الفصل العاشر

خاب سعي العشاق

١

لم تختلف الآراء في أي وقت تقريبًا حول أعظم مسرحيات شيكسبير، ولا يزال ذلك الاتفاقُ العامُّ قائمًا. فالنُّقاد والجماهير والقرَّاء العاديون، كلهم يُفضلون حلم ليلة صيف، وكما تحب، والليلة الثانية عشرة، من بين الكوميديات الخالصة إلى جانب تاجر البندقية أيضًا، على الرغم من الظلال الدَّكْناء التي يُلقيها شايلوك. وهنري الرابع بجُزأَيها تتمتع بشيءٍ من هذا التميز نفسِه بين المسرحيات التاريخية. وأنطونيو وكليوباترا تتنافس منافسةً حقَّة مع التراجيديات الأربع الرفيعة؛ هاملت، وعطيل، والملك لير ومكبث. ومن بينِ المسرحيات الرومانسية الأخيرة يُفضل الجميعُ حكاية الشتاء والعاصفة. ويُعْلي الكثيرُ من النقاد، وأنا منهم، شأنَ دقة بدقة بين الكوميديات المشكِلة.
ولكن لنا جميعًا ما نُفضله خصوصًا، في الأدب وفي الحياة، وأنا أجد في خاب سعي العشاق متعةً صافية تَزيد عمَّا أجده في أية مسرحية أخرى لشيكسبير. ولا أستطيع أن أزعم أن ذلك إنجازٌ جمالي؛ فهو يقف إلى جوار المسرحيات الأربع عشرة التي ذكرتُها لتوِّي، لكنني أنعمُ بوهمٍ يقول إن شيكسبير ربما كان يستمتع بحماسٍ خاص فريد في تأليف خاب سعي العشاق؛ فهي احتفالٌ باللغة، أو عرضٌ باهر للألعاب النارية، يبدو شيكسبير محاولًا أن يصل إلى آخِر حدود مَوارده اللُّغوية، ثم يكتشف ألَّا حدود لها. بل إن ميلتون وجيمز جويس، أعظم أساتذة الجَرْس اللفظي والدلالة في اللغة الإنجليزية بعد شيكسبير، تتفوَّق عليهما كثيرًا البراعةُ اللغوية في خاب سعي العشاق. ويؤسفني أنني لم أشهد إلى الآن عرضًا مسرحيًّا لهذه الكوميديا الحافلة يُقدم لنا روعتَها الصوتية، لكنني لا أزال آمُل أن يقوم مخرج عبقري بذلك.
وخاب سعي العشاق في ذاتها أوبرا، أكثرَ مما هي نصٌّ شعري يمكن أن يسمو بموسيقى الأوبرا وأصواتها، على الرغم من أن توماس مان يتصوَّر هذه التوليفة الخيالية في روايته الدكتور فاوستوس (١٩٤٧م)؛ ففيها نجد المؤلف الموسيقي الحداثي الشيطاني أدريان ليفرقون الذي يقول إن موسيقى خاب سعي العشاق يجب أن

تبتعد قدر الطاقة عن موسيقى فاجنر، وكذلك عن الشيطنة الطبيعية والطابع المسرحي للأسطورة، بل يجب أن تكون إحياءً لنوعِ أوبرا بوف [الفرنسية] بروح المحاكاة التهكُّمية المصطنَعة التي تسخر من كلِّ ما هو مصطنَع: أن تكون شيئًا شديد الهزل وشديد البلاغة في آنٍ واحد، وينبغي أن تهدف إلى السخرية من الزهد المصطنَع والبلاغة الطنَّانة التي كانت من ثِمار الدراسات الكلاسيكية. إنه تكلم بحماسٍ عن الموضوع، وهو الذي أتاح الفرصة للجمع بين الحقير و«الطبيعي» وبين السموِّ الكوميدي، بحيث يصبح كلٌّ منهما باعثًا للسخرية في داخل الآخر، إننا نشهد ما عَفا عليه الزمن من الحركات البطولية، والتفاخر والتباهي، وقواعد السلوك المتطرِّفة، وقد خرجَت وارتفعت قاماتُها من حقبٌ طواها النسيان، في شخص دون أرمادو، وهو الذي أعلن أدريان محقًّا أنه الشخص الأوبرالي الكامل.

الواقع أن مان يدرك جانبًا كبيرًا من نغمة خاب سعي العشاق وقالَبِها الفني، ولو أنه يُدرِج بعضًا من سخريته الخاصة في مسرحية شيكسبير، ولكن على الرغم من البهجة التي يشعُّها التدفُّق الحيوي للُغةِ شيكسبير في خاب سعي العشاق، فإنَّ في هذه الكوميديا عدةَ أنواعٍ مختلفة من السخرية، وبعضها ممَّا يتميز به مان فعلًا. إذ إن بيرون (Berowne)، بطل شيكسبير، رجل نرجسي ذو وعي متنبِّه يسعى إلى رصد صورته في أعين النساء ويُلاقي فاجعتَه في السيدة السمراء روزالاين؛ «فلديها كرتان من القار الأسود التصقتا في وجهها باعتبارهما عينَين». وقد حدَس الناس على مرِّ القرون بأن روزالاين ذاتُ صلة بالسمراء التي يتغزَّل فيها شيكسبير في السونيتات، وهو حدسٌ يؤيده غيابُ أي تبرير في نصِّ المسرحية لقلق بيرون من خيانة روزالاين له:
بيرون :
واهًا لي! إنِّي عاشق بحق!
أنا الذي كنتُ حربًا على الحب،
أنا المنتقم من كل عاشقٍ متأوه.
أنا الذي كنتُ أترصد للغلام كيوبيد ترصد الناقد،
بل ترصد الشرطي الذي يسهر الليل ليذبَّ اللصوص.
أنا الذي لم يكن يُطاولني أحدٌ في كبريائي!
لقد أصبحتُ ذليلًا أمام هذا الغلامِ
المعصوب العينَين الكليلِ البصر الكثير الآهات،
هذا الصغير الكبير والقزَم العملاق كيوبيد.
ربُّ القوافي التي تُدبَّج في نجوى الغرام،
ومولى العشَّاق اليائسين الضارعين،
الملك المتوَّج في دولة الزفرات والأنات،
سيد المتسكِّعين الخاملين والعابسين الساخطين،
أمير النساء وملك الرجال، وهو القائد الأعلى لعسَس الآداب!
وا حرَّ قلباه! لقد أصبحتُ ضابطًا في جيش كيوبيد،
أزدان بألوانه كأنني الطوق الملون في يدِ مهرج،
يا للمُنكر. أيقع مثلي في شِراك الغرام.
أيخطُب مِثلي ودَّ النساء، أيبحث مثلي عن زوجة،
وما الزوجة إلا التي لا تنفكُّ تُفسد وتطلبُ الإصلاحَ كالساعة الألمانية،
ومع ذلك فهي لا تنصلح أبدًا:
إنْ ترَكتَها تضبطك اعوجَّ سيرُها، ولا بد من ضبطها حتى تستقيم!
بل أفظع من كل هذا أن أخون العهد،
ومن هؤلاء البنات الثلاث لا أُتيَّم إلا بأسوَئِهن جميعًا.
الغانية اللَّعوب طلعتُها شاحبة وجبينُها ناعم كالمخمل،
وفي وجهها استقرَّت كُرتان من القار الأسود مكان العينَين.
أجل، بنتٌ تعرف طريقها إلى الفِراش،
ولو كان حارسها كيوبيد يريد أن يُطلقه على أرجوس،
وها أنا ذا أفتش عنها! وأتمنَّاها لنفسي،
وا مصيبتاه! إنه وباءٌ لأني لم أعبَأْ لصولته هذه الصغيرة الرهيبة الجبارة؛
فلسوف أحبُّ، وأنظم القَريض، وأملأ الدنيا بالزَّفرات.
سوف أصلِّي لها، وأعرضُ قلبي عليها، وأرسل في حبِّها الأنَّات.
وإذا كانت أبخسَ فلاحةٍ تجد من يبثُّها نجوى الغرام،
فمِن حق السيدة العظيمة أن تجد العاشقَ الولهان.١
(٣ / ١ / ١٧٠–٢٠٢)
وانتقام كيوبيد يتمثَّل في خيانة الزوجة؛ أي في جعْل الزوج ديُّوثًا (على نحوِ ما نرى في السونيتات) وشخصية روزالاين العُدوانية الغامضة تبدو لنا مِفتاحًا «لقصة السونيتات».٢ والذي يوحي لنا بالإلغاز في خاب سعي العشاق ليس جوَّ السحر المفترَض، بل العلاقة الخفيَّة بين بيرون وروزالاين، اللذَين نفترض أنَّ لهما تاريخًا سابقًا تحاشى شيكسبير أن يولِيَه الصدارةَ إلا في لمحاتٍ قليلة لذيذة مثل الحوار التالي الذي يدور بينهما في أولِ لقاء لهما في المسرحية:
بيرون : ألم أرقص معك في برابانت؟
روزالين : ألم أرقص معك مرةً في برابانت؟
بيرون : نعم. أنا متأكدٌ من ذلك.
روزالين : سؤالك إذَن في غير مَحلِّه.
بيرون : بديهتكِ سريعةٌ فاكبَحيها.
روزالين : أنت الذي لكَزتَها بأسئلتِك.
بيرون : ذكاؤك ملتهب. ذكاؤك راكضٌ بغيرِ زِمام، ولن يلبثَ أن يكل.
روزالين : ولن يكلَّ حتى يُلقِيَ براكبه في الرَّغام.
بيرون : كم الساعة الآن؟
روزالين : الساعة التي يحب أن يسأل عنها الحمقى.
بيرون : والآن، بُورِك في قِناعك.
روزالين : بل بورك في الوجهِ الذي يُخفيه.
بيرون : ولْيأتكِ كثيرٌ من العشاق.
روزالين : آمين، على ألَّا تكون أنت منهم.
بيرون : إذن سأنصرف.

