مواساة شهرزاد
«سيدتي
بعض هذا الفزع والجزع، وبعض هذا اليأس والقنوط، فقد روعني كتابك حقًّا وأذهلني عما كنت أضطرب فيه من شئون الحياة. ولئن كنتِ عاتبة عليَّ يا سيدتي لأني قد غبت عنك فأطلت الغيبة، فإني عاتب عليك لأنك قد روعتني فأسرفت في ترويعي دون أن يكون في الأمر ما يدعو إلى بعض هذا الاضطراب، فضلًا عن كل هذا الاضطراب تنكرين غيبتي الطويلة، فقد آمنت لي يا سيدتي بأن لأهلي عليَّ حقًّا وبأن لعملي عليَّ حقًّا، أفتمنحين باليمين وتستردِّين بالشمال؟ ولئن طالت غيبتي عنك يا سيدتي فما طالت عن رغبة ولا عن رضًا، ولكنا نتشبه بك وبأترابك الخالدين فنرى أن لقوانين الحق والواجب حرمة يجب أن تُرعى، ونكره لأنفسنا أن نتجاوز حدود هذه القوانين أو أن نخالف عن أمرها، ولقد زعمت لصديقنا الأسير البائس أن ملوك الناس وأصحاب السلطان أقدر منك على تغيير ما يشرعون من قوانين، بل على انتهاك ما لهذه القوانين من حرمات، وأنك على خلودك وسلطانك الذي لا حد له عاجزة عن تغيير ما شرعت لنفسك وللقصر من قانون، فنحن يا سيدتي نحب هذه الرعاية للقانون المشروع، ونكره الخروج عليه، ونضيق أشد الضيق بجور الجائرين منا وتجاوزهم للحدود، ونرى أن نتشبه بكم ما استطعنا وأن نرى للحياة حقها؛ فنَفي حين يجب الوفاء، ونخلص حين يجب الإخلاص، ونعمل حين يجب العمل، لا نؤْثر أنفسنا بالراحة ولا باللذة ولا بلقاء الأحباء إلا حين تبيح لنا قوانين الحياة والواجب هذه الراحة وهذه اللذة وهذه النعمة بلقاء الأحباء، أفتنكرين عليَّ يا سيدتي ما تعرفين لنفسك وما تحبين أن نحمد لك من السيرة والخصال؟! إني لأعلم أنكم معشر الخالدين تتهموننا نحن معشر الهالكين بكثير من الغرور والكبرياء، ترون أننا نتجاوز حدودنا ونخرج عن أطوارنا حين نتأثَّركم ونسير سيرتكم، ونحاول أن نرعى القوانين كما ترعونها، وكثرة الناس من حولنا يرون فينا رأيكم هذا، يتهموننا نحن العقليين بالفلسفة والشذوذ، والفلسفة والشذوذ عندهم يؤديان ما تؤدونه أنتم حين تذكرون الغرور والكبرياء، فنحن حائرون يا سيدتي؛ نتأثَّركم فتغضبون علينا وتسخطون منا لأننا نطمع في غير مطمع، ونتأثركم فينقم الناس منا ويضيقون بنا لأنا نخرج عما يحبون ويألفون، ولو أننا أعرضنا عن تقليدكم ومضينا مع الدهماء فتبعنا الهوى وأطعنا الغريزة، وخرجنا كما يخرجون على قوانين الحياة والواجب لغضبتم علينا ولأنكرتمونا ولألحقتمونا بالعامة، وصببتم علينا مثل ما تصبون عليهم من المقت والازدراء. هل لك يا سيدتي في أن تنبِّينا نحن المفكرين البائسين كيف نصنع لإرضائكم فإنا قد يئسنا من إرضاء الناس؟ أفترين أننا سنيأس من إرضائكم أيضًا وسننتهي إلى ما انتهى إليه جماعة من الأفذاذ النادرين، فنرى أن العقل خليق أن يستغني بنفسه وأن يتمرد عليكم وعلى الناس جميعًا، وألا يحفل إلا بأن يرضى هو، وما أقل ما يرضى! لقد طالت غيبتي عنك يا سيدتي وما أحببت ذلك، ولو طاوعت نفسي لرغبت إليك في أن تخطفيني كما خطفت أسيرك البائس، وفي أن تمسكيني عندك وترصدي لي العيون والأحراس حتى لا أتجاوز بابًا من أبواب قصرك المسحور، ولكن ماذا أصنع ولأهلي عليَّ حقوق، ولعملي عليَّ حقوق، وللذين أعرفهم والذين لا أعرفهم من الناس عليَّ حقوق. إنما حظي من لذة القرب منك والاتصال بك حظ مقدور لم يُتح لي إلا بين حين وحين، حين يأذن لي القانون الذي أخذت نفسي به أن أنعم بهذه اللذة وأستمتع بهذه الحياة الحلوة. فأشفقي عليَّ يا سيدتي من هذا الحرمان، وارحميني من هذا القصور، ولا تتهميني بالإهمال والتقصير، ولا تسمعي فيَّ وشاية مهما يكن مصدرها وإن كان هو أسيرك العزيز عليك وعليَّ معًا.
