شكوى شهرزاد
«من الحق يا سيدي أنك لم تكن قاليًا ولا ساليًا حين ودعتني، فقد طالت غيبتك عني وما أرى إلا أن النسيان الآثم قد ضرب بينك وبيني أستارًا، ولولا بقية من الثقة بك لعتبت عليك، ولولا فضل من حسن الرأي فيك لصدقت وشاية سجيننا البائس حين زعم لي أن شاعرك ينسيك حتى شهرزاد. وقد كنت أظن أني لم أنعم بالخلود وحده، وإنما نعمت به وبالشباب أيضًا، ولكن شيئًا من الشك قد أخذ يعترضني ويشغل بالي منذ أخذت أحس غموضًا في بعض الأشياء، واختلاطًا لبعض الأمر، وقصورًا عن تفسير ما يقع حولي من الخطوب، فأنا لا أفهم فیم طالت غيبتك وقد كنت أظن بك الحرص على لقائي، ولا أفهم فيم انقطعت أنباؤك وقد كنت أنتظر منك الحرص على أن تتصل بينك وبيني الأسباب، وهناك أمر آخر لا أستطيع أن أفهمه ويسوءني حقًّا أن أشعر بعجزي عن فهمه وتأويله، وهو أمر هذا السجين المسكين، فقد تركته عندي حائرًا متولهًا لا يدري ماذا يريد ولا ماذا يُراد به، وقد رجعت من تشييعك شديدة الرفق به والعطف عليه أريد أن أواسيه أو أُسْليه أو أتوجع له، كما يقول الشاعر القديم، ولكني لم أكد آخذ معه في الحديث حتى أقبل الأسود ينبئني بأن ثلاثة نفر غلاظ شداد قد أقبلوا يطلبونه وهم يريدونه على أن يتبعهم، فإذا سمع ذلك ضاق به أشد الضيق، وامتنع عليه أشد الامتناع، وجثا بين يديَّ خائفًا وجلًا، وعائذًا يسألني أن أجيره، ويتوسل إليَّ في أن أحميه، وهو يزعم لي أنه قد عرف القصر المسحور أو عرف بعضه، وبَلا آلامه ومحَنه أو بَلا بعضها، وهو يؤْثر ما يعرف على ما لا يعرف، ويفضل ما بلا على ما لم يبلُ، وهو بعد هذا كله سعيد حين يشعر بأنه في كنفي وفي ظلي آمن أن ينتهي به المكروه إلى أكثر مما يطيق أو أبعد مما يحتمل.
ولست أخفي عليك أن قلبي قد رق له — وإن كان قلبي قد عاهدني على ألا يرقَّ لأحد — فأخذت أهدئ من روعه وأهون الأمر عليه، ثم طمعت في أن أخرجه من هذه المحنة وأحميه من غوائل الزمن، وقلت للأسود: اذهب فقل لهؤلاء النفر إن شهرزاد تجير هذا الرجل وتحميه حتى من الزمان. وما سمع ذلك حتى انكبَّ على قدميَّ يقبلهما في حرارة وسعادة وفي أمل ورضًا، وأنا قد دبرت أمري تدبيرًا وأحكمته الإحكام كله، وأزمعت أن أُدخل هذا الأسير في ذلك البهو الحرام من القصر؛ ذلك البهو الذي لا يدخله ولا يخلص إليه أحد غيري، ولا يستطيع الزمان أن يتجاوز ما يلقى على بابه من الأستار، وإني لأدير الأمر في نفسي وآمر أسيري بالنهوض فينهض مشرقًا مغتبطًا وأنا مطمئنة آمنة أن يدخل هؤلاء النفر عليَّ قبل أن أُمضي ما شرعت فيه، فما استطاع أحد قط أن يدخل على شهرزاد دون أن تأذن له في الدخول، ولكن وا أسفاه … وا حسرتاه … وا لوعتاه، هذه النافذة تُفتح ولست أدري كيف فُتحت ولا من فتحها، وهذا الفتى يُنتزع من بين يديَّ ويُعلَّق في الهواء تعليقًا ويُدفع فيه دفعًا بطيئًا، وهو مُولَّه مُدلَّه قد فقد صوابه وغاب عنه رشده وهو يرسل إليَّ نظرات فيها التوسل والتضرع والاستعطاف، وأنا واجمة أول الأمر، ثم غاضبة لهذا الحرم الذي