إنَّ جوهر بيرون يكمن في ذلك السطر المعرب عن اللامبالاة، وهو الذي يقوله عندما يُقابل وصيفةً فرنسية في نافار «ألم أرقص معك مرةً في برابانت؟»

إن خاب سعي العشاق عنوانٌ رائع ودقيق، ولكن «ألم أرقص معك مرة في برابانت؟» يمكن أن يقوم بالمهمة نفسِها تقريبًا؛ ما دام يَشي بالحذلقة المبالَغ فيها في هذه الكوميديا. ويتَّسم الخطاب الافتتاحي الذي يوجِّهه ملكُ نافار إلى زملائه من «الباحثين في العلم»، وهم بيرون، ولونجافيل، وديمان — بجميع صفات الباروك الكوميدي:
فرديناند :
يبحث الناس جميعًا عن الشُّهرة طولَ الحياة،
أما نحن فنخلد في مَثوانا الذي تخطُّ عليه يدُ المجد
آياتِ البقاء في ألواحٍ من نُحاسٍ لا يَبْلى أبدًا،
وهكذا نُضيء في ظلمة الموت.
فمَسعانا في هذه الحياة يُنقذنا من مخالب الزمن
آكُل الجيف، وللزمن منجلٌ حدُّه بتَّار،
ولكن المجد يفلُّ منجلَ الزمن، ويورثُنا الخلود،
فيا أيها الغُزاة الشُّجعان، وإنكم حقًّا لَغزاةٌ شجعان،
يا من تَقْهرون شهواتكم وتُقاتلون ملذَّات العالم
وهي مِن حولكم كالجحافل الحاشدة، هكذا قضى
قضاؤنا الأخير، وهو نافذٌ أكيد،
أن تكون نافار عجيبةَ الدنيا.
ولقد جعلنا هذا البلاطَ مجمعًا للعلماء،
يسودُه الهدوءُ وتملؤه التأمُّلات، في كل فنٍّ من
الفنون الحية، علمٌ من العلوم الخالدة.
(١ / ١ / ١–١٤)
والملاحَظ أن الفصاحة الوهميَّة، بمفرداتها الضخمة الرنَّانة كالموت والزمن والحرب والرغبة، لا تنجح نجاحًا كاملًا في إخفاء الأغنية الباطنة الشيكسبيرية التي تكاد أن تجعل السطور الأربعة عشر سونيتة من النَّظْم غير المقفَّى، بحيث تُشبه العديد من السونيتات. وعلى الرغم من أن شيكسبير يحرص على إقامة مسافة بيننا وبين بيرون وباقي الشخصيات العجيبة في خاب سعي العشاق فيبدو أنه لم يستطع، أو لم يكن يريد إقامةَ مسافةٍ بين ذاته وبين روزالاين السلبية الساحرة. فعلى المستوى الرمزي، تُقيم المسرحيةُ تعارضًا بين رؤية بيرون لعيون النساء — وهي رؤيةٌ نصف بروميثية ونصف نرجسيَّة — وبين «كُرتَي القار الأسود» اللتين لا تَعكسان صورَ أحد، وقد الْتَصَقتا الْتِصاقًا ساحرًا بوجه روزالاين. ويعترض بيرون على تحريم نافار للاقتراب من النساء خلال فترة الدراسة التي سوف تستمرُّ ثلاث سنوات في الأكاديمية الصغيرة بتقديم عبادته الأوَّلية لعين الأنثى:
بيرون :
بل كل اللذَّات كاذبة،
وأكذَبُ اللذات هي التي نبتاعها بالألم،
فلا نرثُ منها غيرَ الألم.
انظر إلى الكتاب؛ كم يشقى فيه نورُ العين!
باحثًا عن نور الحق، ونور الحق يَعْشى نور العين.
نورٌ يبحث عن نور! فإذا النور يَروغ من النور،
وقبْلَما تتميَّز مكانَ النور من الظلمة
تَفقد عينَيك فيُظلِم نورُك.
فلْندرُسْ إذَن كيف نُبهج العينَ حقًّا،
وبهجة العين أن تلتقيَ بعينٍ أعظمَ منها فتنةً وجمالًا،
بهَر ناظرَه فلم يُبصر إلا العينَ مَصدرًا للنور،
ووهبَته العينُ النورَ الذي أعشاه.
فالعلمُ إذن كالشمسِ الباهرة في السماء،
لا يصلُ إلى جوهرِها مَن حمْلَق بوقاحةٍ فيها.
وهكذا لا يَجْني الباحثون الدَّائبون في كتبِ الغير
إلا رأْيَ الغير، ويا له من كسبٍ خَسيس!
وراصدُ الأفلاك مصابيحِ السماء،
الذي يَبتكر اسمًا لكلِّ نجمٍ ثابت،
لا ينعمُ بضياء الليل
أكثرَ ممَّا يَنعم به الساري الذي لا يعرف مِن أمره شيئًا.
ومَن أسرف في طلب العلم لم يجْنِ شيئًا سوى الشهرةِ الجوفاء.
فهو يقف عند المظهر دون الجوهر، ومظهرُ الأشياء في
متناوَلِ كلِّ إنسان.
(١ / ١ / ٧٢–٩٣)

وجوهر هذا كلِّه هو السطر ٧٧.

نورٌ يبحث عن نور! فإذا النور يَروغ من النور.

ويُفسر هاري ليفين هذا السطرَ قائلًا «إن الذِّهن يسعى إلى الحكمة، فيمنع نور العين أن يرى نورَ النهار» وهو تفسيرٌ صحيح للحُجة التي يُقيمها بيرون ضدَّ الدراسة في عُزلة. وتستغلُّ روزالاين ما يقوله بيرون عن «عينٍ أعظمَ منها فتنةً وجمالًا» في تحذير الفتيات الأُخرَيات منه قائلةً «إن عينه تلدُ المناسبة اللازمة للماحيَّته». ويستغلُّ شيكسبير ما تقوله المسرحية من أن الرجل يقعُ في الحب أساسًا بسبب الإثارة البصرية، على حينِ أن المرأة تقع في الحب بصورةٍ أدقَّ وأخفى وأشمل؛ فإنه يُتابع مسار الشبان الأربعة لديه الذين سحَرَتهم العيون وساء مَصيرهم أثناء سَعْيِهم للحصول على مَن يَنشُدون من الفتيات ذواتِ الحرص والمراوغة. ويتبيَّن بواييه، مستشار الأميرة الفرنسية، أنَّ نافار وقَع في حبها من أول نظرة:

ألم تَلْحَظيه؟ إن كلَّ ما له من قدرةٍ على التعبير
قد تركَّزَت كلُّها في ناظِرَيه؛ فهي تُفصح كلُّها عن هُيامه.
قلبه كالياقوتة التي نُقش عليها رسمُك.
وهو يزهو بهذا الطابَع،
وزَهْوُه يبدو في عينَيه،
فتعثَّر حين حاول مسرعًا أن يُسرع إلى عينه …
بل إن حواسَّه الخمس تركزَت كلُّها في بصره
حتى لا تُحس إلا أروعَ آياتِ الجمال.
بل يُخيَّل إليَّ أن حواسَّه قد حُبِسَت في عينَيه،
كأنها الجواهرُ في قُمقم من بِلَّور تعرض على أميرٍ لِيَبتاعها،
وقد عرضَت عليك وأنت أميرٌ مُترَف عابر في طريقك،
تُناديك أنِ اشتَريني.
ملامح وجهه مَلْأى بالعجائب،
حتى لقد رأت كلُّ الأعين مِن فرطِ ما تُحملقان مسحورتَين.
أنا أعطيك آكويتَين وكل ما يملك هذا السيد لو أنكِ قبَّلْتِه مرضاةً
لي قُبلةَ الحبيب
ولسانه لا يُطيق أن يُحرَم القدرة على النظرة كما هو قادرٌ على الكلام.
(٢ / ١ / ٢٣٤–٢٤٩)

وتعبير «إن حواسه الخمس تركزَت في بصره» تلخيصٌ موجز عن الاستبداد الجنسيِّ لعين الرجل، ويقول بيرون، في السونيتة التي أخطأ في توجيهها إلى روزالاين، إن عينها «تحمل برْقَ جوبيتر»، وهو اعترافٌ مؤسِف وماسوكي بما يُوحي به الذهنُ اللمَّاح في حُلم يقظة منثور. يقول بيرون:

إن الملك يصطاد الغِزْلان، وأنا مِثله أطارد قَنيصتي.
لقد نصَبوا شَرَكًا للغزال، ووقعتُ أنا في شَرَكِ الغَرام وفي شَرَك عينَيها السوداوَين بلون القار، وهذا القار يُلوثني، يلوثني؟ كلَّا. هذه كلمةٌ بذيئة.
مرحبًا إذَن بالأحزان. فهذا ما يقولون إنَّ المغفل يقول، وهذا ما أقوله أنا فأنا المغفَّل إذن. ما أصدقَ حُكمَك يا عقلي!
أُقسم بربي إن هذا الحبَّ يُشبه البطَل آجاكس في جنونه.
إنه مِثلَه يقتل الخِراف، وهو يقتلُني، فأنا إذن خروف.
ما أصدقَ حُكمك مرةً أخرى يا كبدي! لن أخضعَ للحب.
فإن خضَعت له اشنقوني. قسمًا بالله لن يُذِلَّني الغرام.
أواه! ما أجملَ عينَيها! أقسمت بهذا النور، لولا عيناها لما أحببتُها. بل لولا عيناها الاثنتان لما أحببتها.
وأنا لا عمَل لي في هذا العالم إلا الكذب، الكذب الصريح.
نعم، أُقسم بالسماء إنِّي عاشق، وإن العشق علَّمَني نظْمَ القوافي وعلَّمَ نفسي الأحزان.
وهذا بعضُ ما نظَمتُ من قَريض، وهذا بعضُ ما زفرتُ من أحزان.
نعم، إنَّ لديها الآن إحدى أُغنياتي: حمَلها المهرِّج وأرسَلَها المغفل وتسلَّمَتها سيدةُ الفؤاد.
فالمهرج حبيبي، والمغفل أحبُّ إليَّ منه، وسيدة فؤادي أحب إليَّ من الجميع.
أقسمت بالدنيا وما عليها، لستُ أحفلُ بالثلاث الأُخرَيات أصابَهن ما أصابني.
ها هو ذا رجلٌ قادم عليَّ يحمل ورقة.
أسأل الله أن يُيسِّر له زفَراته.
(٤ / ٣ / ١–٢٠)

وأما الثلاثة الآخرون فتتيسَّر لهم الزفرات التي تتَّخذ صورة شعرٍ غنائي؛ إذ يبدأ الملك بسونيتة عن أشعَّةِ عيون أميرة فرنسا، يَليه لونجافيل في سونيتة تحتفلُ بالبلاغة السماوية لعين حبيبته، ثم ديمان بأنشودةٍ لا تؤكِّد السيطرة البصرية إلى حدٍّ ما. وحين يتكشَّف لنا أن الباحثين في أكاديمية نافار الأربعة قد خانوا المثلَ الأعلى للزهد، يُلخص بيرون تحوُّلَهم المشتركَ إلى عبادةِ إيروس ربِّ الحب في حديثٍ يقول معظمُ الدارسين إنه الحديث الرئيسي في المسرحية. يقول بيرون:

وما العِلمُ إلا امتدادٌ لأنفُسِنا
يوجَد حيث نوجد. وإذَن فنحن نرى
نفوسَنا مَعكوسةً في عيونِ الغِيد،
ألَسْنا نرى فيها كذلك ما حصَّلْناه من عِلم؟
نعم يا سادتي، لقد أقسَمْنا أن نطلبَ العلم،
ومَن أقسمَ أن يطلب العلم فقد أقسم أن يَنبِذَ الكتب.
فهل وجد أحدُكم في تأمُّلاته المملَّة
ما أوحى إليه بمِثل هذه الأشعار الجيَّاشة
التي استلهَمْتموها من وحي العيون الفاتنة؟
وهي خيرُ مؤدِّبٍ لمن طلب غِنى النفس؟
إنَّ كل فن، ما خلا الحبَّ، يركد في العقل،
وحين لا يجد مَن يُمارسه يتكشَّف عقمه،
فلا يُثمر بشيءٍ يعادل ما نَبذلُه من جهدٍ مُضنٍ في تحصيله.
أما الحبُّ الذي تُلهمنا إياه أولَ ما تُلهم عيونُ الغيد،
فإنه لا يبقى سجينًا في العقل وحده،
بل يَسري في كَينونتنا المتحرِّكة
سَرَيانَ الفكرِ السريع في كلِّ قوة من قُوانا،
فتتضاعف به كلُّ قوة،
وتَزْكو به وظائفُ الملَكات.
فبالحبِّ يَقْوى في العين إبصارها،
وللعاشق عين إذا تفرَّسَت في النَّسر سقَط كفيفًا.
وبالحبِّ يَقْوى في الأذن سمعُها،
فللعاشق أذنٌ تتبيَّن أخْفتَ الأصوات
التي تعجز عن سَماعها أذنُ اللصِّ الذي يرتابُ في أيِّ صوت.
أذنٌ تُجاوز في حساسيتها قرونَ القواقع ذاتِ المحار.
وللعاشق لسانٌ أعذبُ مذاقًا من خمر باخوس.
وللعاشق قلبٌ جسور كأنه هرقل يُقاتل التنين
ولا ينقطع عن تسلُّق الأشجار في الجزائر السعيدة.
أجل! العاشق ماكرٌ كأبي الهول،
مترنمٌ بأعذبِ الأغاني كأنه قيثارةُ أبولو.
أوتارها من شعره. وإذا ما نطق الحبُّ تُسبح الآلهة جميعًا،
فتَغْفو السماءُ على إيقاع النشيد.
وما رأينا شاعرًا اجتَرأ على أن يُمسك بقلمه لِيَنظم القريض،
حتى امتزَج مِدادُه بزفَرات الغرام.
وعندئذٍ تسحرُ أشعارُه آذانَ الهمَج، وتُعلم الطُّغاة كيف يكون الخشوع.
هذه فلسفتي التي استقرَأتُها من عيون النساء:
إنَّ عيون الغِيد تتلألأُ على الدَّوام كأنها القبَس
الذي وهبَه برومثيوس لبني البشر.
وهي كتابُ الحياة ومنبع فنِّها وعلمها
الذي يكشف كلَّ أسرارها ويحتوي كلَّ مبادئها، ويُغذي كلَّ ما في الوجود.
لا فضلَ لشيء إلا بهذه العيون.
وإذن فقد كنتم من الحَمقى حينَ أقسمتم أن تتجنَّبوا النساء،
فإذا احترمتم قسَمَكم كنتم أحمقَ مِن الحمقى.
فبحقِّ الحكمة هذه التي يعشقها كلُّ الناس.
أو بحقِّ الحب وهو اللفظ المحبَّب لكلِّ الرجال،
أو بحقِّ الرجال الذين يَخلقون أولئك النساء،
أو بحقِّ النساء اللائي يجعلنَ من الرجال رجالًا،
دعونا نَخسرْ هذه الأيمانَ لنَكسِبَ أنفسَنا،
وإلا خسرنا أنفسنا وفاءً بهذه الأيمان.
إن مِن الدين أن نحنثَ بهذا العهد،
فبالخير تتحقَّق شريعةُ الله،
وهل هناك خيرٌ بغيرِ حُب؟
(٤ / ٣ / ٣١١–٣٦٢)

هذا هو الانتصار البلاغي الذي حقَّقه بيرون؛ فهو محاكاةٌ ساخرة رائعة لمذهب الانتصار الذكوري في الحبِّ برُمته، آنذاك والآن وفي المستقبل. والأمر لا يحتاج إلى بحثٍ نقدي نسوي للكشف عن النرجسية الهائلة التي يحتفلُ بها بيرون احتفالًا جميلًا:

وإذَنْ حينَ نَرَى أَنْفُسَنَا في أَعْيُنِ تِلْكَ الفَتَيَاتْ،
أفَلَا نُبْصِرُ أَيْضًا فِيهَا ما حَصَّلْنَاهُ مِنَ المَعْلُومَاتْ؟

أي إن دراستهم تنصبُّ على أنفسهم، وما يتعلمون أن يحبُّوه هو أنفسهم أيضًا؛ أي إن بيرون قد شاهدَ صورتَه المنعكسة، فبدت أصدقَ مما كانَتْه يومًا ما، في عينَيْ روزالاين وهما ذَواتا سوادٍ فاحم، ومن ثَم فقد وقع في حبِّ نفسه بأعمقَ مما أحبها يومًا ما. وكانت نسخةُ فرويد لهذه الحكمة الشيكسبيرية هي الملاحظةَ الجَهْمة التي تقول إن اشتِهاء الآخر يبدأ باشتهاء الأنا، ويمكن في جميع الأحوال أن يرتدَّ إلى اشتهاء الأنا من جديد.

فأما بيرون الذي يحبُّ نفسه قدْرَ حبِّه للغة، فهو يُسبِّحُ بالزيادة البرجماتية للسُّلطة الحسِّية التي تُصاحب الوقوع الهرقلي والبروميثي في الحب، وتسبيحُه خالٍ خلاءً ساميًا من أيِّ اهتمام بروزالين، المثار الظاهري لعاطفته المشبوبة، أي إن «السلطة المضاعفة» التي يُضْفيها الحبُّ تأتي مع سرقة «نار بروميثوس الحقة» من عيون النساء، وهي سرقةٌ تُحاكي محاكاةً ساخرة الآيةَ الواردة في الرسالة إلى مؤمِني روما، والتي تقول: «فإنَّ مَن يحب غيره يكون قد تمَّم الشريعة» (١٣/٨). ويُبدي بيرون تجديفًا حماسيًّا في الدِّين («إن مِن الدين أن نحنث بهذا العهد/فبالخير تتحقَّق شريعة الله/وهل هناك خيرٌ بغير حب؟») وهو الذي يختتمُ به الفصل الرابع، ويؤدِّي إلى إنهاء عمل أكاديمية نافار، وينقلنا إلى الأزمة الفكاهية في المسرحية، حيث يَخيب سعيُ العشاق. ولكن المسرحية تتضمَّن ما يَزيد عن حملةِ بيرون وزملائه للظفَر بالفرنسيات المهذَّبات، وهكذا ارتدَّ مسرعًا إلى الشخصيات الكوميدية الخيالية التي ابتكَرتها المخيلة المرِحة لشيكسبير، وهم دون أدريانو دي أرمادو وتابعه اللمَّاح موث؛ ثم هولوفيرن الدارس المتحذلِق، والسير ناثانيال الكاهن، والمهرِّج كوستارد، وضابط الشرطة «ضل».

٢

تشترك مسرحية خاب سعي العشاق مع حلم ليلة صيف وكما تحب في المَزْج اللطيف بين الطبقات الاجتماعية. فالأمير هال في مسرحيتي هنري الرابع واعٍ كلَّ الوعي بأنه في عطلةٍ مع أبناء شعبه، وأما مالفوليو المسكين في الليلة الثانية عشرة فتُحطمه طموحاتُ غرامٍ يتجاوز مكانتَه الاجتماعية. ولكننا نجد في مسرحيات شيكسبير التي يُسميها س. ل. باربر «الكوميديات الاحتفالية» تقديسًا برجماتيًّا للعلاقات الطبقية. ويُرجع باربر ذلك إلى «الإحساس الذي يخلقه شيكسبير بوجودِ أشخاصٍ يعيشون في جماعةٍ مستقرة، وكلٌّ منهم معروفٌ ويتعايشون معًا على مدار العام كلِّه». ويعبِّر هذا تعبيرًا مناسبًا عن العلاقة المطمئنة بين الطبقات في خاب سعي العشاق إذ يقتصر الشِّقاق على الصراع بين الشهوة الفصيحة والازدراء الحكيم. ونجد أن جنون اللغة الذي يُعلن انتصارَه في اللمحات الفكاهية المبشِّرة بفولسطاف عند بيرون، والتي تسود أيضًا في الحوار بين أرمادو وموث، وبين هولوفيرن وناثانيال، وبين المهرِّج كوستارد وكلِّ مَن يقابله. أما موث الصغير، عبقري البلاغة الطفل، فهو ذو تأثيرٍ كبير في حواراته البذيئة مع أرمادو، الشخصية التي تُشبه دون كيشوت، والذي شُغِف بالغلام حبًّا.
أرمادو :
هنا أعترف بأني عاشق.
يقولون: عيبٌ على الفارس أن يعشق؛ لذلك عشقتُ امرأةً مَعيبة.
وإذا كان امتِشاق الحُسام في وجه الغرام يُنجيني من هواجسه الشريرة،
فسوف تقع الشهوة أسيرةً في يدي،
أطلق سراحها لمن شاء من رجالات فرنسا إذا هو أدَّى الفدية،
والفدية التي أطلبها هي درسٌ جديد في التحية.
أنا أحتقرُ آهات العشاق. وسوف أسكتُ كيوبيد بوابلِ الإيمان.
هيا خفِّف عن نفسي يا غلام.
قل لي: مَن هم الأبطالُ العشَّاق؟
مث : هرقل واحدٌ منهم يا سيدي.
أرمادو :
هرقل حبيبي. ومَن غيرُه تعرف من أساتذة الغرام؟
اذكُر غيره، تكلَّم يا غلامي العزيز،
ولا تذكُر إلا مَن علا صيتُه واشتدَّ احتماله.
مث :
شمشون يا سيدي. كان شمشون رجلًا شديدَ الاحتمال،
إلى حدِّ أنه حمَل باب المدينة على ظهره كالحمَّال.
نعم، كان شمشون من أهل الغرام.
أرمادو :
أي شمشون! يا قويَّ العضلات! أي شمشون!
يا قويَّ المفاصل!
أنت تَفضُلني في حمل الأبواب،
ولكني أفضلُك في حمل الحُسام! وأنا مِثلك من أهل الغرام.
حدِّثني يا عزيزي مُث، مَن شغَل قلبَ شمشون؟
مث : امرأةٌ يا سيدي.
أرمادو : وما لونُها؟
مث :
كانت لها الطبائعُ الأربعة. وكانت لها أحيانًا ثلاثةُ ألوان …
وأحيانًا تتلوَّن بلونَين. وأحيانًا كان لها لونٌ واحد من الألوان الأربعة.
أرمادو : بل حدِّد من أيِّ لون كانت؟
مث : كان لونها كالبِحار الخُضر يا سيدي.
أرمادو : وهل اللون الأخضر من ألوان المِزاج الأربعة؟
مث : نعم يا سيدي، هذا ما قرأتُه، بل والأخضر أجملُها جميعًا.
أرمادو :
هذا صحيح؛ فالأخضر لونُ المحبِّين.
ولكن عجيبٌ أن يتَّخذ شمشون لنفسه حبيبةً خضراء.
لا شكَّ أنه عشقها لذكائها.
مث : أجل يا سيدي؛ فقد كان ذكاؤها غيرَ ناضج.
أرمادو : أما حبيبتي فهي بيضاءُ حمراء لا شِيةَ فيها.
مث :
وخلفَ هذه الألوان الطاهرةِ يا سيدي،
تختفي أكثرُ الأفكار الداعرة.
أرمادو : اشرَح كلامك. اشرح كلامَك يا غلامي العلَّامة!
مث : يا ذكاءَ أبي! ويا لسانَ أمي! أنْجِداني!
أرمادو :
هذا استنجادٌ جميل من طفل.
هو جميلٌ وهو يهزُّ المشاعر.
(١ / ٢ / ٥٤–٩٢)

