في الحمَّام
مشي الأسير بين الفتيات الثلاث إلى الحمام مطأطئ الرأس، يخفي عنهن وجهه بمعطفه وهو يردد في نفسه قانطًا: أهكذا قضي الأمر؟! ولم يُغنِ عني شيئًا ذلك الحوار الذي دار بيني وبين شهرزاد؟ وبعد! أأترك نفسي حقًّا لهاته الفتيات يفعلن بي الأفاعيل؟ أرى والله أن لم يَبقَ لي غير الهرب.
وسار في سكون ينتهز نُهزة صالحة. وأرادت الجواري أن يجاذبنه الكلام فلم يتلقَّين جوابًا، فقالت إحداهن: عجبًا … إنه كالنائم.
وقالت الثانية: إنه شارد اللب كالذاهب إلى المشنقة!
فأجابت الأخيرة: ربما أفاق ونطق إذا غطَّسناه في الماء البارد.
فاصطكت أسنان الأسير وسَرَت في بدنه رِعدة، غير أنه لزم الصمت. وواصل الجميع السير في دهاليز ممدودة، بعضها مضيء وبعضها مظلم، حتى بلغوا منعطفًا ضيقًا، فوقفت الأولى وقالت: أرى أن تذهب إحدانا فتحضر الصابون، وأن تذهب أخرى فتحضر المواسي، وأن أقود أنا السجين، ثم نتقابل جميعًا عند الحمَّام؟
فرفعت الثانية عقيرتها مَغيظة: عجبًا لهذه القِسمة الضِّيزَى! تختارين لنفسك الانفراد به، ونذهب نحن للتافه من الأمر! كلا، هذا لن يكون، أنا أقود الأسير وأنت تذهبين للصابون!
فصاحت بهما الثالثة: لا أنت ولا هي … بل أنا …
– أنت! هيهات! تعالَ أيها السجين!
– دعيه! تعالَ معي أنا أيها الأسير!
– أيها السجين، قف إلى جانبي أنا.
وتناولنه في أيديهن كالكرة يتنازعنه، وقد ساءت حاله معهن وبُح صوته من الصياح: حسبكن … حسبكن! قد مزقتن المعطف بهذا الشد والجذب، اتفِقن أولًا فيما بينكن!
– نتفق! هيهات، هيهات أن نتفق بغير هذا!
خلعت صاحبة الكلام نعلها وخلعت الأخريان نعلَيهما، واشتبك الثلاث في معركة حامية الوطيس، والأسير بينهن يصيح: مهلًا، رفقًا! إن النعال لا تصيب إلا قفاي! اتركنني ناحية ريثما تُصفِّين ما بينكن من حساب!
فدفعنه بعيدًا عنهن، فنهض ونفض الغبار عن ثيابه، والتفت في الحال يمينًا ويسارًا فألفى بقربه دهليزًا مقفرًا مظلمًا فانسلَّ فيه هاربًا وهو يقول غير مصدق: تلك هي الفرصة الذهبية التي لن يجود بمثلها الزمان!
في ذلك الوقت كان طه حسين جالسًا إلى صاحبه «فريد» تحت شجرة الزيزفون يصغي إلى ما يقرؤه عليه من شعر «المتنبي»، وهو في حقيقة الأمر لا يصغي إلى شيء ولا يستمع إلا إلى «شهرزاد» الماثلة في أعماق نفسه تهمس إليه بصوتها العذب الرقيق كأنه صوت أجنحة فراش جميل الألوان، أو حفيف غصن مُحمَّل بأزهار الربيع، ذلك الصوت الذي كلما سمعه فُتِن به افتتانًا. إنه يملأ أذنيه الآن، بل إنه يرقص حوله كما ترقص عرائس الجن في المروج. هو شيء غير منظور، لكنه يحس له كيانًا حيًّا وجسمًا نابضًا لا ككل الأجسام! إنه يدعوه في إشارة خفية، ويجري أمامه إلى جهة قصِيَّة. هنا لم يملك الدكتور نفسه فنهض مستويًا على قدميه، فوقف صاحبه عن القراءة مستغربًا: ماذا جرى؟
– هلمَّ بنا إليها.