على أني أعود يا سيدتي فأستأذنك في الرثاء لك والإشفاق عليك، وأعترف بأن الأمور قد دارت دورتها وتكشَّفت عما لم أكن أنتظره ولا أرجوه، فكيف أصدق أن شهرزاد الخالدة التي لا حد لقوتها وسلطانها تحتاج إلى أن يرثي لها ويشفق لها ضعيف هالك مثلي. يظهر أن نظام الكون قد تغير أو أنه آخذ في التغير. ماذا تشكين في قوتك وتنكرين سلطانك وذكاءك، وأنت التي تمنحين أمثالنا القوة والسلطان والذكاء؟! ولكن ماذا أنكر وقد انتهينا إلى عهد لا يُنكَر فيه شيء ولا يُعرف فيه شيء، قد اضطرب كله؛ فالمطر ينهمر في أوقات الصحو، والصحو يشرق في أوقات المطر، وقد أصبح الصيف شتاء والشتاء صيفًا، وقد انقلبت الأوضاع واضطربت النظُم واختلط كل تقدير وتدبير، ولو أن لعقولنا بقية من الثقة بنفسها لما شككت في أن الحياة قد عادت كشأنها يوم خلق الله السموات والأرض، وفي أن ما بلغْنا إليه من رقيٍّ قد استحال إلى تراجع وانحطاط، ولكن لنتدبر أمرنا يا سيدتي، ولنستقبل ما يَعرِض لنا بشيء من الحزم والعزم ومن الأناة والتفكير. ما هذا الخوف الذي يملأ نفسك الخالدة؟ وما إشفاقك أن يكون الزمان قد عاد سيرته الأولى وأراد أن يعيد الحرب بينكم وبينه جَذَعة ليأكلكم كما يأكل أبناءه الآخرين؟ أكلُّ هذا لأنه كره أن يموت أسيرك قبل أن يأتي أجله فاستنقذه منك وضمن له حياته ليتم ما يريد الله أن يتمه في هذا الكون، فأنت يا سيدتي كنت تريدين أن تقتلي أسيرك لا أقل ولا أكثر، فهل فكرت في معنى استنقاذه من الزمان وحفظه حتى لا يصل إليه، إنما معنى هذا الموتُ، بل معنى هذا أبلغ من الموت، معناه الفناء الذي لا وجود معه ولا وجود بعده، فأي شيء نحن إذا لم يشملنا الزمان بحمايته ورعايته، وأي شيء أنتم إذا لم يشملكم الزمان بحمايته ورعايته، لقد ضمن لكم الخلود في ذلك الصلح الذي أمضيتموه، ولكنه لم يضمن لكم تجاوز حدوده ولا الخروج عن سلطانه. وهل تعرفين للزمان حدًّا وهل تعرفين لسلطانه غاية ينتهي إليها؟
معذرة يا سيدتي، لقد كنت أظن أنك أنت التي ألهمت حكيم المعرة هذا البيت العجيب:
أترين أبرع أو أروع من هذا في تصوير سلطان الدهر الذي لا ينتهي، وملكه الذي لا حدَّ له. لم يضمن الزمان يا سيدتي فراقه ولا الخروج عن سلطانه، وإنما ضمن لكم صحبته أبدًا، وجعل الفرق بينكم وبيننا أننا نحن نأكل وأنتم لا تأكلون، فقد كنت تريدين يا سيدتي أن تكرهي الزمان على أن يأكل توفيقًا قبل أن يتم نضجه، أفتغضبين لأنه أبى أن يأكله نيئًا؟ وما رأيك فيمن يريد أن يُكرهك على أن تأكلي من الألوان ما لا تحبين ولا تسيغين؟ إنما نحن يا سيدتي ملك الزمن ينشئنا وينمينا وينضجنا، حتى إذا بلغنا حاجته ورضاه أكلنا كما يشاء هو لا كما نشاء ولا كما تشائين.
