كلمة في النهاية

التصدير أو إيلاء الصدارة (Foregrounding)

«أُهنِّئك في بداية حياة عملية عظيمة، ولا بد أن يكون قد سبقها تصدير طويل في مكان ما، حتى تبدأ هذه البداية.»

إمرسون إلى ويتمان، ١٨٥٥م
و«التصدير» الذي يراه إمرسون في حياة ويتمان ليس خلفية (background)، على نحو ما يبين باستخدامه الغريب والأصيل لهذه الكلمة، أما «الخلفية» فمصطلح يستخدمه مُؤرِّخو الأدب في القرن العشرين ليعنوا به السياق الخاص (سواء كان تاريخًا فكريًّا أو اجتماعيًّا أو سياسيًّا) الذي تَتشكَّل في إطاره الأعمال الأدبية. ولكن إمرسون يعني تصديرًا زمنيًّا «أو صدارة زمنية» من نوع آخَر؛ أي إنه مَجال من التاريخ الشعري لا الفكري الذي يُرهِص بِمَقدِم غيره، وربما لنا أن نقول إنه تاريخ مكتوب أو مُدوَّن في الشعر نفسه. وفعل التصدير يعني الإبراز أو لَفْت الانتباه إلى مَعالِم مُحدَّدة في العمل الأدبي.

ما التصدير الطويل للسير جون فولسطاف، أو للأمير هاملت، أو لإدموند النغل؟ قد يقول الناقد الشَّكْلي أو النصي بعدم وجود مثل هذا التَّصدير؛ لأن هؤلاء رجال صَنَعتْهم الكلمات. وأما الناقد السِّياقي أو التاريخي فقد يقول بوجود خلفية لا تصدير. ولقد سُقْتُ الحجة في هذا الكِتاب، على امتداده، على أن شيكسبير قد ابتكر (أو «أحكم» ما ابتكره تشوسر من قبل) من طريقة التمثيل المُعتمَدة على تصدير شخصياته؛ أي إن شيكسبير يدعو جمهوره إلى أن يحدس كيف وصل فولسطاف وهاملت وإدموند إلى ما أصبحوا عليه، وأنا أعني بذلك مواهبهم واهتماماتهم وشُغلهم الشاغل. لن أسأل ما الذي جعل فولسطاف يَتمتَّع بهذه اللماحية الهائلة، وحدا بهاملت إلى اتِّخاذ موقِف الشك البالغ، وأكسب إدموند ذلك البرود الثلجي؛ إذ إن تصدير شيكسبير يُنَحِّي أسرار الشخصية الإنسانية أو ألغازها جانبًا، إلى حدٍّ ما.

والواقع أن الفن الأدبي عند شيكسبير، وهو الأرفع بين ما كُتِب لنا أن نعرفه، يعتبر فن إيجاز بالحذف بقدر ما هو ذو ثراء فائق. فالمسرحيات تعلو عَظمتُها حيث تتسم بأكبر قدر من الإيجاز القائم على الحذف. فإن عطيل يحب دزدمونة، ولكنه فيما يبدو لا يرغب فيها جنسيًّا، فمن الواضح أنه لا يعرف إن كانت عذراء، ولا يجامعها قط.١ ماذا يكون من أمر أنطونيو وكليوباترا عندما يَخْتَلِيان بأنفسهما؟ لماذا لم يُنجِب مكبث أطفالًا من زوجته الضارية الطَّبع؟ ماذا يُعَذِّب بروسبرو تعذيبًا شديدًا، ويتسبب في أن يجعله يَتخلَّى عن طاقاته السحرية، ويقول إنه سوف ينشغل بالموت عندما يعود إلى وطنه الذي استعاد حُكْمه؟ لِمَ لا يَتصرَّف أحد إلا ببلاهة في الليلة الثانية عشرة، وبجنون في دقة بدقة؟ ما سبب إرغام شايلوك على قبول اعتناق المسيحية، أو سبب تعذيب مالفوليو بهذا الأسلوب المُنْكَر؟ لا بد من التصدير للإجابة عن هذه الأسئلة. وسوف أبدأ بهاملت، وذلك إلى حدٍّ ما لأنني سوف أقول إن شيكسبير قد بدأ بها على الأرجح، فليست لدينا هاملت الأصلية التي كَتَبها توماس كيد، ومن المحتمل وجود هاملت أخرى كتبها شيكسبير عام ١٥٨٨م. والسبب الآخر لابتدائي بهاملت أن المسرحية، على الرغم مما يقوله ت. س. إليوت، مسرحية شيكسبير الرائعة حقًّا، وتُمثِّل أقصى ما وصل إليه فنُّه معرفيًّا وجماليًّا.