قد تكون عبارةُ «اشرح كلامك، اشرح كلامك يا غلامي العلامة» ألطفَ مطلبٍ تعليمي في أعمال شيكسبير كلِّها؛ بمَزجِها الرائع بين العاطفة وعدم الفهم، وعبارة «خلف هذه الألوان الطاهرة تختفي أكثرُ الأفكار الداعرة» تُخفي، إلى حدٍّ ما، من خلال السَّجع، تدميرَ الغلام للمثالية الغرامية عند أرمادو. وأرمادو الزاهي المتألِّق (الذي يُشير اسمه إشارةً طريفة إلى أسطول الأرمادا الإسباني الذي انهزَم) يُمثل مع موث ذي الألفاظ القاطعة ثُنائيًّا كوميديًّا رائعًا، وحوارهما بتراشقه يُبشِّر بالتراشق بين فولسطاف وهال. وبعد ذلك يدخل عنصرٌ كوميدي مختلف تمامًا، بدخول هولوفيرن (المسمَّى باسم معلم اللاتينية للعملاق جارجانتوا عند رابيليه) وهو شخصٌ مهووس يصل إلى حدِّ العبادة في التفاخر بمواهبه البلاغية:

هذه هبةٌ وهبَتني إياها السماء، وهي آيةٌ في البساطة.
نعم، إن السماء وهبَتني روحًا حمقاء تهوى الإسرافَ في الخيال، وتزخر بالبيان وتملؤها الصورُ والرسوم والأشكال، روحًا تَفيض بالأفكار والنوازع والتقلُّبات.
فهذه تستولد في بطن الذاكرة، وتُغذى في رحم الأم الحنون.
ثم تولد عندما تنضج ويَحين الأوان.
ولكن هذه الهبة نعمةٌ فيمن يتَّقد بها ذكاؤهم، وإني لَأشكر الله على هذه الهبة.
(٤ / ٢ / ٦٦–٧٢)
وتعبير «الأم الحنون» هنا هو المقصود بتعبيرِ pia mater الذي يَعني الغِشاء الرقيق المغلِّف للمخ، ولكن هولوفيرن يُشير إلى معنى pia الأصلي باللغة اللاتينية وهو الورَع أو التقوى، ولكنَّ اقتران اللفظ بالأم يُكسِبُه معنى الحنان،٣ وخلفاء هولوفيرن من ذوي الحذلقة العبَثيَّة المحببة كانوا يُسهِبون في الحديث عن الملَكات الأكاديمية، ولا يزال لديَّ حنينٌ إلى كلامهم، فلم يُصيبوا أحدًا بأية أضرار.
وتجرى الكوميديا الرفيعة لِلُّغة العجيبة في مسار مُتصاعد يصل إلى الذروة في الفصل الخامس، المشهد الأول، وهو أشدُّ المشاهد إثارةً للضحك في المسرحية، والواضح أن جيمز جويس كان يُحبه ويشير إليه، كما أن شيكسبير قد اخترعه فيما أطلق عليه صفةَ الموسيقى المعرفية التي تنشأ وترتفع من اجتماع أرمادو، وموث، وهولوفيرن، والسير ناثانيال، وضَلْ، وكوستارد. فالمجانينُ الستة يُقدمون إلينا صورةً مصغَّرة لرواية مأتم فينيجان لجيمز جويس، وهي التي يُلخصها موث الصغير قائلًا: «كانوا في وليمةٍ لُغوية وسرقوا منها فُتاتَ الألفاظ»، وهو التعبير الذي أعاد صياغتَه قائلًا: «أجل، إنهم عاشوا طويلًا على حُثالة الألفاظ» (والإشارة هنا إلى بقايا الموائد الأرستوقراطية والتِّجارية التي توضع في برميلٍ للفقراء). وها هو ذا هولوفيرن يُعلق على أرمادو؛ أي إن لدينا عاشقَ ألفاظٍ يؤنِّب عاشقًا آخَر، وهو ينطق ذلك كلَّه بلوثةٍ أقربَ إلى السُّعار:
هولوفيرن : وهو متحذلقٌ ينسج حُججَه الغليظة من كلام خيوطه دقيقة. إنِّي أمقتُ صحبةَ أمثاله من المجذوبين المسرِفين في الإغراب، المنفِّرين للأصحاب، المولَعين بافتعال الدقة، المفسِدين للهجاء، فتراهم يقولون «طبْعيٌّ» حيث ينبغي أن يقولوا «طبيعي»، ويقولون «بدَهيٌّ» حيث ينبغي أن يقولوا «بديهي». وتراهم يُمِيلون الألفَ في «مجرى» إلى «مجرى»، و«مَرْسى» إلى «مرسى»، ويختصرون الكلامَ اختصارًا. ويتعمَّدون الإغرابَ فيُقال: «هذا جنون»، ويقولون: «هذه لوثة»، ألا تفهم، يا سيدي؟
(٥ / ١ / ١٧–٢٧)
ويُخاطر شيكسبير بإغضاب صديقه ومنافسه بن جونسون؛ بأن يتلذَّذ بتوكيد الكلمة التي يُسميها صمويل جونسون «أطول كلمة معروفة» وهي honorificabilitudinitatibus التي تعني «حالة كون المرء مُحملًا بأكوامٍ من درجات الشرف». ويتشرف كوستارد باستعمالِها حتى يسخرَ من موث قائلًا:
كوستارد : والعجيب في الأمر أن سيدك لم يَحسبك لفظًا فيلتهمَك. فبعضُ الكلمات التي يستعملها أكثرُ منك طولًا، وابتلاعك أسهلُ مِن ابتلاع جرعةٍ من الشراب.
(٥ / ١ / ٤٠–٤٣)
[وأصلُ الكلمة المترجمة إلى «جرعة من الشراب» هو flapdragon التي تعني الزبيبة الطافيةَ على وجه شراب عيد الميلاد (الكريسماس) وتعتبر «جائزة»، مثلما يعتبر «موث».]

ويُقرر جميعُ المجانين الذين انتظَم عِقدُهم تقديمَ مشهدٍ مجنون لربَّات الفنون التسع؛ لتسلية الأميرة ووصيفاتها. والمشهد كارثةٌ لا تُنسى ويَشغل مكانةً أساسية في المشهد الثاني الطويل (أكثر من ٩٠٠ سطر) الذي يأتي بنهاية الفصل الخامس والمسرحية، وهو المشهد الذي يَخيب فيه سعيُ العشاق حقًّا. وقبل أن ننظر في سقوط بيرون وزملائه، أودُّ أن أبتعد عن الوليمة اللغوية الكبرى التي يُقدمها شيكسبير، حتى أقدِّم منظورًا للشخصيات في هذه الكوميديا ولموقعها في سياقِ تطور شيكسبير.

٣

يرى سي. ل. باربر أن خاب سعي العشاق «بدايةٌ قَشيبة باهرة، وانفصالٌ أكثرَ من كاملٍ عمَّا كان شيكسبير يفعله من قبل» إنْ قورن بأيِّ شيءٍ آخر في حياته العمَلية باستثناء انتقاله من التراجيديات إلى الرومانسيات الأخيرة. كان اكتشافه أنَّ موارده اللفظية لا حدود لها قد حرَّره من التصاعد الغنائي في ١٥٩٥–١٥٩٧م وهو الذي أنتج لنا ريتشارد الثاني، وروميو وجوليت، وحلم ليلة صيف، والفصل الخامس المدهش من تاجر البندقية. وأما أنا فأفسِّر هذا الانتقال إلى الدراما الغنائية باعتباره جانبًا من جوانبِ تحرُّر شيكسبير نهائيًّا من مارلو، ما دام قد تلاه العمل العظيم الذي أثبتَ قدرته، وتمثَّل في خلقِ شخصية فولسطاف، المُعادي لمكيافيل ومن ثَم لمارلو. ويوجد اتصالٌ بين فوكونبريدج النَّغْل في الملك جون (١٥٩٥م على الأرجح) أول معادٍ لمكيافيل عند شيكسبير، وبين فولسطاف، كما توجد صلةٌ أعمق بين لماحية بيرون ولماحية فولسطاف، وإن كانت الصلة لغويةً مَحضة.

