ثورة الأشباح
استلقت «شهرزاد» على فراشها، وغاصت بين دِمَقس وسائدها، وغاص عقلها في بحار التأملات. لقد كان يدهشها أمر الأسير الذي اختطفته ليبقى إلى جانبها يؤنس وحدتها، فلم تظفر منه بغير الإعراض والرغبة في الإفلات! أتُرى فقدت «شهرزاد» سلطانها على الرجال؟! هي التي من بين نساء الوجود قد فازت وحدها بإخضاع ذلك الجبار «شهريار»، تعجز اليوم ويعجز جمالها وذكاؤها عن اجتذاب مخلوق ساذج مسكين كهذا السجين ذي المعطف الأسود وعصا السمك! أتُراها قد هرمت وهي التي لا عمر لها ولا ينبغي لها أن تهرم؟ أهو عجز وقصور منها حقًّا، أم هو حمق وتقصير من ذلك المخلوق الذي لم يستطع تقدير كنوزها ولآلئها؟! لكن أيمكن أن تَتهم بالحمق وقلة التقدير رجلًا كتب عنها كتابًا فجعلها فيه صنو «إيزيس» و«بيدبا»؟! لكن ما باله إذ رآها الليلة وجهًا لوجه لم يلفظ كلمة تقدير، ولم يُلقِ إليها بكلام عميق، ولم تسمع منه إلا هراء ينم عن استخفاف؟! أهي التي كانت تُدعى إلى صيد السمك من الغدران، أم هي التي كانت جديرة أن يدعوها إلى زيارة هياكل الفكر الإنساني الخالدة على الزمان؟! حقًّا إنها لا تفهم من أمره شيئًا. هي التي تفهم الرجال كامرأة عاشت ألف عام بين الرجال! لا تستطيع أن تفهم هذا الرجل المعقَّد! لكن لماذا لا تريد أن تعتقد أنها قد هرمت قليلًا وأن شعرات قد ابيضت في رأسها الأسود الجميل؟!
وإن المرأة إذا هرمت كان عليها أن تترضى الرجال وأن تسايرهم، وأن تُعنى بالتافه من رغباتهم؛ فإن استبقاء الرجال فنٌّ يجب أن تحذقه المرأة إذا علت بها السن، وضاعت امرأة اعتمدت على سحرها الماضي فجلست بلا حراك تنتظر أن يجثو عند قدميها الرجال! إن لكل سنٍّ طرائقها ووسائلها، ولكل وقت أدوات صيده!
لقد صدق صديقها الحميم طه حسين إذ نصح لها في رسالته ألا تهمل رغبات توفيق التافهة، وأن تتبعه حاملة مثله «السنارة» إلى الجداول يصيدان السمك الصغير، وهي الملكة العظيمة! وأن ترافقه إلى المقاهي الحقيرة إذا طلبها هناك دون أن ترى حرجًا في ذلك أو تحقيرًا من شأن مقامها الجليل! إنها قد نسيت أن للرجال صغائر وحماقات لا يخلو منها رجال الفكر والعقل. فلتتبع توفيقًا في أطواره ولترَ منه ما يكون! نعم هذا هو الرأي، ولكن لماذا أبطأت به الجواري وقد كاد الليل أن يولى؟! هنا نهضت شهرزاد واستوت في فراشها وصفقت بيدها فجاء العبد فقالت: أين السجين؟
– إنه في أيدي الجواري يا مولاتي!
– أمَا فرغن بعدُ من أمره؟ فليسرعن به إليَّ!
– مولاتي!
– ما بك؟ وما هذا التقطيب والغضب على وجهك؟
– هذا السجين، قد بلغَنا من أمره كما تعلمين خبر عظيم.
فهو قد وصفنا في كتاب له وصفًا قبيحًا، وافترى علينا افتراء أثيمًا! وكلنا هنا يطلب رأسه، وقد أقسم «الجلاد» أن يتولى الجزاء بنفسه، وقد تلقى أمرًا من الملك «شهريار» بذلك و«الوزير، والساحر، وزاهدة، وأبو ميسور!»
– ليس يعنيني من أمرهم شيء … كل أولئك أشباح تعيش في الماضي وقد جاءت إذ سمعت بسجن توفيق الحكيم كي تثير قضية تتعلق بالماضي، ولكنهم جميعًا غير قديرين على الحياة في الحاضر والكلام في الحاضر. لقد دخل عليَّ «شهريار» منذ لحظة ففرحت به كأني عثرت على كنز مفقود، لكن وا أسفاه، سرعان ما تبين لي أنه لا يعرفني ولا يعرف عن حياتي اليوم شيئًا، فهو شبح وذكرى، وهو غير قدير أن يعيش خارج المائة والعشرين صفحة التي كتبها توفيق الحكيم، لقد يئست منه بعد قليل، وهو أيضًا قد تركني دون أن يعرفني كأنه نائم أو مجنون.
– إنه يا مولاتي مع الوزير قمر والجلاد والساحر وأبي ميسور وزاهدة.
– نعم مع بقية الأشباح. إنهم يستطيعون أن يفهم بعضهم بعضًا … إياك أيها العبد أن تجلس إليهم.
– إنِّي يا مولاتي أعيش معك اليوم في الحاضر … ولكني أحيانًا …
– کفی! إنِّي لا أطيق الكلام في الماضي طويلًا … إنِّي أعظم من أن أُحبس في عصر واحد، إنِّي لكل العصور.
