هجوم … بعد منتصف الليل
كان النداء صادرًا من جهاز الإرسال. فكَّر «أحمد» بسرعة: هل يمكن أن تكون المدينة العائمة قد اكتشفت شيئًا؟ وهل من الأحسن أن يقف مكانه فعلًا، أو يتحرك؟ لكنَّه لم يقرر قرارًا أخيرًا. عرض الأمر على الشَّياطين. قال «قيس»: ينبغي أن نغادر المكان، حتى لا نقع في أيديهم.
ردَّ «خالد»: إنَّني أرى أن نبقى، حتَّى يتضح كل شيء. فربما لو تحركنا قد نقع في كمين أو أن نكشف أنفسنا.
ظلَّ الشَّياطين يناقشون القرار، ثم انتهوا إلى رأي «خالد». فقد قال «أحمد» في النهاية: إنَّني من رأي «خالد»، فلو تحركنا، فإننا نكون قد كشفنا أنفسنا. في نفس الوقت نحن لا نعرف المنطقة جيدًا، خصوصًا في هذا الليل المعتم، ومن المؤكد أنَّ هناك دوريات حراسة، فقد نقع في قبضتها.
انتظر الشَّياطين في مكانهم. لكنَّهم في نفس الوقت استعدوا لأي شيء. فجأة، لمعت في ذهن «باسم» فكرة، فقال: إنَّني أقترح أن نتخلص من القارب ونختفي في نفس الوقت.
نظر له الشَّياطين قليلًا، فأضاف: إنَّنا بذلك نكون في طريقنا إلى الهدف الثاني، وهو ألَّا يكون للقارب وجودٌ، فلا أحدَ يعرف ماذا حدث؟
كانت فكرةً لامعةً. فسأل «فهد»: وما السبيل إلى ذلك؟
ردَّ «باسم»: هذه مسألة ليست صعبةً. إنَّ قنبلةً من قنابل الأعماق يمكن أن تنهي الموقف تمامًا.
لحظة، ثم أضاف: أو أن نثقب فيه عدة ثقوب. فيمتلئ بالماء، ويهبط إلى القاع.
ثم ابتسم قائلًا: يمكن أن يهبط ونحن فيه. فإن ثقلنا سوف يساعد على انحرافه بسرعة.
ولم ينتظر «باسم» فقد اتَّخذ قراره فأسرع إلى مسدسه وثبَّت فيه جهاز الأشعة، ثم ضغط على الزناد، فانبعثت الأشعة إلى قاع القارب. وفي لحظة، كان الماء يتدفق داخله. وجَّه المسدس إلى مكان مختلف، فأحدث ثقبًا آخر، ثم ثالث، ورابع. كان الشَّياطين ينظرون إليه وهو يقوم بالمهمة في براعة، بينما كان القارب يمتلئ بالماء، ليهبط شيئًا فشيئًا، والشَّياطين يجلسون فيه، حتى اختفى تحت سطح الماء تمامًا، فغادره الشَّياطين، ليستمروا إلى هدفهم سباحة تحت الماء. كانت فرصة، أن وجدوا في القارب مجموعة من أنابيب الغاز، فتزودوا بها. نظر «أحمد» في البوصلة المائية التي يحملها. كان المؤشر يتجه إلى نفس الاتجاه الذي يسبحون إليه. ضغط زرًّا في البوصلة، فانطلق شعاع لا يُرى، يقطع المسافة إلى حيث المدينة العائمة. وفي ثوانٍ، كان يرتد إليه، ليحدد له المسافة بالضبط. كانت المسافة الباقية لا تزيد على نصف كيلومتر. نظر في ساعة يده، ثم قدر ذلك. إنه يحتاج إلى ثلث ساعة سباحة. جدَّ الشَّياطين في سباحتهم. إنَّ الليل يمثل بالنسبة لهم فرصتهم الكبرى. فهم فيه يستطيعون دخول المدينة بأي طريقة. أما النهار، فإنَّه سوف يكون عائقًا جديدًا …
فكَّر «أحمد» لحظة، ثم أخرج مصباحًا دقيقًا، وضغط زرَّه، فأرسل ضوءًا قويًّا، أضاء خطًّا رفيعًا في أعماق الماء المظلمة. لم يكن يظهر شيء غير عادي. قال في نفسه: ربما اصطدمنا بشيء جديد. فليس من المعقول أن يتركوا المدينة العائمة دون شراك أخرى … ظلَّ يمسك بالمصباح وهو يتقدم … فجأة، لمعت الخيوط الرفيعة، فرفع يده، حيث كان الشَّياطين يتبعونه. توقفوا. ابتسم «أحمد»، فقد تحقق ما فكَّر فيه. اقترب في حرص من الخيوط الرفيعة. كانت شبكة ضخمة تمتد إلى مسافة لا يعرف أحد نهايتها. تحدَّث إلى الشَّياطين بلغة اللمس.
قال: إننا لا نستطيع أن نقترب من هذه الشباك وإلَّا انكشفنا، فالمؤكد أنَّها شبكة إنذار …
سأل «قيس»: وما السبيل إلى تجاوزها!
