في حضرة شهرزاد
ألقى توفيق الحكيم على المكان نظرة ذاهلة حيرى، وإذا عيناه تقعان على
شهرزاد الجميلة بين وسائدها الحريرية الموشَّاة بالذهب والفضة كأنها
الشمس بين النجوم، وقد مثُل بين يديها الدكتور طه حسين يتألق في ثوبه
المزركش ووجهه الوضَّاء كأنه القمر. فما تمالك الأسير أن صاح: يا
للعجب! طه حسين أيضًا، حليقًا رشيقًا، وسيمًا أنيقًا!
شهرزاد
:
ينبغي لمن دنا مني أن يكون كذلك!
طه
(في خيلاء)
:
أوَيعيش إلى جانب شهرزاد إلا من مسَّته يد الجمال؟!
توفيق
:
كلام جميل! لكن ما قولكما …
شهرزاد
:
تكلم أيها العزيز!
توفيق
:
أمِن الجمال ما صنع بي صاحب شرطتك يا سيدتي العزيزة؟!
طه
(يضحك ضحكًا قويًّا)
:
ماذا صنع بك؟
توفيق
:
أتضحك؟!
طه
:
قُص علينا ما جرى لك بالتمام والكمال.
توفيق
:
وأنت قُص عليَّ بالتمام والكمال سر هذا الضحك الذي لا أفهم
له معنًى!
طه
:
أما أنا فأفهم له معنًى بديعًا!
شهرزاد
(باسمة)
:
وأنا كذلك أفهم له معنًى رائعًا!
طه
(مترنمًا باسمًا)
:
إن شئتَ نومًا فعندنا سُررٌ
وثيرة فَرشها من القشِّ
أو شئتَ شربًا فإن بيرتنا
تملأ رأس النديم بالوشِّ
أو شئتَ أكلًا فإن جبنتنا
لا يأتلي دودها من النَّغشِ
توفيق
(وهو كظيم)
:
لا بأس!
شهرزاد
(تستطرد مترنمة باسمة)
:
والحب عندي كما اشتهيتَ، له
بَيضٌ عظام قريبة الفقشِ
حياتنا لو علمتَ ناعمةٌ
لم
يلقَها قطُّ عاهل الحَبشِ
أقلُّ ما في أقلِّها سمكٌ
يسبح في بركة من المشِّ
توفيق
(في تقطيب)
:
مرحى! مرحى! أرى أنكما على علم واسع بكل ما وقع وكان
…
طه
:
أمر واحد لا ندري عنه شيئًا.
شهرزاد
:
نعم، أخبرنا ما فعلت بك الفتيات في الحمام؟
توفيق
:
فتياتك يا سيدتي خليعات، وما كان من أمرهن معي ليس مما
يَحسُن ذكره في حضرة الملكات!
طه
(في ضحكة خبيثة)
:
أكان الماء باردًا أم دافئًا؟
توفيق
:
كان كل شيء باردًا! استرحت الآن؟! واستراحت جلالتها؟!
شهرزاد
:
وا أسفاه! إنك قد غضبت. ونحن لا نحب لك أن تغضب!
توفيق
:
وماذا تحبين لي يا سيدتي؟
شهرزاد
:
كل الخير.
توفيق
:
يا لك من ملاك طاهر!
طه
(في خبث ومكر)
:
أتتهكَّم على مولاتنا؟!
توفيق
:
سبحان الله في طبعك يا دكتور! إنك تلقي الكلمة فتحرج بها
المواقف! وتعقد المسائل، ثم تقول عني بعد ذلك إني رجل
معقد!
طه
(في قوة)
:
أنا صريح. ألقي كلمة الحق صريحة!
شهرزاد
:
نعم. وهو يلقيها في جُرأة ولا يخشى فيها لومة لائم. ومن أجل
ذلك أحبه.
توفيق
:
هنيئًا لك به! وهنيئًا له بك!
شهرزاد
:
عجبًا من العجب! أدرك بين نبرات صوتك …
طه
:
وأنا أيضا أدرك …
توفيق
:
ماذا تدركان أيها الصاحبان المتفقان؟!
شهرزاد
:
نبرة تنمُّ عن غيرة خفية إذ قلت إني أحبه!
توفيق
:
دخلنا منطقة الكلام الفارغ الذي لا تحذقه غير المرأة!
طه
(صائحًا)
:
أستغفر الله! أستغفر الله.