– إلى من؟
– إلى الفاتنة ربة القصر المسحور.
ففكر «فريد» ثم قال في تردد: ولكننا لم نتلقَّ بعدُ منها دعوة إلى المثول بين يديها!
– لا حاجة بنا إلى دعوة، ولا أحسبها تكره لقائي في أي وقت.
– ولكننا … نجهل مسالك هذا القصر وهو كثير الدهاليز، والوقت ليل ولم نعتدْ دخوله بغير رسول منها أو دليل.
– قلت لك هلم ولا تزد.
– إنها لمخاطرة.
فضغط «طه» على يد صاحبه ضغطًا قويًّا كاد يؤلمه، وصاح به: إنِّي قد عزمت، وأنا رجل — كما تعرف — صُلب الرأي عنيد. ولا شيء يَثنيني عن اقتحام المخاطر وارتياد المجاهل.
– هذه الصلابة قد عرَّضتك أحيانًا إلى ما تكره.
– حقيقة. ولكني هكذا خلقت، ولا قِبَل لي بتغيير طبعي وسجيَّتي … هلمَّ.
•••
وفي حَلَك الظلام سار الاثنان مُجدَّين حتى بلغا أسوار القصر المسحور، فتمهلا وجعلا يتلمَّسان في الأسوار بابًا أو مدخلًا فلم يجدا من ذلك شيئًا. وأعياهما التعب فقعدا على الأرض وأسندا ظهرَيهما إلى السور وتساءلا في يأس: كيف السبيل إلى داخل القصر، وكيف دخلنا إذن أول مرة؟! إنه لا باب له. حقًّا إنه لقصر مسحور!
ولم يَدُم يأس طه حسين طويلًا، وسرعان ما أسلم نفسه للقدر كعادته، فالتمس في الظلام يد صاحبه الذي ألجمه الخوف ووحشة المكان وجهل المصير، وهزه هزًّا خفيفًا وقال له: ناولني «سيجارة»!
فثاب «فريد» لنفسه، وأخرج من جيبه لفائف التبغ وقدم إلى الدكتور واحدة منها، ثم أخرج علبة الكبريت وأراد أن يحك العود في السور، وإذا يده قد غارت هي وعود الثقاب في فجوة لا آخر لها، فصاح لساعته: هنا ثغرة في السور؟
– أين؟ أين؟
وقام «طه» في الحال نازعًا من فمه «السيجارة»: فلندخل من هذه الثغرة!
ولم ينتظر من صاحبه رأيًا ولا جوابًا، فأمسك بذراعه ودفعه أمامه إلى داخل الثغرة دفعًا، ثم مشيا قليلًا ثم كثيرًا، ثم أمعنا في المشي دون أن يصلا إلى بصيص من نور، فأوقدا عود ثقاب، فإذا هما يتخبطان في دهاليز طويلة مظلمة متشعِّبة متقاطعة كأنها شبكة منصوبة.
عندئذ صاح «فريد»: حصل.
– ما هو الذي حصل؟
– قد وقعنا فيما نَكرَه.
– كيف؟
– إن لم يكن هذا جبًّا، فأغلب الظن أنَّا الساعةَ في موضع لن نصل منه إلى شيء. آه! وقعنا. من ذا الذي يستطيع أن يخرجنا من هذه الدهاليز التي يضل فيها الخاطر؟!
– وما الرأي؟
– تسألني الآن يا دكتور؟! لم يبقَ من رأي إلا أن نختار لنا طريقًا من هذه الطرق ونسير فيه إلى النهاية.
– كلا … تلك ليست عادتي … اضرب بنا في كل طريق.
– لديَّ فكرة؛ ابقَ أنت يا دكتور ها هنا، ولأذهبنَّ أنا ركضًا في كل جانب من جوانب المكان حتى إذا ظفرت بشيء عدت إليك.
– نِعم الرأي … اذهب وأنا في انتظارك ها هنا.