إن الأمير الذي نقابله أول مرة في النص النهائي لهاملت طالب في جامعة ويتنبرج، عاد إلى دياره في عطلة مع زملائه في الدراسة روزنكرانتس، وجيلدنستيرن، وهوراشيو، ولمَّا يَنقضِ شهران على وفاة والده المفاجئة، وشهر واحد على زواج أُمِّه بعمه الذي استولى على التاج. ويُبدِي النُّقاد استعدادًا أكبر مما ينبغي للاعتقاد بأن اكتئاب هاملت أو شَجَنه العميق ناجِم من هاتين الصَّدْمَتين، ومما كشف عنه الشبح بعد ذلك من أن كلوديوس قام بدور قابيل. ولكن التصدير الطويل لهاملت موجود في حياة شيكسبير وعمله، وفيما يفعله هاملت في المسرحية، وهو يوحي بغير ذلك. ويُعتَبر هاملت أغرب شخصية بين جميع شخصيات شيكسبير (بما فيهم فولسطاف وياجو ولير وكليوباترا) فهو، إلى جانب صفات كثيرة أخرى، فيلسوف يائس، وموضوعه الرئيسي هو العلاقة المُعْضِلة بين الذَّاكرة والغرض. وطريقته المختارة في تناوُل تلك العلاقة هي المسرح، وهو الذي سوف يعرض فيه معرفة محترف المهنة والآراء الصلبة للكاتب المسرحي. ومدينة وتينبرج هي برجماتيًّا لندن، وجامعته لا بد أن تكون المسرح اللندني قطعًا. ويُسمح لنا بأن نشاهد فنه عمليًّا، وفي خدمة فلسفته، وهي التي تتجاوز مذهب الشك عند مونتانيْ، ومن خلال ذلك يبتكر العدمية الغربية.

ويعتبر ياجو أنسب تلاميذ هاملت. ويقول هارولد جودارد، الناقد الشيكسبيري الذي يعاني الآن من التجاهل الشديد على الرغم من بصيرته الصادقة، إن هاملت كان يحمل دور فولسطاف في ذاته. وأضيف إنه كان يحمل في ذاته أيضًا دور ياجو. ويقول أ. سي برادلي إن هاملت هو الوحيد بين شخوص شيكسبير الذي كان يستطيع أن يكتب المسرحية التي يظهر فيها. وهنا أضيف أيضًا إن هاملت كان يستطيع تأليف عطيل ومكبث والملك لير. ونشعر من الزاوية البرجماتية بوجود شيء قريب قرابة شديدة إلى انصهار هاملت في شيكسبير الشاعر التراجيدي، وأنا لا أعني بهذا أن هاملت كان يمثل وليم شيكسبير أكثر مما أعني من تمثيل أوفيليا إياه، أو أي شخصية تختارها، بل أعني أن هاملت تولى حتى وظيفة شيكسبير بصفته الممثل وكاتب المسرح، كما كان يَتولَّى أيضًا سُلطة جعل شيكسبير يَتكلَّم بلسانه؛ أي الممثل الذي يلعب دور الملك ويتلقَّى التعليمات. فالواقع أن المخلوق هنا يغتصب مَن خَلَقه، وهاملت يستغل ذاكرة شيكسبير لتحقيق أغراض تَنتمِي لأمير الدنمارك أكثر مِمَّا تنتمي إلى شيكسبير الإنسان. وعلى الرغم مما في هذا من مُفارَقة فإن هاملت «يسمح بوجود» ذات شيكسبير التجريبية، في حين أنه يستولي على الذات الأنطولوجية لكاتِب المسرح، ولا أظن أن شيكسبير قد تَعمَّد حدوث هذا، أو أنه كان قصده السافر، لكنني أظن أن شيكسبير، حين أدرك ما يحدث، لم يَعتَرِض عليه. إذ إن «تصدير» هاملت، كما سوف أُبَيِّن، يعتمد اعتمادًا كاملًا على النتائج والاستنباطات المستقاة من المسرحية نفسها وحسب؛ إذ إن حياة شيكسبير الإنسان لا تكاد تُقدِّم لنا أية مفاتيح تفسيرية تساعدنا على فَهْم هاملت. ولكن هاملت، حتى يكتمل «تصديره» يمثل مع فولسطاف المفتاحين اللذين يفسران — إذا استعرنا مصطلحًا شيكسبيريًّا — ما نسميه «النفس ذاتها» عند شيكسبير. والإحساس بوجود «النفس ذاتها» يتعرض لاختبار بَالِغ القسوة من جانب شخصية هاملت، فهو أشد الصور التمثيلية تلونًا وتَغيُّرًا وحركةً على الإطلاق.