شهرزاد
(لطه)
:
دعه! فإن عداوته للمرأة سوف تكلِّفه ما لا يطيق.
طه
:
أريد أن ألقي كلمة صريحة ولكني أخشى أن يقول عني …
توفيق
(مسرعًا)
:
إياك أن تلقي شيئًا. أهون على نفسي أن أُلقَى أنا في بركة
«المش» مرة أخرى من أن تلقي أنت في أمري كلمة حق، أو أن تلقي
أمامي شهرزاد كلامًا في الحب والغرام!
شهرزاد
:
يا صديقي! أود لو أفضيتَ إليَّ بسرٍّ.
توفيق
:
ليس عندي سر.
شهرزاد
:
ما هذا الفتور والنفور بيني وبينك اليوم؟
طه
:
ما من سر غير أنه مثل أغلب الشعراء وأهل الفن يلفظ النعمة ثم
يبكيها!
شهرزاد
(لتوفيق)
:
أستبكيني غدًا؟!
توفيق
(يصمت ثم يفكر قليلًا وينظر إلى شهرزاد
قليلًا ويهمس)
:
ربما، إني من فصيلة لا تغرد إلا فوق أطلال نعمة ذاهبة وآثار
هناء ضائع!
شهرزاد
:
نعم، هو مرض الشعراء والفنانين! وإن شئت فهو ناموسهم
الطبيعي. كم أرثي لأولئك الأشقياء البائسين!
توفيق
:
يعجبني رثاؤك الحار هذا يا سيدتي! … تُوقعين الناس في البلاء
ثم تَرثين لحالهم!
شهرزاد
:
من أوقعتُ في البلاء؟
توفيق
:
لا أريد أن أبعث الماضي فأذكر لك شهريار وقمرًا وغيرهما ممن
تتراءى لي أشباحهم اليوم ثائرة عليَّ؛ إنما أريد أن أذكر لك
رجلًا ماثلًا أمامك، وبلاء لم يمضِ على وقوعه غير قليل!
شهرزاد
:
أنت؟
توفيق
:
نعم.
طه
:
أتسمحان لي أن ألقي بكلمة حق صريحة …
توفيق
:
أقسم بالله ثلاثًا إن نطق طه حسين بكلمة حق أو باطل لأقذفن
بنفسي من النافذة!
شهرزاد
(لطه)
:
انتظر هُنَيهة يا عزيزي حتى تهدأ نفس صديقنا!
طه
:
قد سكت.
شهرزاد
:
إنك تحسبني أنا التي أمرت بك صاحب شرطتي ورجالي!
توفيق
:
وهل في هذا القصر آمرٌ ناهٍ سواك؟!
شهرزاد
:
إنك تبالغ في مقدار أمري ونهيي!
توفيق
:
يا للعجب! أهذا صحيح؟!
شهرزاد
:
ثق أن هذا صحيح، وأني لم أحب لك كل ما صُنع بك. ولو استطعت
أن أمنعك وأدرأ عنك لفعلت. قلبي مُفعَم بالخير والحب، ولكن
سلطاني قاصر …
توفيق
:
أيُطلَب إليَّ أن أصدق هذا الكلام؟! أنت الملكة العظيمة
صاحبة الحول والطَّول في قصرك هذا على الأقل!
شهرزاد
:
ثق أن الملوك بل الآلهة لا يستطيعون دائمًا أن يصنعوا كل ما
يشاءون!
توفيق
:
وما قيمة ذلك الإله الذي لا يستطيع أن يصنع كل ما
يشاء!
شهرزاد
:
وهل يُتصوَّر كون منظَّم يديره إله يستطيع أن يعبث بكل من
يشاء وقتما يشاء؟!
توفيق
(يلتفت إلى طه)
:
ما رأيك يا صديقي الدكتور؟
طه
:
عجبًا لك! الآن تطلب إليَّ الكلام في هذا الموضوع الشائك حيث
يجب عليَّ السكوت؟!
توفيق
(لشهرزاد)
:
أرجو منك يا سيدتي أن تطلبي إلى صديقك الجريء أن يلقي الآن
كلمة حق صريحة!
طه
(لشهرزاد)
:
كلا يا سيدتي العزيزة لا تفعلي، إني الآن عميد مسئول، ولا
شأن لي بالكلام في الأديان والآلهة. وحسبي ما حدث لي
قديمًا.
شهرزاد
(لطه باسمةً)
:
يظهر أن صديقنا ليس ساذجًا إلى الحد الذي نظن.
