بد أن يأذن له الخوالقة بالعودة إلى البحر، وملاقاة السمكة، الوحش، الجسم الهائل، الجِنِّي. قال الخوالقة نفسه: توقَّع الخطر أقسى من مواجهته. ربما مضت الأعوام، فلا ينزل البحر.
خالط تحدِّيه خوف في اقترابه من المنطقة التي لا بد أن السمكة الهائلة ظهرت فيها. امتد الزمن، واتسع، واختلط، وتشابكَ. تحوَّل إلى لحظة واحدة، فاصلة بين الحياة والموت. لم يشعر — من قبلُ — بهذا الخوف. تلاحقت أنفاسه. علا صدره، وهبط. ارتعش في وقفته، وارتعش كل جسمه. حتى أسنانه اصطكت، فلا يستطيع إيقافها. تحسَّس السكين الطويلة على جانب البنطلون، وتمتم بما أسعفه به لسانه من آيات القرآن.
تعثَّر في وقفته لمروق طائر بالقرب من أذنه. تساند — حتى لا يسقط — على البروة.
حدَّق في سطح البحر الساكن. الأسماك الصغيرة تتقافز. تُحدث صوتًا كالهسيس، والمد يُلقي بالأعشاب الخضراء، الداكنة.
تنبَّه لصوت احتكاك بجانب اللنش. ثار الموج الساكن، واهتزَّ اللنش، وتمايلَ في وقفته. استند إلى البروة براحة يده اليسرى، وانتزع السكين باليد الأخرى. اتجه بنصلها إلى توقُّع الخطر.
صرخ لانبثاق الموج أيمن اللنش، عن جسم هائل، لم يتبيَّن ملامحه، وإن فطن إلى العينَين الناريتَين تعلوان الخلقة الغريبة. ليس إنسانًا، ولا حيوانًا، ولا سمكة مما يشغى بها البحر، ويعرفها.
لطم الجسم الهائل جانب اللنش بذيله العريض. تصوَّرَ — لشدة اللطمة — تحطُّم اللنش. مال اللنش. دفعه هيجان الموج إلى وجهة أخرى.
مال بدوره، وأطلق السرعة، فطار اللنش فوق المياه.
أبطأ من سرعته في مواجهة السؤال: هل يعود إلى الشاطئ، فلا يركب البحر ثانية؟
عاود تحسُّس السكين المُدلَّاة بجانبه، والْتَقطَ من الأرضية عمودًا من الحديد، وأدار عجلة القيادة إلى الناحية المقابلة.
بدا الوحش كأنه ينتظره. بُعد المسافة أتاح له تأمُّله، الطول البادي فوق الموج يشي بأنه أقصر مما يتذكَّره. الجسم لسمكة وإن بدا بلا زعانف، والذيل عريض. وكان متحفزًا، متوثبًا، يهم بما لا يتوقعه.
اندفع الكائن نحو اللنش كعاصفة تداخلت مع الأمواج، عمود دخان تعالى في الجو. لطم بذيله جانب اللنش. قذف به بين الأمواج، علَت، توالت، تكسَّرَت على جوانب اللنش. شعر باللنش يتأرجح ويتمايل. لم يعُد ثمَّة أُفُق. اختلطت المشاهد، وتمازجت، وتشوَّشَت. بدت مزق صور، ونقاط ضوء متباعدة.
تساقطت المياه داخل اللنش. لم تستطع الفتحات تصريفها. انحرف ثانية، وانطلق إلى نتوء صخري تعلوه طحالب وأعشاب. أطال الوقفة وراءه، حتى خلت أرضية اللنش من الماء. تلفَّت حوله. ثم أدار الموتور. ولفَّ — عائدًا — حول الصخرة الصغيرة.
لم يكُن الوحش — حين عاد — في موضعه.
بدا الموج حصيرة، وإن حلقت فوقه طيور دائمة الصراخ.
خمَّن أنه أفلت منه. أطال تأمُّل الموضع. الأمواج تلال صغيرة، وأشعة الشمس تسقط في زاوية حادة على سطح المياه، حزم متشابكة من الأشعة المضيئة، تبين فيها أسراب الأسماك المتداخلة. وثمَّة قطع سُحب داكنة، تزحف من الأفق، والريح «طياب» مشبعة برائحة الملح واليود والأعشاب، وكركرة بلانس تترامى من بعيد.
أحسَّ بوجود الكائن الغريب، وإن لم يتبيَّن موضعه.
أدرك أن الوحش يُراوغه، يُغريه بالمساحة الممتدة بلا أُفُق، فيصعب عليه الفرار. شعر بجفاف في حلقه، وبما يُشبه الاختناق يضغط على صدره. حبل الْتفَّ حول عنقه، فهو لا يقدر على التنفُّس.
صرخ — بعفوية — لطلوع الجسم الهائل من الناحية المقابلة. عيناه الثاقبتان، الثابتتا النظرة، وجسمه الهائل، المكتنز، الدائم الاهتزاز، وشاربه الكثيف، وزعانفه كأنها أشرعة صغيرة، متداخلة. وكان ينفث دخانًا أبيض من فتحتَي أنفه وعينَيه وأذنَيه.
امتلأت أرضية اللنش بدفعات من الماء، فقاربت حافته الموج.
داخله في وقفته خلف الصخرة إحساس بالعجز والهزيمة. وتخاذل ساعداه. لم يعودا قادرَين على الحركة.
تملَّك الوحش هياج. اندفع الدخان من فتحتَي أنفه، ثارت الأمواج لقوته، وفاضت المياه على جانب اللنش.
نسي الخوف من الوحش، والخوف من الموت نفسه.
استجمع ما تبقى من قواه. جزَّ على أسنانه، وتقلَّصَت راحته على السكين.
مال بها إلى الوراء، ودفعها — بآخِر ما عنده — في الجسد المتطاول.