سجين شهرزاد
(شهرزاد تتمطى بجسمها الممشوق كالحسام بين وسائدها
الحريرية.)
شهرزاد
(للعبد القائم على رأسها)
:
هل تم خطف توفيق الحكيم؟
العبد
:
خطفناه یا مولاتي!
شهرزاد
:
وماذا فعلم به؟
العبد
:
ألقيناه في جُب القصر المسحور.
شهرزاد
(ضاحكةً عن دُر مُنضَّد)
:
هذا الساذج المعقد!
العبد
:
معقد؟! هذا الرجل؟ كلا يا مولاتي.
شهرزاد
:
كيف؟ ماذا رأيتم؟
العبد
:
إنه السهولة بعينها. لم نكد نقبل عليه بسلاحنا حتى خلع في
الحال معطفه وعصب ببعضه رأسه واتقى ببعضه جسمه، ثم انطرح على
الأرض في هدوء رزين، وجعل كأنه صريع قد أُصيب، وما وصلت إليه
بعدُ يد، وما لمسته إصبع.
شهرزاد
(باسمة)
:
لقد كفى نفسه شر القتال.
العبد
:
لما وجَّهتِنا إليه يا مولاتي حسبنا أنا سنلاقي
هِزَبرًا.
شهرزاد
(ضاحكة)
:
هِزَبر؟ توفيق الحكيم؟
العبد
:
بل أكثر من هذا يا مولاتي. قد وجدناه يحمل …
شهرزاد
:
كتابًا.
العبد
:
بل «سنارة» مما يُستعمل في صيد السمك الصغير. وقد عَلِق
«خُطافها» بثيابه، من الرَّوع لمَرآنا!
شهرزاد
(وهي تضحك)
:
ألم تجدوا معه قلمًا وورقًا؟
العبد
:
كلا.
شهرزاد
:
لم تجدوا معه غير «سنَّارة» صاد بها نفسه!
العبد
:
بل إنَّا يا مولاتي لم نجد معه «طُعمًا» مما يُجتذب به
السمك. ولم نجد معه سلة يضع فيها ما يصيد. كل ما معه ذلك العود
من «الغاب» الذي لا نفع فيه ولا ضر.
شهرزاد
(كالمخاطِبة لنفسها)
:
نعم. إنِّي أعرف هذا الصنف من الرجال، إنه لن يصطاد سمكة في
حياته، ولا أحسب أنه يذهب يومًا إلى بحيرة أو نهر أو بحر، إنما
هو يخلق في رأسه كل الرغبات، ويُعِد للوصول إليها المعدات،
ويغمر نفسه في ذلك الجو الذي ابتدعه خياله، حتى إذا كان على
بعد خطوة من التنفيذ والحقيقة؛ انتهى حلمه ولم يَعُد يعنيه من
الأمر شيء.
العبد
:
أَوَمثل هذا الإنسان نائم أو يقظان؟!
شهرزاد
(على الفور)
:
إنه نائم كاليقظان ويقظان كالنائم.
العبد
:
مولاتي …
شهرزاد
:
ما بك؟
العبد
:
إنك … ترددين العبارة التي قالها هنا البارحة، ذلك الرجل
الذي كنت تنادينه بالدكتور.
شهرزاد
(كمن يثوب إلى نفسه)
:
طه حسين!
العبد
:
من هذا الرجل؟ إنِّي أراه …
شهرزاد
:
تكلم!
العبد
:
شديد الدهاء.
شهرزاد
(باسمة)
:
ماذا رأيت من دهائه؟
العبد
:
لست أدري على التحقيق. إنما في كلامه وابتسامه شيء ينم عن سر
مبهم وغرض خفي.
شهرزاد
:
رُح. إنك لست أعرف مني بالرجال. ليس في الأمر سر ولا غرض،
إنما هذا الدكتور رجل صريح مستقيم، وقد أشار عليَّ بأمور سأعمل
بها.
العبد
:
هو الذي أشار بخطف هذا الرجل المسكين؟!
شهرزاد
:
أيها العبد! الزم مكانك ولا تعترض عليَّ.
العبد
:
عفوًا يا مولاتي وغفرًا! إنك تعرفين إخلاصي وخضوعي. إنها زلة
لسان.
شهرزاد
:
هذا الرجل المسكين إنما هو مسكين حقًّا إذا تركناه حرًّا
طليقًا، إنما ينبغي أن نقتنصه ونحبسه في هذا القصر المسحور
لتزهر حياته ويبدو معدنه وتظهر قيمته.
