إلى شهرزاد
ولست أدري كيف أصف لك أيها القارئ العزيز ما أحدث هذا الكتاب في نفسي من الأثر، فأنا صادق إن أنبأتك بأنه ملأ قلبي بهجة وسرورًا، وأنا صادق إن أنبأتك بأنه ملأ قلبي جزعًا وفزعًا، وأنا صادق كذلك إن أنبأتك بأنه أثار في نفسي حزنًا يسيرًا؛ فأما البهجة والسرور فلأني كنت أتحرق شوقًا إلى لقاء شهرزاد، وأما الجزع والفزع فلأني كنت أرتعد إشفاقًا على توفيق الحكيم أن تتقسَّمه هذه الأشباح فيذهب شهريار برأسه، ويذهب كل واحد منها بشِلو من أشلائه. وأنا الذي دل عليه شهرزاد فعرَّضه لهذا الخطر المنكَر، وللرجل أهله وأصدقاؤه في مصر قد فارقهم منهوكًا ضعيفًا ليعود إليهم قويًّا أيِّدًا، وهو بعد هذا كله صديق لي حبيب إليَّ، أوثر له العافية وأضنُّ به على المكروه، وأتمنى له حياة متصلة مملوءة بحركاته هذه المضطربة المتناقضة التي تُرضي وتُسخِط وتسر وتسوء. وأما الحزن اليسير فلِمَوجِدة أحسستُها حين رأيت صديقًا يكيد لصديقه، وأديبًا يتجنَّى على أديب. ولست أنكر أني قد مكرت به شيئًا حين أغريت به شهرزاد، ولكني لم أُرِد به إلا خيرًا لأني أتحت له لقاء تلك التي جعلته رجلًا معروفًا، فما كنت أُقدِّر أنه سيمكر بي ويكيد لي على هذا النحو. أما صاحبي فلم يجد إلا غبطة وفرحًا لأنه سيرى شهرزاد وقصر شهرزاد، وكان يقول لي: هوِّن عليك فما يتعرض صديقك لخطر ما، ومتى رأيت الأشباح تتقسَّم بينها أجسام الأحياء؟ وهل تستطيع هذه الأشباح أن تثبت لكيد شهرزاد ومكرك أنت إذا اجتمعتما على حماية توفيق؟ ومع ذلك فإنك تحفظ كثيرًا من هذه الصيغ السريانية والكلدانية التي تتلوها فتطرد بها الأشباح من المكان الآهل بها، وترد هذا المكان آمنًا كله لا خوف على أهله ولا هم يحزنون.
وكان يقول لي: لا تجدْ على توفيق ولا تسئ به الظن، فقد ضاقت عليه الحيل وأخذت عليه الطرق فاتخذ الوقيعة فيك عند شهرزاد وسيلة إلى الإفلات من سجن شهرزاد. وأنت تعرف صاحبك واندفاعه ورجوعه بعد الاندفاع. ومن طبيعة الأدباء أن يمكر بعضهم ببعض ويكيد بعضهم لبعض، والأمر مُنتهٍ بينكما إلى مودة لا تشوبها ضغينة ولا حفيظة. فخلِّص قلبك من الحزن والخوف، وخلِّ بينه وبين الفرح بلقاء شهرزاد، وأملِ عليَّ الكتاب الذي تنتظره منك.