اعتُدي عليه، ثم ثائرة لهذا الجوار الذي استبيح، وأنا أسعى إلى الأسير أريد أن أستنقذه من هذه الأيدي الخفية التي تعلقه وتسعى به في الهواء، ولكني لا أكاد أبلغه حتى يُدفع دفعة عنيفة وإذا هو قد خرج من النافذة ومضى في الجو كأنه السهم. هنالك رجعت كئيبًا كاسفة البال تكاد تنحلُّ قواي، لولا أن قواي لا تعرف الانحلال، فأويت إلى مجلسي أو إلى مضجعي الذي تعودت أن تراني مستلقية عليه، وجعلت أفكر في هذا الأمر الذي أعرف أوله ولا أقدِّر آخره، وأنت تعلم أن قد كانت بيننا وبين الزمان في العهود القديمة جدًّا حرب ضَروس كاد يمحقنا فيها محقًا لولا أننا انتصرنا عليه بالحيلة، واضطررناه أن يمضي بينه وبيننا صلحًا قِوامه أن له منا المسالمة ولنا منه الخلود، فالزمان كما تعرف يأكل أبناءه جميعًا، وقد كان يريد أن يأكلنا فيمن أكل، ولكنا أفلتنا من شباكه وأكرهناه على أن يضمن لنا البقاء ونضمن له السلم. أفتُراه قد ألغى ما بينه وما بيننا من صلح، ونقض ما أعطى على نفسه من عهد؟! أفتُرانا مضطرين إلى أن نعيد الحرب بيننا وبينه جَذَعة، وأن ندكَّ الأرض والسماء دكًّا، فإما انتصر علينا فأكلَنا فيمن يأكل، وإما انتصرنا عليه فأثقلناه بالقيود والأغلال؟! أفتُراه اتخذ هذه القضية التي لجأنا إليه فيها عن رأيك ومشورتك إلى إفساد الأمر بينه وبيننا، وردِّ الحياة كما كانت قبل أن يعرف القانون والنظام؟ أم ماذا؟ ما هذا السجن الاحتياطي الذي يفرضه على رجل مسكين من الناس ليس له حول ولا طَول بإزاء سلطان الزمان الذي لا حد له؟ مم يريد أن يحتاط ولمن يريد أن يحتاط؟ أفتُراني في حاجة إلى أن أثير إخوتي جميعًا من قصورهم حيث يَنعَمون كما كنت أَنعَم بالراحة الخالدة والهدوء المتصل لنستأنف بين الزمان وبيننا صراعًا كنا نظن أنه مضى إلى حيث لا يعود؟ لا تغضب يا سيدي ولا يثقلْ عليك قولي، لقد أحسست شيئًا من الندم على هذه الفرصة التي أتاحت لي الاتصال بك وبصاحبك، فما عرفت أننا نجني من لقاء الناس أو الاتصال بهم خيرًا. وإني لأخشى أن يكون لقاؤنا هذا الصيف نذيرًا بشرٍّ لا نقدِّر عواقبه ولا يقدِّر الزمان نفسه عواقبه. أسرع إليَّ وأشِر عليَّ فقد اختلط الأمر أمامي أشد الاختلاط، وويل للخالدين حين يدبرون أمرهم من الهالكين، ولكن لا بد مما ليس منه بد، لقد بُدئت القصة فيجب أن تنتهي. ماذا كتبت إليك؟ أخشى أن أكون قد آذيتك وتحدثت إليك بما لا تحب، ومع ذلك فما أردت بك شرًّا ولا قصدت إلى ما تكره، ولكنك تعلم من أمرنا غير قليل؛ فقد ألممتَ بسيرتنا في الزمان الأول، وعرفت ماذا بلونا من الناس وماذا بلا الناس منا. وما أيسر العلم بذلك، لك ولغيرك، لو تقرءون ما تسمونه الأساطير!
معذرة إليك يا سيدي، أسرع إليَّ وأشِر عليَّ، فما أرى إلا أننا قد استقبلنا عهدًا جديدًا سنستأنف فيه حياتنا الأولى فنتصل بالناس ويتصل الناس بنا، فلتُعِن الأقدار كلًّا على كلٍّ كما قال الخطيب العربي القديم. إلى أن أتلقاك أو أتلقى ردك عليَّ، أرجو أن تقبل يا سيدي تحية المحزونة المشوقة إليك.»