ذهب «فريد» وابتعد. وبقي الدكتور وحده في ذلك الموضع من الدهليز يفكر في أمره تلك الليلة وفي هذا المأزق الذي أدخل نفسه فيه، وقد كان في الفندق آمنًا مطمئنًّا، لكنه يتبرم دائمًا بالأمن والاطمئنان، ويخلعهما عنه في ضيق كما يخلع الرداء الثقيل في يوم قيظ شديد. ما الذي حمله على ترك جلسته الهادئة تحت الشجرة ليقف هذه الوقفة في الظلام يلتمس صوتًا أو حركة فلا يسمع إلا أنفاسه المضطربة؟! نعم، لقد بدأ القلق والخوف يجدان إليه السبيل، ويُخيَّل إليه أنه يسمع الآن همسات بعيدة، أهي حقيقة؟ أم هو الوهم والخيال بدآ يلعبان على مسرح الرأس التعِب! ولكن الهمسات تقترب وتتخذ رنينًا واضحًا يدوي بين جدران الدهاليز، بل إنه يسمع الساعة صوتَ أقدام تضرب الأرض، إنها تدنو، تدنو والأصوات تتضح، إنها أصوات نساء، نعم لم يبقَ ريب في الأمر، ولم يلبث طه حسين أن أحاطت به الفتيات الثلاث وهن يَصِحن: ها هو ذا! قد وجدناه!
ثم هجمن عليه هجمة واحدة وقبضن عليه بقوة وشدة، وجذبنه جذبًا عنيفًا وهن يقلن في شبه صوت واحد: أيها الهارب!
ذُهِل طه حسين في أول الأمر ذهولًا عَقَل لسانَه، فهذا الانقضاض عليه فجأة في هذا الليل الساجي ليس هين الوقع على النفس، غير أنه ملك سريعًا ناصية أمره وقال دهشًا: هارب؟ على النقيض. إنِّي جئت بنفسي وأقبلت شوقًا وحبًّا …
فقالت الجواري ساخرات: شوقًا وحبًّا! يا له من مخادع!
وقالت الأولى وهي تقرصه قرصة مؤلمة: أيها الماكر! انتهزت فرصة خلاف دبَّ بيننا وفررت.
– آه! ذراعي! لا معنى لهذا القرص الموجع أيتها السيدة المهذَّبة!
وقالت الثانية وهي تَخِزه بإبرة معها: لقد قلبنا الدهاليز رأسًا على عقب حتى وجدناك!
– آه! آه! كل شيء إلا وخز الإبر!
وقالت الثالثة وهي تعضُّ أذنه: لو عرفت المصير المخيف الذي كان معَدًّا لنا إن كنت ذهبت ولم نعثر عليك!
ولم يُطِق الدكتور الألم، فصاح وهو يضع يده على أذنه: كل هذا قد جاوز الحد! ألا يمكن يا سيدتي أن نتكلم بالعقل وأن نتفاهم بالمنطق …
فدوَّت في المكان ضحكة الجواري الهازئات: المنطق! سنريك الآن كيف يكون المنطق!
ثم حملنه على أكتافهن حملًا وسرن به سيرًا سريعًا يشبه الجري وإحداهن تقول: لقد أضعت الوقت ومولاتنا في الانتظار، ولا نرى إلا حملك والركض بك! أليس يعجبك هذا المنطق؟!
وأراد الدكتور أن يتكلم وأن يستعلم وأن يستخبر فلم يسمحن له بالكلام. ولم يصرَّ هو كل الإصرار خشية عودتهن إلى القرص والوخز والعض، وهو الآن على كل حال بخير فوق أكتافهن. وبلغت الفتيات أخيرًا مكانًا رحبًا مضيئًا، في صدره باب جميل النقوش كأبواب قصر من قصور ألف ليلة وليلة، فقالت الأولى: ها هو ذا الحمَّام … فلندخل به!
ولم ينتظرن. ولم يستمعن إلى اعتراض الدكتور. فدخلن وتهامسن وتغامزن ورفعنه قليلًا ثم ألقين به دفعة واحدة في حوض كبير مملوء بالماء البارد وهن يضحكن ضحكًا عاليًا.
غاص طه حسين في الماء ثم طفا وظهر وهو يشهق ويسعل، وينتفض وقطرات الماء تتساقط من شعره ووجهه وثيابه، والجواري مُستغرِقات في ضحك مرتفع. وإحداهن تشير إليه وتقول لصاحبتَيها: انظرا! إنه ينتفض كأنه عصفور بلَّله القطر …
فأجابت الثانية على الفور: أي قطر؟! إنه كعصفور غمره البحر!