«أدركني كتابك يا سيدتي وقد بلغ مني الجهد والإعياء أقصى ما يستطيعان أن يبلغا من رجل لم ينم الليل ولم ينم بالنهار. لو تعلمين كيف أنفقت الساعات واللحظات منذ ودعتك لما احتجت إلى أن تنبئيني بأنك لا تقبلين فيَّ سعاية ولا تستجيبين فيَّ لكيد. أتعرفين شيئًا أروع من الليل العريض يجثم على الفضاء العريض مُنيخًا بكَلكَله كما يقول شاعرنا القديم، وقد أخذت السماء ترميه من أشعة النجوم بسهام ماضية تبلغه وتنفذ فيه، ولكنها لا تنال منه شيئًا ولا تُحدِث فيه أثرًا، وإنما هو ثابت لا ينتقل ومستقر لا يزول. أما أنا فقد عرفت روعة هذا الليل ورهبته أمس حين استقبلت المساء على غير موعد منك، ولكني مملوء القلب أملًا ألا يتقدم الليل حتى تأتيني رسلك فأنفق معك ساعات كتلك الساعات التي لن أنساها. ولم يكن صاحبي فيما أعلم أقل انتظارًا مني لهذه المفاجأة الحلوة، ولا أقل حرصًا مني على هذه الدعوة الكريمة. إنه لم يتحدث إليك ولكنه رآك واستمع لك، وهذا يكفيه ليملأ قلبه شوقًا إلى رؤيتك وكلفًا بحديثك، لقد استقبلنا الليل يا سيدتي وإن قلبَينا ليضطربان بهذا الأمل ويخفقان بهذه الأمنية، ولقد حاولنا أن نقرأ الصحف وننظر في الكتب، فجعل صاحبي يقرأ ما لا يرى وجعلت لا أسمع لما كان يقول، تركته تائهًا في صحفه وكتبه وتركني ذاهبًا مع الأمل والخيال، كلانا يُظهِر لصاحبه أنه معنيٌّ به ملتفت إليه، وكلانا يخفي على صاحبه أن عقله قد فارقه وأن لبه أسير هناك في ذلك القصر الذي رأيناه وأقمنا فيه وتحدثنا إلى أهله وسمعنا منهم، ولكننا لا نعرف إليه طريقًا ولا نستطيع إليه سعيًا. وانتصف الليل فإذا الأمل كاذب، وإذا الرجاء خائب، وإذا الحسرة لاذعة، وإذا هي تبدي نفسها، وإذا كل منا يرى صاحبه كما هو، وإذا نحن نفترق لا لنأوي إلى المضاجع، ولكن لنسأل عنك ظلام الليل ونجوم السماء وهذا النسيم المضطرب في الجو.
نعم يا سيدتي، لقد تركت صاحبي لا لأستريح ولكن لأخلو إلى خيالك وإلى ذكرك حين أعيَتْني الخلوة إلى شخصك، فأنفقت ما بقي من الليل جالسًا في شرفة تخرج عن غرفتي شيئًا، أستقبل الليل وآنس إلى صمته الرهيب وأستمتع بهذه الموسيقى الخافتة التي تبعثها فيه أحياء الغابة والحقول. أو أُذعَر من حين إلى حين لهذه الدقات التي تضطرب في الجو، تحسب المسكينة أنها تقيد الليل وتقسمه أجزاء، وتنبئ بما مضى منه وتتنبأ بما بقي، وتتأذَّن بما بيننا وبين الفجر من آمال. وإنها لتفعل هذا كله بالقياس إلى الذين أقفرت قلوبهم من الحب وبرئت نفوسهم من الشوق، فأما الذين رأوا شهرزاد ثم نأوا عنها فليلهم متصل لا ينقضي، ونهارهم متصل لا ينقضي أيضًا، لأن ليلهم ونهارهم عليهم سواء، كلاهما مظلم، وكلاهما جامد، وكلاهما طويل ثقيل، كأن هؤلاء المحبين لا يعرفون الشمس إلا حين يشرق لهم وجه شهرزاد، ولا يعرفون الأمن والهدوء والدعة والنعيم إلا حين يغمرهم جمال شهرزاد.
لقد صدق توفيق الحكيم يا سيدتي، فأنا في هذه الأيام مشغول بالمتنبي، ولكني مشغول به عن كل شيء وعن كل إنسان إلا أنت، فإن أمنيته المُلِحة عليه المضنية له المنغصة لليله ونهاره؛ تشبه أمنيتي الملحة عليَّ المضنية لي المنغصة لليلي ونهاري، ولكني لا أتمنى كما كان يتمنى ملكًا وسلطانًا، ولا أشتهي كما كان يشتهي ثروة وغنًى، وإنما أتمنى لقاءك والاستمتاع بجوارك القريب، وأي مُلك يشبه الخضوع لك أو يعدل الإذعان لأمرك، وأي ثروة تشبه الشعور بأني قريب منك ليس بيني وبين الغنى الذي يمتع القلب والعقل إلا أن أتجه إليك فأسمع منك أو أحس قربك مني؟!