لا بد أن شيكسبير قرأ مخطوط مونتاني الذي ترجَمَه فلوريو؛ إذ لا يبدو لنا ما هو أقرب إلى شيكسبير من المَقال العظيم الختامي بعنوان «عن الخبرة» الذي ألَّفَه مونتاني في عام ١٥٨٨م، وهو الوقت الذي كان شيكسبير في ظني يَضَع اللمسات الأخيرة فيه للنسخة الأولى من هاملت. يقول مونتاني إننا جميعًا رياح، ولكن الريح أكبر حِكمة مِنَّا، ما دامت تحب أن تحدث جلبة وتَتحرَّك في كل مكان، ولا تشتاق إلى التَّصلُّب والثبات، فهي صفات غريبة عليها، ومونتانيْ يتسم بحكمة الريح فينظر نظرة إيجابية إلى نفوسنا المُتحرِّكة، والمُتحوِّلة، ومع ذلك فهي تَتمتَّع بحرية مدهشة. ومونتانيْ، مثل أعظم شخصيات شيكسبير، يَتغيَّر لأنه يَستَرِقُ السمع إلى ما يقوله هو نفسه. إذ إن مونتاني يصبح أثناء قراءة النص الذي كتبه الشخص الذي يُرهِص بقدوم هاملت ويسبقه في تمثيل الواقع في ذاته ولذاته. كما يصبح أيضًا مرهصًا بنيتشه، أو ربما يمتزج بهاملت باعتباره مرهصًا مزدوجًا ومركَّبًا تاركًا علامته دائمًا على كِتابَيه الحافلين بالحِكَمِ والأمثال، وهما ما وراء الخير والشر وشفق الأصنام. والإنسان ذو الخبرة عند مونتاني يَتجنَّب لَحظات النَّشوة الديونيسية، إلى جانِب الهبوط المُؤلِم من هذه الانتشاءات. ولا يُنسى لنيتشه أنه استطاع إدراك هذا الجانب من هاملت في كتابِه المُبكِّر مولد التراجيديا، حيث يدحض قول كولريدج إن هاملت (مثل كولريدج) يفكر أكثر مما ينبغي دحضًا سليمًا، ويستعيض عنه بالحقيقة التي تقول إن هاملت يُجِيد التفكير إجادَة تزيد عمَّا ينبغي. وأنا أَقتطِف هذا القول مرة ثانية بسبب ما يكشف عنه من بصيرة ونظرات ثاقبة دائمة:

إن النشوة التي تأتي بها الحالة الديونيسية التي تنفي حدود الوجود وقصوره تتضمن، طالما استمرت، عنصرًا من الخمول الذي تغرق فيه جميع خبرات الماضي الشخصية. وتفصل هُوَّةُ النسيان المذكورة عالَمَ الواقع اليومي عن عالَم الواقع الديونيسي. ولكن ما إن يستأنف هذا الواقع اليومي دخول الوعي حتى يشعر المرء بحقيقته مصحوبًا بالاشمئزاز، وتنشأ حالة نفسية من الزهد النافي للإرادة ثمرة لهذه الحالات.

