الخداع … في أعماق البحر
كانت الخطة أن ينزلوا في «دمشق»، ومنها إلى ميناء «اللاذقيَّة» على ساحل البحر الأبيض المتوسط، الذي يقع في مواجهة «قبرص» تمامًا. فالحركة من ميناء «اللاذقيَّة» إلى الجزيرة، سوف تكون سهلة. لقد اختارت العصابة أقرب مكان للمنطقة العربيَّة، فمن هذا المكان يمكن عمل أي شيء لسوريا أو لبنان، أو الأردن، أو الكويت، أو العراق، أو السعودية، وأيضًا دول الخليج.
وعندما هبطت بهم الطائرة في مطار «دمشق» الدولي، قال «قيس» مبتسمًا: نحن ضيوف على «فهد».
فرد «فهد» مبتسمًا: أنتم أهلُ دارٍ، ولستم ضيوفًا، لكنَّ الضِّيافة لم تكن في خطة المجموعة، فَهُم سوف يتحركون مباشرة إلى «اللاذقيَّة»، حيث يرون الترتيبات المُعدَّة. ولذلك، فعندما تحركت السَّيارة بهم في اتِّجاه العاصمة السورية، لم تكمل طريقها، لأنَّها انحرفت بعد مسافة إلى اتِّجاه آخر، هو «اللاذقيَّة». كان «فهد» يقود السَّيارة، التي كانت تقطع الطَّريق المزروع في سهولة …
قال «باسم»: الآن، نعود إلى السُّؤال الذي طُرح في الاجتماع: كيف يتم اختيار شخص معين، ليكونَ هو الأداة التي تنفذ أوامر العصابة؟
قال «أحمد» بعد قليل: بالإضافة إلى الأسباب التي ذكرها الزَّعيم، هناك عدة أشياء خاصة بالشَّخص مباشرة؛ مستوى ذكائه، هواياته، نشاطه. إنَّ تقريرًا كاملًا يُعَدُّ عن هذا الشَّخص. حتَّى إنَّ عميل العصابة، يكون وكأنَّه يعرفه معرفة شخصيَّة. نقطة هامَّة يتضمنها التَّقرير، هي تلك الأوقات التي يكون فيها وحيدًا. ففي هذه الأوقات، تصدر إليه الأوامر التي ينفذ على أساسها ما تريده العصابة.
كانت السَّيارة تقترب من الميناء في هذه اللَّحظة، وبدأت رائحة البحر تصل إلى الشَّياطين …
سأل «باسم»: إنَّ «مولت» عميل العصابة، يبدو شخصية خرافيَّة، تبعًا للدِّراسة التي قدمها لنا المقر السِّري. فأنا حتَّى الآن، لا أستطيع أن أتصور إنسانًا له كل هذه القدرات الخارقة!
ابتسم «أحمد» قائلًا: بالرَّغم من أنَّها تبدو مسألة غريبة، إلَّا أنَّها حقيقة. وإلَّا ما كنَّا الآن في طريقنا إلى «مولت» فوق المدينة العائمة!
انحرف «فهد» بالسيارة في اتِّجاه الميناء، حتى توقَّف أمام البوابة الحديدية الضَّخمة. أخرج تصريحًا ثم قدَّمه للحارس، الذي ابتسم، وسمح لهم بالمرور. وقبل أن تنقضي نصف ساعة كانت هناك مركب صيد، تخرج من الميناء إلى عرض البحر، وهي تحمل الشَّياطين، ومعهم مجموعة من الصَّيَّادين السُّوريين. كان الوقت آخر النَّهار، وكان ضوء النَّهار قد بدأ يتراجع، ليُفسح الطَّريق أما ظلمة اللَّيل. بينما كان الشياطين قد تجمعوا في مؤخرة مركب الصيد، وهم يلبسون ملابس الصيادين. وكانت أضواء الميناء تلمع متناثرة، حتى إنَّ «فهد» قال: إنَّها تبدو كماسات قد سقطت دون ترتيب!
فجأةً تردد صوت صفارة قوية يشق الفضاء. ثم ظهر ضوء قوي غطَّى سطح المركب جميعه.
قال «أحمد»: يبدو أنَّها شرطة المسطحات المائية.
ردَّ أحد الصَّيادين: نعم. وهذه مسألة عاديَّة!
كان مصدر الضَّوء يقترب من المركب، ثم بدأ صوت آلات تدور، يقترب أيضًا. وأخيرًا ظهر لنش متوسط الحجم، اقترب من المركب، ثم جاء صوت: هل معكم تصريح بالصيد؟
وبسرعة، كان قائد المركب، يقدِّم التصريح، الذي أخذه الشرطي وقرأه، ثم أعاده إليه. ظلت المركب في طريقها إلى النقطة المحددة في اتِّجاه مدينة «فاما جوستا»، على ساحل جزيرة «قبرص». انقضت عدة ساعات، وأصبح اللَّيل ثقيلًا في عرض البحر، الذي كان ساكنًا تمامًا في هذه اللَّيلة. كان «أحمد» يُلقي نظرةً على البوصلة التي يحملها؛ ليعرفَ إن كانوا في الاتجاه الصحيح أم لا … في نفس الوقت ليعرف كم بقي من المسافة، حتَّى الوصول إلى المدينة العائمة.
