السباحة في بحار الشوق
قال أبو الحسن الشاذلي:
«أربعة مَن حازَهُنَّ فهو من الصِّدِّيقين المُقرَّبين، ومَن حاز منهنَّ ثلاثة، فهو من أولياء الله المُقرَّبين، ومَن حازَ منهنَّ اثنين فهو من الشهداء المؤمنين، ومَن حازَ منهنَّ واحدة، فهو من عباد الله الصالحين. أوَّلُها الذِّكر، وبساطه العمل الصالح، وثمرتُه النور. الثاني الفكرة، وبساطه بُغض الدنيا وأهلها، وثمرته الوصول إلى المحبوب. الثالث الفقر، وبساطه الشكر، وثمرته المزيد منه. الرابع الحب، وبساطه بُغض الدنيا وأهلها، وثمرته الوصول إلى المحبوب.»
من دعاء الشاذلي:
«اللهم صِلني باسمك العظيم، الذي لا يضرُّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهَبْ لي معه سرًّا لا تضر معه الذنوب شيئًا، واجعل لي منه وجهًا تُقضى به الحوائج للقلب والروح والسر والنَّفْس والبدن، وأدرِج أسمائي تحت أسمائك، وصفاتي تحت صفاتك، وأفعالي تحت أفعالك. درج السلامة، وإسقاط الملامة، وتنزُّل الكرامة، وظهور الأمانة، وكُن لي فيما ابتليت به أئمة الهدى من كلماتك، واغنني حتى تُغني بي، وأحيني حتى تُحيي بي ما شئت ومَن شئت من عبادك، واجعلني خزانة الأربعين، ومن خلاصة المتقين، واغفر لي، فإنه لا ينال عهدك الظالمون.»
طال قعوده بالقُرب من المقام ذي الكسوة البيضاء، في مدرسة البوصيري.
ليس ثمَّة ما يشي بحياة. لا حركة ولا صوت. اعتاد الناس جلسته الساكنة، وخروجه من مدرسة البوصيري، وعودته إليها، أهملوا المتابعة والتأمُّل.
حين بدأ يُلقي السؤال على نفسه: هل هذا الثاوي تحت المقام هو سيدي الأنفوشي، أتاه — في غفوة — صوت لم يتأكَّد إنْ كان لسيدي ياقوت العرش، أو هو صوت علويٌّ: الناس أخطئوا ضريح ولي الله الأنفوشي، ضريح قلعة قايتباي العسكري من الدولة القديمة، مجهول الشان.
وقال الصوت في نبرة رائقة: ربما تجد البشارة في علي تمراز.
– علي تمراز؟!
همس بالحيرة: هذا مقام سيدي علي تمراز.
قال الصوت الذي لم يتبيَّن صاحبه: علي تمراز مجذوب بدا منه ما يُشبه الكرامات في وقت حسن باشا الإسكندراني، فأمر بإنشاء هذا الجامع باسمه.
واستطرد في تأكيد: ولكن الثاوي في الضريح هو مَن تبحث عنه.
وعلا الصوت: اذهب إلى الموضع الصحيح.
استأذن الأقطاب أصحاب الدرك.
لم يُبدِ الشيخ عبد الحفيظ اهتمامًا بجلوسه وسط مُريديه، وأجابَ على سؤاله بلهجة محايدة: علي تمراز لم يكُن وليًّا. إنه مجذوب أخلَصَ في محبة الله.
ثم يعود إلى مُريديه: هذا كلُّ ما نعرفه عنه.
قال جابر برغوت: ما أعرفه أن الضريح لسيدي الأنفوشي؟!
رمقه الشيخ بنظرة دهشة: مَن سيدي الأنفوشي؟
أظهرَ الغضب: وليٌّ له كراماته ومكاشفاته.
قال الشيخ في دهشته: والمولد ثمانية أيام في السنة. هل هو للهواء؟!
ضغط على الكلمات: هو لسيدي الأنفوشي، وقد أخطأ الناس!
– مَن يدري؟
ربما الشيخ عبد الحفيظ يعنيه كتم الحقيقة لغرض في نفسه. أكثر من التردُّد على الجامع. يلزم جوار المقام، مثلما كان يفعل في مدرسة البوصيري، يجول في شوارع الحيِّ، ثم يعود إلى جلسته، لا يتركها، ولا يترك الجامع، إلَّا إذا قال عم سلطان: هل ستظلُّ معنا يا برغوت، أم نغلق الأبواب بعد انصرافك؟
كان عم سلطان يزوره في ياقوت العرش عندما يتردَّد على ميدان الأئمة. يزور أبو العباس وياقوت العرش والواسطي ونصر الدين والبوصيري وغيرهم من أولياء الله الصالحين. وكانا يتحدثان في ظروف الحياة والعلاوات وإعانة الغلاء، وحصول الإمام على معظم ما يَحويه صندوق النذور. لم تعُد الأيام كما كانت.
