الفصل الأول
كوميديا الأخطاء
كوميديا الأخطاء أقصرُ مسرحيات شيكسبير وأشدُّها
اتسامًا بالوحدة، ويرى الكثير من النقاد أنها أول مسرحية يكتبها، ولكنني أشكُّ في صحة
ذلك؛ فإنها تشهد على قدرٍ من المهارة بل ومن التمكُّن — في الحدث، وتطوير الشخصية
وتقنية المسرح — أكبر كثيرًا مما نشهده في المسرحيات الثلاث التي تحمل اسم الملك
هنري السادس، بل والكوميديا الضعيفة التي كتبها
في مرحلةٍ متأخرة بعنوان سيدان من فيرونا. صحيحٌ أن
الكوميديا تُتيح لشيكسبير الحرية في أن يكون ذاتَه منذ البداية، في حين أن ظل مارلو
يغشى المسرحيات التاريخية المبكرة (ومن بينها ريتشارد
الثالث وتايتوس أندرونيكوس)، وحتى لو
سلَّمنا بعبقرية شيكسبير في الكوميديا؛ فإن كوميديا
الأخطاء لا توحي للقارئ أو للمشاهد بأنها عملٌ مبتدئ؛ إذ تُمثل تطويرًا
وتعقيدًا رائعًا (وتقدمًا) على مسرحيات بلاوتوس، الكاتب الروماني للمسرحيات الكوميدية،
الذي يعرفه معظمُ روَّاد مسارحنا من خلال العرض الموسيقي المقتبَس منه بعنوان شيء غريب حدث في الطريق إلى المنصة. وقدم رودجرز وهارت
اقتباسًا رائعًا لمسرحية شيكسبير؛ إذ قدَّما مسرحية الشبان من
سيراكوزه التي اعتمدا في إعدادها على كوميديا
الأخطاء، مثلما انتفع كول بورتر فيما بعدُ بمسرحية ترويض الشرسة في إعداد مسرحية قبِّليني يا كيت.
ففي كوميديا الأخطاء يجمع شيكسبير بين مسرحيةٍ
لبلاوتوس بعنوان الأخوان منايكموسه [الجمع منايكمي] وبين لمحاتٍ أخرى من مسرحية للمؤلف نفسِه بعنوان
أنفيتريون بحيث يقدم لنا تركيبًا عبثيًّا رائعًا
لمجموعةٍ تضم توءَمَين من السادة وتوءمَين من الخدم. ونحن في اليونان، في مدينة إفسوس
(التي سوف نعود إليها في أواخر حياة شيكسبير في مسرحية بيريكليس) ولا نُغادرها قط، في هذه المسرحية التي يحرص شيكسبير على
ضغطِ أحداثها في الزمان والمكان (فلا تزيد عن يومٍ واحد). يصل أنتيفولوس السيراكوزي إلى
إفسوس مع عبدٍ يخدمه اسمه دروميو، وتوءمه أنتيفولوس الإفسوسي له عبدٌ يحمل اسم دروميو
أيضًا في إفسوس، وكلٌّ منهما توءمان متطابقان. والتاجر السيراكوزي يصلُ إلى إفسوس لا
لعملٍ تِجاري، بل في مهمةٍ عائلية؛ إذ يريد كلٌّ منهما العثورَ على شقيقه التوءم. وهذا
المطلب هو الذي يَنشُده تاجرٌ من سيراكوزه يُدعى إيجيون، وهو والد التوءمين الذي يحمل
كلٌّ منهما اسمَ أنتيفولوس، ولكنه ما إن يدخل إفسوس حتى يُعتقَل باسم الدوق بل ويحكم
الدوقُ على إيجيون المنحوس بقطع رقبته عند غروب الشمس؛ فإن سيراكوزه وإفسوس بينهما
عداوةٌ شديدة، وهو ما يجعل فاتحةَ المسرحية ذاتَ قعقعة مجلجلة لا تنتمي إلى بلاوتوس على
الإطلاق:
إيجيون
:
هيَّا يا سُولِينُوسُ تَقدَّمْ! عَجِّلْ بمَماتي!