من المشكوك فيه أن تكون عند بيرون اهتماماتٌ تتجاوز لُغتَه، ما دام ولَعُه بروزالاين قد لا يتجاوز التلاعُبَ بالألفاظ، على الرغم من مُعتقَداته الأخيرة. وعلى الرغم من أنه أبرَز ذَوي اللماحية من الذكور الأربعة الساعين للغرام، فإنَّ عاطفة بيرون لا تتفرَّد إلا بحُزنها، وهو أمرٌ مناسب إذ إن محبوبته روزالاين أصلبُ النبيلات المقاومات الأربع. ولكن بيرون يُعتبر المُنظِّرَ للنرجسية الذُّكورية في المسرحية، فهو يفهم بل ويحتفل بما يقتصر أصدقاؤه على أدائه وحسب. ويُعلق تعليقًا فصيحًا يقول إن الأربعة جميعًا يُبْدون «حماقةَ سلوك المحبِّين وكلامهم، من دون أن يكونوا مُحبين فعلًا»، لكنني أظنُّ أن ذلك لا يصل إلى وقوع بيرون التعِس في الحب، ومِن المحتمل أنه الحبُّ الوحيد الذي يستطيع أن يعرفه يومًا ما؛ فهو شهوة العين الممتزجةُ باللماحيَّة ذاتيةِ الإمتاع. ويُبشر الانتشاء الذاتي اللُّغوي عند بيرون بالتألق الميتافيزيقي عند ريتشارد الثاني باعتباره شاعرًا غنائيًّا، وهي خصيصة مُهلكة لا تُناسب الملك الحاكم، ومع ذلك فهي مُدهشة في عُروض ألعابها النارية الممثِّلة لطاقة الابتكار اللُّغوية. وتصوير شيكسبير الساخر لريتشارد الثاني ملموسٌ بحِدَّة، وهذا نوعٌ خطر من اللماحية، لا بد من إقامة مسافةٍ بيننا وبينه. أما بيرون فيختلف اختلافًا كاملًا، فهو جذاب، واسعُ الحيلة، وعلى الرغم من وقوعه في حبِّ امرأة لا تُناسبه، فنحن نتساءل تراه يُمثل جانبًا ما من جوانب الشخصية المراوغة لشيكسبير نفسِه، فريسة سمراء السونيتات؟ يظن ذلك بعضُ المعلقين، ولكننا لا نملك الأدلةَ الكافية لإقامة التماهي مهما يكن غيرَ قاطع. وأما تقمص شيكسبير لشخصية فولسطاف فهو مقنعٌ إلى حدٍّ أكبر، ولا شك أن بيرون أحدُ الأدوار التي تبدو مبشِّرة، عند استرجاعها، بشخصية فولسطاف. يقول بيرون:

فأنا لا ألتمس الورود في برد الشتاء،
كما لا أطلب الثلوج في جنة الربيع الغنَّاء،
بل أحبُّ من الأشياء ما جاء في أوانه.
(١ / ١ / ١٠٥–١٠٧)
هذا بيرون، وهو أيضًا مَن يتكلم في السونيتات، ويعتبر هارولد جودارد من القلائل الذين يُحاولون دائمًا رسْمَ صورة شيكسبير، بلمساتٍ قَشيبة، وهو يمنح بيرون «طاقة شيكسبير المحددة على تذوُّق الشيء دون ابتلاعه، وتلمس الطبع البشري حتى يعرفَه معرفةً وثيقة، ثم ينتهي به الأمرُ إلى مقاومة الإغراء.» ونُلاحظ تقديسًا لطيفًا لبيرون وللمتكلم في السونيتات، وكلٌّ منها يبتلعُ ما يتذوَّقه ويخضع للإغراء. ومع ذلك فإن جودارد دائمًا ما يأتي بالطَّرافة التي تَزيد عن جميعِ ما لدى النقاد منذ جونسون وهازليت، وهو يصيب أكثرَ مما يُخطئ. والعبقرية الفكاهية عند فولسطاف تنتمي فيما يبدو إلى شيكسبير، مثلَما تنتمي طاقاتُ هاملت المعرفيةُ وتصوراتُ مكبث المستقبلية إلى مواهبِ المؤلف التي وصلَت حدودَها القُصوى. إن بيرون لمَّاحٌ عظيم، لكنه ليس عبقريةً فكاهية، فأنت لا تجد عند بيرون شيئًا يَقبل التأمُّل إلى ما لا نهاية، مثلما تجد الكثيرَ الذي يَقبل ذلك في الذَّميم السامي فولسطاف. وبيرون لا يبتعد عن شيكسبير، على نحوِ ما قد يبتعد عنه فولسطاف. ونحن لا نستطيع أن نتصوَّر بيرون خارجَ عالم خاب سعي العشاق. والنقَّاد المحرومون من المخيِّلة يَسخرون من هذه الفكرة، ولكن فولسطاف أكبرُ من مسرحيتَي هنري الرابع، على امتيازهما، أيضًا كما يبدو أن هاملت يحتاجُ إلى مجالٍ أعظمَ من المجال الذي يوفِّره شيكسبير له. إن بيرون يقع في الحبِّ مع المرأة غير المناسبة، وحلمه البروميثي بالحب؛ أي سرقة النار من امرأة، إسقاط واعٍ للنرجسية الذكورية، ومع ذلك فيوجد شيءٌ بروميثي مشروع في احتفائه المنتشي بعينَي المرأة. وهكذا فإنَّ حميَّتَه، مثل لماحيته، تُميزه باعتباره ذا حيويةٍ دافقة هازليتية، على الرغم من عدم ولوع هازليت بمسرحية خاب سعي العشاق؛ أي إن لبيرون أصداءً قوية تتجاوز على نحوٍ ما متطلباتِ المسرحية، بحيث يجدرُ به امتلاكُ لماحيةٍ بطولية، على الرغم من أنه أحدُ حمقى الحب. إن بيرون اللمَّاح يبتعد عن المسرحية لينظرَ إليها، من خارجها تقريبًا، ولكن بيرون المحب كارثة وحماقته روزالاين.

٤

يُعتبر المشهد الثاني من الفصل الخامس من خاب سعي العشاق أولَ انتصار يُحققه شيكسبير في فنِّ اختتام الحدث، وهو أولُ تلك القوالب التفصيلية التي تُفاجئنا بتطرُّفها الرهيف. فمن ناحية الطول، نجد أن هذا المشهد يُشكِّل ما يقرب من ثلثِ نَصِّ المسرحية، ويُتيح لشيكسبير مجالًا مدهشًا لمواهبه، وأما من حيث الحدثُ فلا يكاد يحدث شيءٌ باستثناء إعلانِ موت ملك فرنسا، وما يَعقبه من فشلِ جهود الحب التي بذَلها بيرون ونافار وأصدقاؤهما. واستمرار الفصاحة والحيوية في هذا المشهد الختامي يُضارع جميع المشاهد المتألقة فيما بعدُ عند شيكسبير في اختتام كما تحب ودقة بدقة والرومانسيات الأخيرة.

وبناءُ هذا المشهد يُفصِح عن مهارةٍ عالية؛ إذ يبدأ بالنساء الأربع أثناء تحليلهنَّ المنطقي لأحابيلِ الذين يطلبون حُبَّهن، وبعد ذلك ينصحهن مستشارُهن الهرم، بُوَاييه، بالاستعداد لزيارة المعجبين بهن متنكِّرين في أزياءِ مواطنين من موسكو. وتنتصرُ النساء باللماحية الدفاعية والمراوغة على الغُزاة «الروس»، ويعقب ذلك عرضٌ موسيقي راقص من نوع «الماصك» يُسمى «ماصك الكبار التسع» الذي يؤديه أبناءُ الشعب، وهو عرضٌ يُقاطعه النبلاءُ المحبطون بفظاظة، والذين ينسُون بذلك قواعدَ المجاملة التي يَدينون بإظهارها لمن دونهم مرتبةً ومكانة. وهنا نشهد حركةً مسرحية جميلة؛ إذ يصل رسولٌ ليُعلن وفاة ملك فرنسا. وتقوم الآنسات بحفلِ وداعٍ رسمي لمن فَشِلوا في خَطْب وُدِّهن، ويُقابله الذكور بالاحتجاجات المتوقَّعة، وتُقابل هذه بفرض شروط قاسية على كلِّ رجل من رجال القصر، تتضمَّن قضاء عام كامل في الخدمة والتوبة، والمفهوم أن توسلاتهم سوف تقبل بعد ذلك. ويُبدي بيرون تشكُّكَه في واقعيةِ هذه التوقعات؛ تشككًا يمهِّد لعرضٍ مسرحي ختامي جذَّاب، تناقش فيه بومةُ الشتاء وَقْواقَ الربيع رؤيةَ كلٍّ منهما للحال الراهنة. وهو يعني أننا نشهد مشاهدَ تفصيليةً خماسية أقربَ إلى فنون الاستعراض منها إلى استكمال الحبكة، وهي ترفع الحربَ الغرامية بين الرجال والنساء إلى مستوياتٍ جديدة من براعة الصَّوغ وشدة الحزن. ومعنى هذا أن المسرحية لم تَعُد تنتمي إلى بيرون، وتُهدد بشدَّةٍ وحِدَّةٍ أن تقضيَ على إحساسه بهُويَّته، ما دام قد أصبح أحدَ حمقى الحب مثلَ غيره.

لا تنتهي أية مسرحية أخرى لشيكسبير بمِثل هذه الهزيمة للحب؛ إذ إن لنا أن نتشكَّك، مع بيرون، إن كان هؤلاء العشاق ومعشوقاتهم سوف يتلاقَون مرةً أخرى. وإدراكنا ذلك يمنح الطقوس الاحتفالية في المشهد نبرةً جوفاء باطنة، وهي النبرة التي تعلو بأصداءَ ضاريةٍ في النِّزال الأخير بين الوقواق والبومة. فنحن نسمع في تضاعيفها احتفالًا مضادًّا؛ إذ إن الهزيمة لا تقتصر على غُرور الرجال؛ ففي حرب الذكاء واللماحية تنتصر براعةُ المرأة، وتفضح عجز الشبَّان عن التمييز الكامل بين ما يُحبونه ومن يُحبونه أيضًا، وهي صفةٌ تبين إحباطَ شهواتهم. وهكذا يتحوَّل الازدهار اللغوي والثراء اللفظي عند شيكسبير إلى محادثة صريحة (ولكنها عامرةٌ باللماحية) بين الآنسات في بداية المشهد الثاني من الفصل الخامس:

الأميرة : إنَّ سُخريتنا من عشَّاقنا على هذا النحو لَدليلٌ على حِكمتنا.
روزالين :
وهي حماقةٌ منهم أن يشتروا هذه السخرية بذلك الثمَن الغالي.
سوف أعذِّب بيرون هذا قبل أن أرحلَ من هذه البلاد.
ليتَني أعلمُ علم اليقين أنه وقَع في الفخ.
إذَن لجَعلته يتمرَّغ أمامي ويتضرع إليَّ ويطلبُ رِضاي،
وينتظر الأوان، ويتحيَّن الأوقات،
ويُريق فُكاهته المسرفة في قوافٍ ليس فيها غِناء،
ويجعل مِن نفسه خادمًا رهْنَ إشارتي،
ويُزين نفسه لعيني لَعلِّي أفخر به، وما حُبي له إلا حبُّ هازل.
(٥ / ٢ / ٥٨–٦٦)