داخل الشيخ قرشي إشفاق وتعاطف. تيقن لما يعرفه من شخصية جابر برغوت أن الرجل تحققت له الولاية، واعتقد في ولايته. لم يعلن ذلك ولا أظهره، ولا حاول الكلام عنه. حتى إذا ناله إنسان بأذًى، قتله الشعور بأنه أراد هلاك أحد أولياء الله، وقد كتب الله الستر على أوليائه. وحين علا صوت عم سلطان. أشار إليه بيده حتى يخفض من صوته، فيتيح للشيخ برغوت سماع كلام الأولياء.
تمنى ألَّا يغلبه النوم، ولا ينام. ما يشغله يجعله في حالة الصحو، لا تفارقه، ويحرص ألَّا تفارقه. يخشى زوال ما كان يلوح في قلبه من لوامع الإرادة.
فني عن هوى النفس وما تدعو إليه، وتخلص من وسوسات الشيطان، ومن الخواطر الردية. دفن نفسه، أمات شهواتها فلم يبقَ له منها حظ ظاهر. قيَّد نَفْسه بالأمر والنهي. لم يعُد يكتب التعاويذ والتمائم والرقى والأحجبة، ولا يطرد الجان، أو يفك السحر. يملؤه إحساس بأنه بين الناس في بحري، كالنبي في أمته، يهملون تنبيهاته وتحذيراته. تنشأ في داخله أحوال كما الصوفية: الإشراق، الجذبة، الوجد، الفناء، استرواح نسيم القرب في أوطان الخلوة، مشاهدة الجمال الإلهي بعين القلب. انصرف إلى أحواله. تهب على القلب رياح العناية: يصعد في معارج دُرِّية مضيئة في رحاب أولياء الله. يخرج من سجن الأكوان، يرقى إلى فضاء المراقبة والشهود والمُعايَنة. ينكشف حجاب الحس وظلمة الكون. يرى ما يتصوَّر، ما يثق، أنه الشيطان. يصرخ، يستغيث بما لا يراه، لينقذه مما يراه.
صعد إلى مئذنة علي تمراز. أذَّن للظهر دون ميكروفون. قال: قررت ألَّا أؤذِّن في حديدة.
عدل الشيخ عبد الحفيظ عن منعه من دخول الجامع، بعد أن رأى أشباحًا تتراقص — عقب صلاة العشاء – فوق سلم البيت. تصل إلى البسطة التالية للمدخل، وتعود. تواصل الرقص حتى تغيب في الانحناءة. ثم تظهر برقصاتها الطيفية، العجيبة، كأنها تداخل دخان، وإن ظهرت الأجسام — في انفصالها — واضحة.
أهمل ما رأى، وإن طاف عم سلطان بمبخرة في أركان الجامع، وتلا آية الكرسي وأدعية، ووزَّع ورقة، عليها آيات من القرآن. قرأها المصلون، والسكان داخل البيوت. أعادوا قراءتها على الماء، ورشَّه في أركان الشقق، وعلى السلالم، وفوق الأسطح.
انهالت الحجارة على الشيخ عبد الحفيظ من الخرابة المواجهة للبيت. تقذفها أيدٍ نهاياتها في الفراغ. اعتلى مَن لم تتفق الروايات على ملامحه سطحَ بيت إبراهيم سيف النصر المواجه للجامع. قذف الحجارة على رءوس المارة وعربات الكارو في ميدان الخمس فوانيس.