فمصيرُ الموتِ نِهايةُ آلامِ حَياتي.
ويؤكد الدوق سولينوس بنبراتِ أسًى حازمةٍ لإيجيون أن رأسه سوف يُقطَع إلا أن دفع
فديةً قدرُها مائة مارك. وردًّا على أسئلة الدوق؛ يقصُّ إيجيون علينا حكايةً عجيبة شبهَ
خرافية عن تحطُّم سفينةٍ ما قبل ثلاثٍ وعشرين سنة، أدَّت إلى انقسام أسرته نصفَين،
وفصَلَت الزوجَ مع واحدٍ من كل توءمَين عن الزوجة ومعها الطفلان الآخَران. ويقول إيجيون
إنه قضى السنواتِ الخمسَ السابقة في البحث عن الثلاثة الذين فقَدهم، وإن حزنه الشديد
لعدم عثوره عليهم يُبرر استعدادَه، في بأسائه، للموت الذي حكَم به الدوق،
قائلًا:
لكنَّني أرى لدَيَّ راحةً إن كان ما رأَيتَ مِن قَضاءْ؛
إذْ إنَّ أحزاني تغيبُ عِندما تَغيبُ شمسُ اليومِ في المَساءْ.
وليست هذه نبراتِ الكوميديا، ناهيك بأحداث الهزلية التي لن تلبث أن
تُغرقنا! ولكن شيكسبير الذي سرعان ما أصبح أمهرَ كاتبٍ مسرحي في التلاعب بالمعاني
الدقيقة، يثبت في كوميديا الأخطاء قدرتَه الفائقة على
الجمع بين دلالتين متضادَّتين. فعلى الرغم من التشابُه الظاهر الكامل بين التوءمَين
أنتيفولوس، فإنهما يختلفان اختلافًا شديدًا في الباطن؛ فأنتيفولوس السيراكوزي يتَّسم
بطبعٍ شبه ميتافيزيقي؛ إذ يقول:
مَن يَطلُبْ منِّي أن أَنشُدَ ما يُرضِيني
يَطلُبْ منِّي ما لا أقدِرُ أن أحظى بِهْ؛
فَأنا في هذِي الدُّنيا أُشبِهُ قَطْرةَ ماءٍ
بمُحيطٍ تَطلُبُ قطْرةَ ماءٍ أُخرى!
مَنْ يَسقُطْ في الماءِ هنا بَحثًا عن صاحبهِ
(في خفْيَتهِ وتَطلُّعهِ) يُهلِكْ ذاتَهْ،
وكَذاكَ أنا إذْ أبحثُ عن أمِّي وأخي،
لكنِّي في طلَبي — ما أَتعسَني — أفقِدُ نفسي.
وهذه السطورُ التي يكثر الاستشهاد بها تُكذِّب انطباعاتنا الأولى
المعتادةَ عن كوميديا الأخطاء باعتبارها كوميديا
صاخبةً وحَسْب، مثلما تتجاوزُ حسَراتُ إيجيون، بوضوح، المواقفَ المتوقَّعة في
الهزليات.
وليس أنتيفولوس الإفسوسي شخصيةً ممتعة، إنْ قورن بتوءمه السيراكوزي، وهو الذي يختار
شيكسبير التركيزَ عليه. والواقعُ أن السيراكوزي ينتفع، إلى حدٍّ ما، في نظرنا، بما
يُحيره؛ أي بغرابةِ مدينة إفسوس. فما دامت رسالةُ القديس بولس إلى «مؤمني إفسس» تُشير
إلى «فنونهم الغريبة»؛ فإن الجمهور الواعيَ بالكتاب المُقَدَّس لا بد أن يتصور أن
المدينة (على الرغم من أنها بوضوح لندن في عصر شيكسبير) مكانٌ للسحر، فيما يبدو، أو أن
يعتبرها نوعًا من الأماكن الخرافية حيث يمكن أن يحدث أيُّ شيء، وخصوصًا للزوار. وهكذا
فإن أنتيفولوس السيراكوزي، الذي فقَد نفسَه من قبلِ أن يدخل إفسوس، يصبح على وشك أن
يفقد إحساسه بهُوية ذاته أثناءَ تطور أحداث المسرحية.