العبد
:
من هذا الذي لا تزهر حياته إلا في الحبس؟!
شهرزاد
:
إنه ليس مثلك. إنه خُلِق ليبقى إلى جانبي يبادلني
الفكر.
العبد
:
فهمت، تريدين سميرًا يؤانسك في أوقات الضجر.
شهرزاد
(كالمخاطِبة لنفسها)
:
نعم، إنِّي الآن في سأم دائم؛ لأني لا أجد، بعد شهريار،
عقلًا وخيالًا يبهران عقلي وخيالي.
العبد
:
إن الملك شهريار ذهب ولم يعد.
شهرزاد
(كالمخاطِبة لنفسها)
:
نعم، لقد أضعته أنا، لقد كان حرًّا طليقًا مرحًا كالطفل،
فأوحيت إليه بأشياء كبرى مستحيلة، ذهب يبحث عنها فلم
يعد.
العبد
(كمن نسي نفسه)
:
وقمر، وأنا … كل الناس كانوا أحرارًا قبل أن يعرفوك!
شهرزاد
(تثوب إلى نفسها)
:
ماذا تقول؟
أجُنِنت أيها العبد؟! أنت تخاطبني بهذا الكلام؟! أنسيت ما
قلت لك: إن الماضي قد مات، وإذا أردت أن تبقى حيًّا فكن خادمًا
لا يذكر شيئًا مما كان.
العبد
:
غفرًا يا مولاتي. إنها كانت أيضًا زلة لسان.
شهرزاد
:
آه! إنِّي لفي ضجر. أَوَلم يعد عقلي قديرًا على أن يوحي إلى
أحد بشيء … ما هذا الشقاء؟!
العبد
:
أتأذنين، أأحضر السجين بين يديك؟
شهرزاد
:
نعم إنه الآن كل رجائي.
العبد
:
يا مولاتي، لا تضعي كل أملك في هذا المخلوق المسكين! إنه غير
قدير على صيد سمكة!
شهرزاد
:
ربما كان قديرًا على صيد عقلي.
العبد
:
حاشا أن يكون عقلك يا مولاتي أهون اقتناصًا من السمك!
شهرزاد
:
أيها الأحمق! لا محل هنا لتلك المقارنة.
العبد
:
ومع ذلك، ألا تذكرين قول ذلك الدكتور؟!
شهرزاد
:
ماذا قال؟
العبد
:
قال البارحة إن هذا الإنسان لم يفهمك قط.
شهرزاد
:
سنری.
العبد
:
متى تريدين رؤية السجين؟
شهرزاد
:
الآن.
(يذهب العبد مسرعًا، وتبقى شهرزاد بلا حراك
تفكر لحظة، ثم تنهض فجأة وتتجه إلى مرآه في ركن مظلم ناءٍ في أقصى
المكان، وتأخذ في إصلاح هندامها، وتنظم شعرها وصبغ شفتيها
وأظافرها.)
العبد
(يعود وهو يقود توفيقًا الحكيم بمعطفه
الأسود و«سنارة» صيده)
:
تقدم يا هذا!
توفيق
(للعبد)
:
إلى أين أيضًا؟!
العبد
:
قلت لك تقدم!
توفيق
(يتأمل ما حوله ويخاطب نفسه)
:
أما أني خُطِفت فهذا لا شك فيه. نعم، إن صحَّت فراستي وصدقت
فطنتي فأنا الآن مخطوف. (يستدرك متنبهًا لما قال) ما هذا
الحمق؟! أهو أمر يحتاج إلى فراسة وفطنة أن أعرف أين أنا الآن؟!
إنِّي أكاد أُجن جنونًا. أخبرني أيها الأسود! (يتأمل العبد
ويخاطب نفسه معجبًا) ما أصلح هذا الأسود لتمثيل دور «العبد» في
قصتي «شهرزاد»! (يمسك بذراع العبد) أخبرني أيها …
العبد
(يلمح مولاته مقبلة إلى وسائدها فينهر
سجينه)
:
صه!
توفيق
:
ماذا جرى؟
العبد
(همسًا)
:
اركع!
توفيق
:
ماذا جرى؟
العبد
(همسًا)
:
اركع!
توفيق
(لا يفهم)
:
أركع؟ لماذا؟ لمن؟
شهرزاد
(تبدو في جمال وجلال ودلال)
:
هذا أنت؟!
