المحاكمة
جاء يوم المحاكمة. وعقدت الجلسة في رأس «الجبل الأبيض» بالقرب من «شامونكس». واعتلى «القاضي» القمة في هيبة ووقار، وهو كائن طويل مديد، لا ظهر له، ولا يبدو عليه عمر، له وجهان؛ أحدهما أسود والثاني أبيض. وقد اتخذ له من «قوس قزح» وسامًا يزين صدره الذي كساه الجليد. وعندئذ قصف «الرعد»، وهو حاجب الجلسة: محكمة!
فنهض الحاضرون رهبة ورعبًا قبل أن ينهضوا إجلالًا، وسقط ضعاف القلوب منهم مغشيًّا عليهم، فلم يلتفت إليهم أحد، حتى أفاقوا من تلقاء أنفسهم صفر الوجوه فوجدوا الناس قد جلسوا، فجلسوا وكأن على رءوسهم طير الرخ!
وعندئذ هبط من القمة صوت هادئ عميق: فُتحت الجلسة!
وأشار «القاضي» إلى «الزوابع» فصفرت ومضت، ثم عادت حاملة «المتهم»، وألقت به على الجليد ثم استأخرت عنه. وعندئذ هبط الصوت العميق: أيها المتهم، قف!
ولكن المتهم لم يسمع شيئًا، فلقد كانت أسنانه تصطك، وفرائصه ترتعد، لا من الخوف وحده، ولكن من البرد، فهو الساعة على ارتفاع خمسة آلاف متر عن سطح البحر أو يزيد.
ولما رأى «القاضي» أن المتهم لم يُبد حراكًا، أشار إلى حاجب الجلسة، فتقدم «الرعد» ودنا من أذن «المتهم» وقصف: قف، أيها المتهم!
وكأن لطمة قد أصابت أم رأس «المتهم» فانبطح على الأرض لا يعي، ثم ثاب إلى رشده بعد قليل وهو لا يذكر من أمره شيئًا. وسمع همسًا خلفه فالتفت، فإذا شهرزاد مع حاشيتها وإلى جانبها طه حسين جالسين في الصف الأول من صفوف المشاهدين وهم يتتبعون ما يقع في جد وقلق واهتمام. وما علموا أن توفيقًا أحس بهم حتى همسوا إليه مشجعين: قف ولا تخف! ذاك حاجب المحكمة!
– حاجب … المحكمة!
همس المتهم بذلك كالمخاطب لنفسه من بين أسنان ما زالت تصطك على الرغم منه: «إذا كان هذا حاجبها فهل يُرجى منها خير؟!» ثم تحامل على نفسه ووقف مترنحًا كالسكران وصاح: أ … أ … أين هو القاضي؟ لا سؤال ولا جواب قبل أن تحضروا إليَّ معطفي الصوفي، سأموت من البرد قبل صدور الحكم!
فأشار «القاضي» إلى «الحاجب»، فتقدم «الرعد» إلى المتهم وقصف: أين هو معطفك؟
فانتفض المتهم انتفاضة كادت تطرحه إلى الأرض، لكنه ثبت والتفت صائحًا: النجدة يا أهل المروءة! أما من حاجب ألطف من هذا! … أيها القاضي، إذا تركت عليَّ حاجبك هذا فإني لا أضمن حياتي إلى آخر الجلسة، فألتمس من عدالتك لا تجعل بيني وبينك حاجبًا! فإن مثلي وإن لم تكفه الإشارة فهو على كل حال لا يحتاج إلى مثل هذا الترجمان الذي يميتني ويحييني في كل لحظة!
– ولكني أنا في حاجة إلى هذا الترجمان، فإن سمعي ثقيل، لا تصل إليه أصواتكم ولا صخبكم وضجيجكم!
– وكيف تسمعني الآن أيها القاضي؟
– أمرت «الريح» أن تجلس طول الجلسة تنقل إليَّ ما يدور فيها من كلام!
– لا بأس بالريح، فهي على كل حال أرق حاشيةً وأهون خطبًا!
– فليكن ما تريد!
وأشار القاضي إلى «الرعد» أن تنحَّ الآن، فامتثل ووقف في آخر المكان ينظر ولا يتكلم. وعاد القاضي إلى المتهم قائلًا: أين معطفك فنحضره إليك؟
فسكت المتهم وأخذ يتذكر: أين معطفي؟ ذلك هو المشكل! أين تركته وأين نسيته، لقد صحبني في كل مكان، لازمني في مصر وفي السفر وفي الجبل، وحتى في الجحيم بين اللهيب ما تركته وما نسيته! واليوم وأنا في السماء عند السحاب وبين الجليد أتركه وأنساه وأصعد بدونه!
فتهامست شهرزاد وطه مبتسمَين: حقًّا لا يحدث هذا إلا من توفيق الحكيم!
وعِيل صبر القاضي، فقال في شيء من الحدة: إنا لم نجتمع في هذا المكان لننظر في قضية معطفك! ولا إخالك تعتقد أني عاطل لا عمل لي في الوجود غير النظر في التافه من أمورك!