رحم الله المتنبي يا سيدتي فقد أعانني على احتمال الشوق، ويسَّر عليَّ بعض الشيء ثقل الليل؛ لأنه ترجم عما كنت أجد في هذه الأبيات التي تغنى بها ذات ليلة في أنطاكية، وتغنَّت نفسي بها الليلة البارحة في سالنش، ولولا بقية من عقل تأبَين أن تستأثري به كله رحمة بمحبيك؛ لأطاع لساني نفسي، ولاندفعت مغنيًا هذه الأبيات يشق صوتي بها سكون الليل، ويوقظ بها الهادئين الهاجعين من حولي.
أتذكرين هذه الأبيات يا سيدتي؟ وهل تنسين شيئًا؟ وهل ينبغي لك أن تنسي شيئًا؟ استمعي لها فإنها لا تصور المتنبي وحده، وإنما تصور كل محزون كئيب قد حِيل بينه وبين ما يتمنى، وأُكرِه مع ذلك على أن يحيا فيسهر الليل ويضطرب في النهار!
بهذه الأبيات تغنَّى ضميري بقية الليل، ولكنه كان يضع الشوق موضع العزم؛ فإن فراقك لم يُبقِ لي عزمًا ولا حزمًا. ثم أشار الفجر بإصبعه الوردية التي أَريتِها أنت يا سيدتي لضرير اليونان منذ ثلاثين قرنًا؛ فإذا الليل الجاثم ينهزم، وإذا الشمس تقبل فتبسط الضوء والحياة على كل شيء وفي كل نفسي، ولكني أظل محرومًا ضوء الشمس وحياتها لأنك أنت الشمس والحياة. وأنا أُحمِّل الطير المستيقظة التي تغدو من وُكُناتها فَرِحة مرحة، يُسكِرها نسيم الصبح وبرد الندى وضوء الشمس؛ رسائلي إليك، لعل بعضها أن يمر بقصرك المسحور فيرسل من فيه نغمة تحمل إليك بعض ما أجد من لوعة وما أقاسي من ألم. وأنا أهيم مع صاحبي وجه النهار في الجبال والرُّبى أسأل عن أخبارك طير الغاب وما يعبث بأغصان الشجر من نسيم، وأسأل عن أخبارك هذه الغُدران الضئيلة الصافية التي تنحدر من الجبال متعطفة متلوية تناجي الصخور وتُناغي الحصى لعل في مناجاتها ومناغاتها شيئًا من حديثك يرد إليَّ بعض ما فقدت من أمن وهدوء.
ولم تحمل إليَّ الطير نبأ، ولم يُبلِغني النسيم خبرًا، ولم تَرُد إليَّ مناجاة الغدران ومناغاتها أمنًا ولا هدوءًا، فأعود قانطًا مستيئسًا، ولكني أجد كتابك، فتبيَّني الآن أمشغول أنا عنك بالمتنبي؟! أكنت زاهدًا في جوارك حين ودعتك؟! أكنت راغبًا عنك حين عدت إلى هذا الفندق الذي أضيق به الآن أشد الضيق؟!
لبيك يا سيدتي، لبيك دعوة كريمة وطاعة سريعة لا تنتظر إلا أن تأمري بأن أَشخَص إليك. لست مشغولًا عنك بشيء ولا بأحد، ولست فارغًا لأتحدث عن كيد توفيق لي عندك، فليس يعنيني إلا أن أبلغ رضاك عني وأضمن ثقتك بي. ومع ذلك، الله يعلم ما أردت بالصديق الأديب شرًّا، ومتى كان القرب منك شرًّا؟! إنما آثرته على نفسي حين دللتك عليه وأنبأتك به، وآثرتك أنت على نفسي يا سيدتي لأن توفيقًا كان يسليني ويلهيني، ويفتح لي أبوابًا من الرضا والبهجة، ويعرض عليَّ فنونًا من العبث والضحك ما كنت لأفرط فيها لولا أني أحسست حاجتك إليه.
