بحر بلا ساحل
قال أبو الحسن الشاذلي:
«إذا ظهرَت الظُّلمة تحت النور الممتد من القلب، فلا يخلو أن يلوح عليها لائح القبض بانقباض القلب. فاحذر ذلك وتجنَّبه، فإنه المحظور، أو يكاد.»
قال أبو الحسن الشاذلي:
«إذا افتقرتَ فسلِّم، وإذا طلبتَ فاصبر، واسكن تحت جريان الأقدار، فإنها سحابة سائرة.»
قال ابن عطاء الله السكندري:
«لا يشكِّكنَّك في الوعد عدم وقوع الموعود، وإنْ تعيَّنَ زمنه، لئلَّا يكون ذلك قد جافى بصيرتك، وإخمادًا لنور سريرتك.»
تمدد — في استرخاء — على ظهر القارب، يضرب أصابعه في الماء، تتطاير طرطشات ورذاذ. ترك الأمواج الصغيرة، المتلاحقة تهزه، وتحرِّكه. خليج الأنفوشي ساكن، تطير فوقه سحابات بيضاء من طيور البحر، والمد يدفع أمامه بقعة زيت، تتسع في تكوينات متداخلة. وثمَّة خربشة فأر في موضع قريب، لم يتبيَّنْه.
لم يعبأ بتحذيرات محيي قبطان من أن القارب يدور حول نفسه، وربما ينقلب.
قال في هدوء متكاسل: البحر حصيرة. ولا خوف منه.
قال محيي قبطان: القارب صغير يا حسان.
قال حسان عبد الدايم: لكنه هو الذي فاز في السباق.
تنطلق القوارب ناحية الجزيرة في أُفُق الأنفوشي. تعود من الناحية المقابلة. الفائز هو الذي يصل أولًا. يمسك الدفَّة، فيضمن سرعة القوارب وتحركه. يجيد سرقة الريح، فيفوز. يركب الريح، يطلع فوق ريح بقية المتسابقين، يأخذ ريحهم. يغطِّي قماشه على قماشهم. يحرص فلا يلتف الشراع حول الصاري، ولا يستخدم المقاديف.
تجاهل ملاحظة خميس شعبان: حسان عبد الدايم من رأس التين. قواربية شطار!
حمل الرجال القارب فوق رءوسهم، تعلوه الأعلام والخرق الملوَّنة. يُرافقهم أولاد يرقصون، ويتقافزون.
مضى الموكب من شارع السيالة إلى ميدان الأئمة.
في منتصف الميدان طلب محيي قبطان من الرجال أن يضعوا القارب على الأرض.
فاجأ الجميع، وأذهلهم، حين ألقى — بالفرحة — عود كبريت مشتعل على القارب ليحرقه.
صرخ حسان عبد الدايم: القارب أكل عيشي.
قال محيي قبطان: أكل عيشك في البلانس.
ضغط على عود الكبريت بيده، فأطفأه: والقارب أيضًا.
قال محيي: كيف تعلن عن فوزك؟
قال حسان: ليس بخراب البيوت!
تنبَّه لصوت جابر برغوت: فزت يا حسان.
اتسعت ابتسامته بالفرحة: رأيت السباق يا شيخ جابر؟
قال جابر برغوت: لو أنك تفوز في السباق الأكبر.
أردف للدهشة المتسائلة في ملامح حسان عبد الدايم: ما حدث انفض وانتهى. يبقى الذي بلا انتهاء!
أزمع أن يظل سائرًا في طريق التمنِّي، حتى يفتح الله عليه. تلحُّ عليه الخواطر والمعاني التي يعجز عن فهمها، فيدرك أن نفسه الضعيفة لا تقوى على المجاوزة. الوليُّ لا تتحقَّق له الولاية إلا إذا كان موفَّقًا لجميع ما يلزمه من الطاعات، معصومًا عن الخطأ والخطيئة. لم تُتِح له حياته السابقة أن يلزم الطاعات بما كان يرجوه، ويظن أنه ليس معصومًا بعد من الخطأ والخطيئة. ما يملك فعله هو الإنصات، والتهيؤ لتلقي الإشارة. يتعرَّف إلى ما حدَّثَه عنه وليُّ الله ياقوت العرش. يلتقي بسيدي الأنفوشي، يزيح غلالات الأسرار، فتُضيء شمس الإقبال، وتُشرق أنوار المعارف، ويستولي سلطان الحقيقة. متى؟ أين؟ كيف؟ علمه عند الذات الإلهية.
ظلَّ على ميله إلى العزلة، والانفراد عن الخلق، والابتعاد عن صخب الحياة، والخلوص لله، والتجرُّد من كل العلائق، ومن حُب الدنيا. أخذ النفس بالمجاهدة والمكابدة والزهد والتقشُّف والتقوى والتنظُّف، والحفاظ على التهجُّد والنوافل، والإكثار من قراءة الأحزاب والأوراد، وتلاوة الأذكار والأدعية. لاذ بالمشيئة والإرادة. ربما أتَت اللحظة بالإلهام الرَّبَّاني دون سابق إشارة، ولا واسطة من أحد. الله الأزلي، الأبَدي. ما عداه حادث، وُجِد بعد أن لم يكُن، وهو صائر إلى فناء، وإن ظلَّت الأرواح باقية، لتعود إلى الجسد يوم لا ينفع مال ولا بنون. ما سبق به القضاء لا محالة يحدث، وإن بدا بعيدًا.