إن كانت مَن تتكلم هنا هي سمراءَ السونيتات، فلا بد أن شيكسبير عانى معاناةً ربما زادت على ما يُفصح عنه [في السونيتات]؛ فالعلاقة بين بيرون وروزالاين تتَّسم بنبراتٍ صادية ماسوكية عالية، الأمر الذي يجعلُنا نشكُّ في أن هذه المرأة يمكن أن تتنازلَ عن المتع الكبرى التي تجدها في التباسِ المعاني وتقبُّل المتعة البسيطة في التعبير عن القَبول. وعندما تتنكَّر النساءُ يكتشفن أن الرجال يخلطون بينهن؛ إذ يُغازل بيرون الأميرة، ويُغازل نافار روزالاين، في إطار الجوقة التي يُمثلها حديثُ بواييه المرشد لجميع الذكور الحيارى:

بواييه :
إنَّ ألسنة الساخرات بتَّارةٌ
كحَدِّ الموسى الذي يدقُّ على العيون،
ويُغلق الشعرة التي تَخْفى بلَطافتِها على الأبصار.
حتى يَعْيا الإدراكُ في فَهمِهن.
حديثهن يُقنع كلَّ عاقل، أما خيالهن فذو أجنحة،
أسرعَ من السهام والرصاص والرياح، ومن الفكر.
بل أسرعَ مِن أسرعِ الأشياء!
(٥ / ٢ / ٢٥٦–٢٦١)

إن بواييه هو نبيُّ المسرحية؛ فقد تجاوز في ذاته عُمرَ الحب، وهو يُعبر عن الصوت الأنثويِّ المضادِّ للماحية نفسِها، ولكنْ بقوةِ لماحيةٍ جبارةٍ إلى حَدِّ تدمير أية إمكانية للإشباع الغرامي. ويوجد قدرٌ كبير من الفكاهة والجاذبية، ولكن يوجد إلى جانبه إشفاقٌ حقيقي، عندما يستسلم بيرون في حرب اللماحية، لكنه يتبيَّن أن روزالاين لا مكانَ عندها لأسرى الحرب.

بواييه :
هذه أوبئةٌ تُمطرنا بها النجوم لأننا حنَثْنا باليمين.
أفي الدنيا وجهٌ صفيق يحتمل من التقريع أكثرَ من هذا؟
ها أنا ذا أقفُ أمامكِ يا سيدتي، فصَوِّبِي إليَّ كلَّ ما في جَعبةِ حَذْقِك من سهام.
اسحَقيني باحتقارك. املَئي نفسي اضطرابًا بسخريتك.
اطعني غَباوتي بسِنان ذكائك النفَّاذ.
مزِّقيني إربًا بنِصال عقلك الثاقب.
فلن أسألَكِ أن ترقصي معي ما حَيِيت،
ولن أقفَ في خدمتك في زيِّ الرُّوس بعد اليوم.
أجَل. لن أثقَ ما حييتُ في الخُطَب المنمَّقة ولا في كلام الصِّبية الأغرار،
ولن أزورَ من أحبُّ مستخفيًا وراءَ قناع،
أو أُطارحها الغرام بالقريض،
كأنَّني المنشدُ الأعمى يترنَّم بقيثارته.
لن أتغزَّل بعباراتِ مَديحه كأنها الثوبُ الزاهي، أو بأقوالٍ ناعمةٍ كالحرير،
أو بالخيال الموشَّى كأنه المخملُ الغالي، أو بالبيان المتكلَّف أو بالبلاغة المتحذلِقة.
إنَّ هذه الأشياءَ الدنيئة قد ملَأَتني غرورًا،
وإني لَعازفٌ عنها جميعًا.
قسَمًا بهذا القفَّاز الأبيض الذي يُخفي يدًا عَلِم الله مقدارَ بياضِها،
أُعلن أنِّي لن أُغازل بعد اليوم إلا بِلَا أو نَعم،
صريحتَين لا مُواربة فيهما ولا مجاملة.
(٥ / ٢ / ٣٩٤–٤١٣)

وعندما يقول بيرون إنه سوف يستبدل «لا» و«نعم» بالعبارات المدبَّجة «كأنها الثوبُ الزاهي» فإنه يستعير صورًا من المنسوجات المحليَّة البريطانية، وهو ما يدفعه إلى تقديمِ اعترافٍ قائم على «نصف صلاح»، ولكن روزالاين تطمسه على الفور بلا رحمةٍ ولا شفقة:

بيرون :
وها أنا ذا أبدأ حديثي فأقول، أعانني الله على ما أقول:
إن حُبي لك، يا فتاةُ، حبٌّ نظيف، لا عيبَ فيه ولا أوشابَ عليه.
روزالين : إنَّ في قولك «لا أوشاب» شيئًا من التأنُّق فدَعْه من فضلك.
(٥ / ٢ / ٤١٤–٤١٦)

ولكن بيرون لا يمكن إسكاته، فهو ينطلقُ لِصَوغ فُكاهة خطرة يُشبِّه فيها عاطفةَ أصدقائه برفيقات روزالاين بالوباء الذي حَلَّ بلندن في زمن شيكسبير، وهذه الاستعارة أو التشبيه المعقَّد يبلغ درجةً من التطرُّف تجعلنا نتساءل إن لم تكن المرارة التي كان شيكسبير يشعر بها في علاقته مع سمراءِ السونيتات قد أحدَثَت تأثيرَها في بلاغة بيرون:

بيرون :
مهلًا! انظرن إلى هؤلاء الثلاثة ترَيْن الداءَ ينخرُ أجسامهم.
لقد أصابهم الطاعون. رمَتْهم به لِحاظُكن،
هؤلاء السادة صَرْعى الطاعون. وأنتن يا سيداتي لستنَّ بمَنْجاةٍ منه.
فإني أراكنُّ تحملنَ أعراضه.

وتُنكر الأميرةُ وروزالاين هذه «الأعراض»؛ أي: أعراضَ الطاعون، وتنطلقان حتى تُثبتا عجز أبناء موسكو عن تمييزِ محبوبةٍ عن سِواها. ويغضب بيرون فيبدأ مع رِفاقه في جلب العار لأنفسهم بتحويلِ إحباطهم إلى التعبير عن الاحتقار ببذاءةٍ لماصك التسعة الكبار، وهو الذي قام بتمثيله «المتحذلق، والمتفاخِر، والكاهن سيِّئ السمعة، والمغفَّل، والغلام». ولكن اللوردات هم الذين يتصرَّفون كأنهم غِلْمان متمرِّدون محتقرون يُهاجمون مَن دونهم في المنزلة الاجتماعية بلماحيةٍ شريرة زائفة. وهكذا فإن هولوفيرن المتحذلق يؤنِّبهم بوقارٍ أصيل، قائلًا: «هذا كلام غير كريم، خَلا مِن كل ذوقٍ وأدب.» وأما أرمادو المسكين، الذي تلقَّى سخريةً أشدَّ وأنْكَى، فهو يُدافع عن هكتور بطلِ طروادة الذي يتقمَّص الآن شخصيتَه قائلًا:

أرمادو :
وا رَحْمتاه على هذا المحاربِ الكريم!
فهو الآن في عِداد الأموات وجسدُه طُعمةٌ للديدان.
فيا أحبائي، لا تُحطموا عظام الأموات. كان هكتور
رجلًا بين الرجال حين كان حيًّا يُرزق.
(٥ / ٢ / ٦٥١–٦٥٥)
ويَزيد شيكسبير من الشفَقة اللطيفة التي يُبْديها أرمادو حين يكشف الإسبانيُّ الفصيح عن فقره المدقِع؛ ومن ثَم يدفع بواييه إلى فظاظةٍ بالغةِ الانحطاط، وهنا تحدثُ حركةٌ مسرحية رائعة حين يصل ماركاد، رسولًا من البلاط الفرنسي، مُعلنًا إلى الأميرة موتَ أبيها الملكِ فجأةً. ولما كان قد آنَ لبيرون وأصدقائه أن يتخلَّوا عن تعاطفهم الفَكِه، فإن شيكسبير لم يكن يستطيع تأخيرَ الحركة المشار إليها لفترةٍ أطولَ وإلا أفسَد خاب سعي العشاق. فالموت قائم في نافار، مثلما هو في أركاديا، وحرب اللماحية كان لا بد أن تنتهيَ الآن؛ إذ إن هزيمة العشاق في خطرٍ بأن تُصبح انسحاقًا خاليًا من اللماحية الفَكِهة. ويتدارك شيكسبير الموقف تداركًا رائعًا؛ إذ يُنقذ كبرياءَ كلِّ مَن على خشبة المسرح، وإن كان ذلك على حسابِ ما يُصِر بيرون ورفاقه على أن يُطلقوا عليه لفظ «الحب».

وتبدأ الأميرة الحركةَ الأخيرة باعتذارٍ كريم يكاد يُصبح تفسيرًا للمرارة التي أبدَتْها روزالاين، قائلة:

الأميرة :
قلت أعدُّ العدة يا بوييت. شكرًا جزيلًا يا سادتي الكرام
على كلِّ ما بذلتم في سَبيلنا من مَكرُمات. وإني لَأستعطفكم،
بما لكم من حكمةٍ وافرة، بنفسٍ جدَّت عليها الأحزان
أن تتفضَّلوا فتَطْووا أو تغفروا ما كان بيننا
من إسرافٍ في الجدال واللجاج،
إذا كنا قد تجاوَزْنا الحدودَ في المناقشة.
فما شجَّعَنا على ذلك إلا كرَمُكم وأدبكم.
وداعًا يا سيدي الكريم! والقلب الحزين لا يُتقن آدابَ الحديث.
فعفوًا جميلًا إذا كنتُ قد قصَّرت في شُكركم
على استجابتكم السخيَّة للأمر الخطير
الذي جئتُ من أجله.
(٥ / ٢ / ٧١٩–٧٢٩)

وقد يكون من قَبيل الدبلوماسية القولُ بأن «رقَّة حاشية» بيرون أدَّت إلى ازديادِ جُرأة روزالاين، وربما كانت مُعوجَّةً إلى حدٍّ ما، ولكن توسل بيرون نفسه لا يظهر أنه قد قبل تأنيبِ الأميرة.

