العصفور يُفلت من القفص
اخترقت الظُّلمة الشفيفة، والسكون.
دكاكين شارع السيَّالة مُغلَقة، والرِّجل مقطوعة. لم تعُد تستأذن، وإن تحرص فلا يلحظ أبوها غيابها.
مالت إلى شارع فهمي الناضوري، ومنه إلى طريق الكورنيش. طالعها الأنفوشي بدفقات من الهواء البارد، المشبع برائحة الملح واليود والأعشاب. وصوت مد الموج على الشاطئ. على الرمال المُبتلَّة علب فارغة، وأوراق ممزَّقة، وقطع خشبية وبقايا أطعمة، وفي مدى الأُفُق بلانسات وفلايك وجنادل وقلوع وأشرعة. وثمة — في القزق — هياكل بلانسات، وفلايك تآكَلَت أخشابها.
شجَّعَها نزول البنات في الماء. خلعت الملاءة والفستان. لم يعُد إلَّا قميص النوم الساتان الوردي. شاطت الشبشب، واتجهت إلى البحر.
الْتفَّ الماء حول جسمها ببرودة لذيذة، مُنعِشة. تسلَّلَت إلى داخلها. أحسَّت بروحها تنتعش، تكاد تطير. لم تأبه حتى بالْتِصاق قميص النوم بالتقاطيع والتكوُّرات والانحناءات.
لم تكُن تعرف العوم. حرَّكَت يدَيها وقدمَيها دون أن تدخل الغميق.
عانت بعد ما جرى.
شدَّد أبوها، فلا تغادر البيت إلَّا لضرورة، أو لزيارة أعمامها في السكة الجديدة، يصحبها مصطفى، أو أمها. اختلست أوقات التردُّد على مساكن السواحل بعد الخروج من المدرسة.
فاجأها عباس الخوالقة بالقول: أين كنتِ؟
غالبَت ارتباكها: أذاكر.
– أين؟
– مع صاحبتي.
وشى صوته بغضب: أين؟
احتواها الارتباك، فصمتت.
أسعفتها أم محمود: دعِ البنت لمذاكرتها.
قال في لهجة باترة: وضع الأرمَل أهوَن في حَيِّنا من وضع المُطلَّقة.
لم يعُد يأذن لها بالخروج وحدها. يصحبها محمود أو أمها، ولا تزور إلا الأقارب.
تسلَّت بالقراءة: روايات ومجلَّات، يشتريها محمود، أو يستعيرها، من مكتبة حمامة النن بشارع إسماعيل صبري. حفظت مواعيد برامج الإذاعة. أغلقت الحجرة من الداخل، وأطالت الوقوف أمام المرآة. تخلع الفستان، وقميص النوم. تتأمل جسمها. تتحسَّس — بأطراف أصابعها — وجهها، وعنقها، وصدرها، وبطنها، وردفَيها، وساقَيها. تستدير، تتأمل الظهر العاري بجانب عينها.
موت مصطفى قلَّص قبضة الأب، وعزل الأم في جزيرة حزن، لا تغادرها. وانشغل محمود فيما لا تسأله عنه.
كان قد مضَت سنتان على قعودها في البيت، لمَّا سمعت أباها يحدِّث أمها عن مولد أبو العباس. همسَت بطلب الخروج. زكَّت أمها ما طلبت بالأيام المباركة. الجميع يذهبون إلى بركة السلطان ومدده.
قال عباس الخوالقة: ألا تخرج إلَّا للمولد؟!
حين طلبت أن تعود إلى المدرسة، توقَّعَت أمها رفض الأب. هزَّ رأسه بالموافقة، فاتسعت عينا الأم اللوزيتان بالدهشة.
اتسعت انفراجة الباب، حتى انفتح تمامًا. تجلس — بالساعات — في شقق الجيران. تشتري لوازم البيت من شارع السيالة، أو من ميدان أبو العباس. ربما سارت إلى الموازيني وشارع الميدان.
زال الخوف من نفسها. لا تدقِّق فيما ترتديه، ولا تستأذن في الخروج، ولا تخشى مفاجأة أبيها بوقوفها في النافذة، ولا بنزولها على السلم من شقة الجيران. تتبيَّن اسمها يتردَّد في الصالة، فلا تصيخ السمع. في داخلها قوة تدفعها إلى الانطلاق. لا يوقفها أحد ولا شيء. تذهب إلى أي مكان، وتفعل كل ما يفد إلى خاطرها. لا تتلفَّت وراءها. لا تشغلها النظرات التي تراقب، وتحاسب. حتى أبوها لم يعُد يشغلها ملاحظاته. أفلتَ العصفور من القفص. طار في المدى الواسع. تزور صديقاتها، وتمشي في الشوارع، وتتنزَّه على الكورنيش، وتجري، وتتكلَّم، وتضحك، وتقفز، وتغنِّي، وترقص، وتصرخ، وتقنع أمها — إذا انقطع الماء — أن تحمل الصفيحة من الحنفية العمومي، بدلًا من الصبيان.
