التذوق … للمعرفة
ألف الصوت، وإن لم يستطِع تبيُّن طبيعته. يتداخل فيه مد الموج وجزره، وهسيس النخيل الواقف على امتداد الرصيف المقابل للكورنيش، واصطفاق الريح للشبابيك المُغلَقة. هزَّه الألَق بعناق الشمس ومياه البحر. ضوَت المياه بما يُشبه الزغاريد. لاحظ فأرًا يخرج من بين قطع الحجارة الضخمة. تلفَّتَ حوله، ثم اختفى.
البحر مهنته، نشأ عليها، فلا يعرف غيرها. لم يعدَّ نفسه، ولا تصوَّرَ أنه يسعى إلى مهنة أخرى غير البحر. وحين أقعدته الإصابة، عرض عليه الحاج قنديل أن يرتِّب له — كل صباح — شروة سمك يسرح بها.
قال في لهجة معتذرة: ابتعدت عن البحر. فهل أبتعد عن الشاطئ؟
أخذته رائحة البحر.
حمل البوصة والسنارة والغلق الخوص. تعلَّمَ من الجد السخاوي ما غاب عنه. البوري تأكل على طرف لسانها. فمها الصغير لا يأكل إلا العجين. إذا لم يكُن البواص شاطرًا، فشل في صيدها. المياس يشتهي سمك السردين والموزة. القاروس واللوت تحب الأسماك الحية. حذَّرَه من الأسماك التي تلتقط الطُّعم، ولا تأكله، العشب والعجينة والبسارية والجمبري، فلا تجذبه السنارة. يختار للمياس والبطاطا نوعًا من السنار أكثر صلابة. إذا أحسَّت بالألم ضغطت على فمها بحِدَّة، فتقضمه. ارفع البوصة ببطء. لو جذبت بشدة، يتهشَّم فم السمكة، وتعود إلى البحر. يمسك السمكة من خيشومها، فيشل حركتها، أو يضغط على عينَيها بإبهامه وسبابته. يحذر الأسماك السامة والمكهربة. إذا بدت السمكة غير مألوفة، تأمَّلَها، يدسُّها في الغلق، أو يُعيدها إلى الغلق، دون أن يلمسها.
روى الجد السخاوي ما جرى لصاوي رزق: كان يصيد بالسنَّارة. أخرجَت سمكتَي مرجان صغيرتَين. نزع واحدة. وضعها في فمه حتى يخلص الثانية من السنَّارة. قفزت داخل حلقه، ووقفت فيه. ظلَّ يصارع، حتى مات.
همس لنفسه — ذات يوم — بالسؤال: هل تطلع له السمكة التي تحوي في بطنها خاتم سليمان؟
قال الجد السخاوي: للأسماك أصواتها، مثلنا تمامًا. عندما تتعارك حول الطعام، أو تدافع عن أماكنها، أو عند الهرب، أو في موسم التكاثر.
قال وهو يهز رأسه في تأكيد: الأسماك تتجه إلى المناطق المزدحمة بالأصوات.
اطمأن إلى ياقوت — منذ زاد على ما كان يتقاضاه في الزردوني — في الوقوف على النصبة، وتقديم الطلبات. تنقل بين الشواطئ. يصطاد، ويبيع، ويدَّخِر النقود. عندما تتوافر معه قيمة البلانس، يشتريه. يسافر إلى البحار البعيدة.
وقفته على شاطئ البحر اقتراب منه.
كان يتجه إلى البحر، يرقب البلانسات وهي تميل من حاجز الأمواج إلى الآفاق التي تنتهي في مواني ومدن، حلقات في سلسلة لا تنتهي. يكتم خاطرًا بأن يرمي بنفسه في الأمواج، تمضي به إلى آفاق لا يعرفها. مجرَّد أن يسلم نفسه إلى الأمواج، تحمله إلى أبعَد ميناء في الدنيا. لما أقعدته الإصابة، وجد في وظيفة عامل إنقاذ فرصة للاقتراب من البحر، للحياة على شاطئه، والارتماء في أمواجه إن تعالَت صيحات استغاثة. فاجأه الكشف الطبي بما حاول مداراته. حتى التحليق على الشاطئ، مثل النورس، لم يعُد بوسعه.
ألِف الميل — في قدومه من شارع الميدان — إلى وكالة الليمون، ثم إلى باب الجمرك رقم واحد. يتنقَّل بين المخازن والحاويات والأجولة والصناديق الهائلة. يرقب البواخر الراسية. يسرح في التصوُّرات التي لا نهاية لها.