بيرون :
لا ينفذ إلى القلب الكليم شيءٌ كالكلام البسيط؛
فافْهَمي مُراد الملك من هذا الكلام الواضح الذي يُعبر عمَّا في فؤاده.
مِن أجلكن غفَلْنا عن الزمن،
ومن أجلكنَّ حنَثْنا باليمين.
فجمالُكن يا سيداتي قد أفسدَنا
وجعلَنا ننقضُ كلَّ ما قصدنا إليه.
فإذا كان قد بدا منا شيءٌ يدعو إلى السُّخرية،
فأنغامُ الحب أكثرها ناشزة، والحب كالطفل اللَّعوب
يرقص دون عقل، ويقفز دون سبب.
والحب يولَد في العين،
فهو إذن كالعين تزخرُ بعجيبِ الأطياف،
وتموج بشتَّى الأشكال والألوان،
وتختلف فيها الصفات كلَّما تنقَّلَت العينُ بين شتى الأشياء.
وإذا كنَّا قد لَبِسنا رِداء الحبِّ المعربد،
فبدا في عُيونكن الساحرةِ مُنكرًا متنافِرَ الألوان،
لا يليق بوَقارِنا وبما تعاهَدْنا عليه،
فسِحرُ عيونكن التي تُبصر كلَّ هذه المعائب،
هو الذي فعل بنا كلَّ ذلك.
وما دام الأمر كذلك يا سيداتي، وما دام حبُّنا لكُنَّ نابعًا منكن،
فأخطاؤه راجعةٌ إليكنَّ كذلك.
ها نحن أولاءِ نخون أنفسَنا إذ نخون العهد مرةً واحدة؛
لِنَفِيَ بعهدكنَّ إلى أبد الآبِدين، يا سيداتي الفاتنات،
يا مَن علَّمْنَنا الخيانةَ والوفاء جميعًا، وهذه الخيانة،
وإن كانت في ذاتها رذيلة، تُطهر نفسَها من أجلكن،
بل تُصبح من أجلكن فضيلةً فاضلة.

و«الكلمات البسيطة الصادقة» سرعان ما تتحوَّل عند بيرون إلى أسلوب الباروك البلاغي، وهو الرجل نفسُه. ومن الجميل إلى حدٍّ ما أنه لم يتعلَّم شيئًا (أو تعلم أقلَّ القليل)، وهو ما يُناسب بطلَ مسرحيةٍ كوميدية تتميَّز بالشطَط. إننا نعود إلى تَغنِّيه الرفيع ﺑ «نار بروميثيوس المناسبة» التي يسرقها الرجالُ من صوركم المنعكسة في أعين النساء، فإنَّ إيمان ربِّ الحب إيروس ينتقل هنا في السطور الأخيرة من كلامه ويُصبح محاكاةً ساخرة «للنعمة» المسيحية. ولكن ترنيمة بيرون، حتى وإن أفزعَت الجمهور، تقوم الأميرة بتنحيتِها جانبًا، ثم تُنكر ببراعة أيَّ قياس مع الإخلاص الحق.

الأميرة :
نعم، لقد جاءتنا رسائلُ غرامكم،
ومعها هداياكم، وهي رسل غرامكم.
وقد تبادلنا الرأيَ كما تفعل العَذارى الشريفات،
فوجدنا أنَّها في باب الغرام لا تتجاوزُ أن تكون فكاهةً ظريفة،
وفي آدابِ الفُروسية لا تخرج عن أن تكون لَغْوًا أجوفَ نُزجي به الوقت.
فلم نحفل بها أو نَقدُرها بأكثرَ من ذلك،
ولهذا استقبَلْنا غرامَكم بما قُصِد به أن يكون؛
أي: موضوعًا للفكاهة.
ونسمع نبرةَ مستيئسٍ لطيفة في ردِّ نافار عليها:
نافار : في هذه اللحظة الأخيرة امنَحْننا حُبكن.

وأما ردُّ الأميرة فيُعتبر مِن الصِّيغ الشيكسبيرية المقتضَبة التي لا تُقدَّر بثمن، ودائمًا ما تلجأ إليها المرأةُ التي تُقاوم أيَّ ارتباط سابق لأوانه:

الأميرة :
أعتقد أنَّ هذه اللحظةَ لا تَكفينا
لندخلَ في شركةٍ أبدية.
وأما عن زواج شيكسبير نفسِه فلدينا من المعلومات ما يكفي لأنْ نستنبطَ أنه كان يقوم على قدرٍ من «الوُد» المُعادِل لزواجِ سقراط. فالواقع، كما سبَق أن ذكرت، أنَّ أهنأَ الزِّيجات في عالم المسرحيات، هو بلا شكٍّ العلاقةُ الزوجية بين مكبث وامرأتِه، قبل ارتكاب جرائمهما، وبين كلوديوس وجيرترود قبل تدخُّل هاملت. وأشعرُ في قراءتي نصوصَ شيكسبير أن تأمُّلي للحالتَين السابقة واللاحقة استنباطٌ مشروع، وهو جانبٌ ذو أهمية حيوية من جوانب فنِّ كاتب المسرح العظيم.؛ أي: إن تأمُّل مستقبلِ زواج هيلينا وبرترام في العبرة بالخاتمة وزواج الدوق من إيزابيلا في دقة بدقة، يجعلُنا نُقطب وجوهنا، بل ولا نستطيع أن نتصوَّر أن بياتريس وبينديك سوف يَقضيان سنواتِ زواجهما في مناقشاتٍ حادة هانئة في آخِر مسرحية ضجة فارغة؛ فجميع الزيجات عند شيكسبير، كوميديةً كانت أو لم تكن، تتَّسم بالخبَل أو بالغرابة المضحكة، ما دام قد كُتب على المرأة أن تتزوَّج مَن لا يُباريها، وخصوصًا روزاليند، التي لا تُضارَع في كما تحب. ونتصور أن شيكسبير وجمهوره يمكن أن يشعرا بمتعةٍ غريبة في خاب سعي العشاق، حيث لا يتزوَّج أحد، وحيث نشعر أنَّ لنا الحريةَ في أن نتشكَّك إن كان عامُ الخدمة أو التوبة الذي سيَقضيه الرجال (وإن لم يكن مرجَّحَ الحدوث) سوف يُحقق أية زيجات. فالأميرة تُرسل نافار لقضاءِ عامٍ في أحد الأديرة، وتحكم روزالاين، بفرحةٍ شيطانية، على بيرون بقضاء عام في التسرية الفَكِهة في المستشفي «ليردَّ الابتسام إلى شفاءِ هؤلاء العاجزين المعذَّبين» (٨١٢). ولكننا لسنا في حاجةٍ إلى أن نتصورَ قيام حياةٍ زوجية بين بيرون وروزالين، على نحوِ ما يوضِّح هذا الحوار الأخير بين نافار وبيرون:
بيرون :
إنَّ غَرامنا لا ينتهي كما ينتهي في القصص المألوفة.
لن نقولَ إننا عِشنا في تباتٍ ونبات.
ولو شاءت هؤلاء السيداتُ لجَعَلن مِن عبثنا مَسْلاةً فكاهية.
نافار : هيا بنا يا سيدي. فلننتظر سنة ويومًا، ثم نَصِل إلى النهاية.
بيرون : هذا أطولُ ممَّا تتطلبُه المسرحية.
ويُدمر بيرون، في غمِّه وهمه، وهْمَين: الأول غرامي، والثاني تمثيلي. فلقد انتهت المسرحيةُ فعلًا باستثناء أغنيتَي الوقواق والبومة. وبيرون حين يقف على المسرح، ولكن خارج دور الممثل المصطنَع، نسمعه يتكلم أكثرَ مما تكلم في أيِّ وقت مضى، بلسان شيكسبير نفسه، الذي قام بتنقيح خاب سعي العشاق في عام ١٥٩٧م بعد إنجازه فولسطاف، وهكذا بعد أنْ حقَّق ذاته. وعندما أستمع إلى بيرون، أجدني أُصْغي إلى صوتَين؛ الصوت الأول قبل فولسطافي، والثاني بروح السير جون فولسطاف، مدمِّر الأوهام. وهذا أيضًا، وَفْق ما أفهم، روحُ السونيتات الثماني والعشرين الأخيرة، التي تبدأ بالسونيتة ١٢٧ «لم تكن سُمْرة الوجوه لدينا/تحمل الحُسنَ في الزمانِ الخالي»، وهو الذي يُعيدنا إلى الحَنقِ الغامض عند روزالاين، وإلى الخوف الذي لا يبدو أنَّ له أيَّ مبررٍ عند بيرون من أنها سوف تجعله ديُّوثًا. ومن الغرائب الطريفة في خاب سعي العشاق ذلك الخلافُ الوهمي حول جمال روزالاين، في الفصل الخامس، المشهد الثالث، السطور ٢٢٨–٢٧٣، وطرَفا النقاش بيرون وأصدقاؤه؛ إذ يتَّضح إلى حدٍّ ما أن بيرون هو كاتبُ السونيتة ١٢٧؛ فهو إما يُرجع أصداءها وإما يُبشِّر بها. وأميل إلى الاتفاق مع ستيفن بوث في أننا لا نعرف شيئًا مؤكدًا من السونيتات بقدرِ ما نعرف من المسرحيات. أنا لا أعلم عِلمَ اليقين إن كان شيكسبير مولَعًا بالنساء، أو مِثليَّ النزعة، أو يحبُّ الجنسين معًا (ولنفترض الأمرَ الأخير)، ولا أعلم أيضًا هُوية السمراء أو اليافع (وإن كانت، فيما يبدو لي، أكثر من خُرافة، والأرجح أن اليافع لورد ساوثامتون). لكنني أسمعُ أصداء العاطفة المترددة عند بيرون عندما أقرأ السونيتة ١٢٧:
لَمْ تَكُنْ سُمْرَةُ الوُجُوهِ لَدَيْنَا
تَحْمِلُ الحُسْنَ في الزَّمَانِ الخَالِي
وإذَا عَدَّهَا أُنَاسٌ حُسْنًا
حَجَبُوا عَنْهُ وَصْفَهُ بالجَمَالِ
لكنِ الآنَ أَصْبَحَتْ سُمْرَةُ الوَجْـ
ـهِ وَرِيثًا لِعَرْشِ كُلِّ جَمَالِ
بَلْ وصَارَ الجَمَالُ يَحْمِلُ عَارًا
مِنْ بَهَاءِ الأَصْبَاغِ كالأَنْغَالِ

•••

مُنْذُ أنْ أَصْبَحَتْ جَمِيعُ الأَيَادي
تَزْعُمُ اليَوْمَ أَنَّهَا كالطَّبِيعَة
تَسْتَطِيعُ التَّجْمِيلَ لِلْقُبْحِ بالزَّيْـ
ـفِ بأَصْبَاغِهِ الحِسَانِ الرَّفِيعَة
فَإِذَا هُنَّ قَدْ كَسَوْنَ وُجُوهًا
صِبِغَاتٍ مُعَارَةً وبَدِيعَة
والجَمَالُ الرَّقِيقُ قَدْ ضَاعَ إِسْمُهْ
عَازِفًا عَنْ خَمَائِلِ الأَطْهَارِ
دُنْيَوِيُّ الصِّفَاتِ والطَّبْعِ إنْ لمْ
يَسْلَمِ اليَوْمَ مِنْ رَذَاذِ العَارِ