وغريب يا سيدتي ألا تفهمي مم يحتاط الزمن ولمن يحتاط بحبس هذا السجين، فإنه يحتاط للسجين نفسه أولًا، فمن يدري لو خُلي بينه وبين الحرية لعله أن يكتب كتابًا آخر يسوء به هذه الأشباح الساخطة الصاخبة، فيزيدها غيظًا على غيظ وهياجًا إلى هياج. ويحتاط لهذه الأشباح التي لجأت إليه وقبلت حكمه، فمن حقها عليه أن يحميها من كتاب جديد، ويحتاط لك أنت من أن يعود الأسير إلى ما يرى خصومه أنه إثم، فيعود هؤلاء الخصوم إلى إثارة الضجيج والعجيج من حولك، وإلى الإلحاح عليك في تسليمه، ومن يدري لعلهم يخرجون عن أطوارهم فيحدثوا في قصرك حدثًا، أو يبطشوا بالأسير بطشًا يسوءك فيه ويحزنك عليه. لا تنكري إذن على الزمان احتياطه فهو حكيم فيما يأتي إن كنت قد رأيته يأتي شيئًا، وهو حكيم فيما يقول إن كنت قد سمعته يقول شيئًا. إنما الخير يا سيدتي أن تطمئني لقول الزمان وفعله، وأن تصلحي ما بينك وبينه من الأمر، وأن تستأذنيه في لقاء أسيرك من قريب أو البر به من بعيد، فذلك أنفع وأجدى من ثورة لا تغني عنك ولا عنه شيئًا. إنما الخير يا سيدتي في أن تتعجلي نظر الزمان في هذه القضية حتى لا يطول سجن الأسير، وحتى تنتهي هذه القضية كما بدأت فتستريحي ونستريح ويستريح الزمان. وما أرى أنه سيجيبك إلى السرعة في إنجاز هذه القضية، فإن حياة الناس من حولنا مضطربة كما ترين، وأخشى ألا يفرغ الزمان لقضية صديقنا المسكين قبل أن يفرغ من هذه القضايا الخطيرة الكبرى التي تفسد ما بين الشعوب.
أما بعد، فإني ما كرهت يا سيدتي وما ينبغي لي أن أكره شيئًا تقولينه لي أو تسوقينه إليَّ، فكل شيء يأتي منك عذب لذيذ، تطمئن إليه النفس وينعم به القلب، فارضي فالنعيم في رضاك، واغضبي فإن الألم في سبيلك لذة، ولا تحسبي أن ندمك على الاتصال بي وبصاحبي يسوءني، فستعلمين إن لم تكوني علمت من قبل أن الخلود وحده لا يكفي لسعادة الخالدين، وإنما قيمة الخلود أن يتصل من حين إلى حين بالفناء وأصحاب الفناء، ليقدر نفسه ويكبرها ويرتفع عن السأم والملل، وعن اليأس والقنوط، وإلى أن تنعمي عليَّ سيدتي بساعة حلوة في حضرتك، أرجو أن تتفضلي فتمنحيني يدك الكريمة الرشيقة لأضع عليها قبلة كلها وفاء وحب وإخلاص.»