تصدير المترجم

هذا كتابٌ نحتاجه في عصر المناهج العلمية البينيَّة، الذي اختلفت فيه دراسةُ الأدب باعتباره نشاطًا إنسانيًّا يشارك الفنونَ البشرية الأخرى جَماليًّا بقدرِ ما يُشارك العلوم الإنسانية منهجيًّا، وكان من آثار ذلك أنْ توارى الاهتمامُ بالذائقة الفنية أو كاد، في مقابل التركيز على الجوانب الفكرية التي لا يقتضي درسُها ذائقةً خاصة مهما تبلغ قوةً أو ضعفًا، فأصبحت المناهج التاريخية والسوسيولوجية والأيديولوجية غالبةً على دراسة الأدب؛ محاكاةً لأتباع النظرية الفرنسية وحدها، وكانت النتيجة أننا أصبحنا نُهمل تنمية الذائقة من خلال الدراسة النصية واللُّغوية أساسًا، ناظرين إلى «ما وراء النص»، وبذلك نشأ ما يكاد يصبح جيلًا كاملًا لا يكترث للقيم الإنسانية الجمالية التي تجعل الأدبَ أدبًا، بقدر ما يبحث في تاريخ النص أو أيديولوجياته، وعلى مرِّ السنين لم يَعُد أفراده قادرين على التمييز بين الغثِّ والسمين؛ فالعبرة لديهم بالأفكار ولو كانت في نصٍّ هزيل لا يرى فيه أصحابُ الذائقة الناضجة فنًّا رفيعًا، سواءٌ كان ذلك لضعفٍ في الرؤية الإنسانية للكاتب، أو لعدم نُضج أداته الفنية، فغدَوْنا نُفاجأ بمئاتٍ بل بآلافٍ من صغار الكُتَّاب الذين لم يُحكِموا لا الرؤية ولا الصنعة (خصوصًا من العالم الجديد) وندرسهم باعتبارهم أدباءَ ناضجين، ولا عجب في هذا؛ فدارسو الآداب الأجنبية عندنا لم يتلقَّوا التدريب الكافيَ على قراءة النصوص وتحليلها وطرائق الحكم عليها فنيًّا، مكتفين بآراء النقاد الغَرْبِيِّين النظرية التي أَمْسَوْا يُردِّدونها كالببغاوات.

ومَردُّ حاجتنا إلى هذا الكتاب أنه يُشجعنا على أن ننظر في سببٍ من أسباب تفوق شاعر مسرحي مشهود له بالعمق، ألا وهو تصويره للإنسان من حيث هو كيانٌ حي كامل، لا مجرد «شخصية» ينقل إلينا الكاتبُ من خلالها نظرتَه للدنيا أو فكره، مهما يكن أصيلًا، وهو منهجٌ يذكرنا بمنهج عالم النفس يونج الذي كان يرفض اعتبارَ أيِّ «مريض» نفسيًّا مجرد مريض، بل يُصر على اعتباره إنسانًا أولًا وقبل كل شيء وتصوير الإنسان على نحوِ ما أصبحنا نعرفه في الأدب الحديث، الأجنبي والعربي، لا ينتمي ببساطةٍ كما يتصور بعضُنا إلى فن الصنعة، بل ينتمي في المقام الأوَّليِّ إلى موهبة الكاتب التي تجعله يرى في الإنسان — في ذاته وفي حياته الخاصة والعامة — ما لا نرى أو ما نُبصره ولا نتوقَّف عنده. فنحن نجد لذةً في اكتشافِ أشياءَ في أنفسنا لم نكن واعين بها حين نقرأ نجيب محفوظ، أو يوسف إدريس، أو دستويفسكي، أو تشيخوف، أو شيكسبير. وقد يتفاوت أسلوب الكشف عن هذه الخبايا أو الظواهر التي يفوتنا إدراكُها تفاوتًا يرجع إلى «طريقة» الأديب في النظر إلى الدنيا وتحليلها أو ما يُسمَّى «رؤيته للعالم» بقدرِ ما ينتمي إلى تدريبه اللُّغوي وإحاطته بدقائق التعبير وألوان الصَّوْغ؛ أي إن التصوير يبدأ بالرؤية ويتوسَّل بالجماليات، وتتفاوتُ هذه جميعًا تفاوُتَ أبناء البشر بين أنفسهم.

هذا الكتاب يركز إذن على أساليبِ بناء الشخصية الإنسانية عند شيكسبير، مركِّزًا على ما يَعنيه بالإنسان، وكيف نجح شيكسبير فيما لم ينجح فيه معاصِروه الذين تعرَّضوا للظروف التاريخية نفسها، وللظواهر الاجتماعية والفكرية والدينية والسياسية ذاتها، بل مَن شاركوه بعضَ أفكار أو مَن تأثر بهم أو أثر فيهم، ولكنه اختلف بسبب الرؤية الفنية الكاشفة، والأداة الفنية الفعالة، فأبدع لنا ما يُسميه بلوم الشخصية الإنسانية ذاتِ الثراء والتنوُّع بفضل إحكامه للأداة التي ساعدَته على إخراج عمقِ الرؤية وخصوصيتها.

وقد تمكنتُ بفضل الله على مدى نصفِ قرن أو أكثرَ؛ من ترجمة أربعٍ وعشرين مسرحيةً لشيكسبير، إلى جانب سونيتاته الكاملة (١٥٤)، وأُرفق أسماءها فيما بعد، واعتمدتُ على ما ترجمتُه منها في تقديم النصوص التي يستشهد بها بلوم في هذا الكتاب نثرًا وشعرًا، وأما ما لم أُترجمه ويأتي بلوم بشواهدَ منه؛ فقد ترجمتُه خصوصًا لهذا الكتاب، إلا في الحالات التي أنصُّ فيها على اعتمادي على ترجمةِ غيري، والواقع أن ترجمات أعمال شيكسبير جميعًا متوافرةٌ في مشروع جامعة الدول العربية، ولكنها جميعًا منثورة، وتتفاوت في أساليب مترجِميها؛ ولذا فضَّلتُ أن أترجم ما يقتبسه بلوم؛ إنْ شعرًا أو نثرًا، مركِّزًا على إبراز ما يريد المؤلفُ إبرازه، ولم أشأ أن أضيفَ هوامش أو حواشيَ وإلا تضخَّم الكتابُ إلى ما يتجاوز تحقيقَ الغرض منه، وأما من يرغب في الاستزادة فأظنُّ أن ترجماتي وترجمات غيري كفيلةٌ بتزويده بما يريد.

محمد عناني
القاهرة، ٢٠١٨م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