قال «أحمد»: «خالد»، يتجه بجوارها إلى الأعماق ليرى نهايتها. وسوف أتجه إلى السطح لأرى أيضًا!
وفي لمح البصر، كان «خالد» يغوص إلى أعماق البحر، في الوقت الذي اتجه فيه «أحمد» إلى السطح. مرت دقائق، وعندما عاد الاثنان قال «خالد»: إنها ممتدة حتى قاع البحر.
وقال «أحمد»: إنها أيضًا ممتدة حتى السطح.
مرت لحظة سكون. ثم قال «أحمد»: إن سبيلَنا الوحيد هو الانتظار. فالمؤكد أن هناك فتحة ما تمر منها القوارب. وهي لا تُفتح إلا تبعًا لإشارة خاصة. ثم أضاف: سبيلنا الوحيد أن ننتظر، حتى يظهر أحد القوارب، فنتبعه في الدخول.
سأل «باسم» بسرعة: قد تكون الفتحة في مكان بعيد، وليس هنا؟
قال «أحمد»: هذا ما سوف نعرفه الآن.
ضغط على زر البوصلة، فأرسلت شعاعًا، ارتد بسرعة، فقال «أحمد»: إن أقرب قارب في هذا الاتجاه، يبعد كيلومترًا.
بدأ يرصد كل الاتجاهات، ثم قال في النهاية: إن الاتجاه «شرقًا»، يحدد وجود قارب على بعد مائة متر، ويبدو أن هذا هو الاتجاه الصحيح. علينا الآن، أن نتحرك فورًا إلى الاتجاه شرقًا.
تحرك الشَّياطين بسرعة، ولم تمضِ دقائق، حتى كانوا يسبحون أسفل القارب، الذي كان يتجه إلى الشباك فعلًا، وعندما وصل إليها توقَّف قليلًا، فبدأت فتحة في الشباك تتسع، وكانت هذه فرصة الشَّياطين. فقد دخلوا مع القارب في وقت واحد. بل إنَّهم ظلُّوا تحته تمامًا، حتى يحتموا به … وعندما توقف القارب، كان هذا يعني بالنسبة لهم أنهم وصلوا. ظلوا تحت القارب عدة دقائق. أخرج «أحمد» جهاز تنصت دقيق، ثم مدَّ سلكه الرفيع إلى سطح الماء. نقل جهاز التنصت إليه، ما كان يدور قريبًا منهم. كانت هناك كلمات تقال: إنَّ تقارير الحراسة وصلت جميعها، ما عدا تقريرًا واحدًا.
ردَّ صوت آخر: ربما كان هناك عائق ما.
كانت الأصوات تبتعد شيئًا فشيئًا، حتى اختفت تمامًا. مرت دقائق أخرى، تأكد «أحمد» خلالها، أنه لا يوجد أحد قريب. سحب جهاز التنصت، وفي هدوء أخذ يتسلل إلى السطح. كان يحتمي بالقارب، حتى لا تقع عين أحد عليه، إذا كانت هناك حراسة قريبة. مسح المنطقة حوله في نظرة سريعة. لم يكن هناك أحد فعلًا، وبواسطة قدمه، أعطى إشارة للشياطين، فصعدوا بسرعة، ثم أخذوا طريقهم جميعًا إلى المدينة العائمة. كانت تبدو مرتفعة قليلًا، لكن ذلك لم يكن يمثل بالنسبة لهم أي عائق. كانوا يتحركون بحذر، فقد كان الصمت شديدًا، وكانت الإضاءة خافتة، تقدم «أحمد» قليلًا، حتى لامس جسم المدينة. قدَّر المسافة بين سطح الماء، وسطحها … كانت المسافة تزيد على ثلاثة أمتار. فكَّر قليلًا: إنَّه لا يوجد سلَّم على أي جانب من جوانبها، والصعود إليها يحتاج إلى حيلة جديدة.
أشار إلى الشَّياطين فاقتربوا. قال هامسًا: إنَّنا لا نستطيع أن نرمي بأحد الحبال التي لدينا، والتي نستخدمها في الصعود.
لم يرد أحد من الشَّياطين مباشرة. غير أن «خالد» قال بعد قليل: إن المدينة لها حبال تثبيتٍ، وإلا فإنها سوف تكون تحت رحمة الموج، أو رحمة المد والجزر. ونحن نستطيع أن نستخدم هذه الحبال.
همس «أحمد»: لقد غابت عني هذه الفكرة. إن شمندورات المدينة هي سبيلنا إلى سطحها، فقط تحتاج المسألة إلى كثير من الحذر!
قال «فهد»: سوف أقوم بالمهمة. وهي لا تحتاج إلا لواحد منا، ثم يقوم بتثبيت أحد السلالم التي نستخدمها لصعود الباقين.
اتفقوا على أن يبدأ «فهد» العملية. وفي لمح البصر كان يتحرك في هدوء إلى حيث أقرب شمندورة عائمة. إن الشمندورة، عبارة عن إناء مغلق، مملوء بالهواء، ويعوم على سطح الماء، حتى يكون علامة لحدود المنطقة حول المدينة العائمة. وبجوار الشمندورة يوجد الهِلب الذي يقوم بعملية التثبيت، ومنه يمتد حبل إلى سطحها. ودائمًا هناك هلبانِ في المقدمة، وهلبانِ عند المؤخرة.