كان يُدرك صعوبة المرتقى.
السائر إلى الله لا بد أن يمرَّ في طريقه بمنازل ومقامات، يرقى بعضها فوق بعض، إلى مقام التعرُّف، مرتبة الوصول، لا يبلغها إلا قطب الغوث. ذلك أبعَد ما يكون عن باله، وتتقاعس أمامها همته. أسرار الله مكتومة، لا تُودَع إلَّا في سر مُحصَّن. اختص الله أولياءه بوديعة أسراره، وكشف لهم عن حقائق الأسماء. للولي بصيرة تنكشف أمامها كل الحقائق، يدرك بها كل الموجودات، ويعرف ما كان منذ بداية الخلق، وما سوف يكون إلى يوم الذهول عن النفس.
الهاتف في أعماقه يدعوه إلى الانطلاق في عالم لا يعرف ملامحه. تمنَّى لو أنه تفهَّم اللغة الخفية. لو أنه أحسن الإنصات إليها، والتحدُّث بها. قال سيدي ياقوت العرش ما قال، واختفى. تناثرت — فيما بعد — كلمات هي مفاتيح الأبواب المُفضِية إلى أنوار الأنس والهيبة والجلال، حملها على قدمَين عاريتَين في أرض الشوك.
أن يخصه الله بما خصَّ به الأقطاب، هدف يعجز عن بلوغه. ذاقوا حلاوة الخدمة، ولذة الطاعة، والأنس، والقربة، فبلغوا من الرتب ما لم يبلغه، ولا يأمله أحد، وارتقت أرواحهم إلى العالم العلوي، فتحدَّثوا بالمغيبات.
حين ناداه عبد الوهاب مرزوق: يا ولي الله، قال: أعوذ بالله أن أدَّعي الولاية. أنا خادم الأولياء!
ترك نفسه لإرادة الله، هي الضوء الذي يدركه أينما حل.
عبَرَ الطريق إلى شارع الحجاري. مال في شارع الكناني. صعد السلالم الرخامية المتآكلة إلى ساحة مدرسة البوصيري، تحوطه الأنفاس الهادئة ذات الجلال، وهمسات الوجد، وأحاسيس النشوة، وأصداء الأوراد والأذكار والمدائح النبوية وأهازيج السحر.
– ثم ماذا يا جابر؟
أومأ برأسه مستفهمًا.
قال عم شحاتة: أنت هكذا تقتل نفسك.
– هل أعصي أوامر الأولياء؟
ثم وهو يهز رأسه: أنا عبدٌ مأمور.
قال عم شحاتة: بدأت الطريق ولا تعرف نهايتها.
سرحَت عيناه في الفراغ: الإشارة قريبة بإذن الله.
– فإذا لم تظهر الإشارة؟
فاضت عيناه بالحزن: هل تشكِّك في مكاشفات أولياء الله؟
أظهر التصعُّب: أنا أشفق عليك.
قال في لهجة حاسمة: لم أعُد منذ ظهَرَ لي سيدي ياقوت العرش أملك أمر نفسي.
فات أوان التراجُع.
بدأ رحلته الجميلة، القاسية، ولا بد أن يكملها. لا بد أن يمضي إلى النهاية، يهمل النظرات المُشفِقة، أو الشامتة، أو المستغربة، لا يشغله حتى العبارات المؤنبة، أو السب. ما يَعنيه هو الإشارة. قسمات السر التي طال انتظاره لها. كشف الغطاء، وإحياء القلب، وتحقيق المحبة، وتلقِّي النفحات الروحية، والإشراقات الإلهية.
ارتدى لباس التقوى، وزهد في ملذات الحياة، وخرج حُب الخلق من قلبه، وأقبل على الطاعة بهِمَّة عالية، وعزيمة صادقة، ونية سليمة خالصة. تفرَّد بالله، وانقطع عن كل شيء سواه. تحدَّدَت أمنياته في أن ينوِّرَ الله قلبه بنور معرفته. أكثرَ من صلاة الاستخارة. لم يسأل عنايةً، ولا عطفًا، ولا وقفَ على باب التذلُّل. حاول أن يتحلَّى بالصبر والحلم والرحمة والمحبة والتوكُّل والتفويض والتسليم والشوق والرضا والأحوال الصافية، وسائر الصفات المحمودة التي تخلق بها الأقطاب. يصبح قلبه كالبحر، لا يعكِّره ما يلقى فيه من أوساخ. لا يضيق صدره بسماع ما يناله به الناس من شتم، فهو في محل الشهادة، لا تعنيه مؤاخذات ولا شتائم. الْتَمسَ العذر لإنكار أمين عزب عليه، ودعا له. تنبت الأرض الثمار الطيبة، وتنبت الأشواك والحشائش الفاسدة. كثرة الدعاوى في الطريق تُفضي إلى تشابكه واختلاطه. يصعب على المرء أن يمضي في الوجهة الصحيحة.
قيل إنه حفر قبره بالعامود، بالمجاورة لولي الله علي الراكشي. وكان ينزل في القبر، ويصلِّي.
هل يفي عمره بما تعلَّقَت به هِمَّته؟