وبهذا المعنى يشبه الإنسان الديونيسي هاملت: فَكِلاهما قد نظر ذات يوم نظرة حقيقية في جوهر الأشياء، فاكتسب المعرفة، والاشمئزاز يكبح الفعل؛ إذ إن فعلهما لا يستطيع تغيير أي شيء في الطبيعة السرمدية للأشياء؛ وهما يشعران أنه من السخرية أو المهانة لهما أن يُطلب منهما تصحيحُ حال عالَمٍ انفصمت عُراه، فالمعرفة تقتل الفعل، والفعل يتطلب ستائر حاجبة من الأوهام. هذا هو مبدأ هاملت، لا مبدأ الحكمة الرخيصة لفلان الحالِم الذي يبالغ في التأمُّل، فتزداد الإمكانيات أمامه زيادة تمنعه من القيام بأي فعل. ليس التأمل إذن، كلَّا، بل المعرفة الصادقة؛ أي البصيرة التي تكشف الحقيقة الرهيبة، هي التي تُرجِّح الكفة المُقابلة لأي دافع للفعل، سواء عند هاملت أو عند الإنسان الديونيسي.

ومعنى أن هاملت يرى أن الفكر يَقتُل الفعل تكرار الحجج العدمية التي يُؤلِّفها هاملت للمُمثِّل الذي يقوم بدور الملك (ومن المُرجَّح أن شيكسبير كان يُؤدِّيه بنفسه على خشبة مسرح الجلوب، إلى جانب دور الشبح). وعاد نيتشه في كِتاب لاحِق له وهو شفق الأصنام إلى هاملت الديونيسي، وإن لم يذكره صراحة. ويسترجع نيتشه المونولوج الذي يقول في مطلعه هاملت: «ما أكثرَ ما أُشبِه وغدًا أو عبدًا جاهلًا!» ويشتم نفسه لأنه «لا يملك إلا التنفيس بألفاظ مثل العاهرة المُنحَطَّة عمَّا في قلبي»، ثم يصل نيتشه إلى صيغة تعتبر جوهر هاملت وهي «إن ما نجد ألفاظًا له شيء مات في قلوبنا من قبل، دائمًا ما يُوجَد نوع من الاحتقار في فِعْل التَّكلُّم.» وما دام هاملت قد فَقَد إيمانه باللغة وبذاته، فإنه يُصبِح كاتبًا مسرحيًّا للذات، فيَتفَوَّق على القديس أوغسطين، ودانتي، وحتَّى مونتانيْ، فإن ذلك أعظم ابتكار حَقَّقه شيكسبير؛ أي الذات الباطنة التي لا تتغير باستمرار وحسب، بل تنمو أيضًا على الدوام.

ج. ﻫ. فان دن بيرج طبيب نفسي هولندي تَعلَّمتُ منه الكثير، وهو يطعن في أسبقية شيكسبير إلى ابتكار الشخصية الإنسانية، بأن يُحدِّد «تاريخ ميلاد الذات الباطنة» في عام ١٥٢٠م، أي قبل جيلين من كتابة هاملت. ويقول فان دن بيرج إن ذلك القطر غير المكتشف قد عثر عليه مارتن لوثر، في حديثه عن «الحرية المسيحية»، وهي التي تفصل بين الإنسان «الباطن» والكيان الجسدي. فالإنسان الباطن هو الذي يؤمن ولا يحتاج إلا إلى كلمة الإله. ولكن تلك الكلمة لا تسكن داخل الإنسان، حسبما كان يرى مايستر إيكهارت، وجيكوب بيمه (Böhme) وهما من المتصوفة الأفذاذ، بل لا بد أن تأتي من فوق. ولكن كلمة الشبح هي وحدها التي تأتي إلى هاملت من علٍ، وهي في نظر هاملت موثوق بها وغير موثوق بها في آنٍ واحد. إذا كنت تحتقر الإفصاح عمَّا في قلبك بالألفاظ، فلماذا تَثق في فِعل التَّكلُّم من جانب الشبح أو تؤمن به؟ إن الموات في قلب هاملت يسبق قدوم الشبح بوقت طويل، وسوف تبين لنا المسرحية أنه كان في قلب هاملت منذ الطفولة. والتصدير في حالة هاملت بالغ الأهمية «والألم» لأنه يتعلق بالتاريخ السابق لأول ذاتٍ باطنةٍ بصورة مُطلَقة، وهي التي لم تكن تنتمي إلى مارتن لوثر بل إلى وليم شيكسبير. وقد سمح شيكسبير بشيء أشبه كثيرًا بالانصهار بين هاملت ونفسه في الربع الثاني من التراجيديا، وهو الذي يبدأ بوصول الممثلين في المشهد الثاني من الفصل الثاني، ويستمر إلى آخِر تظاهُر هاملت بالجنون فرحًا عندما يفر كلوديوس من مشاهدة مصيدة الفئران في المشهد الثالث من الفصل الثالث.