ربما تتضمن كلُّ هزلية بُعدًا ميتافيزيقيًّا مضمرًا، ويبتعد شيكسبير عن بلاوتوس بأن
يجعل القلق [الميتافيزيقي] سافرًا. وتسير كوميديا
الأخطاء نحو العنف الجنوني، ولكن من دون أن يُضارَّ أحدٌ باستثناء
الدجال الذي يزعم إخراج العفاريت من الأجساد، وهو الدكتور بنش. إنها مسرحية لا يستطيع
أحدٌ فَهْم ما يجري فيها، حتى ولا الجمهور، إلا عند النهاية، وذلك عندما يقف الزوجان
من
التوائم — السيدان والخادمان — جنبًا إلى جنبٍ على خشبة المسرح. ولا يُلمح شيكسبير
للجمهور أن الكاهنة الإفسوسية (وهي فيما يبدو من كاهنات ديانا) هي الوالدة المفقودة
للتوءمين أنتيفولوس حتى تُقرر بنفسها الإفصاحَ عن هُويتها. ولنا أن نتساءل، إذا
أرَدْنا، عن سبب إقامتها في إفسوس ثلاثًا وعشرين سنةً من دونِ إفصاح لابنها الذي يُقيم
في المدينة نفسِها عن هُويتها، ولكن هذا التساؤل مرفوضٌ شكلًا، مثل التساؤل عن سبب
ارتداء التوائم ملابسَ واحدة في يوم وصول توءمَي سيراكوزه؛ إذ إنَّ مِثلَ هذه الغرائب
تُمثل ما تفترضه كوميديا الأخطاء حيث تكاد الحدودُ
تتلاشى بين المستحيل وغير المحتمل.
وعلى الرغم من المتعة الصاخبة التي نجدُها، بل لا بد أن نجدها، في هذه المسرحية
الصغيرة المتأجِّجة، فإنها أيضًا من نقاطِ انطلاق شيكسبير نحو إعادة ابتكار الشخصية
الإنسانية. فعلى الرغم من أن الدور المسرحي في الهَزْلية لا يبدو مجالًا للتأمُّل
الباطن، فإن شيكسبير لم يحبس نفسَه قطُّ في تقاليد النوع المسرحي ولا حتى في أصوله،
ويُعتبر أنتيفولوس السيراكوزي صورةً «مبدئية» لأعماق الذات ومَهاويها التي سوف نشهدها
فيما بعد. فحتى حين يُفكر في القيام بنزهةٍ سياحية، يقول التوءم الزائر: «سوف أمضي
لأفقد ذاتي/وأتجوَّل رائحًا غاديًا لمشاهدة المدينة.» والواقع أن المرء لا يفقد نفسَه
إذا اكتشف أنه في كوميديا الأخطاء التي لا تُمثل
قطعًا أُمْثولةً مسيحية. وفي ختام المسرحية يبتهج الخادمان [واسم كلٍّ منهما دروميو]
للتلاقي، وأما الاستجابة المتبادَلة للتوءمين الآخَرين [واسم كلٍّ منهما أنتيفولوس] فهو
غامضٌ مبهَم، على نحوِ ما سوف نرى. إن رد فعل التاجر الإفسوسي الغاضب بسبب الشكِّ في
هُوية ذاته المؤكدة، يختلف اختلافًا شاسعًا عن حرارةِ تودُّد أنتيفولوس السيراكوزي إلى
لوسيانا، أختِ زوجة أخيه.
يا حُلْوَة! لا أعْرِفُ إلَّا هذا اسْمًا لَكِ يا حُلْوَة،
قُولي كَيْفَ عَرَفْتِ اسْمِي؟ يا عَجَبًا، وبأيَّةِ قُوَّة؟
فَلَدَيْكِ مَعَارِفُ وجَمَالٌ لَيْسَ تُدَانِيه المُعْجِزَةُ
الأَرْضِيَّة
بَلْ يَعْلُو فَوْقَ جَمَالِ الأَرْضِ الرَّبَّانِيَّة.