(توفيق يلتفت إلى الصوت الموسيقي مشدوهًا لا
يتمالك إلا أن يركع من تلقاء نفسه في غير وعي.)
شهرزاد
(تبتسم راضية ثم تهمس إلى العبد)
:
اتركنا.
(العبد ينصرف وهو يلقي على السجين الراكع نظرة
استغراب لحاله واضطرابه.)
شهرزاد
(للسجين في صوتها العذب)
:
انهض!
(توفيق ينهض وهو مطرق.)
شهرزاد
(باسمة)
:
عرفتني؟
توفيق
(في صوت خافت ولم يَزُل عنه بعدُ أثرُ
الدهش)
:
نعم.
شهرزاد
(معجبة مغتبطة)
:
لا يدهشني ذلك منك، فأنت عقل كبير وخيال واسع.
(توفيق ينظر إليها ولا يفهم عنها.)
شهرزاد
:
لماذا تنظر إليَّ هكذا؟! ألا تصدقني؟
توفيق
:
أ … و… تعرفينني … يا سيدتي؟
شهرزاد
:
كيف لا؟! إنِّي أعرفك كما تعرفني. ولقد كان ينبغي أن يَلقى
أحدنا الآخر.
توفيق
(لنفسه)
:
أرجو أن ينتهي هذا اللقاء على خير!
شهرزاد
:
ما هذه النظرة الحيرى؟! ألا يسرُّك أن تراني؟!
توفيق
(مندفعًا بتأثير جمالها)
:
بالطبع. إنه لشرف عظيم. (ثم يتذكر فيستدرك) كلا … إنه ليس
كذلك.
شهرزاد
(في تقطيب)
:
ماذا تقول؟
توفيق
:
سيدتي! لماذا أنا ها هنا؟
شهرزاد
(باسمة)
:
إنك جئت كي تراني وأراك.
توفيق
:
فقط؟ كلا يا سيدتي. في الأمر ولا شك غلط! أنا رجل من أهل مصر
أضناني التعب والجهد طوال أعوام قضيتها في قراءة وكتابة وأعمال
رسمية بغير هدنة أو انقطاع، فجئت هذا الصيف إلى جبال الألب
للنزهة وراحة البال، لكن … بَينا أنا أسير الهُوَينى في المساء
في ذلك الطريق المؤدي إلى شامونيكس، أستنشق النسيم المعطر
بأريج أزهار التفاح والبندق، القائمة أشجاره في الغابات
الخضراء بسفح الجبل ذي القمة البيضاء؛ إذا رجال مُدجَّجون
بالسلاح …
شهرزاد
(باسمة)
:
أعرف … أعرف، ولقد قاومتهم أنت مقاومة الهِزَبر!
توفيق
:
فعلت ما استطعت، ولكن الكثرة تغلب الشجاعة.
شهرزاد
(تخفي ضحكها)
:
صدقت، أيها الشجاع!
توفيق
:
وبعدُ يا سيدتي، ومتى يُخلَّى سبيلي؟
شهرزاد
(في دلال)
:
أبهذه السرعة مللتنا؟
توفيق
:
أنت حقًّا على غاية اللطف والظرف والجمال، ولكن …
شهرزاد
:
ولكن؟
توفيق
:
روحي الآن ولا شك بين يديك الصغيرتين. وأنت الآن صاحبة الأمر
والنهي. فمُرِي رجالك بإطلاق سراحي وخذوا مالي وثيابي حلالًا
لكم.
شهرزاد
(في تقطيب)
:
ما ظنك بي؟ إنك فيما أرى تجهل من أنا.
توفيق
:
لا مع الأسف. لست أستطيع أن أجهلك. إن معرفتك لا تحتاج إلى
فراسة ولا إلى فطنة.
شهرزاد
(في ارتياب)
:
من أنا؟
توفيق
:
أنت ولا فخر زعيمة الخطافين.
شهرزاد
(في خيبة مُرة)
:
أنا؟ (كالمخاطِبة لنفسها) أنا التي حسبت أنه عرفني! صدق
الدكتور؛ إنه ليس ساذجًا فحسب. إنه أبله!
توفيق
(يرى تغيُّرها)
:
ماذا جرى؟ أترينني غلطت يا سيدتي؟
شهرزاد
:
لا.
توفيق
:
أرى وجهك قد تغير.
