عقول … تسرق الأسرار
قفز «أحمد» فجأةً من السَّرير، عندما قرأ على شاشة جهاز التِّليفزيون في حجرته، استدعاء رقم «صفر» له. كان الاستدعاء له وحده، دون بقيَّة الشَّياطين.
قال في نفسه: هل يمكن أن أقوم بمغامرة وحدي … أو أنَّها مهمَّة سِرِّيَّة سريعة، لا تحتاج لمجموعة الشَّياطين.
فتح باب الحجرة، وخرج مسرعًا، مُتجهًا إلى قاعة الاجتماعات الصُّغرى، التي حدد رقم «صفر» الاجتماع فيها. كان يمشي بخطوات مُتَّسعة، في الممر الطَّويل داخل المقر السِّري … وعندما وصل إلى القاعة، فتح الباب.
كانت القاعة تغرق في الصَّمت، الذي يلفُّه ضوء خافت. كانت القاعة تضم أربعة مقاعد فقط، مُرَتَّبة في شكلٍّ شِبه دائري. جلس فوق أول مقعد، في نفس اللَّحظة التي جاء فيها صوت رقم «صفر» يقول: أهلًا بك.
صمت لحظة ثم أضاف: أعرف أنك مندهش لاستدعائك وحدك. فهذه أوَّل مرةٍ …
لكنَّ المسألة تحتاج أوَّلًا إليك، ثمَّ سينضمُّ إليك بقيَّةُ الشَّياطين فيما بعد.
سكت رقم «صفر»، بينما كان «أحمد» في حالة انتظار، حتى يسمع تكملة الحديث … قال رقم «صفر»: إنَّ المسألةَ تتعلق بحادثة تكرَّرت أكثر من مرة، كان آخرها أمس. إنَّ المواطن العربي «سعيد»، ضبطته المخابرات العربية وهو في طريقه إلى قاعدة عسكريَّة عربيَّة، وهو يحمل بعضَ المتفجرات.
توقَّف رقم «صفر» عن الكلام … في الوقت الذي فكَّر فيه «أحمد»: هل هو عميلٌ لإحدى الدول الأجنبية؟
وهل يمكن أن يكون هناك عميل ضد بلده؟!
إنَّ معنى المتفجرات هو أنَّه كان يريد أن ينسف القاعدة العسكرية …
فجأةً، جاء صوت رقم «صفر»: لن أتركك تذهب بعيدًا. إنَّني أعرف أنَّك تحاول أن تعرف بسرعة طبيعة «سعيد» … سكت لحظة ثمَّ أضاف: إنَّ «سعيد» شاب من نوع ممتاز. وهو خريج كلية العلوم في بلده. ومن الشباب المتقدم. وكان يعد رسالة الماجستير في قوى التفجير. وهو أيضًا شاب وطني متحمس. وقد يبدو هذا غريبًا. فكيف يكون وطنيًّا متحمسًا، ثمَّ يقوم بعمل غريب مثل هذا العمل، الذي إذا تم، فإنَّه يمثِّل كارثة قومية كبرى؟ لمعت لمبةٌ حمراء في زاوية من القاعة، فقال رقم «صفر»: هناك رسالة عاجلة.
أخذت أقدامه تبتعد حتى اختفت … كان «أحمد» يحاول أن يجدَ تفسيرًا لِمَا أقدم عليه «سعيد». سأل بينه وبين نفسه: هل استطاعت قوى أجنبيَّة أن تُجنِّدَ «سعيد» ليعمل لحسابها داخل بلده؟ وهل «سعيد» في حاجة شديدة إلى المال، تجعله يخضع لهذه القوى الأجنبية؟ وحتَّى إذا كان يحتاج إلى المال، فهل خيانة الوطن يمكن أن تتساوى بأي ثروة مهما كانت؟
ظلَّ «أحمد» يُقلِّب الأمر في رأسه، لكنَّه في النِّهاية لم يصل إلى إجابة شافية. مرة أخرى، كان صوت أقدام رقم «صفر» يقترب. طرد «أحمد» كلَّ خواطره، وبدأ يركِّز انتباهه حتَّى يسمع حديث رقم «صفر» ويستوعبه جيدًا.