لقد أَلِفْنَا مسرحية هاملت أُلْفَةً زادت عن الحد فأصبحنا نتجاهل بعض ملامحها الرائعة الغريبة، فالواضح أن أمير الدنمارك كثيرًا ما يَتهرَّب من جامعة وتينبرج ويغشى مسارح لندن، وهو يحرص على أن يَسمَع آخِر الشائعات و«الألعاب النارية» في عالم المسرح الشيكسبيري، ويُسعِده أن يعرف أحدث الأنباء من مُمثِّل دور الملك. وهكذا يسأل هاملت سؤالًا يتعلق بوضوح بشيكسبير وفرقته المسرحية، قائلًا «هل يَتمتَّع الممثلون بما كانوا يُحاطُون به من تقدير أثناء وجودي في المدينة؟ ألا ينعمون بإقبال الجمهور؟» ويشعر النظارة في مسرح الجلوب بالفكاهة فيُقَهْقِهون عندما يجيب روزنكرانتس: «لا بل لم يَعُودوا كذلك!» وكانت حرب المسارح تُنَاقَشُ بحيوية كبيرة في قصر إلسينور، على مَقرُبة شديدة من مسرح الجلوب وفي الشارع نفسه. ويحدث شيء يثير عجبًا أكبر بعد برهة قصيرة عندما يَتحوَّل هاملت إلى شيكسبير، ويَحُض الممثلين على أن يلتزموا بالنص المكتوب. وهكذا لا يُصبِح الشرير الحقيقي في المسرحية كلوديوس، بل يصبح الممثل «ول كيمب» الذي يلعب دور المُهرِّج، وتصبح تراجيديا الثأر وسيلة انتقام شيكسبير من الممثلين الضعفاء. وعندما تنعَى أوفيليا تَدهوُر حال هاملت، نجد أنها تبكي فيه رَجُل البلاط والجندي وطالب العلم، كما سبق أن ذكرت، وربما كان ينبغي أن تضيف كونه كاتبًا مسرحيًّا وممثلًا ومديرًا للمسرح، إلى جانب كونه باحثًا في الميتافيزيقا وعلم النَّفس واللاهوت العلماني. إذ إن أشد الأبطال تَنوُّعًا (أو الأبطال الأشرار في نظر البعض) كان يهتم بالمسرح اهتمامًا يفوق اهتمام جماع الشخوص الشيكسبيرية الأخرى. إذ لا يرى هاملت أن تمثيل دورٍ ما يُعتَبر مجازًا من نوع ما، وليس طبيعة ثانية، بل إنه موهبة هاملت الأصلية. وعندما يصبح فورتنبراس مُطالَبًا بتكريم هاملت تكريمًا عسكريًّا لأنه، لو قُدِّر له أن يعتلي العرش، لاستحق هذا التكريم، يخطئ خطأً واضحًا، فلو قُدِّر لهاملت أن يعيش، جالسًا على العرش حينًا، واقفًا خارجه حينًا آخر، لكتب مسرحية هاملت، ثم واصل العمل فكتب عطيل، والملك لير، ومكبث، وأما بروسبرو، الذي يعتبر فاوستوس الشيكسبيري الذي حقق لنفسه الخلاص، فكان يمكن أن يكون رؤيا هاملت الإشراقية الأخيرة.

