أصوات بلا أصداء
في غبشة الفجر، سبق حمادة بك — في سيارته الصغيرة — سيارتي النقل إلى الرمل.
بدا الابتعاد عن بحري منفذًا وحيدًا من الورطة التي أوقعته فيها اندفاعاته. شغلته ثمار اللحظة، فانطمست الاحتمالات الغائبة.
الخوف من أن ينتقل السر من فم أنسية، إلى آذان المتردِّدين على بيت سيدي داوود، لا شيء أمام مناداة عم محجوب له: يا حمادة. لم يتصوَّر أنه يمكن لأحد في بحري أن ينطق الاسم مجردًا، بلا صفة تسبقه، أو تتبعه. هو الأستاذ حمادة منذ وعى، وهو حمادة بك منذ نقل الرجال التسمية عن الحاج قنديل. إذا اقترنت المناداة الجديدة بظروفها، فإن الفرار من بحري هو التصرُّف الذي يجدر به أن يفعله.
اكتفت نهى بالسؤال: لماذا؟
قال وهو يتحاشى نظراتها: أبدًا … زهقت من هذا الحي.
لم تناقشه، ولا أظهرَت رأيًا، وإن كتمت الإحساس بالراحة في داخلها. رحَّبَت بالقرب من بيت أبيها، وما صادفته في دولاب ملابسه يشي بتصرُّفات لا تعرفها. أدركَت أن الانتقال إلى الرمل فرار من مأزق يواجهه.
فاجأ إمام أبو العباس المصلين، وحمادة بك في الصف الأول، بالقول في خطبة الجمعة: إن مع كل امرأة شيطانًا، ومع كل غلام ثمانية عشر شيطانًا.
تحدَّث الإمام عن إهمال الاستعداد للآخرة، والغفلة عن الموت، والتدنُّس بالمعاصي، واجتناب الكبائر. وقال: ممَّا تمادى عليه أهل هذا الزمان — كما أنبأنا حكيم — مباسطتهم، ومؤانستهم للعاصين، واحترامهم، ومقابلتهم بالبشاشة والإجلال، والثناء عليهم في المجالس، ومخاطبتهم بألقاب الشرف، ومصاحبتهم طمعًا فيما عندهم، أو خوفًا من بطشهم، مع أن الله تعالى قد نهانا عن هذه الأفعال.
توقَّع أن يُفاجئه الإمام بالقول: هذا هو أنت يا حمادة!
ماذا يستطيع أن يفعل لو أن الإمام وبَّخَه — باسمه — أو شتمه؟! نقل محجوب ما رآه على غير حقيقته، لكنه لا يستطيع مواجهة السؤال: وماذا كنت تفعل مع الولد داخل الحمَّام؟
وشى إلحاق الحاج قنديل لعم محجوب بوابًا بعمارة له في شارع رأس التين، بتصديق عم محجوب فيما رواه. هو يثق في رواية الرجل. وقيل: إنه صارح جلساء قعدة محمد صبرة أن السن لا تأذن بتلقي مفاجأة ظهور السلطان، وسماع نصائحه وتحذيراته. بدا له تصرُّف الحاج قنديل مؤشرًا، بوصلة عليه أن يهتدي بها.
لو أنه صحب الشاب إلى بيت سيدي داوود.
تركه على حاله منذ ورثه. في باله حكايات أبيه عن الصرخات المنبعثة — حين يأتي الليل — من داخله، والأنَّات المكتومة، والنشيج، والصيحات المحذِّرة. ربما تصاعدت ضحكات، أو مناقشات صاخبة. لولا أن أنسية سبقته إلى دخول البيت، ما فكَّر في أن يدخله. رافقه دوي الطبول، والنغمات القاسية، والصرخات الوحشية. نسي الخوف، ولحقها.
لم يضَع في باله ذيول ما حدث.
أوعز، ففصل محجوب من عمله. جاوز الرجل الذهول بعد يومَين أمضاهما في بيت ياقوت. ثم خرج إلى الجوامع والزوايا والقهاوي، يروي ويروي. حتى مَن لقيهم في الطريق روى لهم ما رآه بعينَيه. لم يُضِف، ولم يحذف. ما رآه بالضبط تمامًا. همس الحاج قنديل بأن لعبة الانتخابات انتهت، ويعرف الرجل قيمة حمادة بك في الحي. هو لم يتحدَّث إلا عمَّا رآه. رفض عباس الخوالقة تصديق ما قيل. ربما قصده الولد في عمل، والناس جعلت من الحَبة قُبة.
قتلته الحيرة.
لم يتصوَّر أن الرجل يضعه في موقف المساءلة. توهَّمَ في طرده من الحمَّام إنهاءً لِما حدث، للمشكلة التي ورطته فيها نداءات اللهفة.
كان فؤاد أبو شنب أول مَن همس له بما رواه الرجل. عانى الحرج في إنصاته الصامت. كيف ينزل إلى شوارع الحي، ويجالس أصدقاء قعدة محمد صبرة، والمعارف الجدد في المهدي اللبان وفاروق، ويواجه النظرات المتسائلة، والشامتة، والغاضبة، ويتحدَّث عن الترشيح للانتخابات القادمة؟!
لم يعُد يتردَّد على الزردوني أو المهدي اللبان أو فاروق، ولا يجالس الأصدقاء في قعدة محمد صبرة، ولا يظهر في تشييع الجنازات، ولا سراقات العزاء، ولا حضور حفلات عقد القِران أو الزفاف، ولا يؤدِّي صلاة الجمعة في أبو العباس. لا أحد تخايل به في شوارع بحري، وإن صافحه إبراهيم سيف النصر على رصيف ديليس، واعتذر — بمشوار — عن دعوته إلى فنجان قهوة.
•••
فاجأه عبد الوهاب مرزوق في جلسته بالتريانون.
الأيام الجميلة!
ربما يجد مَن يؤانسه، يناقشه في السياسة وتقلُّبات السوق وأحوال الجو، لكن ما يفتقده هو النظرات المُعجَبة، والمداهنة، وطلب الوساطة، والصداقة المُبطَّنة بالرهبة والتقدير والاحترام.
هو حمادة بك، وهم معلمون وصبيان وموظفون صغار. يروقه أن يجد نفسه محاطًا بهؤلاء الرجال، ويسعدهم جلوسه بينهم، الترقُّب والعطاء، العرائض وبطاقات التوصية والعلاقات الشخصية. تشحب الصورة بعيدًا عن بحري، تكاد تغيب تمامًا. رجال أعمال ووزراء ووكلاء وزارات وخواجات ومصيفون من القاهرة والأرياف. تتشابه الظروف، فلا يتميز بالمخالفة في شيء.
قال عبد الوهاب مرزوق: نشرت الصحف نبأ حل مجلس النواب.
هزَّ رأسه بما يعني عدم الفهم.
قال عبد الوهاب مرزوق: هذه فرصة لدخول الانتخابات.
غالب انفعاله: تاني؟!
تغلف صوته بمداهنة: وهل دخلت الانتخابات من قبل؟
أطرقَ لحظات، ثم رفع رأسه: كانت هناك فرصة. لكنني — لظروف شخصية — لم أقدِّم أوراق الترشيح.
قال في صوته المداهن: أمامك من الآن عشرة أيام لتُعلن ترشيحك.
لاحظ نظرة الرجل المتأمِّلة إلى صدره.
تنبَّه إلى أن زحام النازلين من ترام الرمل أطار زرار البلوفر.
وضع راحته — بعفوية — موضعه.