الفصل الحادي عشر

حلم ليلة صيف

١

كان شيكسبير في منتصف عام ١٥٩٥-١٥٩٦م يرسم في خياله صورةَ شتاء مثالي فكتب حلم ليلة صيف، وقد يكون قد كُلِّفَ بتأليفها احتفالًا بزفافِ أحد النبلاء، حيث عُرِضَت أول مرة. كان قد كتب ريتشارد الثاني، وروميو وجوليت في عام ١٥٩٥م، وبعدهما بقليل تاجر البندقية قبل أن يظهر فولسطاف في هنري الرابع، الجزء الأول. ولا يُعادل حلم ليلة صيف أيُّ شيء كتَبه شيكسبير قبلها، كما لا يفوقُها — من زاويةٍ معيَّنة — أيُّ شيء كتَبه بعدها. إنها أولُ روائعِه التي لا يَرْقى إليها الشك، وإحدى المسرحيات الاثنتي عشرة تقريبًا ذواتِ الأصالة والقوة الجبارة. والمؤسف أن كلَّ إخراج شهدتُه لها كان كارثةً باقعة، باستثناءِ الفيلم السينمائي الذي أخرجه بيتر هول عام ١٩٦٨م، وهو متاحٌ — لحُسن الحظ — على شريط فيديو. والعاصفة وحدها هي التي تُشارك حلم ليلة صيف تشويهها في العُروض المسرحية الحديثة، أو التي يحتمل تقديمها في المستقبل، وأسوأ ما أذكرُه منها عرضُ بيتر بروك (١٩٧٠م) وألفن إبشتاين (هزليَّة قُدِّمت في جامعة ييل عام ١٩٧٥م). ولكنني لا يمكن أن أكون عاشقَ المسرحيةِ الوحيدَ الذي يرفض الفكرةَ السائدة التي تقول إن العنف الجنسيَّ والنزعة الحيوانية يُمثلان قلب هذه الدراما الإنسانية الحكيمة.
لقد تفشَّت التأويلاتُ الجنسية وانتشرت إلى الحدِّ الذي لا أستطيع معه أن أقشعرَّ رعبًا وأمضي وحَسْب؛ فإن حلم ليلة صيف سوف تُعيد تأكيد نفسِها في زمنٍ خيرٍ من هذا الزمان، ولكنني أريد أن أقولَ كلامًا كثيرًا لصالح بوطوم، أشدِّ شخصيات شيكسبير جاذبيةً قبل ظهور فولسطاف. فنصُّ المسرحية يوضح بالأسلوب الفكاهيِّ أن اهتمام بوطوم الجنسيَّ بالجنيَّة تيتانيا أقلُّ بكثيرٍ من اهتمامها به أو أقل من اهتمام عددٍ كبير من النقاد والمخرجين المحدَثين بها. فإن شيكسبير، هنا وفي غيرِ هذا العمل، يستخدم ألفاظًا «خارجة» لكنها ليسَت شهوانيَّة، وبوطوم يتَّسم ببراءةٍ محبَّبة، وغير فاحشة. أما الذين يرفعون مكانةَ الجنس والعنف فلن يَجِدوا بُغيتهم، في الواقع، هنا. وقد يبدَءون بدايةً طيبة بمسرحية تايتوس أندرونيكوس، ولو كان شيكسبير أرادَ أن يكتب مسرحيةً ماجنة حافلة بطقوس العربدة، معتبرًا بوطوم «جحش الانتشاء في العُروض الصاخبة والكرنفالات» (كما يزعم يان كوط) لَكتَب لنا كوميديا مختلفة. أما الذي لدينا فهو شخصٌ لطيف مهذب ذو طيبة أصيلة يُدْعى بوطوم، وهو يميل إلى صُحبة الجنيَّات — بازلاء، وخَيط العنكبوت، والفراشة، وخَرْدلة — أشدَّ من مَيله إلى صحبةِ تيتانيا المتولِّهة في حُبِّه. وقد يكتب لي أن أحيا لأسمع، في عصر العبَث النقدي والمسرحي، مَن يقول لي إن اهتمام بوطوم بالجنِّيات الصغيرات يُمثل إمكانية الحبِّ المنحرف للصغار، ولن يكون ذلك أشدَّ حمقًا من التعليقات الراهنة على حلم ليلة صيف.
وترتبط برباط غريب مسرحيات العاصفة، وخاب سعي العشاق، وحلم ليلة صيف، وهو أنَّ هذه المسرحيات، مِن بينِ تسعٍ وثلاثين مسرحية، لا يتبع فيها شيكسبير مصدرًا أوليًّا. أما زوجتا وندسور المرحتان، التي ليس لها مصدرٌ مؤكد، فتتَّخذ نقطةَ انطلاق واضحةً من أوفيد. والعاصفة ليست لها أصلًا حبكة، ولا يكاد يحدث شيء في خاب سعي العشاق، ولكن شيكسبير اجتهد في وضع حبكةٍ تفصيلية إلى حدٍّ كبير، وبالغة الإثارة في حلم ليلة صيف. لم يكن شيكسبير يتمتَّع بموهبةِ ابتكار الحبكات، فلقد حرَمَته الطبيعة من هذه الهبة الدرامية. وأعتقد أنه كان يُهنئ نفسه على ابتداع العوالم المختلفة الأربعة للشخصية وإقامة الروابط فيما بينها في هذه المسرحية. فإن ثيسيوس وهيبوليتا ينتميان إلى الأساطير الخرافية والتاريخية القديمة، وأما العشَّاق — هرميا وهيلينا وليساندر وديمتريوس — فلا ينتمون لزمانٍ أو مكان محدَّدَين، فالمشهور عن الشبَّان والشابات جميعًا أنهم يَعيشون في جوٍّ مشترك. وأما الجنُّ — تيتانيا وأوبرون وبَكْ، وصديقات بوطوم الأربع — فيظهرون من الفولكلور الأدبي وسحره. وأخيرًا لدينا «العمال» الذين يُمثلون بعضَ أهل الحرف القروية الإنجليزية — فعلى رأسهم بوطوم، ثم بيتر كوينس، وفلوت، وسناوت، وسناج، وستارفلنج — ومن ثَم فهم يخرجون من ريف شيكسبير نفسِه؛ حيث نشأ وترعرع.