كان يمكن لشيكسبير أن يصبح كل واحد ولا أحد في الوقت نفسه، على نحو ما يقول بورخيس، ولكنه — اعتبارًا من الفصل الثاني، المشهد الثاني حتى آخِر الفصل الثالث، المشهد الثالث، — لا يمكن التمييز بينه وبين هاملت إلا إذا فَصلْتَ بين الأمير وبين المُمثِّل كاتب المسرح، وعلاقة هاملت بشيكسبير تشبه على وجه الدقة موقف ذلك الكاتب المسرحي بمسرحيته هاملت الأصلية، ولنا أن نقول إن الأمير يُنقِّح الحياة العملية لشيكسبير مثلما يُنقِّح الشاعر دَور بطله فيجعله أميرًا. لا يمكن أن يكون من قبيل المصادَفة أننا لا نستطيع أن نجد في أي عمل شيكسبيري آخر، أن هذا الشاعر يُخاطِر بالمَزْج عمدًا بين الحياة والفن. فالسونيتات تجسد إحساس قائلها بالنَّبْذ، وهو شديد الشبه بالنَّبْذ الذي حطَّم فولسطاف، ولكن شيكسبير لا يسمح بأن تتدخل حياة المسرح في هنري الرابع/٢. ولا معنى لأن يتحدث الإنسان عن «التدخلات» في هذه «القصيدة غير المحدودة» — أي هاملت — لأن كل شيء فيها يعتبر، ولا يعتبر، تداخلًا. إذ من الممكن توسيع المسرحية بحيث تتكون من جزأين؛ لأنها تستطيع استيعاب المزيد من اهتمامات شيكسبير المهنية. فعندما ينصح هاملت الممثلين ويعلمهم، نجد أنه ملتزم هو والمسرحية بدورهما المرسوم: فإن مصيدة الفئران ذات صلة طبيعية بعالَم مسرحية هاملت، مثل المبارزة الزائفة التي نَظَّمها كلوديوس بين هاملت ولايرتيس.

ولكن ما الذي نعرفه من ذلك عن هاملت ووجوده قبل بداية المسرحية؟ لا نستطيع أن نتجاهل المعلومات التي تقول إن هذا الرجل كان دائمًا مرتبطًا بالمسرح، بصفته ناقدًا ومراقبًا، وربما باعتباره كاتبًا فعليًّا للمسرح لا مجرد قادر على الكتابة المسرحية. و«التصدير» في حالة هاملت من شأنه أن يوضح لنا أكبر مفارقة لديه، وهي أنه، من زمن طويل قبل مقتل أبيه وإغواء كلوديوس لوالدته، كان بالفعل عبقريًّا مسرحيًّا يُمَسْرِحُ نفسه، وقد دفعه إلى ذلك احتقار فعل التكلم أو التلفظ بما سبق أن مات في قلبه. والوعي الذاتي الهائل لهذه الشخصية الكارزمية كان يمكن أن يؤدي إلى حدث خطر، أو نزعة قتالة تتنبأ بمكبث، لولا توافر التنفيس عنها من خلال العمل المسرحي. أي إن صفات هاملت [التي أوردتها أوفيليا] أي كونه من رجال البلاط، وجنديًّا، وطالب علم، صفات ثانوية، فهو في المقام الأول شخص فذ «ويدرك ذلك»، فهو كاتب مسرحي من الأسرة المالكة ويرى أن «التمثيلية خير سبيل» بكل معاني التعبير. وتَتفرَّد هاملت بين جميع أعمال شيكسبير بأنها مسرحية المسرحيات؛ لأنها مسرحية المسرحية. لا يمكن أن تنجح نظرية درامية في مساعدتنا على قبول أي شيء بعد الأحداث الواقعة من الفصل الثاني، المشهد الثاني حتى آخر المشهد الثالث من الفصل الثالث، إذا أدركنا أن كل شيء سابق أو لاحق في هاملت لهذه الأحداث يُعتَبَر مقاطعة لها، فإن سر هاملت ولغز شيكسبير يرتكزان فيهما.