كان الشَّياطين يرقبون «فهد» وهو يتحرك، فهمس «خالد»: لقد رأيت هذه الشمندورات في قناة السويس، عندما زرناها مرة.
فقال «أحمد»: نعم. فقط، إن الخوف أن يكشف أحد حركة «فهد». فدائمًا تكون الحراسة مشددة عند الشمندورات، أو حبال الهلب.
كان «فهد» قد وصل عند الشمندورة، وظل بجوارها لحظة، يرقب المكان. ثم مدَّ يده، وأمسك بالحبل الصلب الذي يخرج من الهلب الموجود في أعماق الماء، ويمتد إلى سطح المدينة العائمة. وفي رشاقة بدأ يتسلق الحبل. كان يتعلق به، تمامًا كما يتعلق القرد بفرع شجرة، متنقلًا من مكان إلى مكان. كان ظهره إلى أسفل، ووجهه إلى أعلى. ظلَّ يتقدم خطوة خطوة، حتى أصبح عند حافة المدينة. في نفس الوقت، كان الشَّياطين يتابعونه في خوف. فقد ينكشف في لحظة، وهو معلق في الهواء. فجأة، تردد ضوء في أعلى المدينة.
همس «أحمد»: لعلها إشارة ما. فربما يكون أحدٌ قد كشف وجود «فهد».
كانت أعينهم معلقة به. حيث سكن في مكانه تمامًا، ولم يتحرك. ففي نفس اللحظة، اختفى الضوء، وبدأت حركة فوق سطح المدينة …
قال «أحمد»: يبدو أنها لحظة تغيير الحراسة!
نظر في ساعة يده، حيث كانت تشير إلى الثانية صباحًا. مرت دقائق، ثم سَكَن كلُّ شيءٍ من جديد. غير أن «فهد» لم يتحرك من مكانه. فقد ظل ثابتًا فيه. فجأة ظهر أحد رجال المدينة. كان يمشي فوق سطح المدينة في خطوات منتظمة.
قال «أحمد»: إنه أحد رجال الحراسة!
قال «قيس»: إنه يقترب من «فهد».
تعلقت أنظار الشَّياطين. كان الحارس يقترب من المكان الذي سكن فيه «فهد». اقترب أكثر، حتى أصبح بجواره تمامًا. فجأة قفز «فهد» فوق الحارس. وفي لحظة كان قد انتهى كل شيء … مرت دقائق ثم ظهر الحارس من جديد. تعلقت أعين الشَّياطين بالحارس الذي كان يمشي بنفس خطواته الهادئة.
همس «باسم»: لقد انتهى «فهد»!
وما كاد يقول جملته، حتى كانت يد ترتفع وترسم إشارات في الهواء، فهمها الشَّياطين.
فقال «خالد» بسرعة: إنَّه «فهد». إنَّه يطلب أن نقترب.
أسرع الشَّياطين بالاقتراب أكثر من جسم المدينة، وعندما وصلوا إليه، كان أحد حبال الشَّياطين يتدلى من سطح المدينة إلى سطح الماء … وفي رشاقة كان «أحمد» يتعلق بالحبل، ثم يصعد بسرعة. حتى إذا وصل تبعه «خالد»، ثم «باسم»، وأخيرًا «قيس». وعندما أصبح الشَّياطين فوق سطح المدينة العائمة، كان «فهد» يؤدي دور الحارس. كان يمشي بنفس الخطوات الهادئة المنتظمة، مبتعدًا عن مكانهم. وعندما استدار عائدًا، كان الشَّياطين ينتظرون.
وقف بجوارهم وقال: الآن، ينبغي أن نتخلص من الحراسة، في هذا الجانب على الأقل، حتى لا يكشف أحد وجودنا.
تحرك الشَّياطين في حذر خلفه، وهو يبتعد عنهم. وعندما اقترب من الحارس الآخر، قال بصوت واثق: إن الجو بارد الليلة!
ردَّ الحارس: نعم. لكنَّه أقل برودة من أمس.
اقترب «فهد» أكثر، ثم قال: إن الليلة تذكرني … وقبل أن يكمل جملته كان «أحمد» قد قفز فوق الحارس وضربه ضربة جعلته يترنح. وكانت لكمة أخيرة من «فهد» كافية لأن تقضي عليه. وفي لمح البصر، كان «أحمد» يرتدي ثياب الحارس، تمامًا، كما فعل «فهد» مع الحارس الأول. انتصب «أحمد» مستمرًّا في المشي بجوار «فهد»، ثم اتجها إلى الحارس الثالث. الذي كان يقف بعيدًا بعض الشيء. كانا يتحدثان عن الجو في نفس الوقت الذي كان «خالد» يمشي خلفهما في هدوء، انتظارًا للحارس الثالث. لكن الحارس الثالث كان قد اختفى.