شهرزاد
:
يا لخيبة الأمل!
توفيق
:
نعم. كنتم تحسبون أنكم وقعتم على موسر من أصحاب الملايين
الأمريكان المصطافين، ولكن رجالك يا سيدتي قصار النظر إذ
اختطفوا لك أديبًا، عامر الجيب لا بأوراق البنك، بل بأوراق
النثر!
شهرزاد
(ترفع رأسها سريعًا في أمل)
:
وهل أنت حقًّا عامر الجيب بالنثر؟
توفيق
:
لا نثر ولا شعر. تركت كل هذا في مصر وجئت هنا للراحة
والسكينة وفراغ البال. (بعد لحظة) وأنت ما يعنيك من أمر الشعر
والنثر؟
شهرزاد
:
هذا كل ما يعنيني. لقد اختطفتك لنثرك وفكرك.
توفيق
(ساخرًا)
:
شيء جميل!
شهرزاد
:
إن شئون الفكر والعقل والخيال هي كل حياتي.
توفيق
:
أنت، يا من تخطفين الناس ليلًا من الطرقات!
شهرزاد
:
إني لا أخطف إلا الموهوبين أمثالكم.
توفيق
(في سخرية)
:
أستغفر الله!
شهرزاد
:
ألا تصدق؟ آه لو عرفت حقيقتي لصدقتني من ساعتك، ولكنك نائم
كاليقظان ويقظان كالنائم، تمر بك الحقائق كأنها أشباح، وترى
الأشباح كأنها حقائق. أأنت واثق بأنك لم ترني من قبل؟
توفيق
:
واثق أنك لم تشرِّفيني بالخطف قبل الآن.
شهرزاد
:
انظر إلى عينيَّ الصافيتين!
توفيق
:
إنهما خضراوان كعيون القطط والسنانير!
شهرزاد
:
لقد شُغفتَ بهما أنت يومًا، وكتبت عني وعنهما كتابًا.
توفيق
:
أنا؟ أين ومتى؟ حاشا أن أكتب كتابًا عن امرأة أو عيون
امرأة.
شهرزاد
:
إنِّي امرأة لا ككل النساء.
توفيق
:
حقيقة، لم أرَ مثل جمالك قط. ولو كنت ممثلة لما صلحت امرأة
في الوجود غيرك لتمثيل ذلك الدور العسير في روايتي العسيرة،
ولكنك امرأة على الرغم من جمالها لا يعنيني الآن من أمرها شيء،
فما جئت الجبل أطلب المغامرات، إنما أطلب الراحة والسكينة
والصفاء.
شهرزاد
:
ألا أستطيع أن أدخل حياتك فأثير ساكنها؟
توفيق
:
وما حظك من إقلاق راحتي وصفوي؟
شهرزاد
:
قد أوحي إليك بشيء.
توفيق
:
أي شيء؟
شهرزاد
:
قصة مثلًا أو كتاب.
توفيق
:
هل أغراك أحد بي؟
شهرزاد
:
كلَّا. (بعد لحظة) هل تعرف طه حسين؟
توفيق
:
إنه يقيم معي في فندق «مون جولي» بسفح الجبل، ماذا جرى له؟
أخُطِف هو أيضًا؟
شهرزاد
(كالمخاطِبة لنفسها)
:
كلَّا. إنه لا يحوجنا إلى الخطف. إنِّي إذا طلبته في أي حين
أَقبل عليَّ دائمًا دون إبطاء.
توفيق
:
وكيف عرفته؟
شهرزاد
:
إنِّي أقرأ كتاباته كلها منذ أن حمل القلم، وأعرف كتبه؛
«الأيام» و«في الصيف» و«على هامش السيرة» كما أعرف
نفسي.
توفيق
:
أمرك بدأ يدهشني. من أنت؟! أطالبة من طالبات
السوربون؟
شهرزاد
:
أنا؟ ألا تعرف من أنا؟!
توفيق
:
قلت لك لم أنل بعدُ هذا الشرف.
شهرزاد
:
ألم تسمع بامرأة تُدعى «شهرزاد»؟
توفيق
:
سمعت بها حقيقة.
شهرزاد
:
سمعت بها فقط؟! يا لك من … كيف أصفك؟!
توفيق
(يطيل النظر إلى شهرزاد)
:
أنت؟!
شهرزاد
:
عرفتني حقًّا هذه المرة؟
توفيق
(كالنائم اليقظان)
:
هي!