عندما توقفت أقدام رقم «صفر» قال: لن أُطيل الحديث إليك الآن. فقط أريد أن أقول لك إنَّ «سعيد» هذا الشَّاب الوطني، من عائلة ثريَّة ثراءً كبيرًا، أي إنَّه لا يحتاج إلى المال، حتَّى يمكن أن يكون الإغراء المادي قويًّا. وحتَّى إذا كان الإغراء قويًّا. فإن الشَّباب العربي لا يمكن أن يبيع وطنه. سوف أسمح لك الآن بالعودة إلى حجرتك. وهناك سوف تجد تقريرًا، اقرأه جيدًا. وسوف أدعوكم للاجتماع في القاعة الكبرى، بعد ساعة …
ثمَّ أخذت أقدام رقم «صفر» تبتعد، حتَّى اختفت. كان «أحمد» لا يزال مستغرقًا في أفكاره … الآن، أصبح الأمر غامضًا تمامًا. فما الذي دفع «سعيد» إلى ذلك إذن؟ تحرك في هدوء مغادرًا القاعة، وعندما تجاوز الباب أسرعت خطواته. لقد كان يريد الوصول إلى حجرته حتَّى يرى التَّقرير. وحتَّى يعرف الحقيقة. وعندما أغلق باب حجرته. وقعت عيناه على تقرير داخل غلاف أخضر مكتوب عليه بالخط الأسود «سرِّي للغاية».
أسرع إلى المكتب فجلس … أخذ ينظر إلى التقرير لحظة، ثمَّ فتح الغلاف. وعندما قرأ عنوان التقرير ملأت الدهشة وجهه. كان العنوان: «عقول تسرق الأسرار».
توقَّف لحظة يفكِّر: ما هو المقصود بهذا العنوان؟ وهل هي عقول إلكترونية، خصوصًا وأنَّها انتشرت كثيرًا في السنوات الأخيرة. لكن، كيف يمكن أن تسرق العقول الإلكترونية الأسرار؟
فجأةً توقَّف عن التَّفكير، وهو يقول لنفسه: إنَّ التَّقرير سوف يقول كل شيء، ولا داعي لإضاعة الوقت، خصوصًا وأن الاجتماع الكبير سوف يكون بعد ساعة. فتح أول صفحة، ثمَّ بدأ يقرأ: هناك قدرات شبه خارقة لبعض الأفراد، تتيح لعقولهم الاتصال بعقول أخرى، تبعد عنهم آلاف الكيلومترات. ويمكن أن تقوم بتنويمها، والسيطرة عليها. إنَّ الصِّراع الدولي سوف يشهد معارك غريبة، تضاف إلى معارك الصِّراع في أعماق البحار والفضاء، والأرض. إنَّها تتجاوز صراع الأقمار الصِّناعيَّة، والتَّصوير بالأشعة وغيرها.
توقَّف عن القراءة لحظة، واستغرق في التَّفكير … ثمَّ تساءل بينه وبين نفسه: هل يمكن أن يصل العقل البشري إلى تحقيق هذه القدرات الغريبة؟
مرَّت دقيقة قبل أن يعود إلى التقرير. قرأ: في عام ١٩٧٦م ظهرت عدة كتب، تحاول أن تتحدث عن ظواهر قديمة عن تبادل الأفكار، والتنويم المغناطيسي، ودخول هذه الظَّواهر في ميادين الصِّراع الدولي بين القوى الكبرى. وتتحدث عن السِّباق الرَّهيب الذي يدور في الخفاء، بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا، للكشف عن أسرار القدرات العقلية والروحية المثيرة عند بعض النَّاس، والتي قد تُستخدَم كسلاح، لا يقلُّ خطورة عن الصَّواريخ العابرة للقارات.
توقَّف مرة أخرى عن القراءة، واستغرق في التَّفكير. تذكَّر شيئًا قديمًا كان قد قرأه حول هذا الموضوع. كان قد قرأ أنَّه يمكن لاثنين على مسافة بعيدة عن بعضهما، أن يفكرا في نفس الشيء في لحظة واحدة. بل إنَّهما يمكن أن يُرسلا رسائل واضحة ومفهومة لبعضهما في نفس اللحظة، دون الاعتماد على أي أجهزة … فيكفي أن يتفق الاثنان مثلًا على موعد معين، يجلس كل منهما فيه، وهو يحصر أفكاره في زميله. وعن طريق التَّركيز الشَّديد، يمكن أن يتم بينهما اتصال روحي، يجعل كلًّا منهما ينقل خواطره للآخر. قال في نفسه: مَن يدري، ربَّما يكون هذا صحيحًا.
عاد إلى القراءة من جديد: إنَّ منوِّمًا مغناطيسيًّا يستطيع تنويم شخص تفصله عنه مئات الأميال. وقد حدث هذا في الاتحاد السوفيتي. كان الوسيط المطلوب تنويمه موجودًا تحت رقابة شديدة، في إحدى الغرف بمدينة موسكو، بينما كان الآخر، الذي سيقوم بعملية التَّنويم المغناطيسي موجودًا في مدينة أخرى تبعد ألف ميل. ومن هذه المسافة البعيدة، أمكن تنويم الوسيط خلال خمس ثوانٍ فقط. أي إنَّ إشعاعات فِكر الذي قام بالتَّنويم المغناطيسي قد انطلقت بسرعة ٢٠٠ ميل في الثَّانية الواحدة.