كانت تغلق عليها باب الحمام، تقف عارية أمام المرآة، تتحسَّس جسدها بأصابعها، تتأمله بجانب عينها، وتتخيل. تمرُّ بالمرود على عينيها، وتضغط بأسنانها على شفتَيها، وتقرص خدَّيها. تتخيل نفسها في مواضع الممثلات اللائي تشاهدهن في أفلام سينما الأنفوشي ورأس التين. ممثلات مصريات وأجنبيات، يتكلمن في الحب، ويعانقن الرجال، وتعلو أصواتهن بالغناء.
تفتح الباب. تمضي إلى الخارج، وهي تعلن أنها قد تأخَّرَت.
ألِفَت الملاحقة في شوارع بحري. النظرات والتعليقات الهامسة والغمغمات. الجالسون في القهاوي، وعلى أبواب الدكاكين. عبارات غزل، ترضيها، وإن واصلت سيرها، لا تردُّ، ولا تتلفَّت.
غالبت التردُّد في مواجهة الوقفة الثابتة، عند خروجها من المدرسة، والنظرات الداعية. ثم انحرفت عن طريق البيت إلى الكورنيش.
– جلال هاشم.
لم يعُد مَن تحبه هشام، ولا في صورته، ولا في صورة أبيها أو محمود، أو حتى المرحوم مصطفى. شعره الأسود يتناقض مع عينَيه الخضراوين، الصافيتَين. يتخلَّل شَعره بالصابون والفازلين، ويفرقه، شاربه رفيع فوق شفتَيه، وفي خدِّه الأيمن خال أسود. يختلف عن كل مَن في حياتها، يحبها. يدافع عن حُبه لها، لا يضايقها بأوامره وتحذيراته، ولا يشتمها، أو يضربها. تُغمض عينَيها، تستدعيه إلى ذاكرتها، تتصوَّره في كلمات وتصرُّفات.
بدَت كالمذهولة، كالمسحورة، كالمنساقة وراء نداء خفي. لاحظت أم محمود، وإنْ غابت الملامح. حرَّضَت محمود على متابعتها عند خروجها من البيت، أو من المدرسة، وعودتها.
أهمل الأمر بعد أيام، فلم تعُد نظراته تتبعها.
خاضت في المياه حتى بلغت أعلى صدرها، وإن تبدَّت — في الماء الساكن — استدارة الفخذَين، والساقان الطويلتان المخروطتان. تسرب الماء إلى ثديَيها، وتحت بطنها، فأحسَّت ببرودة منعشة، داعَبَتها، تسلَّلَت في المسام. تمنَّت لو أنها ظلَّت في البحر، لا تتركه. الماء الهادئ وسادة، تحملها فوق الهموم والتحذيرات.
أفاقت على الصوت الذي لا تخطئه: مهجة!
كان في طريقه إلى الحلقة، حين لمحها.
لم يعُد — منذ وفاة مصطفى — يأخذ باله إن كانت في البيت، أو أنها خارجة. غابت النصائح والملاحظات والتحذيرات المشفقة.
غطَّت يداها — بتلقائية — كتفَيها.
أعاد تأمُّلها في ومضة: هل هذه ابنته؟ هل هذه مهجة؟
سحَبَها من البحر — ظلَّت في موضعها لا تعي ماذا تفعل — بقميص النوم الملتصق بلحمها.
ألقى عليها تلفيعة يتقي بها برودة الصباح، ودفعها أمامه حافية القدمَين.
أغلق الباب وراءه. تَسانَد عليه، وأنفاسه تلهث. لم يعُد في الحجرة سواهما، تبدَّلَت سحنته. في عينَيه نظرة لم ترَها من قبل. بدا إنسانًا مختلفًا عن أبيها الذي يسألها، ويُجيب عن أسئلتها، ويناقشها، ويداعبها، وينصحها، ويسبق نزوله من الشقة قوله: تريدين شيئًا يا مهجة؟
رأته فؤاد أبو شنب.
تلاحقت صرخاتها، خائفة، محشرجة، متقطِّعة.
اندفع بالغضب نحوها.
لم يعبأ بتوسُّلات أم محمود وراء الباب المُغلَق، ولا صيحات الجيران من النوافذ التي فتحها الفضول، ولا الدم المنبثق من أنف مهجة، تناثر على جسمها، ولا البياض الذي أخذ عينَيها.
لم يرفع غضبه إلَّا عندما سكنَت حركتها تمامًا، فيما عدا أنفاس خافتة، بطيئة. غاب فؤاد أبو شنب، وغابت عن كل ما حولها.
خمَّنَ الطبيب في مستشفى رأس التين ما حدث. أصرَّ على تحرير محضر. تدخَّلَ الرجال، فعاد الخوالقة بابنته، وبقَسَم — ألزمَ به نَفْسه — ألا يحاول أذية مهجة.