– مولاتي؟
– ماذا تريد؟
– إن لم نسلم إليهم ذلك السجين فإنهم لن يفارقونا.
– إنها لمِحنة. وما الرأي؟!
– ماذا يهمنا من أمر هذا السجين، فلنقذف به إليهم.
– لم يخب ظني، إن نصفك معهم ونصفك معي!
– إنما أردت يا مولاتي أن أريحك من وجودهم!
– لن أقطع برأي حتى أستشير صديقًا لي. اذهب الآن عني!
•••
وسكتت شهرزاد قليلًا وأطرقت مليًّا. وإذا الباب يُضرب عليها، فرفعت رأسها وأذنت في الدخول، ففُتح الباب ودخلت الفتيات الثلاث يقدن طه حسين في رداء جميل واسع الأعطاف لو لم يكن مزيَّن الحواشي بالذهب والفضة واللآلئ النادرة لحسبته ذلك الرداء الجامعي الذي يرتديه العمداء في الحفلات الرسمية الكبرى، وقد غدا الدكتور حليقًا وسيمًا تطمع في رضاه الجميلات، فتقدمت به إحدى الفتيات وقالت: ها هو ذا يا مولاتي قد هيأناه!
نظرت شهرزاد، ثم أنعمت النظر، ثم قالت كالمخاطبة لنفسها: مستحيل! ماذا فعلتن أيتها الجواري؟!
هنا رأى طه حسين أن من واجبه أن يلقي الضوء على هذا الموقف الغامض، وأن «يرد الأمر إلى نصابه» فقال: مولاتي! إنِّي لست توفيق الحكيم.
– طبعًا.
– إنِّي …
ولم تطق شهرزاد صبرًا فقالت في حدَّة: أوَتجرؤ يا هذا على الدخول عليَّ بهذا التمويه؟!
– مولاتي عفوًا … إنِّي لست في حاجة إلى التمويه … كما تعلمين.
– وأين إذن توفيق الحكيم، وما هذا الزي الذي عليك؟
– سَلي جواريك!
فالتفتت شهرزاد إلى الفتيات ونظرت إليهن نظرة المستفسر؛ فقالت إحداهن في لهجة بريئة صادقة: أليس هذا هو الذي تسلمناه من مولاتي؟
– مطلقًا. أيتها الفتيات.
فالتفت طه حسين إلى الجواري وقال في انتصار: لقد بُح صوتي من القول إن في الأمر خطأً، ولكنهن مضين يصنعن بي ما لا يُصنع!
وعندئذ لم يسع الفتيات إلا أن يعترفن بما حدث من هرب توفيق الحكيم والعثور على هذا الذي حسبوه الهارب. ولم يسع طه حسين إلا أن يقصَّ قصته وما وقع له بالتمام والكمال من وقت أن خرج من داره إلى أن مثُل بين يدَي شهرزاد في هذه الهيئة والزي. وختم حديثه قائلًا للملكة: أرأيت يا مولاتي! لقد صدق المثل العامي «من خرج من داره قل مقداره.»
ولكني مع ذلك راضٍ بما كُتب لي، مغتبط برؤيتك في النهاية على كل حال!
فضحكت شهرزاد وقالت في رقة: أيها الصديق العزيز! إنِّي آسفة لما وقع لك. وآسفة أني لم أبعث إليك رسولًا يحضرك إليَّ بدلًا من الكتابة إليك، ولكنك قد حصلت عندي آخر الأمر، وإني الآن في حاجة شديدة إليك.
– إنِّي خادمك ورهين أمرك.
– أولًا أين هرب واختفى توفيق الحكيم هذا؟ أريد رأيك في ذلك؟
– أرى يا سيدتي أن تطلقي رجالك في أثره يبحثون عنه.
– أين؟!
– أرى أن يبحثوا عنه عند شواطئ البحار والأنهار والجداول والغدران كافة؛ فإن السمك وحده الآن هو الذي يعرف مقره.
– نِعم الفكرة. هنالك أمر آخر شديد الخطر أطلب رأيك فيه؛ أتذكر في رسالتي أني حدثتك عن أشباح أشخاص توفيق الحكيم، إنهم هنا الآن يلحُّون في طلب رأسه، ولا أراهم يبرحون حتى يسلم إليهم. أأسلمه لهم أم أمنعه؟
– مولاتي! لا هذا ولا ذاك.
– عجبًا! ماذا أصنع إذن؟
– لا إعدام بغير محاكمة، ولا محاكمة بغير قضية. فاشترطي عليهم ألا تسلميه إلا أمام محكمة يُدْلون أمامها بما يتهمونه به وما يريدون من أجله رأسه.
– نعم الرأي. نعم الرأي. إن آراءك في نضجها كآرائي في سن الشباب الأول. لكأني بك قد نقلتها عني واستوحيتها مني.
– كل أفكاري وآرائي مستمدة من ضوئك يا سيدتي!
– بقي أمر واحد؛ من هو القاضي الذي يحاكم صديقنا؟
هنا يفكر طه حسين مليًّا ويقلِّب في ذهنه الأسماء، ثم لا يلبث أن يصيح صيحة الفرح والظفر: وجدته يا مولاتي وجدته. إنه القاضي الذي لا يُرَد حكمه، وهو بعدُ ليس بالمجهول من المتهم؛ فقد ردد اسمه كثيرًا في كتبه، وذكره على أوضاع شتى في كتاباته.
– من هو؟ من هذا القاضي؟
– الزمن!