كان «أحمد» مستغرقًا تمامًا في القراءة. فإن ما يقرؤه كان شيئًا غريبًا فعلًا. أكمل التَّقرير: إنَّ أستاذةً لعلم النفس بجامعة موسكو استطاعت أن تقوم بتحريك جسم مادي، عندما وجَّهت أفكارها، وإرادتها إليه. فقد تدربت على الاستفادة من طاقتها العقلية، وأنَّ هذا التَّدريب قد استغرق ثلاثة أعوامٍ. وهكذا استمرَّ التَّقرير في الحديث عن القدرات الخارقة لعقل الإنسان.
نفس الوقت، كان «أحمد» قد بدأ يفهم ما حدث ﻟ «سعيد»، حتَّى إنَّه اندفع لتنفيذ ما كان سيفعله.
ثم وصل «أحمد» في النهاية إلى نهاية التَّقرير التي كانت تقول: إنَّ الطَّاقات الخارقة للعقل البشري في مجال تخاطب التَّخاطر، أو تبادل الخواطر، واستخدامها للقيام بعمليات التَّجسس، وتحديد مواقع غواصات العدو، ومخابئ صواريخه وقاذفاته، بل ومحاولة السَّيطرة على عقول المشرفين على هذه الأسلحة، ودفعهم إلى تدميرها. إنَّ رئيسًا أمريكيًّا سابقًا كان ينظر بجدِّيَّة إلى هذه التَّجارب، وإنَّه طلب في عام ١٩٧٧م تقريرًا بشأن الأبحاث التي أجراها السوفيت في هذا الميدان. إنَّ حربًا سرِّيَّة يمكن أن تجري في الخفاء. وهي حرب تختلف عن جميع الحروب التي عرفتها البشرية من قبل. لأنَّ ميدانها هو العقول والأفكار، وأسلوبها يعتمد على تدريب بعض الأفراد على استخدام عقولهم، لتكون أكثر فاعلية من طائرات وأقمار التجسس. بل وتكون أجهزة إنذار مبكر، لتنذر باستعداد العدو للقيام بحرب خاطفة.
انتهى التقرير.
شرد «أحمد» يفكِّر: هل وصل الإنسان إلى مثل هذه القدرات الغريبة؟ وهل عقل الإنسان يحتوي على هذه القدرات الضَّخمة؟ ولماذا لا تُستخدَم القوى العظيمة في العقل البشري من أجل التَّقدم بدلًا من عمليات التَّجسس والتَّدمير؟
نظر في ساعة يده، كانت عدة دقائق قد بقيت على بداية الاجتماع. أغلق التَّقرير، ثم غادر الحجرة في هدوء، كان قد فهم كل شيء الآن … لكن المغامرة لم تكن قد اكتملت بعد، حتى يكون الانطلاق إليها محددًا. وعندما اقترب من قاعة الاجتماعات الكبرى، كان الشياطين يأخذون طريقهم إليها. وخلال دقيقتين، كانوا قد احتلُّوا أماكنهم فيها. لم يكن هناك شيء غير عادي. ولذلك، فقد التقت نظراتهم دون معنًى محدد. إلَّا «أحمد» الذي كان مستغرقًا في التَّفكير، حتَّى إنَّ «عثمان» ابتسم قائلًا: يبدو أنَّ «أحمد» لديه كلُّ التَّفاصيل.
ابتسم «أحمد» دون أن يرد، فقالت «إلهام»: إنَّ هذه الابتسامة تخفي شيئًا، سوف نعرفه بعد قليل.
جاء صوت رقم «صفر» يقول: طبعًا سوف تعرفون الآن؛ لأنَّكم الذين سوف تقومون بالمغامرة، وهي مغامرة من نوع غريب ومثير، لعلَّها المرة الأولى التي تقابلون فيها مِثل هذا الشيء.
صمت رقم «صفر»، وترك الشياطين في حيرة. غير أنَّ أعينهم كانت تحيط ﺑ «أحمد». فتلك الكلمات التي قالها رقم «صفر»، أثارتهم إلى حد أنَّهم كادوا ينطقون في لحظة واحدة، لولا أنَّ «ريما» كانت أعلاهم صوتًا.
قالت «ريما»: لا أظن أنَّ «أحمد» سوف يخفي عنَّا ما يعرفه، خصوصًا بعد كلمات الزَّعيم. وما دامت هناك مغامرة، وما دامت المغامرة مثيرةً إلى هذه الدرجة. فينبغي ألا يتركنا هكذا في حيرة!
ابتسم «أحمد»، في الوقت الذي جاء فيه صوت رقم «صفر» يقول: إنَّني في الطَّريق إليكم.
اعتدل الشَّياطين في أماكنهم. وساد الصَّمت في القاعة في انتظار معرفة التَّفاصيل.