ثم جاءت الفرصة الأخيرة

نظر الشَّياطين إلى بعضهم في دهشة، وتساءل «قيس»: هل يمكن أن يكون قد شعر بشيء؟

ردَّ «باسم»: يجب أن نختفي بسرعة، حتى لا نقع في أيديهم. إننا لا نعرف تفاصيل هذه المدينة العائمة جيدًا، ولا نعرف طريقة حراستها.

كان الشَّياطين يتحدثون بلغة اللمس، خوفًا من أن تكون هناك أجهزة تجسس في أي مكان. فجأةً، سقط «باسم» و«قيس» على الأرض، في حالة اختفاء سريع فقد كان أحد الحراس يقترب.

قال «أحمد» ﻟ «فهد»: لعلَّه الحارس الثالث قد عاد!

اقترب الحارس أكثر، حتى أصبح لا يبعد عنهما سوى عدة أمتار، ثمَّ قال: إنَّ الطقس جميل الليلة!

ملأت الدهشة وجه «فهد» و«أحمد»، الذي ردَّ: نعم. إنَّه طقس ربيعي ممتع، وإن كان باردًا بعض الشيء!

ردَّ الحارس: غير أن كل شيء على ما يرام الليلة.

اقترب أكثر، ثم أزاح غطاء الرأس قليلًا … وكاد يغرق في الضحك. وفي نفس اللحظة التي تمالك فيها «أحمد» و«فهد» نفسيهما، فقد كادا يضحكان أيضًا، لقد كان الحارس هو «خالد». ففي الوقت الذي اتجه فيه «أحمد» و«فهد» إلى مكان الحارس الثالث، كان «خالد» قد قفز بسرعة في اتجاه مختلف، وإن كان يوصِّل إلى نفس المكان. وقبل أن يصلا إليه، كان قد اشتبك مع الحارس في معركة مفاجئة. لم يستطع الحارس أن يفعل شيئًا. وبسرعة كان يلبس ملابسه، ثم أخذ طريقه إليهما.

تساءل «خالد»: أين «باسم» و«قيس»؟

ولم يكد ينتهي من جملته حتى ظهر الاثنان، وهما يكتمان ضحكهما.

قال «أحمد» بسرعة: إنَّ حصولنا على ثلاثة مواقع حراسة على سطح المدينة يكفي، حتى لا نلفت النظر. فقد يحدث مرور من أحد قادة الحراسة، لتفقد الحراس. إننا ينبغي أن نتحرك الآن بسرعة، إلى داخل المدينة. سوف أتقدم أنا و«باسم» و«قيس»، وعلى «خالد» و«فهد» أن يظلا في حراستهما.

افترق «فهد» و«خالد»، كلٌّ إلى مكان حراسته. وتحرك «أحمد» وخلفه «باسم» و«قيس»، للبحث عن مدخل المدينة. كان السطح متسعًا تمامًا، وكأنَّه ملعب كرة. وفوقه ازدحمت أدوات الصيد، من شباك وبراميل.

وعلى الجانبين، كانت تتدلى قوارب صغيرة معلقة، هي قوارب الإنقاذ اتَّجه الثلاثة إلى مقدمة المدينة. فهم يعرفون أن المؤخرة توجد فيها الماكينات، وربما ثلاجة السمك. أما المقدمة ففيها غُرف القيادة. عند المقدمة كانت تنتصب غرفة صغيرة وبجوارها يقف حارسان. أشار «أحمد» إلى «باسم» و«قيس» أن يأخذ كل منهما اتجاهًا، حتَّى يقوما بالمهمة. بينما اتجه هو في بطء إلى مكان الحارس. قال وهو لا يزال بعيدًا عنهما: متى سوف تصل مراكب الصيد؟

ردَّ أحدهما: ربما بعد ساعتين: فالمفروض أن تكون هنا في الرابعة، والساعة جاوزت الثانية بقليل.

قال أحمد: يبدو أن الصيد سوف يكون وفيرًا الليلة، فالجو يساعد على ذلك!

قال أحدهما: إنها مسألة ظروف، فقد تفاجئهما أسماك القرش، فيهرب السمك الصغير، وتعود المراكب بلا صيد.

قال «أحمد»: هذا صحيح … كان يرى شبحين، هما شبح «باسم» و«قيس» يقتربان من الحارسين، فقال بسرعة: إنَّ البرودة التي تظهر آخر الليل، تحتاج لشيء ساخن.

ردَّ أحدهما: نعم. وسوف يمر «دراير» بعد نصف ساعة لتوزيع القهوة!

فجأةً، شاهد «باسم» و«قيس» يقفزان في لحظة واحدة على الحارسين، ويكممانهما، وفي دقائق، كان كل شيء قد انتهى بسرعة. أسرع «أحمد» إليهما، ثم همس: ابقيا هنا، حتى أرى ماذا بالداخل.