فَلْأَتَعلَّمْ مِنْكِ أيَا أَحْلَى إنْسَانْ،
فِكْرَ جَنَانٍ وكَلَامَ لِسَانْ،
ولْيَتَعَلَّمْ لَفْظِي الأَرْضِيُّ الأَخْرَقْ؛
لَفْظٌ تَخْنُقُهُ الأَخْطَاءُ ضَعِيفٌ بلْ ضَحْلٌ أَحْمَقْ،
كيْفَ يَنَالُ مَعَانِيَكِ المُضْمَرَةَ الأَحْذَقْ؟
لِمَ تَجْتَهِدينَ لإِنْكَارِ الإخْلَاصِ برُوحِي الأَصْدَقْ؟
حتَّى يَشْرُدَ بمَجَاهِلِ حَقْلٍ مَمْدُودْ،
هَلْ أَنْتِ إلهٌ مَعْبُودْ؟
هَلْ تَبْغِينَ إذَنْ لي خَلْقًا بالحَقِّ جَدِيدْ؟
وإذَنْ فلْأُمْسَخْ في الحَالِ إذَا حَوَّلْتِ كِيَاني،
وأُسَلِّمْ آنَئِذٍ لَكِ بالسُّلْطَانِ،
أمَّا إنْ كُنْتُ أنَا سَأَظَلُّ أنَا،
فَأَنَا أَعْلَمُ عِلْمَ يَقِينْ،
أنَّ شَقِيقَتَكِ البَاكِيَةَ هُنَا
لَيْسَتْ زَوْجًا لي أوْ أيَّ قَرِينْ.
وأنَا لَا أَمْلِكُ حَقًّا في أنْ أَقْرَبَ مَضْجَعَها؛
ما دُمْتُ أُحِبُّكِ حُبًّا يُزْرِي بمفَاتِنِ مَخْدَعِهَا،
يا حُورِيَّةَ بَحْرٍ أَرْجُو ألَّا أَسْمَعَ مِنْكِ غِنَاءً،
يُغْرِقُنِي في دَمْعِ تَذْرِفُهُ الأُخْتُ هَبَاءً،
إنْ شِئْتِ تَغَنَّيْ يا حُورِيَّةُ ولِنَفْسِكْ،
ولَسَوْفَ أَهِيمُ غَرَامًا بِكِ وَحْدَكْ،
ولْتُنْشَرْ فَوْقَ الأَمْوَاجِ الفِضِّيَّة
خُصُلَاتُ الشَّعْرِ الذَّهَبِيَّة،
ولْأَصْحَبْكِ بهِ كفِرَاشٍ نَرْقُدُ فِيه معًا،
في هذَا الوَهْمِ الرَّائِعِ جَمْعًا،
وأَقُولُ إذَنْ: مَنْ ماتَ بِهذَا الأُسْلُوبِ غَنِمْ،
ولْيَغْرِقْ رَبُّ الحُبِّ لخِفَّتِهِ إنْ غَاصَتْ في اليَم.
ويكمُن العامل المؤلم هنا، في جانبٍ منه، في استماتةِ المطلب؛ إذ يقع
أنتيفولوس السيراكوزي في الحب حتى يُعيد العثورَ على ذاته، وهو ما يُبشر بنسق العشق
الذي سوف يتعرَّض للسخرية منه بأسلوبٍ بشوش في خاب سعي
العشاق، ففي تلك المسرحية يتجاسر بيرون
(Berowne) ذو اللماحية اللاذعة على إضفاء العلمانية
على المُفارقة المسيحية التي يتفاداها شيكسبير في كوميديا
الأخطاء.
فَلْنَخْسَرْ يَوْمًا هذِي الأَيْمَانَ لِنَكْسِبَ أَنْفُسَنَا،
ذاكَ وإلَّا نَخْسَرُ أَنْفُسَنَا كي نُوفي بالأَيْمَانْ،
فَمِنَ الدِّينِ الحِنْثُ بهذَا القَسَمِ،
والإحْسَانُ يُحَقِّقُ شَرْعَ الله،
هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ أنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الحُبِّ وبَيْنَ
الإحْسَانْ؟
(خاب سعي العشاق،
٤ / ٣ / ٣٥٨–٣٦٢)
وليس هذا على وجه الدقة ما كان يقصده القدِّيس بولس بقوله «من يحب غيره
يتبع شرع الله» ولكن خاب سعي العشاق لا تلتزم بأقوال
القديس بولس أكثرَ ممَّا تلتزم بها كوميديا الأخطاء.