فأطرق المتهم وأُرتِج عليه، فنهضت شهرزاد قائلة: فليأذن سيدي القاضي في أن أدل «الزوابع» على مكان معطفه، إنه في حمام قصري!
– في حمام قصرك؟ وماذا يصنع في حمام قصرك! آه … نعم. تذكرت!
همس بذلك المتهم … وطارت «الزوابع» إذ سمعت قول شهرزاد. وعادت في لمح البصر بمعطف توفيق وألقته على منكبيه. وما شعر توفيق بثقل معطفه حتى اطمأن وقال: وأين عصاي؟
فكظم القاضي ما به وقال: انتهينا من مسألة المعطف وجاء الآن دور العصا … ماذا يفعل بالعصا في حضرتي … ولا هي تقي بردًا ولا حرًّا، ولا تدفع شرًّا ولا ضرًّا؟!
– إنِّي لا أشعر بأني أنا حقيقة توفيق الحكيم إلا بمعطفي وعصاي!
– هاتوا له ما يريد. إن هذا الإنسان قد أضاع «مني» أكثر مما ينبغي في غير طائل!
ولم يمضِ قليل حتى كان المتهم ماثلًا بمعطفه وعصاه بين يدَي القضاء مستعدًّا لكلمته وأمره … وتنفس القاضي الصُّعَداء: أخيرًا! ألك حوائج أخرى أم ننظر في الموضوع؟
– ننظر في الموضوع.
– حمدًا وشكرًا! تقدم أيها المتهم! ما اسمك؟
– اسمي توفيق الحكيم.
– عمرك؟
– أيها الزمن ألا تعرف عمري؟!
– معذرة! صدقت! إنِّي أعرف عمرك. ومن ذا غيري ينبغي له على الأقل أن يعرف الأعمار؟! صناعتك؟
– صناعتي؟ … أيهما؟
– أديب وكاتب روائي يختلق الحوادث ويبتدع الأشخاص … أليس كذلك؟
– عفوًا، سيدي القاضي، ليست هذه صناعتي الأصلية.
– لست أعرف لك غيرها. تلك هي التي ورد ذكرها أمامي في الأوراق؛ أديب روائي يختلق الحوادث ويزوِّر الأشخاص …
– يزوِّر؟!
– أليس الأمر كذلك؟ أجب بنعم أو بلا!
وقع المتهم في حيرة … وجعل يفكر هُنيهة، ثم قال وكأنه يخاطب نفسه: نعم، إنِّي كذلك، ومع ذلك، فإني لست كذلك.
– ما هذا الجواب المعقد؟! إنِّي أطلب إليك جوابًا واضحًا بسيطًا في لفظ واحد. أتختلق وتزيف؟ تلك هي التهمة التي يرميك بها المدعون.
– أنا أختلق وأزيف؟! وأنا أعرف القانون، وكنت رجلًا من رجال القانون! کلا یا سیدي القاضي!
– أنكر المتهم التهمة. اجلس أيها المتهم، وأصغِ إلى أقوال المدعين.
أحضروا الشاهد الأول!
وعندئذ استوى «الحاجب» واقفًا، ونشر ورقة في يده وقصف: الشاهد الأول؛ شهريار!
فصفرت «الزوابع» وأقبلت تلقي بشهريار أمام القاضي، وتفرَّس القاضي في الشاهد، ثم قال: شهریار، عمرك؟ كلَّا، هذا من شأني … صناعتك؟
– ملك.
– في أي مملكة؟
– في أي مملكة! لم يسألني أحد قبل الساعة هذا السؤال، ولم يخطر لي على بال أن أعرف اسم هذه المملكة؟ لست أدري، سلوا هذا المتهم!
فالتفت القاضي إلى المتهم، فوقف: أيسألني أنا عن اسم مملكته؟ وكيف لي أن أعرف؟ إن كل ما أعلم عن هذا المخلوق أنه ملك، ولست أدري أين مملكته، ولا أين موقعها من «خريطة» العالم.
فعاد القاضي والتفت إلى الشاهد، فاعتدل: أنا كذلك لست أعرف إلا أني ملك.
فقال القاضي في شيء من السخرية: حسبك هذا. أَقسم إنك لا تقول غير الحق.
– أُقسم.
– ما أقوالك؟
– أقوالي: أن هذا المتهم قد قذفني بالباطل، وافترى عليَّ كذبًا وزورًا واقعةً لم تكن؛ فلقد جعلني ديوثًا أدخل على شهرزاد فأجد عندها العبد فلا أقتله ولا أشرب من دمه!
فما تمالك المتهم أن وقف وصاح: كنت تريد أن أجعل منك قاتلًا سفاكًا يشرب الدماء. نعم لقد أذنبت وأجرمت إليك إذ لم أجعلك كما كنت تريد مخلوقًا سخيفًا!