بعد نصف ساعة، قال قائد المركب: سوف نلقي الشباك هناك!
وبسرعة كان طاقم المركب يتعاون في إنزال الشِّباك إلى الماء …
همس «أحمد»: إنَّ أمامنا خمس دقائق، ثم نختفي في الماء. فالمسافة الآن بيننا وبين المدينة العائمة، لا تزيد على ثلاثة كيلومترات …
سأل «فهد»: لكنَّها لا تظهر في أيِّ اتِّجاه، مع أنَّ الرؤية في البحر تكون أوضح!
قال «أحمد»: لعلَّه الغموض الذي يلف كل شيء.
كانت المركب تدور دورة كاملة، تلقي خلالها بالشِّباك. وفي هدوء، ودون أن يشعر أحد، أو يصدر صوت كان الشَّياطين ينزلقون، الواحد بعد الآخر إلى الماء. وعندما اكتملت دورة المركب، كان الشَّياطين يرقبونها وهي تبتعد عنهم. كان الاتفاق أن تقوم المركب بعملية الصيد في مساحة متفق عليها، لا تبعد عن المكان كثيرًا. ولن تغادر المركب مكانها، ما لم تأتِها إشارة من الشياطين. فجأةً لمعت في الأفق أضواء، تبدو منتظمة في شكل خطٍّ مستقيم.
قال «خالد»: يبدو أنها المدينة، قد كشفت نفسها أخيرًا.
ردَّ «قيس»: لعلَّها خدعة ما …
صمت وبدأ الشَّياطين قطْع المسافة إلى المدينة العائمة سباحةً … كانوا يسبحون في هدوء، وفي خطٍّ مستقيم. كان الماء باردًا بعض الشيء، وكان هذا يبعث النشاط فيهم. انقضت نصف ساعة، وبدأت تفاصيل المدينة العائمة تظهر أكثر … لكن فجأة، ظهر جسم أسود صغير يطفو على الماء، ويتحرك دون صوت.
قال «أحمد»: يبدو أنه أحد قوارب الحراسة …
وفي صمت، واصلوا تقدمهم في اتجاه الجسم الأسود. وعندما اقتربوا منه، غاصوا في الماء إلى عمق كبير، حتى لا تقع عليهم عين أحد. لكن فجأةً، اصطدمت يد «فهد» بحبل رفيع. مدَّ يده إلى «باسم» الذي يسبح بجوراه، وتحدث إليه بلغة اللمس. نقل «باسم» ما قاله «فهد» إلى «قيس»، الذي نقله إلى «خالد»، ثم إلى «أحمد». كان «فهد» يقول: هناك حبل رفيع في يدي الآن.
وكان ردُّ «أحمد»: احذر، لعلَّه شرك خداعي!
لكنَّ الدقائق التي وصل فيها ردُّ «أحمد» إلى «فهد» كانت كافية ليقع «فهد» في الشرك. فقد جذب الحبل الذي اهتز بقوة. وفجأة، كانت شبكة تدور حول الشياطين. كانوا يرونها، وهي تقترب منهم. ولم يكن أمامهم أي تصرف آخر، سوى التعامل معها. كانت خيوط الشبكة من المواد الصناعية الطرية، والقوية في نفس الوقت. لمس «أحمد» يد «خالد» وتحدث إليه: استخدموا الخناجر.
نقل «خالد» الرسالة، حتى وصلت إلى «فهد» في النهاية. وقبل أن تطبق الشبكة بكاملها على الشياطين، كانت خناجرهم تمر في الخيوط، كما يمر السكين في العجين، لكن الشبكة لم تكن هي النهاية، فقد كانت بداية لسلسلة طويلة من محاولات الصراع بين الشَّياطين والعصابة. فعندما تخلصوا من الشبكة كانت شبكة أخرى من خيوط الصلب تقترب منهم.
وبسرعة قال «أحمد»: يجب أن نغوص بسرعة، أو نطفوا قبل أن تطبق علينا.
نقل «خالد» الرسالة إلى «قيس»، الذي نقلها إلى «باسم»، الذي نقلها بدوره إلى «فهد». وفي لمح البصر كانوا يأخذون طريقهم إلى السطح، خوفًا من أن تكون الأعماق، ملغومة بخدع أخرى. لكن السطح لم يكن أقل خطورة من الأعماق. فعندما ظهر رأس «أحمد»، كانت طلقات الرصاص تنهمر كالمطر عليهم. كانت طلقات بلا صوت. استطاع «أحمد» فقط أن يرى ضوءها. ومرة أخرى غاصوا إلى الأعماق. ظلوا في طريقهم حتى القاع. وعندما اصطدمت أقدامهم بالأرض قال «أحمد» بنفس لغة اللمس: يجب أن نخرج من هذه المنطقة. ويبدو أنَّها خط الدفاع الأول عن المدينة العائمة.