فتح الغرفة الصغيرة. كان يتوسطها سلَّم دائري، إلى أسفل. نزل بسرعة، وبحذر أيضًا. كانت طرقة صغيرة. تمتد بين صفين من الأبواب. وقف لحظة، يفكِّر: أي هذه الغُرف هو هدفنا؟ لمعت في رأسه فكرة: فأخرج جهاز التنصت، وبدأ يقترب من الأبواب. وضع سماعة الجهاز على الباب، واستمع لحظة. لكن الجهاز لم يسجل أي صوت، فانتقل إلى الباب المقابل، ولم يسجل الجهاز شيئًا. أخذ ينتقل من باب إلى باب، حتى وصل إلى الباب الأخير. لكن الجهاز لم يسجل شيئًا، أيضًا. قال في نفسه: هل هناك غُرف سريَّة؟

وقف لحظة، ثم فجأةً سمع صوت باب يُفتح. التصق بجدار الغرفة المجاورة له، وقد وضع يده فوق مسدسه في انتظار أي حركة. ظهر أحد الرجال، لكنَّه لم ينظر في اتجاه «أحمد»، بل اتَّجه إلى الاتِّجاه الآخر. ظلَّ «أحمد» في مكانه، حتى وصل الرجل إلى نهاية الطرقة، ثم بدأ يصعد السلم. وعندما اختفى أسرع «أحمد» إلى الغرفة. فتحها في حذر ثم دخل. وقف لحظة أمام عدد من الأجهزة. ثم أغلق الباب من الداخل. أسرع إلى أحد الأجهزة. كان يسجِّل رسالة شفرية. وقف ينتظر، بينما صوت الجهاز الذي لا يكاد يُسمع، يتردد … حاول أن يفهم الشفرة، لكنَّه لم يستطع. أخرج جهاز الإرسال الخاص به بسرعة، ثم بدأ يرسل الشفرة إلى المقر السري. وعندما انتهت، نزع الورقة التي سُجلت عليها الشفرة، وأخفاها في جيبه … فكَّر: هل يعود رجل الغرفة الآن؟ خطا خطوتين إلى الباب، ثم فتحه وتركه كما كان … فجأةً، شعر بسخونة الجهاز، فعرف أن هناك رسالة من رقم «صفر». بدأ يتلقَّى الرسالة، التي كانت تحمل الشفرة …

كانت الرسالة تقول: فشلت محاولة «سعيد». تصلكم رسالة حول مسئول كبير!

ومع نهاية الرسالة، كانت هناك رسالة أخرى من رقم «صفر» إلى الشَّياطين تقول: يجب الانتهاء من المغامرة بسرعة، قبل أن تبدأ التجربة الجديدة!

فكر «أحمد» قليلًا: إنَّهم يتصرفون بذكاءٍ شديدٍ. فالمسئول لا يلفت نظر أحد، ولا يمكن القبض عليه. ويمكن عن طريقه تنفيذ أي جريمة!

فجأةً فتح الباب، فقفز «أحمد» بسرعة خلفه. دخل نفس الرجل، ثم أغلق الباب. إلَّا أنَّ «أحمد» كان قد أسرع بتسديد لكمة قوية له جعلته يترنَّح، وقبل أن يتمالك نفسه، كان «أحمد» قد أمسك بذراعه، بطريقة جعلته يئن. وقبل أن ينطق بكلمة، كان قد سد فاه بيده. همس «أحمد»: إن حركة واحدة يمكن أن تقضي عليك.

سكت لحظة. كان الرجل خلالها قد هدأ.

فقال «أحمد»: أين السيد «مولت»؟

لمعت عينا الرجل في دهشة، فشدد «أحمد» على ذراعه، حتَّى إنَّ الألم ظهر على وجهه. رفع «أحمد» يده عن فاهه. فقال الرجل في ألم: أنا لا أعرف أحدًا بهذا الاسم!

قال «أحمد»: ما هو موقعك من المدينة العائمة؟

الرجل: قائد مجموعة الصيد رقم «٤»!

أحمد: ما اسمك؟

الرجل:«ميكار».

فكَّر «أحمد» لحظة، ثم ترك ذراعه. كان «ميكار» يتألم. في نفس الوقت، كان «أحمد» يقف في حذر، حتَّى لا يفاجئه بأي حركة.

نظر «ميكار» إليه، ثم سأله: مَن أنت؟

لم يرد «أحمد» مباشرة. لكنَّه قال بعد لحظة: هل تستقبل إشارات من مكان ما؟

أجاب «ميكار»: من قافلة الصيد.

فجأةً أخرج «أحمد» خنجره، ثم لوَّح به أمامه، قائلًا إنَّني أتعامل معك برقَّة الآن. لكني أستطيع أن أقضي عليك. هل تفهمني؟

أجاب «ميكار»: إنَّني لا أفهم شيئًا على الإطلاق. ماذا تريد؟

مرت لحظة، قبل أن يُخرج «أحمد» الرسالة الشفرية من جيبه، ثم بسطها أمامه وهو يقول: هل تعرف هذه الرسالة؟

نظر «ميكار» إليها بسرعة، واهتزت ملامحه. حاول إخفاءها وهو يقول: إنَّها تبدو كلغز. طبعًا لا أعرفها!