•••

ولِذَا أَعْيُنُ الحَبيبةِ عِنْدِي
فَاحِمَاتُ السَّوَادِ كالغِرْبَانِ
ذَاكَ لَوْنٌ مُنَاسِبٌ لِأَسَاهَا
فَهُمَا في الحِدَادِ قد تَبْدُوَانِ
تَنْعَيَانِ اللَّاتِي وُلِدْنَ بِلَا حُسْـ
ـنٍ ولَا أيِّ لَمْسَةٍ مِنْ جَمَالِ
بَلْ وَضعْنَ الأَصْبَاغَ فَوْقَ المُحَيَّا
خَادِعَاتٍ لخَلْقِ رَبِّ الكَمَالِ

•••

وثِيَابُ الحِدَادِ سَوْدَاءُ تُعْلِي
مِنْ جَمَالِ الأَسَى بِتِلْكَ الجُفُونْ
ولِهَذَا يَقُولُ كُلُّ لِسَانٍ
إنَّ أَعْلَى الجَمَالِ سُودُ العُيُونْ٤

لا يقترب بيرون مطلقًا من آلام السونيتات القاتمةِ الأخيرة، مثل السونيتة ١٤٧ التي تقول إنَّ «الرغبة هلاك»، ولكن تنويعاته الملتبِسة على عينَيْ روزالاين السَّوداوَين، لا تتوقف طَوال المسرحية. ويبدو أحيانًا أنَّ روزالاين ليست في المسرحية المناسبة؛ إذ إنَّ موقفها تجاه بيرون بالغُ القسوة طالبٌ للثأر، على خلافِ أيِّ شيء في موقف الأميرة من نافار، أو في مواقفِ الأخريات تجاهَ عشَّاقهن. وعندما تأمُر روزالاين بيرون بأن يقضيَ عامًا في المستشفي «ليرد الابتسام إلى شِفاه هؤلاء العاجزين المعذبين»، يردُّ عليها ذلك اللماح بما يمكن أن نعتبره إدراكَ شيكسبير نفسِه لحدود الكوميديا:

بيرون :
وكيف أستطيع أن أنتزع الضحكَ من فمِ الموت؟
هذا لا يمكن أن يكون. هذا مُحال.
فالمرحُ لا يمكن أن يجد سبيلَه إلى النفس المعذَّبة.
(٥ / ٢ / ٨٤٥–٨٤٧)
وعلى الرغم من براعة هذه الأسطُر فهي لا تُؤثِّر في روزالين العنيدة؛ إذ إن همَّها الأوحد «أن تخنق روحًا ساخرة»، وباعتبارنا جمهورَ المسرحية، فنحن لا نرغب في خنق لماحية بيرون، ومِن ثَم فإن آخِرَ كلماته في خاب سعي العشاق تُريحنا بعضَ الشيء، وهي «هذا أطول ممَّا تتطلبه المسرحية». لقد كانت المسرحية مسرحيةَ بيرون، ولكن شيكسبير يختار أن يختتمَها بأغنيتَين متنازعتين، الربيع ضد الشتاء، وفي أثنائها يرحل بيرون، وإذا نحن بوضوحٍ في عالم شباب ريف شيكسبير. لقد اختفَت نافار أثناء إصغائنا إلى غناء الوقواق والبومة، ونسمع عن الراعي وعن الآنسات اللاتي يُنظِّفن الأوعية، وللناقد باربر تعليقٌ طريف يقول بأنه ما دامت الزيجات قد غابت، فإنَّ الأغانيَ تُقدم «تعبيرًا عن استمرار قوة الحياة»؛ وأودُّ أن أضيف إلى ذلك إحساسَنا بالرِّضا بالعودة إلى الحياة العادية بعد مُقامنا في صُحبةِ اللماحين الفَكِهين في بلاط نافار. وهذا سياقٌ يناسب قولنا إن شيكسبير الذي كتَب أفضلَ نَظْمٍ بلا قافيةٍ وأفضلَ نثرٍ في لغتنا، يُعتبر أيضًا أبرزَ كتَّاب الأغاني بتلك اللغة. وهذه هي الأغنية:
الربيع :
إذَا لَوَّنَتْ بالسُّرُورِ وُجُوهَ الرِّيَاضْ
زُهُورُ الأَقَاحِي بأَلْوَانِهَا البَاهِرَة،
وكُلُّ زَنَابِقِنا النَّاصِعَاتِ البَيَاضْ
ونَوْرُ البَنَفْسَجِ في زُرْقَةٍ زَاهِرَة،
وصُفْر البَرَاعِمِ في أَفْرُعٍ نَاضِرَة،
يُغَرِّدُ وَقْوَاقُ كُلِّ الشَّجَرْ،
فَإذْ هُوَ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ سَخَرْ،
يُنَادِيه فانْهَضْ أَيَا دَيُّوثُ،
وذلِكَ لَفْظٌ رَهِيبٌ عَبُوسٌ،
ويُؤْلِمُ آذَانَ كُلِّ ذَكَرْ!
وإنْ يَعْزِفِ النَّايَ بَعْضُ رُعَاةِ المَرَاحْ،
ويُوقِظُ تَغْرِيدُ قُبَّرَةٍ أَعْيُنَ الفَلَّاحْ،
وعِنْدَ تَطَارُحِ قُمْرِيَّةٍ والقَرِينُ الغَرَامَ المُبَاحْ،
ويُنْشِدُ كُلُّ غُرَابٍ وطَيْرٍ هُنَا فَرْحَهُ بالصَّبَاحْ،
وتُبْدِي العَذَارَى ثِيَابَ الطَّهَارَةِ بَيْضَاءَ في كُلِّ سَاحْ،
يُغَرِّدُ وَقْوَاقُ كُلِّ الشَّجَرْ،
فَإِذْ هُوَ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ سَخَرْ،
يُنَادِيه فانْهَضْ أَيَا دَيُّوثُ!
وذلِكَ لَفْظٌ رَهِيبٌ عَبُوسٌ،
ويُؤْلِمُ آذَانَ كُلِّ ذَكَرْ!
الشتاء :
وإنْ يَجْمُدِ المَاءُ فَوْقَ الجِدَارِ مِنَ الزَّمْهَرِيرْ،
ويُدْفِئُ رَاعِي القَطِيعِ يَدَيْهِ بِصَبْرٍ مَرِيرْ،
ويَأْتِي بأَحْطَابِ تَدْفِئَةٍ في الفِنَاءِ أخُوهُ الصَّغِيرْ،
وفي البَيْتِ يَجْمُدُ سَطْحُ الحَلِيبِ بِكُلِّ وِعَاءٍ كَبِيرْ،
ويَنْكَمِشُ الدَّمُ بَرْدًا ويَمْنَعُ ثَلْجُ الطَّرِيقِ المَسِيرْ؛
تُغَنِّي لَنَا بُومَةٌ لُحُونَ الهَنَاءْ
تُوتُووْتْ! تُوتُوهُوتْ!
وفي البَيْتِ تَنْشَغِلُ الآنِسَاتُ بِتَنْظِيفِ كُلِّ وِعَاءْ!
وعِنْد هُبُوبِ الرِّيَاحِ بأَعْلَى هَدِيرْ،
ويَعْلُو سُعَالُ المُصَلِّينَ فَوْقَ مَوَاعِظِ قَسٍّ قَدِيرْ،
وتَرْقُدُ كُلُّ الطُّيُورِ تَكَادُ تَجَمَّدُ فَوْقَ الجَلِيدْ،
ويَحْمَرُّ أَنْفُ الفَتَاةِ كَأَنَّ بهِ بَعْضَ جُرْحٍ جَدِيدْ،
ويَعْلُو حَسِيس الشِّوَاءِ لِتُفَّاح طَهْوٍ لِصُنْعِ الفَطِيرْ؛
تُغَنِّي لنا بُومَةٌ في اللَّيَالِي لُحُونَ الهَنَاءْ،
تُوتُووَتْ! تُوتُوهُوتْ!
وفي البَيْتِ تَنْشَغِلُ الآنِسَاتُ بِتَنْظِيفِ كُلِّ وِعَاءْ!٥
(٥ / ٢ / ٨٨٤–٩٢١)

من الغريب أن القلقَ الذي يُعبر عنه بيرون تعبيرًا ذا حيوية؛ أي قلقه من أن يصبح ديوثًا، أي أن تخونَه حبيبتُه السمراء، والذي يُضاهي قلقَ شيكسبير في السونيتات، قلقٌ لا محلَّ له، وهو يتحول تحولًا رائعًا في أغنية الربيع؛ فسواءٌ كنا أزواجًا أو لم نكُن، فإننا نفزعُ لعودة قوة الطبيعة، ونحن نتقبَّل السخرية في هذه الأغنية من القلق الذُّكوري الأزَلي من مصيرِ الديوث. وعلى الرغم من جمال الأغنية الأولى، فإن أغنية الشتاء أفخم؛ إذ تحتفل بالحياة الجماعية حول المدفأة وقِدْر الطهو. ولا ترجع رنَّة المرح في أغنية البومة إلا إلى أننا نسمعُها من داخلِ المنزل مستريحين، حيث يجتمع الرجالُ والنساء معًا بسبب حاجاتهم، وضروبِ واقعهم، والقِيَم المشتركة التي تُمثلها موعظة القَس، والتي تطمسُها أصواتُ سُعال القرويِّين. إن هذه المسرحية التي تُعتبر أشدَّ كوميدياته المصطنعة الحافلة بالتفاصيل، إلى جانبِ كونها وليمتَه اللغوية العُظْمى، تنحدر إلى ضد ذلك كله حين تتناولُ الأمور الطبيعية البسيطة والعبارات الريفية.

١  ترجمة نصوص المسرحية في هذا الفصل من إبداع لويس عوض، إلا حين ينصُّ على خِلاف ذلك.
٢  انظر هذه القصة في ترجمة السونيتات الكاملة للمترجِم، الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام ٢٠١٦م.
٣  من العبارات اللاتينية الشائعة في الإنجليزية المعاصرة عبارةُ pia desideria التي تعني آياتِ ندمٍ صادقةً، وعبارة pia fraus التي تَعني الاحتيالَ الروحي، وهكذا فإنَّ لفظ pia وهو صفةٌ مؤنَّثة باللاتينية يبتعد عن المعنى المعجميِّ للورع؛ ليكتسب معانيَ أخرى يستغلُّها شيكسبير لإظهار الحذلقة.
٤  من سونيتات شيكسبير، ترجمة محمد عناني، هيئة الكتاب، القاهرة، ٢٠١٦م.
٥  هذه الأغنية من ترجمة مترجِم الكتاب؛ لأن المؤلف يمتدحُ نظم شيكسبير المقفَّى، فكان لا بد أن تكون الأغنية منظومةً ومقفَّاة (وليست كذلك عند لويس عوض).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