انتقلت الرسالة إلى بقيَّة الشَّياطين … فغيَّروا اتجاههم بسرعة كانوا يتقدمون مباشرة إلى موقع المدينة العائمة. فالعودة بعيدًا عنها لن تجدي شيئًا. كان التحرك صعبًا، بتأثير مقاومة الماء. لكن، لم يكن أمامهم إلا التقدم.
بعد قليل قال «أحمد»: يجب أن نكرر محاولة الصعود إلى السطح مرة أخرى، قبل أن ينفد هواء الأنابيب. وفي دقائق، كانوا يشقون الماء بسرعة في اتجاه السطح. وعندما اقتربوا منه، توقفوا. وفي هدوء، أخذ «أحمد» يصعد وحده، حتى وصل إلى السطح … وكانت المفاجأة. لقد طفا بجوار أحد القوارب مباشرة، بشكل لا يجعل مَن فيه، يستطيع رؤيته … اقترب أكثر، حتى توقف تحت حافة القارب تمامًا. وبواسطة قدميه، تحرك عدة حركات فهمها الشَّياطين، فاقتربوا منه، ثم صعدوا الواحد بعد الآخر، في نفس المنطقة التي يقف فيها.
فجأة سمعوا صوتًا يقول: لعلَّها إحدى أسماك القرش الكبيرة …
ردَّ صوت آخر: لا أظن. فقد اهتزت الشباك أولًا، ثم تقطعت. ولا أدري، أي سمك يستطيع أن يفعل ذلك.
سكت لحظة ثم أضاف: إن اختفاءه مرة أخرى، بمجرد إطلاق الرصاص يعني شيئًا من اثنين، إما أنه قد أُصيب، وإما أنَّه قد اختفى، ليظهر مرةً أخرى.
عندئذٍ تحدَّث «أحمد» إلى الشَّياطين بلغة اللمس: يجب أن نتخلص منهم، حتى لا تصل الأخبار إلى المدينة العائمة، فتكون المشاكل مضاعفة …
عندما انتهى «أحمد» من كلامه، جاء صوت من القارب يقول: يجب أن نرسل إشارة إلى القارب «٨» في المنطقة المجاورة، فربما ظهر عندهم.
مرة أخرى، أسرع «أحمد» يتحدث: يجب أن ننتهي الآن، حتى لا نعطيهم الفرصة!
ثمَّ فكَّر قليلًا، ورسم خطَّة: سوف نتعلق معًا، وفي لحظة واحدة، بحافة القارب، ونضغط عليها، حتى ينقلب، ثم نجهز عليهم … سوف أعطيكم الإشارة …
انتقلت الرسالة إلى الشَّياطين، بينما كان كان أفراد القارب ما زالوا يتحدثون. أعطى «أحمد» الإشارة، فقفز الشَّياطين متعلقين بحافة القارب في لحظة واحدة. وعندما ضغطوا معًا، تعالت صيحات مَن فيه، فقد اختل توازنهم … وسقط الواحد بعد الآخر … في نفس الوقت، كان الشياطين يتلقونهم. تلقى «أحمد» أول مَن سقط منهم، وضربه ضربة قويةً، فغاص في الماء. في نفس اللحظة، كان «فهد» قد سدد ضربةً قويةً إلى رجلٍ آخر، جعلته يصرخ، ثم يختفي. ولم تمضِ دقائق، حتى كان الشَّياطين قد أنهوا المعركة المائية السريعة، ثم قفزوا إلى القارب، الذي لم يكن قد انقلب.
قال «أحمد» بسرعة: ينبغي أن نقترب من المدينة العائمة، حتى لا نقع في شباكٍ أخرى.
أسرع «فهد» إلى عجلة القيادة، ثم أدار المحرك، الذي كان يدور في صوت مكتوم، وحدد اتجاهه. في الوقت الذي أسرع فيه «أحمد»، يدرس القارب بسرعة، لعلَّه يجد ما يفيد. كان هناك جهاز إرسال صغير. ومجموعة من علب الطعام المحفوظة، وقهوة ساخنة، وعدة خناجر، وثلاثة مسدسات، وأنابيب غاز.
فتح «أحمد» جهاز الإرسال، وبدأ يستمع. كانت هناك رسالة تتردد باليونانية: نقطة «٣» تنادي نقطة «٦» هل تسمع؟
تكرر النداء أكثر من مرة. فكر «أحمد» بسرعة، ثم أجاب: نقطة «٦» تنادي نقطة «٣» حوِّل …
جاء النداء: نقطة «٣» تنادي نقطة «٦» هل هناك شيء؟
رد «أحمد»: «٦» تنادي نقطة «٣»، لا شيء. حوِّل.
لكن فجأة تردد نداء: اثبت مكانك!