رصد خلفية شيكسبير عَملٌ مُضْنٍ لا غناء فيه لأنه لا يقدم أي شيء يساعد على تفسير التفوق الهائل لشيكسبير على معاصريه، حتى أفضلهم مارلو وبن جونسون. فإن فاوستوس عند مارلو شخصية كرتونية، وأما فاوستوس عند شيكسبير فهو بروسبرو. ويتخذ الدكتور فاوستوس عند مارلو عفريتًا تابعًا له هو مفيستو فيليس [الشيطان] الذي يُعتَبر شخصية كرتونية أخرى. وأما آرييل، «العفريت» التابع لبروسبرو، فإنه على الرغم من كونه بالضرورة غير بشري، ذو شخصية إنسانية تكاد تتسم بصفات مميزة لها مثل صفات المجوسي العظيم. والذي كان شيكسبير يشترك فيه مع عصره قادر على أن يشرح كل شيء عن شيكسبير إلا الخصائص التي جعلته يختلف عن زملائه في الدرجة اختلافًا هائلًا إلى الحد الذي جعله يختلف آخِر الأمر اختلافًا نوعيًّا عنهم. ويبدأ «التصدير» لشخوص شيكسبير بملاحظة ما يذكره شيكسبير عنهم بصورة مضمرة، لكنه لا يُمكِن أن ينتهي بتجميع ما يُوحون به عند شيكسبير. نستطيع أن نصل إلى بعض التكهنات، خصوصًا عن هاملت وفولسطاف، اللذين يعيشان، فيما يبدو، وبصور كثيرة عند حدود وعي شيكسبير الخاص. وحتى إن تكن الأدوار الشيكسبيرية المتاحة [للنظر فيها] قليلة — هاملت، وفولسطاف، وروزالند، وياجو، ومكبث، ولير، وكليوباترا — فإننا نستطيع أن ندرك إمكانياتها التي لا نهاية لها، لكننا لا نستطيع أن نتفوق على استعمال شيكسبير لها. ففيما يتعلق بالملك لير — وإلى حدٍّ أقل بعطيل وأنطونيو — نشعر أن شيكسبير يسمح لنا بمعرفة حدودهم، في إطار ما سماه تشيسترتون «الأرواح العظمى المغلولة». وربما كان تشيسترتون المناصر لفولسطاف يرى أن هاملت شخصية من هذا النوع؛ إذ إننا إذا نظرنا بمنظور كاثوليكي وجدنا أن هاملت (وبروسبرو) من الشخصيات التي تتعذب كي تتطهر، في أحسن حالاتها، ودانتي لا «يصدر» إلا دانتي الحاج، وسائر الآخرين لديه لم يعودوا قادرين على التغيير، ما دامت الأرواح الموجودة في المطهر لا تستطيع إلا أن تنعم بالتهذيب، لكنها لا تستطيع أن تتغير تغييرًا جوهريًّا. وفن التصدير عند شيكسبير هو الذي يتيح لرجاله ونسائه التغيير إلى حدود مدهشة، حتى في اللحظات الأخيرة، مثلما نشهد تغيير إدموند في آخر مسرحية الملك لير. فإذا لم يتوافر لك التصدير الكافي، لن تقدر أبدًا على أن تسترق السمع حقًّا لذاتك.