لا تيأسي منه يا سيدتي، فتجدين عنده ما تريدين، آمِنيه وهدئي رَوعه، ثم دعيه يرسل نفسه على سجيتها واستمعي لحديثه وأجيبيه جادة حينًا وهازلة حينًا، وانتظري نتيجة ذلك فسترضَين. لقد طلب إليك أن تصحبيه إلى الغدير لتصيدي السمك معه، فاصحبيه يا سيدتي وأظهري أنك تريدين الصيد، فستضحكين كثيرًا قبل أن تبلغي الغدير حين ترَينه فارسًا مغوارًا وبطلًا كمِيًّا قد ملأه الفخر والإعجاب والتِّيه بما يحمل من أداة الصيد، وستضحكين كما ضحكنا حين يبلغ الغدير ويلقي أداة صيده في الماء، ثم يحس حركتها ثم يحس ثقلها، ثم يستيقن يا سيدتي أنه قد ظفر بكنز من هذه الكنوز، التي سحرتِ بها عقل شهریار، ثم يخرج أداة صيده من الماء إلا أنه قد فقد السنارة.
ستضحكين يا سيدتي حين ترَينه يعاود هذا الجهاد مرة ومرة، ثم يرجع معك وقد صَفِرت يده من الصيد، واضطربت نفسه بين الرضا بما جاهد والسخط على ما أخفق، فهو يرثي لنفسه وهو يضحك من نفسه، وهو يحملك على أن ترثي له وتضحكي منه … نعم وستُغرِقين في الضحك حين ترينه يصطاد نفسه بعد أن عجز عن صيد السمك. نعم يصطاد نفسه يا سيدتي، لا تنكري ولا تَدهَشي، فقد اصطاد توفيق نفسه ذات يوم؛ اختلط في خيطه وارتبك ولم يعرف لنفسه مذهبًا فاستغاث: «أنجدوني فقد اصطدت نفسي»، وأقبل أصحابنا عليه فلم يخلصوه من سنارته إلا بعد جهد، ثم خافوا عليه أن يصطاد نفسه مره أخرى فجرَّدوه من سلاحه الخطِر، ولفوه في بعض الورق، وقالوا له: احتفظ به ولا تخرجه إلا عند الغدير، ولكنه أضاع سلاحه يا سيدتي، وعاد أعزل إلا من هذه العصا التي لا تنفع ولا تضر.
وأنا قاسٍ حقًّا، أتندَّر بهذا الصديق البائس وقد أحاط به ما وصفت من خطر، وتألَّبَت عليه هذه الأشباح العاتية تريد أن تمحقه محقًا وتسحقه سحقًا. كلا كلا لن ترضى نفسك عن هذا يا سيدتي، ولن تسمحي به، ولن تأذني فيه … من يسليك إذن ومن يسليني ومن يسلي قراء العربية من المصريين والشرقيين، وقراء الفرنسية والروسية أيضًا؛ فقد تُرجِم إلى الفرنسية والروسية كما تعلمين؟!
كلا كلا، ستحمينه وستقومين دونه يا سيدتي إبقاءً على شخصه ورحمةً لأهله وأصدقائه ومحبيه، ثم حفاظًا للأدب وذَودًا عن حرية الرأي، يا للشر يا للخطر يا للبلاء! حتى أرواح الموتى قد مسَّتها عدوى الطغيان، فهي تمقت حرية الرأي وتعاقب العقل حين يفكر، والقلب حين يشعر، والخيال حين يبتكر! ألم يكفِ حريةَ الرأي ما تلْقاه من عَنَت الطغاة بين الأحياء حتى تصبح أرواح الموتى عدوًّا لهذه الحرية، وظهيرًا لخصومها وأعدائها؟! لن ترضي نفسك الأبيَّة عن هذا الذل يا سيدتي، إن الذين يعتدون على حرية الرأي من الأحياء والأموات إنما يعتدون عليك أنت؛ لأنك مصدر الرأي والشعور والخيال، وإن الذين يستَعْدونك على توفيق ويغرونك به لا يستعدونك إلا على نفسك، ولا يغرونك إلا بنفسك، فاحذري يا سيدتي أن تسمعي لهم.
لبيك لبيك، مُرِيني أكن عندما تحبين …»
ولم أكد أُتِم الكتاب وأترك صاحبي يضم عليه الغلاف حتى أحسست حركة خفيفة، وإذا صاحبي ينهض مذعورًا لأن الكتاب قد اختُطِف من يده اختطافًا.