وأراد الملك أن يحتج، ولكن القاضي هدَّأ من غضبه وأسرع فأمر المتهم بالجلوس والصمت إلى أن يحين وقت الدفاع فيتكلم كما يشاء، وأشار القاضي إلى «الزوابع» فأقصت شهريار وأحضرت الشاهد الثاني قمرًا، فسأله القاضي عن اسمه وصناعته ثم عن أقواله، فأجاب الوزير: أقوالي يا سيدي القاضي: أن هذا المتهم قذفني وحطَّ من قدري؛ فلقد جعلني أقتل نفسي من أجل امرأة، في الوقت الذي يخرج فيه العبد من مخدعها وينكشف لي إثمها ودنسها!
فتغير لون شهرزاد ومالت إلى أذن طه تهمس: لقد أدهشني الساعة أن يكون ذاك كلام شهريار العظيم … الذي كان عظيمًا حقًّا في آخر أيامه! ولكن ما قال هذا الشاهد المدعو قمرًا الآن أدهى وأمرُّ! يا إلهي، ما هذه المخلوقات؟! يا له من كابوس! … ولم يُطق المتهم سكوتًا، فنهض صائحًا: يا لخيبة أملي فيك أيها الوزير الجميل! أنت الذي عشت تعبد مثلك الأعلى النبيل، فلما ذهب عنك ذهبت، لقد انطفأت في قلبك شمس حياتك يا قمر، ففيم بقاؤك؟! ولكن هذا الشاهد ليس بقمر، إنما هو فرد من السوقة!
فضاق القاضي بالمتهم: قلت لك اجلس ولا تنبس! … أحضروا الشاهد الثالث، فجيء ﺑ «الجلاد»، وبعد المقدمات المعروفة سأله القاضي عن أقواله.
– أقوالي يا مولاي القاضي: أن هذا المتهم قد نسب إليَّ زورًا أني بعت سيفي إلى صاحب الخان، وأنا رجل «موظف» أقدر واجبي، وأعلم أن هذا السيف ليس ملكي، وإنما هو «عهدة» لا يباع ولا يشرى!
وعندئذ قام المتهم صائحًا: أرجو من عدالة القاضي أن يسأل في ذلك صاحب الخان، وهو لا شك قد حضر مع الشهود!
فالتفت القاضي إلى «الزوابع»: أحضروا الشاهد الرابع!
فما مرت ثانية حتى كان «أبو ميسور» ماثلًا أمام القاضي، فسأله: أأنت صاحب الخان؟
– أجل، مولاي القاضي!
– هل تعرف هذا الجلاد؟
– كيف لا يا مولاي القاضي، وهو عميلي ومديني، وأحد المدخنين!
– أكان قد باعك شيئًا بدينٍ عليه؟
– باعني سیفه.
وعندئذ صاح المتهم فرحًا: فليحيَ العدل! ظهر الحق وزهق الباطل! ألا تستحي أيها الجلاد! ما أكذبك!
فأسكت القاضي المتهم، ثم التفت إلى أبي ميسور: وأنت ما أقوالك؟
– أقوالي وحق رأسك أيها القاضي! عجبًا! لست أرى لك رأسًا ولا ذنبًا! ومع ذلك فهذا ليس بالأمر الذي يعنيني، وما دمت أنت القاضي فإني أشكو إليك هذا المتهم، أين هو؟ لا يشرفني أن أراه، هذا المتهم يزعم زورًا أني أدخن القِنَّب حتى يغيب وعيي. هذا باطل أيها القاضي، فإني وحقِّ رأسك، كلَّا لا شأن لي برأسك، فرأسك هو لك، ولست أدري إن كان رأس إنسان أو رأس حصان … ولكنه رأس القاضي … ولكن أين هو رأس القاضي، عجبًا إن للقاضي رأسين؟ رأس لا شك فيه الإدانة، ورأس فيه البراءة … وإذا تناطح الرأسان …
– كفي خلطًا! إنك إلى الساعة غائب الوعي تفوح منك رائحة القِنَّب! اطردوه!
– فليحيَ العدل!
– صه أيها المتهم، لا أريد هنا مظاهرات! الزم الصمت! أيها الحاجب! نادِ بقية الشهود!
فقصف «الرعد» وصفرت «الزوابع» وطارت في كل مكان، ثم عادت تعلن أن بقية الشهود، وهم «الساحر» و«زاهدة» قد هربا ولم يُعثر لهما على أثر، وأن شهرزاد و«العبد» حاضران في الجلسة بين المشاهدين. وعندئذ قامت شهرزاد وأعلنت أمام القاضي والجموع نزولها عن كل حقٍّ لها — إن كان لها حقٌّ — في مقاضاة المتهم. وقام «العبد» فتبع أثر مولاته فيما أعلنت. وكانت الشمس قد غابت، فمال وجه القاضي الأبيض عن المكان، وظهر وجهه الأسود، يملؤه «كَلَف» دقيق من نور متناثر. وأطرق القاضي لحظة ثم قال في صوت أشد هدوءًا وأكثر عمقًا مما كان: الدفاع!