القلق على توفيق الحكيم
قلت وقد نهضت متثاقلًا كئيبًا: فهل تأذنين لي يا سيدتي في أن أودعك الآن لا قاليًا ولا ساليًا؟! قالت: في هذه السرعة! وما يُعجِلك؟ قلت: فإن لي يا سيدتي أهلًا ما ينبغي أن تطول عنهم غيبتي. قال توفيق في غضب وخبث: وعملًا ما ينبغي أن يطول إهمالك له. قلت في ضحك ورثاء: هو ذاك. قالت شهرزاد: نعم ذاك، إن لأهلك عليك حقًّا، وإن لعملك عليك حقًّا، فأما الذين ليس لهم في فرنسا أهل ولا عمل …
قال توفيق: فمن الممكن أن يُخطَفوا وأن يُسجَنوا وأن تلحَّ عليهم المصائب وأن تُفعَل بهم الأفاعيل. قالت شهرزاد، وقلت معها ضاحكًا: هو ذاك. قال توفيق في صوت محزون تكاد تخنقه العَبرة: لست جادًّا فيما تعزم عليه من الانصراف. قلت: كل الجد، وإنك لتعلم أني لا أستطيع البقاء، ولست أدري فيم حرصك على بقائي! قال: أما أنا فأعلم فيم حرصك على الانصراف، إنما تريد أن تتركني وحيدًا أقاسي ما أقاسي من الجهد، وأحتمل ما أحتمل من الهم، وألقى ما ألقى من العناء. قالت شهرزاد: شكرًا لك يا سيدي، ما أعرف أدبًا أجمل من هذا الأدب، ولا ظرفًا أرق من هذا الظرف. قال توفيق مرتبكًا: سيدتي، إنك لتُسيمينني ما لا يُسام، ولست أفهم كيف تنتظرين الأدب والظرف من رجل مثلي قد صُبت عليه المحن، مخطوف يراد به الخطف، وسجين يراد به السجن، وأسير كان يطمع في حريته فإذا أقصى آماله سجن جديد لا يعرف أين يكون، ولا كيف تكون حاله فيه. قلت: هوِّن عليك فلست أرى بك بأسًا، ولو كنت مكانك لنعمت بالساعة التي أنا فيها، ولأرجأت التفكير في الخطر إلى وقت وقوع الخطر. قال: فإني لا أعلم أقريب هذا الخطر أم بعيد، وإن ما أنا فيه الآن لهو الخطر كل الخطر، أوَتظنني قد عرفت حقًّا أين أنا وماذا يُراد بي ومتى أنا راجع إلى ما كنت فيه، وتفضلت شهرزاد فشیعتني إلى باب غرفتها وهي تقول في صوتها المشرق الذي يغري بالبقاء لا بالانصراف: «إلى اللقاء» وإلى اللقاء القريب، أليس كذلك؟
وأُلقيت من دوننا الأستار وقد أسرع إليَّ صاحبي فالتفتُّ إليه ضاحكًا وأنا أقول: ما ينبغي أن يراني الناس ولا أن يراني أهلي في هذا الزي الغريب. قال صاحبي دهِشًا: أي زي؟! وهممت أن أتكلم، ولكن دهشي لم يكن أقل من دهش صاحبي حين نظرت فإذا أنا في زيي القديم الذي دخلت به القصر من تلك الفجوة، لا أعرف كيف عاد إليَّ، ولا أذكر كيف نُزعت عني زينة الاستقبال، وأريد أن أسأل صاحبي دهشًا عن سر هذه الفتنة التي لا أعرف أولها ولا أعرف آخرها؛ فأنا أذكر كيف خُلع عليَّ ذلك الرداء الجميل الذي لقيت به شهرزاد ولا أعرف كيف خُلع عني، وأعرف كيف خرجت من زيي القديم منذ حين، ولا أعرف كيف دخلت فيه الآن، ولكن الفتاة الجميلة الرشيقة تدنو مني في دعابة وظرف وهي تقول: لا بأس عليك يا سيدي، فإن الزي الذي تلقى به شهرزاد لا ينبغي أن تلقى به أحدًا غيرها، ولا تنسَ أنك في القصر المسحور.