قال له قاسم الغرياني: وماذا بعد أن تشبع من البحر؟
شردت نظرته في أفق المياه الممتد: أنا لا أشبع من البحر.
قال الغرياني: ماذا بعد أن تكبر؟
تشاغل بمتابعة سرب من الطير يحلِّق فوق خليج الأنفوشي: سأكون قد شاهدت بلاد الله، خلق الله.
– ألم تفكِّر في الولية والأولاد.
– أوفِّر لهم ما يكفيهم. وزيادة.
عسكري السواحل يتسلى بالمشاهدة. وتحت الحاجز الأسمنتي عم رجب يتأكد من مسكة طراحته.
قال لمختار: هذه الطراحة على بختك.
وقذف الطراحة في المياه.
السنَّارة بطعم الجمبري. دار بها في الهواء، فوق رأسه، ثم هوى بها إلى الماء. أحدثت وقع الحصاة الصغيرة. تزايدت حلقات الماء، اتسعت، ثم ضاقت، حتى تلاشت.
قال كمَن يحدِّث نَفْسه: السمكة الملعونة خطفت الطُّعم وهربت إلى داخل شق، فانقطع الخيط.
قال عم رجب: أعطيتَها فرصة الهرب إلى الشق … أرخيتَ لها الحبل طويلًا أثناء جذبك لها.
ثم وهو يعبِّر بيدَيه: بمجرد أن تصل الهزة إلى يدك، اسحب السنارة حالًا.
قال وهو يتأمَّل مشنة عم رجب: حظك أحسن من حظي.
قال عسكري السواحل: حظه أحسن؛ لأنه معذور.
قال عم رجب: السمكة دودة ماشية … اللي له نصيب في شيء بيشوفه.
لمح سمكة تطير فوق الماء بضعة أمتار، وتغوص ثانيةً.
– هل عادت القناديل؟
قال عم رجب: هذه سمكة طيارة. زعانفها كالأجنحة، تطير بها مسافة على سطح البحر، قبل أن تعود إلى الماء.
غمزَت السنارة.
خمَّنَ أنها سمكة كبيرة لمَّا اجتذبت البوصة إلى أسفل.
جذبها بسرعة، وبآخِر ما عنده. لَعْلَطَت سمكة لم يتبيَّن نوعها. اهتزَّت لها البوصة، فأمسكها باليد الثانية.
قال له الجد السخاوي: صيد البوري بالسنارة أسهل. إنه كثير الحركة، لكنه لا ينزل القاع إلَّا نادرًا.
هل هي سمكة بوري؟
قال لنظرة عسكري السواحل المتسائلة: جمبري كبيرة!
قال العسكري، وهو يستند براحتَيه على البندقية فوق الكورنيش الحجري: هذه السمكة وافدة.
ارتجفت رموشه: كيف؟
تأمَّلَها عم رجب: إنها في الأغلب استاكوزا من البحر الأحمر.
ثم عاود قذف طراحته: كسفتنا يا مختار. الباشجاويش يعرف نوع السمكة، ولا تعرفها أنت.
وسرَت في صوته نغمة حزينة: هل يمكن للإنسان أن ينسى سِحَن أبنائه وأسمائهم.
شمله إحساس بالخجل، بالارتباك.
اتجه بخطوات أثقلها الحزن إلى شارع التتويج. تعمَّد أن يغيِّر اتجاهه. كان يسير بمحاذاة الكورنيش، حتى مكتب صحة الجمرك. ومنه إلى قلب السيالة.
اخترق الطريق إلى ميدان أبو العباس.
أطال الوقوف أمام كشك سيد الفران. سأله عن أدوات الصيد، وتأمَّلَها. سأل عن الأدوات الجديدة. حتى ما اعتاده في البواخر الكبيرة، أخذ فيه وأعطي.
قال سيد: مَن يسأل الآخَر … أنا أم أنت؟
قال مختار: أخشى أن تكون ذاكرتي تأثَّرَت بالغياب عن البحر.
– أنت لم تعُد تركب البحر … لكن حياتك مع الصيادين.
ثم وهو ينخسه بإصبعه في مودة: وقهوتك اسمها البحر!
أغمضَ عينَيه، وسرح بتصوُّراته للمياه التي بلا ساحل، والمراكب الضخمة، والنوَّات، والأمواج العالية. يحيا حلم اكتشاف الدنيا، وتوقُّع المجهول. رؤية ما لم يسبق له رؤيته. تبدو المدن والجزر والفنارات والبواغيز، نقاط ضوء بعيد، منثورة في ظلمة آفاق البحر المترامية.