يعتبر شيكسبير أستاذًا عظيمًا في تصوير البدايات، ولكن ما البُعد الزمني الذي يمكننا الإحساس بوجوده قبل بداية المسرحية؟ إن بروسبرو يضع تصديره لمسرحية العاصفة في محادثته المبكرة مع ميراندا، ولكن هل تبدأ الدراما حقًّا بطرده من ميلانو؟ إن معظمنا يقول إنها تبدأ بالعاصفة التي أصبحت — بغرابة — عنوان المسرحية، وهي عاصفة تنتهي بعد الفصل الأول. ولما لم يكن بالمسرحية حبكة تذكر — وأي تلخيص لها يؤدي إلى الخبل — فنحن لا نعجب حين يقول لنا الباحثون إن الحبكة لا مصدر لها. ولكن التصدير يبدأ باختيار شيكسبير اختيارًا دقيقًا لاسم بطله بروسبرو، فهو الترجمة الإيطالية للاسم اللاتيني فاوستوس أي «المصطفى». وربما كان شيكسبير يعرف مثل مارلو أن فاوستوس بدأ باعتباره الكُنْيَةَ التي اتخذها سايمون ماجوس السامري عندما ذهب إلى روما، حيث هلك أثناء مسابقة للطيران، يتعذر احتمال وقوعها، مع القديس بطرس. ومن أغرب الأشياء أن تصبح العاصفة صورة شيكسبير لمسرحية الدكتور فاوستوس، التي تختلف اختلافًا شاسعًا عن آخر مسرحية كتبها مارلو. ولنتصور كم يتشتت انتباهنا لو أن شيكسبير سمَّى الساحر فاوستوس بدلًا من بروسبرو. ولا يوجد شيطان في العاصفة، إلا إذا أقمت الحجة على بروسبرو حتى يعتبر كَالِيبان المسكين شيطانًا، أو على الأقل ابن شيطان بحري. والتصدير الخاص بالعاصفة في نهاية الأمر يكمن في اسم الساحر فيها؛ إذ إن استبداله بفاوست يعني أن المسيحية لا ترتبط بصلة مباشرة بالمسرحية. والتمييز بين السحر «الأبيض» والسحر «الأسود» ليس قضية أساسية، فإن فن بروسبرو فن معارض لبيع الروح وسقوطها مثل فن فاوستوس.

إن هاملت وبروسبرو وفولسطاف وياجو وإدموند قد نشئُوا جميعًا من خلال زمن سابق يُعْتبَر في ذاته خلقًا مضمرًا لتخيلات شيكسبير. وإذا كان هاملت وبروسبرو يتصوران وجود حساسيات حالكة سبقت فاجعتيهما، فإن فولسطاف يوحي بانطلاق مُبكِّر لِلَّماحية، في حين اتجه هاملت إلى المسرح واتجه بروسبرو إلى السِّحر الهِرْمِسي. واليأس النابع من التفكير العميق إلى حدٍّ أكبر مما ينبغي، وبسرعة أكبر مما ينبغي، يأس يشترك فيه، فيما يبدو، هاملت وبروسبرو، وأما فولسطاف، الجندي المحترف، فلقد سبق له من زمن بعيد أن اكتشف حقيقة الفروسية وأمجادها [الزائفة]، ومن ثم فقد قرر بعزم وإصرار أن يمرح ويفرح ولا يقرب اليأس. وهو يموت بسبب الحسرة، طبقًا لما يقوله زملاؤه الأوغاد، وهكذا فإن نَبْذَ هال له يبدو المُعادِل الفولسطافي لرفض هاملت للحياة نفسها ورفض الحياة له.

ومن المناسب فيما يبدو أن أختتم هذا الكتاب بفولسطاف وهاملت، وما داما يُمثِّلان أكمل صور الشخصية الإنسانية الممكنة عند شيكسبير. فسواء كُنَّا ذكورًا أو إناثًا، مُسِنِّين أو شبابًا، فإن فولسطاف وهاملت يتحدثان باسمنا وإلينا في عجلة. فهاملت يمكن أن يكون تعاليًّا أو ساخرًا، وفي الحالين يبدي قدرة مطلقة على الابتكار. وأما فولسطاف، في أشد حالاته تَفكُّهًا وأشد حالاته تأملًا، فإن مبدأ الحيوية لا يَتخلَّى عنه قط، وهو الذي يجعله ذا حياة تستعصي على التصديق. وعندما نشعر باكتمال إنسانيتنا ونعرف أنفسنا حق المعرفة، فإننا نصبح أشبه ما نكون إما بهاملت وإما بفولسطاف.

١  انظر دحض هذا الرأي في الهامشين الموجودين في [الفصل الرابع والعشرون – ٣] من هذا الكتاب، وتفنيد حجة المؤلف تفصيلا في الهامشين ٣، ٤، لكن ذلك لا ينقض القول بالحذف؛ فإن شيكسيبير يعتمد على فطنة القارئ في افتراض بناء عطيل بزوجته، فهو يحذفه لدواعي اللياقة والصنعة المسرحية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