شهرزاد
(في صوت كالهمس)
:
نعم. أما كنت تتوقع رؤيتي هنا؟
توفيق
:
هي … في جبال سافوا العليا! أهذا ممكن؟ أهذا معقول؟!
شهرزاد
:
إنك تعرف أنها تستطيع أن تكون في كل مكان.
توفيق
(كالمخاطِب لنفسه)
:
«صورتها كانت تتبعك في كل مكان.»
شهرزاد
:
نعم، هكذا قال شهريار عني يومًا لقمر.
توفيق
:
عجبًا! أنت إذن هي التي أوحت إليَّ بكتابي. أنت هي التي خرجت
من عقلي وفكري! ومع ذلك يا شهرزاد … تخطفينني اليوم وتحبسينني
بين جدران هذا القصر الكبير؟!
شهرزاد
(باسمة)
:
وأنت أيضًا، ألم تخطفني وتحبسني بين دفتَي كتاب من القطع
الكبير؟!
توفيق
:
آه تنتقمين إذن! ولكنك قد أسرفت وغلوت. فأنت قد خطفتني
وحبستني في الواقع والحقيقة.
شهرزاد
(في ابتسامة غامضة)
:
الحقيقة!
توفيق
:
هذا ما لا شك عندي فيه.
شهرزاد
:
دع الحقيقة في مكانها هادئة.
توفيق
(ينظر إليها مليًّا)
:
يا للعجب! نعم إنِّي قد عرفت الآن ابتسامتك الغامضة! أنت هي
شهرزاد بلا مِراء كما بدت في مرآة فكري لأول مرة. أتأذنين لي
في لثم يدك طويلًا؟
شهرزاد
(باسمة وهي تمد يدها)
:
طويلًا! إنكم معشرَ الأدباء سواءٌ!
توفيق
:
هل أطال أديب غيري لثم يدك؟
شهرزاد
(كالمخاطِبة لنفسها)
:
البارحة في منتصف الليل!
توفيق
:
ماذا تقولين؟
شهرزاد
(تلتفت إليه فجأة)
:
اسمع مني! أتعرف لماذا طلبتك؟
توفيق
:
لا.
شهرزاد
:
آه! ما أحوجني اليوم إلى سمير يبقى إلى جانبي يُزيل عني
السأم!
توفيق
:
أنا؟!
شهرزاد
:
ولم لا؟
توفيق
:
أَوَلم تجدي في هذا الخَلق من يَصلُح غيري لهذا المنصب
الخطير!
شهرزاد
:
ليس في الوجود غيرك. لقد دلني عليك صديق أثق بحكمه وذوقه
ورأيه.
توفيق
:
أهو صديق لك أم لي؟
شهرزاد
:
لكلينا.
توفيق
:
إن صدقت فطنتي وفراستي فهو طه حسين، اسمعي أيتها الجميلة!
لقد لعب بك هذا الصديق الذي تثقين بحكمه وذوقه ورأيه. فأنا آخر
من يصلح لمسامرة الملكات الضَّجِرات في ليالي الصيف
المقمرات!
شهرزاد
:
سنری.
توفيق
:
المسألة لا تحتاج إلى تجربة. إنِّي رجل جئت من مصر طلبًا
للكسل وبحثًا عن راحة البال.
شهرزاد
:
سمعت هذه العبارة منك ألف مرة ومرة!
توفيق
:
سيدتي العزيزة! لو سألتك أمنية غالية.
شهرزاد
:
كل أمنية لك مجابة مهما غلت.
توفيق
:
أريد أن تتركيني أتثاءب.
شهرزاد
:
إلا هذه. أنت ما خُلقت لهذا.
توفيق
:
آه! كم أضيق الآن ذرعًا بهذا الصنف من النساء!
شهرزاد
:
أتسمع نصحي؟ أذعن لما كُتب عليك. ولا تكن عنيدًا كشهريار في
أول أمره. إنك باقٍ إلى جانبي تسامرني رضيت أو أبيت، فلا
تضطرَّني إلى العنف والإكراه.
توفيق
:
العنف! كلا، لا لزوم للعنف بعد الآن. كفى ما حصل من خطف وقبض
وسَجن. أسامرك وأمري لله! (كالمخاطِب لنفسه) ولكن الله يتولى
جزاءك يا من أغريت بي وحرضت عليَّ.