طه
:
قلت لك إنه معقَّد.
توفيق
(لطه)
:
أأنا معقَّد لأني طلبت رأيك في موضوع دقيق؟
طه
:
أسنعود إليه؟ رجائي الخالص منك أن تترك آلهة الإغريق
والرومان وشأنهم!
توفيق
:
إن شهرزاد هي التي ذكرت الآلهة، وما أردت منها إلا أن تذكر
لي صاحب الأمر الأعلى في هذا القصر.
طه
:
نعم، تكلما في شئون هذا القصر.
شهرزاد
:
في هذا القصر وغير هذا القصر، هنالك سلطان أعلى يخضع له كل
كائن حي وغير حي، وكل خالق وكل مخلوق.
توفيق
:
من هو هذا السلطان؟
شهرزاد
:
القانون.
توفيق
:
وأي قانون هذا الذي أمر بتعذيبي اليوم؟
شهرزاد
:
قانون القصر.
توفيق
:
ومن سنَّ هذا القانون؟
شهرزاد
:
أنا.
توفيق
:
أوَتخضعين له؟
شهرزاد
:
لا مناص لي من الخضوع، وإلا اختلَّ نظام القصر وحلَّت فيه
الفوضى.
توفيق
:
يا للعجب! أعرف حكومات شتى تسنُّ القوانين ولا تخضع لها
…
طه
:
حقًّا … أذكر أن قوانين الجامعة … (ثم يسكت في
الحال).
توفيق
:
تكلم!
طه
:
كلا … لا شيء.
شهرزاد
(في سخرية)
:
نعم إن البشر لهم هذا الامتياز على الآلهة؛ فهم يستطيعون أن
يعبثوا بالقوانين التي يسنُّونها، أما الآلهة فلا يستطيعون
مطلقًا أن يحيدوا قيد أنملة عن النظام الذي وضعوه، والقانون
الذي خلقوه!
توفيق
(في إعجاب)
:
إنهم آلهة!
شهرزاد
:
وبعد؟ أرأيت يا عزيزي كيف أني بريئة مما ألمَّ بك، وأن قلبي
لا يمكن أن يحلَّ فيه غير الحب والصفاء؟!
توفيق
:
وأن ما نزل بي هو من فعل القانون؟!
شهرزاد
:
هو ذاك.
توفيق
:
ربما كنت صادقة. إنِّي دائمًا يخيَّل إليَّ أن العظمة في
عليائها لا تعرف غير الصفاء. ولا أتصور خالقًا ينظر إلى
مخلوقاته نظرة غير نظرة الصفاء العميق!
طه
:
هذا كلام طيب. وما دمنا في صدد الصفاء، فما يمنعنا الآن من
أن نعمر قلوبنا به، وأن يُقبِل أحدنا على الآخر باسمَ الثغر
صادق الود؟!
شهرزاد
:
لا أحَب إلى نفسي من هذا!
توفيق
:
وأنا أيضًا … لا أحَب إلى نفسي منه.
شهرزاد
(في فرح)
:
حتى أنت؟! لا أصدق ما أسمع.
توفيق
:
يا للعجب! ما ظنك بي؟ أترينني بهذا المقدار إنسانًا لا يعرف
الود؟!
شهرزاد
:
كدت أظن هذا.
طه
:
أؤلقي كلمة حق صريحة؟!
توفيق
:
ألقِ الآن ما شئت.
طه
:
إني أعرف توفيق الحكيم أحفظَ الناس للود.
توفيق
:
أتتهكم؟
طه
(مأخوذًا)
:
سبحان الله! احكمي يا سيدتي بالعدل! أأنا تهكمت الآن؟
شهرزاد
:
على النقيض … إن في صوتك صدقًا وإخلاصًا.
توفيق
(في خجل وندم)
:
إني آسف. لقد أسأت الظن بصديقي … ولم أصدق ذلك القول
منه.
شهرزاد
:
لو عرفت ما يصنع صديقك من أجلك … إنه لم ينقطع عن التفكير
معي في الْتِماس الحيل وتدبير الوسائل إلى استنقاذك من هذه
الأشباح الثائرة عليك.
توفيق
:
أهو صنع هذا؟
شهرزاد
:
إنه فعل أجمل من هذا؛ إنه رأى إقناع الأشباح بالامتثال إلى
حكم «الزمن» فيك. وهو واثق أن كلمة هذا القاضي ستُنصِفك وتنصرك
عليهم جميعًا.