فإن أنتيفولوس السيراكوزي لا يُحب لوسيانا من أجل تحقيق شرع الله، ولا حتى تحقيق كيانه
المفقود، بل لينجحَ في التحوُّل؛ أي: لكي يُخلَق من جديد. ولكن شيكسبير لا يتركنا وقتًا
طويلًا في هذه القعقعات، بل ينتقل إلى الفكاهة في حوارٍ بين أنتيفولوس السيراكوزي
ودروميو حول نِلْ، خادمة المطبخ التي اختلط عليها الأمر فتصورَت أن دروميو المذكور،
الزائر، هو زوجها دروميو الإفسوسي. والسيدة نلْ ذاتُ خاصرة مستفيضة، توحي بتخرُّصات
جغرافية عجيبة:
[أ = أنتيفولوس، سيرا = سيراكوزي، ود. = دروميو، في الحوار التالي]:
أ. سيرا
:
إذن فهي عريضة؟
د. سيرا
:
ليس من الرأس إلى القدم، بل من ردفٍ لردف؛ فهي مُدوَّرة كالكرة الأرضية.
وأستطيع تحديدَ البلدان فيها.
أ. سيرا
:
في أيِّ جزء من جسمها توجد أيرلندا؟
د. سيرا
:
فعلًا يا سيدي، في الأرداف. واكتشَفتُها لوجود المستنقعات.
أ. سيرا
:
وأين اسكتلندا؟
د. سيرا
:
وجدتُها في الكفِّ الجرداء، ذات الخشونة.
أ. سيرا
:
وأين فرنسا؟
د. سيرا
:
في جبهتها، المسلَّحة الناكثة، تُحارب شعرها … ولي العهد!
أ. سيرا
:
وأين إنجلترا؟
د. سيرا
:
بحثتُ عن الصخور الطباشيرية، فلم أجد بها أيَّ بياض. لكنني أظن أنها قائمةٌ
في ذقنها، في المخاطِ المالح الذي يجري بين فرنسا وبينها.
أ. سيرا
:
وأين إسبانيا؟
د. سيرا
:
الحقُّ إنني لم أرَها، لكنني أحسستُ بحرِّها في أنفاسها.
أ. سيرا
:
وأين أمريكا وجزر الهند الغربية؟
د. سيرا
:
وجدتُها يا سيدي فوق أنفها، مُبالَغ في زينتها جميعًا بالياقوت الأحمر
والأزرق، والعقيق الأحمر [أي الدَّمامل الكبيرة]، وقد مال نَجمُها بسبب الأنفاس
الحارة من إسبانيا، التي أرسلَت أساطيلَ وسفنًا لضرب أنفها بالمدافع!
أ. سيرا
:
وأين بلجيكا وهولندا؟
د. سيرا
:
لا يا سيدي! لم أهبِط بالبصر إلى الأجزاء السُّفلى!
هذه المحاورة الرائعة تُلخص روح كوميديا
الأخطاء؛ فالضحك فيها دائمًا بريء، وأما مَشهد التعرُّف على هُويات
الأفراد فيعتبر أولَ مشهدٍ من نوعه تتلوه في المسرحيات الأخرى مشاهدُ مماثلة عجيبة، وهو
يدفع دوق إفسوس الذي شعر بالدهشة إلى أن يتأمل الموقفَ تأملًا عميقًا:
أقُولُ إنَّ واحدًا مِنَ اللَّذَيْن هَا هُنا
عِفْرِيتُ صَاحِبِهْ،
فمنْ هُوَ الإنْسِيُّ مِنْهُما؟ ومَنْ هُوَ الجِنِّي؟
مَنْ يَسْتَطِيعُ الفَصْلَ بَيْنَهُمَا؟
على الرغم من أننا لا نستطيع أن نقول إن أنتيفولوس السيراكوزي عفريتُ
أخيه أو الروحُ الراعية له؛ فإن إحدى الإجابات الممكنة لسؤال الدوق يمكن أن تقول إن
المتفرج الحصيف على المسرحية سوف ينسب «الروح» إلى الزائر، وإن «الإنسان الطبيعي» هو
التاجر الإفسوسي. أما شيكسبير الذي سوف يُتقن فنَّ الإيجاز [بالحذف] فيبدأ هنا بأن يجعل
التوءمَ أنتيفولوس لا يُبديان أية مشاعر تجاه جمع شملهما.