ونظرت إليه الثالثة وقالت ضاحكة: أنصتا! إنه يريد أن يتكلم.
والتفت طه حسين حقًّا إليهن وأراد أن يقول شيئًا، ولكنه ارتعد وعطس طويلًا، إلى أن هدأ أمره وخفَّ عبء بلائه واستطاع الكلام، فقال لهن: أهي … مولاتكن التي أمرتكن أن تفعلن بي هذه الأفاعيل؟!
فقلن جميعهن في صوت واحد: نعم.
– «شهرزاد» تأمر بهذا؟!
فقالت الأولى: إنها أمرتنا بأكثر من هذا. إننا لم نصنع بك شيئًا بعد.
– أوَلا يكفي ما صنعتن بي؟
قالها طه حسين مرتاعًا على نحو أضحك الفتيات، فتساند بعضهن إلى بعض، وقالت إحداهن له: سترى ما نصنع. أين المواسي؟
فصاح الدكتور من قلب الحوض صيحة مدوية: مواسي؟! أؤُمِرتنَّ بذبحي؟!
فقالت الجواري: كلا، لا تخف، لقد أُمرنا فقط بإصلاح شأنك.
– إصلاح شأني! إذا كان ما حدث حتى الآن مقدمة لإصلاح الشأن فلا شك أن ما هو آتٍ أدهي وأمرُّ!
فقالت إحداهن: كلا، اطمئن، إنا لن نصنع بك إلا خيرًا. سنحلق لك لحيتك وشاربك ونجعل منك فتًى رشيقًا أمرد خليقًا بمجالسة الملكات ومسامرة شهرزاد!
لم يكد الدكتور يسمع كلمة «المسامرة» حتى لمع في رأسه خاطر، وتذكر رسالة شهرزاد إليه ورده عليها، فقال للفور: أيتها الجواري إن في الأمر خطأ، لست أنا المقصود بكل هذا اللطف والعطف!
فقالت الفتيات في تهكُّم ظاهر: ومن غيرك؟
– أخرِجنني من هذا الحوض! فقد تبيَّن لي الأمر.
– ما هذا الهذيان؟! أنخرجك قبل أن نغيِّر هيئتك ونجمِّل سحنتك؟
– ذاك توفيق الحكيم الذي أُمرتن به … أما أنا …
– إننا لا نعرف أسماء، ولم نتسلم أسماء، إنما قد أُعطينا شخصًا، نهيِّئه ونقلبه خير مُنقلَب، ثم نردُّه لمن دفعه إلينا.
– وأين توفيق الحكيم؟
– من هذا؟ إنا لم نسمع قط بهذا الاسم، ولم نرَ الليلة غيرك.
فحَنِق طه حسين، وملأه حقد ويأس وغيظ فانفجر: أكاد أفقد صوابي! أين توفيق الحكيم؟ أيها الناس، دلوني فقط على هذا اللعين وأنا أتكفل بالباقي!
وعندئذ قالت إحدى الجواري: كفى إضاعة وقت! إن الملكة في الانتظار. أين المواسي؟
فصاح طه حسين: انتظرن أيتها الفتيات، إن في الأمر خطأً، وما أنا المقصود، اذهبن بي إلى شهرزاد وهي تحكم في الأمر.
فقالت الأولى: ما بالك تخلط الآن في الكلام؟! أين المنطق الذي كنت تتحدث عنه؟!
وقالت الثانية: إن حكم شهرزاد فيك قد سبق، وأمرها صريح لا إبهام فيه.
وأردفت الثالثة وقد رفعت في يدها الموسى: ها هو ذا الموسى! تقدم! ولا أمل لك بعد الآن في الإفلات ولا فائدة من المطل؛ فإنا لن ندعك حتى ننفذ فيك أمر الملكة ونعيدك إليها حسن المظهر جميل المنظر!
فأُسقِط في يد طه حسين ولم يجد لنفسه مخرجًا، فطأطأ الرأس هامسًا: إنا لله وإنا إليه راجعون!