شهرزاد
(تستلقي على الوسائد وتضع رأسها في
راحتيها)
:
الآن حدثني عن أثر جبال الجليد في نفسك، وعن الغابات
الخضراء، وعن ثمر البندق؛ هل حقًّا استكشفته وأكلته
بقشره!
توفيق
:
يحدثك عن كل هذا الذي أخبرك به، فهو قدير على وصف ذلك
بالإبداع الذي وصف به جبال «الفوج» في كتابه «في الصيف»، وأنت
تعرفينه كما تعرفين نفسك!
شهرزاد
:
ولكني أريد أن أسمع منك أنت ما حدث لك.
توفيق
:
ماذا حدث لي؟ لقد نسيت.
شهرزاد
:
ألا تريد أن تقص عليَّ؟!
توفيق
(فجأة)
:
صه! قد خطرت لي فكرة نورانية. أتريدين قتل الضجر؟ عندي له
دواء ناجع. هَلُمي بنا.
شهرزاد
:
إلى أين؟
توفيق
:
إلى البحيرة. هذه «سنارتي» وآتي لك «بسنارة»، ثم نذهب معًا
نصطاد سمكًا … من سمك «الترويت» الذي تعج به البحيرة والجداول
المنحدرة من الجبال.
شهرزاد
:
أنا أصطاد سمكًا؟!
توفيق
:
وما الضرر؟
شهرزاد
:
أهذا رأي تراه لي؟! يا لك من … ماذا أقول لك؟
توفيق
:
إنِّي لا أرى في ذلك سُبة. لقد كان أبوك صيادًا.
شهرزاد
:
أبي؟
توفيق
:
لقد قرأت ذلك بعيني في نسخ عدة من كتاب ألف ليلة
وليلة.
شهرزاد
:
إنك قد جاوزت حدك يا هذا.
توفيق
:
صدقت. وإني لا أستحق منك الآن غير الطرد خارج هذا
القصر.
شهرزاد
:
إنِّي لست بلهاء فأفعل ذلك. إنك باقٍ هنا كي تسامرني …
هلمَّ! سامرني!
توفيق
:
لا حول ولا قوة إلا بالله!
شهرزاد
:
إن كنت لا تجد من الحقائق معينًا فأين الخيال؟! هل نضب خيالك
هكذا وشيكًا؟!
توفيق
:
يظهر لي أنه نضب.
شهرزاد
:
وا خجلاه! هذا مؤلف وروائي وأديب يعجز عن مسامرتي ليلة
واحدة. وأنا التي سامرت ملكًا جاهلًا غشومًا ألف ليلة
وليلة!
توفيق
:
كلنا نعرف لك هذه العبقرية.
شهرزاد
:
كنت أحسبك تستطيع أن تستنبط لي شيئًا يسحر لبي!
توفيق
:
إنِّي أستطيع شيئًا.
شهرزاد
:
ما هو؟
توفيق
:
أستطيع أن أصغي إليك … تكلمي أنت واستنبطي ما شئت وأنا
أصغي.
شهرزاد
:
هذا بديع! اختطفتك وجئت بك إلى هنا كي أسامرك أنا؟!
توفيق
:
إنك خُلقت كي تتكلمي أنت.
شهرزاد
:
ماذا تقول؟
توفيق
:
أقول إن كل عملك في الوجود أن تتكلمي فيصغي إليك الناس، لا
كل الناس، بل المجدودون والموهوبون!
شهرزاد
:
صدق طه حسين؛ إنك معقد! بل أكثر من معقد، إنك خبيث!
توفيق
:
وطه حسين! أهو البراءة بعينها؟ ألا تعرفين أنه مكر بك مكرًا
جميلًا.
شهرزاد
:
كيف ذلك؟
توفيق
:
إنه هو الذي كان يستطيع أن يسامرك أبدع المسامرة. ولكنه
مشغول ليله ونهاره ﺑ «المتنبي»، ولقد أغراك بي ليفلت هو ويخلص
إلى شاعره. وهكذا آثر «المتنبي» على «شهرزاد».
شهرزاد
:
أهو فعل هذا؟
توفيق
(منتصرًا)
:
عليك به! وخطفه هين سهل. فهو يجلس حينًا بمفرده يفكر تحت
شجرة الزيزفون الكبيرة في حديقة الفندق، وأحيانًا يجلس معه
صاحبه «فريد» يقرأ له. ولا جناح ولا تثريب في خطفهما
معًا.