إن أنتيفولوس السيراكوزي يأمر خادمه دروميو قائلًا «عانِقْ أخاك هنا، ولْتفرَحا
جمعًا!» لكنه يخرج مع أخيه من دون عناق أو فرح. ولا شك أن أنتيفولوس السيراكوزي أشدُّ
اهتمامًا بملاحقة لوسيانا، مثلما يرغب أنتيفولوس الإفسوسي في العودة إلى زوجتِه،
ومنزلِه وتجارته. ومع ذلك فإن برود هذين الأخَوين أو عدمَ إبداء أية انفعالات أمرٌ لافت
بسبب تَضادِّه مع اجتماع الشمل الساحر بين دروميو وتوءمه، وهو الذي يختتمُ به شيكسبير
مَلْهاتَه بنغماتٍ عذبة:
دروميو السيراكوزي
:
في مَنْزِلِ سَيِّدكَ هُنَا صَاحِبَةٌ مُمْتَلِئَة،
أبْدَتْ تَرْحِيبًا بي في المَطْبَخِ أَثْنَاءَ غَدَائِي
اليَوْم؛
إذ حَسِبَتْنِي أَنْتْ!
مُنْذُ الآنَ سَتُصْبِحُ أُخْتًا لي لا زَوْجَة.
دروميو الإفسوسي
:
في ظَنِّي أنَّكَ لست أخِي بلْ مِرْآةٌ لي،
وأرَى فِيها أنِّي شَابٌّ حَسَنُ الطَّلْعَة،
هَلْ تَدْخُلُ حتَّى تَشْهَدَ حَفْلَ التَّعْمِيدْ؟
دروميو السيراكوزي
:
بَلْ أَنْتَ الأوَّلُ … أنْتَ الأَكْبَرُ.
دروميو الإفسوسي
:
ذلِكَ إشْكَالٌ كَيْفَ سَنَفْصِلُ فِيه؟
دروميو السيراكوزي
:
نَلْجَأَ لِلْقُرْعَة … وإلى أنْ يَحْدُثَ ذلِكَ فَلْتَتَقَدَّمْنِي.
دروميو الإفسوسي
:
كَلَّا واسْمَعْنِي، إنَّا جِئْنَا لِلدُّنْيَا أَخَوَيْنِ
مَعًا،
لَنْ يَسْبِقَ أَحَدٌ أحَدًا بل تَشْتَبِكُ أيَادِينَا
جَمْعًا.
(يخرجان.)
لقد عانى هذان المُهَرِّجان معاناةً طويلة، وتحمَّلا ضربًا كثيرًا من
الأخوَين أنتيفولوس، على امتداد المسرحية، ويتفاءل الجمهورُ حين يراهما خارجَين بهذه
الروح الطيبة. وعندما يقول دورميو الإفسوسي «وأرى في مرآتك أنِّي شابٌّ حسَن الطلعة»؛
فإننا نرى ذلك أيضًا، والمزدوج الختامي يفيض بالحب المتبادل الذي يغيب بوضوح عن الأخوين
أنتيفولوس، ومن العبث أن نُحمل كوميديا الأخطاء
بمسائل اجتماعية سياسية أو غيرها من الشواغل الأيديولوجية المعاصرة، ولكن شيكسبير يمسُّ
شَغاف قلوبنا منذ البداية بإظهار تفضيله للمهرِّجين على التجار.