توفيق
:
وإذا لزم الزمنُ الصمتَ ولم يتكلم في أمري بخير أو
بشر؟
شهرزاد
:
إنه قد دُعي إلى الكلام والحكم، في مجلس تحضره أنت ويحضره
المطالبون برأسك والشهود العدول، وقد وعد بالكلام والحكم في
الأمر.
توفيق
:
المطالبون برأسي!
شهرزاد
:
أوَلا تعرف أنهم طلبوا رأسك؟!
توفيق
:
وما ذنب رأسي؟! أخزاهم الله!
شهرزاد
:
ألم يخرجوا منه؟! إنهم يريدون تحطيم المكان الذي خرجوا منه
على تلك الصورة التي لا تُرضيهم!
توفيق
:
وكيف يحطمونه؟!
شهرزاد
:
«الجلاد» قال إنه سيتولى ذلك، فهي مهنته.
توفيق
:
ذلك «الجلاد» العاطل!
شهرزاد
:
إن أمرك الآن رهن هذه «القضية».
طه
:
إنها ستكون قضية «الفكر والأدب».
شهرزاد
:
ينبغي أن تستعد للدفاع عن نفسك.
توفيق
:
والقاضي …
شهرزاد
:
قلت لك هو «الزمن».
طه
:
أظنك لا تطمع في أعدل منه!
توفيق
:
ومتى يوم المحاكمة؟
شهرزاد
:
لم يُحدَّد بعد؛ فقد رأى القاضي أن يبدأ بدرس موضوع القضية،
وقد طلب نسخة من «الكتاب» فأرسلت إليه.
توفيق
:
كل هذا عجيب. وكل هذا لم يكن في الحسبان. أنا الذي جاء إلى
جبال سافوا طلبًا للراحة والهدوء؟!
طه
:
اصبر! لئن حكم «الزمن» لك فأي انتصار يكون وقتئذٍ للفكر
وحرية الفكر؟! وعند ذاك ننشر هذا الحكم في الصحف معلنين انتهاء
عهود الظلام وابتداء عهد النور!
توفيق
:
وإذا حكم بتسليم رأسي إلى ذلك الجلاد الذي باع سيفه لصاحب
خان يحرق فيه القِنَّب، ويؤمُّه أنصاف المجانين؟!
طه
:
كلا … إن إيماني كبير بحكمة هذا «القاضي».
توفيق
:
وأنا … مع الأسف …
ولم يُتِم توفيق الحكيم عبارته، فقد هبَّت فجأة ريح عاصفة خلعت أستار
النافذة، ودخلت القاعة مُحمَّلة بغبار كثيف في لون الرماد، ألقته علی
فرش «شهرزاد» كما يُلقَى الشيء … ثم خرجت الريح من حيث جاءت، وهدأ
المكان كأن شيئًا لم يحدث قط. ونظرت شهرزاد إلى فرشها، فإذا الرماد
عليه قد اتخذ هيئة الخطوط والحروف، وإذا هي رسالة تُقرأ موجَّهة إليها،
فطالعَتْها بإمعان ثم صاحت: تلك رسالة من «الزمن»!
طه
(في جِد واهتمام)
:
ماذا يقول فيها؟
شهرزاد
(في كآبة)
:
وا حزناه!
طه
(في قلق)
:
بحقك ماذا؟
شهرزاد
:
إنه لا يريد أن يبقى المتهم طليقًا، ويعلن أنه سيأمر به
فيُحبَس حبسًا احتياطيًّا حتى يصدر فيه الحكم.
توفيق
(لطه متهكمًا)
:
أرأيت «حكمة» هذا القاضي الذي جئتني به!
شهرزاد
:
صبرًا ولا تخف!
طه
(لشهرزاد)
:
وأين يكون الحبس؟
شهرزاد
:
في مكان لا يعرفه غير «القاضي».
طه
:
وكيف يُقاد المتهم إلى ذلك المكان؟
شهرزاد
:
ربما أمَر به الزوابع فاختطفته!
توفيق
(صائحًا)
:
خطف آخر! حِرت والله وكدت أُجَن لأمر هذا الخطف، ألا يعرفون
وسيلة أخرى في هذا المكان غير هذه؟! إذا طُلبتُ للمسامرة
أُخطف، وإذا طُلبت للمحاكمة أُخطف! ألا نكون في أمريكا دون أن
نعلم؟!