قيل: إن جابر برغوت أخذ العهد على رؤساء الجن من الصالحين، لا يؤذيهم ولا يؤذونه. يجعلون أنفسهم في تنفيذ إرادته، ومُناوءة خصومه، حتى وإنْ كانوا من ذوي الجلال والهيبة. وقيل: إنه أفلح في أن يستخدم جماعة من الجن، يأتون إليه بالأخبار والمغيبات، ويكشفون ما تخفَّى في القادم المجهول. أذعن له أولياء الجن، يأتمرون بأوامره، ويخضعون إرادتهم لإرادته. مَن يقدر على تسخير الجن ولي صالح، داوم على الطاعات والأذكار، حتى أُتيحَت له خوارق العادات. وروى عبد العال السكري بائع الدندرمة، أن الشيخ جابر — حين ضايقته مؤاخذات الشيخ عبد الحفيظ — طمس على قلب الرجل؛ سلبه كل ما في رأسه. حتى الفاتحة نسيها، وضاع كل ما كان في نفسه من علم. تنكرت عليه أحواله، فلسانه يتعثَّر في إلقاء خطبة الجمعة، والعجز يغلبه في الفتاوى، والنوم يغمض عينَيه وقت درس المغرب. لم يعُد إلى الصلاة، ولا إلى إمامة المصلين، إلَّا بعد أن فتح أبواب علي تمراز للشيخ برغوت، لا يعترض على دخول الجامع في ليل أو نهار.
خلَت عظات الشيخ عبد الحفيظ — في الأيام التالية — من رفض التصوُّف، والإنكار على أهل الطرق والموالد والأذكار والكرامات. لم يرفضهم، ولم يؤيدهم كذلك.
طالت جلسة جابر برغوت لصق مقام سيدي علي تمراز. تدور عيناه في أركان الجامع: الأعمدة التي تحيط بالصحن، وتتوسطه. القبلة المجوفة في الحائط مزدانة بآيات قرآنية بخط الثلث، يجاورها المنبر الخشبي ذو التداخلات المعشقة. المقرنصات والعقود المحمَّلة بالجفوت والصنج والخناصر. الزخارف الجصية الرقيقة، تعلو الجدران بامتداد الإفريز العلوي لصحن الجامع. النجفة المدلاة من السقف، واللمبات المتناثرة في الجوانب، والنوافذ الزجاجية الملونة — في أعلى — تصنع تداخُلًا بين الضوء والظلال. إلى اليمين: المقام ذو الكسوة الخضراء، المحاط بالنحاس اللامع، بالقرب من الباب المُفضي إلى شارع التمرازية، وحجرة الشيخ عبد الحفيظ التي تسبح — دومًا — في ضوء خافت. يتوجَّه نحو القبلة، متربِّعًا. يُغمض عينَيه، ويضم شفتَيه، ويضع راحتَيه على ركبتَيه، ويطرق رأسه. لا تشغله الوحدة، ولا العزلة عن الناس، ولا أصوات التلاوات والتكبيرات، وأدعية الساعين حول المقام. قطع أوقاته بالفكر والتأمل والمراقبة. وكان يلجأ إلى المكتبة الخشبية الصغيرة، بالقرب من المقام، يقرأ في التاريخ وسير الصالحين.
لاحظ عم سلطان أن الموضع الذي يرقد فيه جابر برغوت، لصق المقام، يظلُّ مُضاءً إلى الصباح. وكان عم سلطان يطمئن إلى إطفاء كل اللمبات. فإذا صحا برغوت من رقدته، يخرج منه نور يخترق رمادية الصباح الباكر، وتتضوع في صحن الجامع رائحة بخور، وتتعالى ألحان وأصوات سماوية.
تخلى عن القيود، وقطع رجاءه بدنيا الغاوين.
الناس في عمًى. سُدَّت أبصارهم، فتاهوا في أودية الحيرة، وعثرت بهم الضلالة في وهدات لا حصر لها. استولت عليهم دواعي العصيان، فهم لا يسمعون موعظة، ولا تزجرهم معصية. يرفضون كشف الغطاء، بتعرية ظلام وجودهم. أعطاهم الله الدنيا، ليستعينوا بها على خدمته، فحادوا عن موجب الأمر، ومالوا إلى جانب هواهم. أعرضوا عن الشكر، وتباعدوا عن بساط الوفاق، وظهر أهل المنكر على أهل المعروف، وتكرَّر عدوان المارقين، وانتشر شرهم، وآذوا المستأمنين، وغدروا بهم بغير حق، وانطوى بساط الخير، فعيل صبر المتقين.
متى ينزل المطر من محاضر الرحمة، يُحيي أرض القلوب الميتة، فتنبت كلأها، وعشبها الوفير؟ متى تفيض أنوار القبول، وتتعطَّر الأسرار بنسيم القرب، أو تنقلب الآية، فيدور الهلال، وتزلزل الأرض، ويُقرقع الرعد، وتُرفرف الطيور بصراخ، وتظهر في الشمس ظلمة كما الكسوف؟