وأبلغ الفندق بعد لحظات فإذا أنا أُستقبل في كثير من التجهم، وغير قليل من السخط والإعراض، فلم تتعود أسرتي أن تفتقدني فلا تجدني، ولا أن تراني أغيب عنها دون أن أنبئها بعزمي على الغيبة، وبالغرض الذي أنا قاصد إليه، والمكان الذي تستطيع أن تلتمسني فيه. وأنا أريد أن أتحدث إليها بجليَّة الأمر وأنبئها بحقيقته، وهذا لساني يتحرك في فمي يريد أن يأخذ في بدء الحديث، ولكني أرده إلى الصمت والسكون مشفقًا من العاقبة التي لا شك فيها، وهي ضحك الصبيَّين وإغراقهما في الضحك، وإشفاق زوجي وإلحاحها في الإشفاق مما أقول. هم جادون في غضبهم، ولو قصصت عليهم الأمر من أوله لأنكروه، ولرأوا أني أهزل حين يجدُّون، وأتكلف حين يتبعون طبيعتهم، ولَظن الصبيَّان أني أعللهما ببعض هذا القصص الذي كنت أعللهما به أثناء الطفولة حين كانا يصدقان كل ما كان يقال. ومن لي الآن بأن يصدق هذان الصبيان — وهما ينكران ما يريان — وأن تصدق أمهما قصة هذا القصر المسحور الذي يقوم عند قمة من قمم الألب، وقصة اختلافي إليه واشتراكي فيما يقع فيه من الأحداث، كلا، ما ينبغي أن أحدثهم بشيء من ذلك، فلن يزيدهم هذا الحديث إلا غضبًا وإشفاقًا، ولعله يدفع هذين الصبيين إلى أن يظنا بأبيهما الظنون، ويريا أنه من العجز والقصور بحيث لا يستطيع أن يعلل غيبته بعللها الصحيحة الواضحة، فهو يتكلف لها ما يتكلفه الأغرار من الحيل والمعاذير.
فأنا إذن أجتهد في المداورة، وأحيد عن القصة كلما دُفعت إليها، ولكن الأمر يتعقد فجأة؛ فهم يسألونني عن صاحبي توفيق ما خطبه، أو أين ذهب أو كيف مضى على وجهه هكذا دون أن يودع قومًا كان معهم أو ينبئهم بمذهبه أو يستأذنهم في الرحيل، فإذا زعمت لهم أني لا أعرف من أمره شيئًا أنكروا هذا كل الإنكار، ولاموني عليه كل اللوم، وزعموا أني مقصر في ذات الصديق، تُلِم به الأحداث فلا أحفل به، وينزل به المكروه فلا أسأل عنه، ومن يدري لعله استجاب لهذه النزوات التي تَعرِض له فخُيل إليه أنه يستطيع أن يتسلق الجبل في ساعة أو ساعات كما كان يقول، ولعله همَّ بذلك فمضى لطِيَّته، ثم اختلط عليه الأمر وتقطعت به الأسباب، فهو لا يدري كيف يعود. ولعله تعرض لأكثر من هذا الشر فهوى إلى قاع سحيق، أو غمره هذا الثلج الذي تثيره الريح في أعلى الجبل، أو زلَّت به قدمه فهو صريع يستغيث ولا يجد له مغيثًا.
لا بد إذن من إنباء الفندق بأمره، ثم من إنباء الشرطة، ثم من إرسال الرسل يلتمسونه في كل وجه، فهو لم يرتحل قاصدًا إلى الرحلة، وهذه غرفته كما تركها، فيها أثاثه كما تركه، وهم يهمُّون أن ينبئوا الفندق والشرطة كما أرادوا، وأنا أحاول أن أردهم عن ذلك، وأكاد أنبئهم بأمر القصر المسحور، ثم تصدني عن ذلك بقية من حياء فأزعم لهم أن صاحبنا غريب الأطوار، وأنه خليق أن يكون قد عاد إلى باريس كما أقبل منها لم يفكر ولم يُقدِّر، ولم يتخذ أُهْبة ولم ينبئ به أحدًا.
والخير في أن ننتظر لعله أن يعود إلينا، أو لعل أنباءه أن تبلغنا بعد حين، وأنا ألحُّ في وصف أطواره الغريبة وأحواله المختلطة، وتصرفه في الغربة على غير نظام حتى أكاد أقنعهم بأنه رجل شاذ كل الشذوذ، لا ينبغي أن يُنتظر منه ما يُنتظر من غيره من الناس، فإذا فرغت منهم بعد جهد ولأي، أقبلت على العمل الذي أهملته فأطلت إهماله، وإذا أنا أمضي فيه، وإذا هو ينسيني توفيقًا وأنباءه ويكاد ينسيني شهرزاد، ولكني أتلقى هذا الكتاب على النحو الذي تعودت أن أتلقى عليه الكتب في هذا الصيف.