قال «أحمد»: وإذا قلت لك إنَّني نزعتها من جهاز الاستقبال هذا، فماذا تقول؟

ومع نهاية الجملة، كانت يد «ميكار» تخرج كالسهم في طريقها إلى «أحمد»، الذي كان ينتظر هذه الحركة. فهو يعرف أنَّه قد حاصر «ميكار» جيدًا، عندما أبرز الرسالة؛ ولذلك فقد خرجت يد «ميكار» في الفضاء، بعد أن تفاداها «أحمد»، في الوقت الذي استعد فيه ليضرب «ميكار» ضربةً قويةً، جعلته يطير في الهواء، ثم يصطدم بالحائط الحديدي للغرفة. وبسرعة، كان «أحمد» يقف أمامه وقد وضع سن الخنجر في رقبته. وقال: هل ترى ذلك جيدًا. إنَّ ضغطةً واحدةً عليه تجعلك بلا وجود.

كان الرعب مرسومًا على وجه «ميكار»، وهو يرى علامات التصميم على وجه «أحمد» …

سأل «أحمد» في حدةٍ: أين «مولت»؟

همس «ميكار»: صدقني. إنَّني لا أعرف شيئًا!

في لمح البصر كان «أحمد» قد أمسك بذراعه مرة ثانية في قوة، جعلته يصرخ. إلَّا أنَّ الصرخة لم تتم. فقد نزل «أحمد» بضربة قوية على «ميكار» فتهاوى على الأرض. أسرع «أحمد» يوثق يديه وقدميه. ثم سمع صوت الجهاز رقيقًا، ثم بدأت رسالة شفرية تخرج أمامه، فوق شريط طويل من الورق. أسرع ينقلها إلى المقر السري، الذي كان يقوم بحلِّ رموزها أوَّلًا بأوَّل، حتَّى إنَّه مع نهايتها كان «أحمد» قد عرف معنى الرسالة. كانت ترجمة الرسالة الشفرية تقول: موعد «مولت» الليلة في الرابعة صباحًا.

فكَّر «أحمد» بسرعة: أين «مولت» إذن؟

نظر إلى «ميكار» لحظة. ثم بدأ ينفذ فكرته … أسرع ينزع ثيابه، وفي دقائق كان كل منهما قد أخذ مكان الآخر. نظر في نصل الخنجر اللامع إلى وجهه ثم ابتسم. أخرج من جيبه أدوات الماكياج، وأخذ يرسم الخطوط المطلوبة، وهو ينظر إلى «ميكار» المكوَّم على الأرض. وفي دقائق، كان «أحمد» قد تحوَّل إلى «ميكار». نظر في ساعة يده، وكانت قد تجاوزت الثالثة والنصف بقليل. قال في نفسه: هناك نصف ساعة، ليبدأ «مولت» عمله. وإن كان لا يعرف حتى الآن متى يبدأ، فالرسالة ما زالت في جيبي. إنَّ المهم الآن هو الوصول إلى من يعمل تحت يد «ميكار».

خطا نحو الباب، وقبل أن يمد يده ليفتحه، كان قد فُتح. استدار بسرعة، حتى لا يواجه الداخل مباشرةً.

جاء صوتٌ خشنٌ يقول: لقد تأخرت أوامر الزعيم.

ردَّ «أحمد» بعد لحظة، بعد أن قلَّد صوت «ميكار»: لا أدري السبب، وإن كان ينبغي أن نرى السيد «مولت» الآن!

قال صاحب الصوت الخشن: هل يأمر السيد «ميكار» بشيء!

استدار «أحمد» في هدوء وثقة وهو يقول: هيا بنا إليه.

خطا نحو الباب خارجًا، فتبعه صاحب الصوت الخشن كان «أحمد» قد استطاع أن يلقي عليه نظرة سريعة. كان ضخم الجسم، طليق الشارب، وإن كان ذا لحية غزيرة، تلمع عيناه الزرقاوان بنظرة غريبة حادة. استعاد «أحمد» ملامح الرجل مرة أخرى، حتى لا تغيب عن عينيه، ثم أبطأ في مشيته قائلًا: أرجو أن تتقدمني، فإنَّني أشعر بالإجهاد، نظرًا لعدم النوم طوال الليلة السابقة، والليلة أيضًا.

تقدم الرجل بخطًى نشيطةٍ، وهو يقول: إنَّها مهمة شاقة يا سيدي.

صعد الرجل السلالم، فتبعه «أحمد» الذي كان يفكر: هل يصرع أحد الشَّياطين هذا الرجل، فتضيع الفرصة الأخيرة؟

كان الرجل يضع قدمه فوق الدرجة الأخيرة، ليصل إلى سطح المدينة العائمة، فأسرع «أحمد» يقول: انتظر لحظة … توقف الرجل، واستدار، فمدَّ «أحمد» يده في إجهاد وهو يقول: أرجو أن تساعدني على صعود الدرجات الباقية …

مدَّ الرجل يده، فأمسك بيد «أحمد» الذي خطا في إجهاد إلى آخر درجة، ثم خرج من الباب، في الوقت الذي رأى فيه يدًا تخرج كالسهم إلى وجهه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