إنَّ هذا الاختلاط بالغُ التنوُّع، إلى الحدِّ الذي يجعل الدفاعَ عنه يعتبر إشارةً خفيَّة في الحوار الطريف القائم على لمسةٍ عبثية رائعة بين ثيسيوس وهيبوليتا حول موسيقى كلابِ الصيد في الفصل الرابع، المشهد الأول، السطور ١٠٣–١٢٧، وهو الذي سوف أنظرُ فيه تفصيلًا فيما بعد، وقد انتشرَت الإشارة الصحيحة إلى أنَّ عبارة «التنافر المتناغم الموسيقى، وذلك الرَّعد الجميل» تُعتبر وصْفَ المسرحيةِ لنفسها. وكان تشسترتون يميل أحيانًا إلى اعتبار هذه المسرحية أعظمَ مسرحيات شيكسبير، ويقول إن «مَزيَّتها الأدبية العُليا» «مَزيَّة البناء والتركيب».

وباعتبار حلم ليلة صيف أغنيةَ زفاف، فإنها تنتهي بثلاثِ زيجات والمصالحة بين أوبرون وتيتانيا، ولكننا لم نكن لنعرفَ أن هذا كله يُمثل أغنية زفاف مديدةً وتفصيلية لو لم يُخبرنا الباحثون بذلك، واستنادًا إلى العُنوان وما تلاه نعرف أنها (من جانبٍ معيَّن على الأقل) حلم. حُلمُ مَن؟ تقول إحدى الإجاباتِ إنه حلمُ بوطوم، أو عمَلُه بالنسيج؛ إذ إنه بطلُ المسرحية فعلًا (ومصدرُ بَهائها). ولكنَّ حديثَّ بَك الختاميَّ يقول إنها حُلم الجمهور، وإن كنا لا نعرف على وجه الدِّقة كيف نستقبل دفاع بَكْ. أما بوطوم فهو موجودٌ في كلِّ مكان وزمان (مثل بولدي بلوم [بطل رواية يوليسيس]، أو إيرويكر [بطل رواية مأتم فينيجان] للكاتب جيمز جويس)، وهو ينسج حُلمًا مشتركًا لنا جميعًا، باستثناء كَونِنا نُمثل بَكْ لا بوطوم. كيف يُفترض أن نَفهم عُنوان المسرحية؟ وقد أشار ل. س. باربر إلى أن الدكتور جونسون أخطأ في تصوُّرِ أن تعبير «شعائر الربيع» يُفيد أن الأحداث تقعُ في أولِ مايو، ما دام العُشاق قد انطلَقوا للاحتفال بالربيع مدفوعين بنزوةٍ معيَّنة. ولكننا في المسرحية لسنا في أولِ مايو ولا عشيَّة منتصف الصيف، ومن ثَم فينبغي أن نفهم العنوان على أنه يعني أية ليلة على الإطلاق في منتصف الصيف. ويتضمَّن العنوانُ لمحةً عارضة، تقول إن هذا الحُلم يمكن أن ينتميَ إلى أيِّ فرد أو إلى أية ليلة في منتصف الصيف، عندما تبلغ الدنيا أقصى اتساعٍ لها.

وبوطوم يُمثل «كل إنسان» عند شيكسبير، شخصية أصيلة حقيقية، وهو مُهرج لا أبلَه ولا مضحِك. إنه مهرجٌ حكيم، على الرغم من أنه يُنكر باسمًا حِكمتَه الملموسة، كأنما لم يتَّسع غروره البريءُ ليشملَ مِثل ذلك الادِّعاء. والمرء يستمتع بفولسطاف (إلا إن كان المرء أكاديميًّا أخلاقيًّا) ولكن المرء يحب بوطوم، على الرغم من أنه الشخصيةُ الأدنى. لا أحد عند شيكسبير يَفوق فولسطاف في ذكائه، حتى هاملت أو روزاليند، أو ياجو أو إدموند. وبوطوم يَجمع بين الحَصافة والطِّيبة، لكنه ليس لماحًا، وفولسطاف ملكُ اللماحية. وكلُّ حالة طارئةِ تجد بوطوم حاضرًا ومستعدًّا، واستجابته تُثير الإعجابَ دائمًا. وأما عملية المسخ [بتركيبِ رأسِ جحش له] التي يقوم بها بَكْ فمجردُ تغيُّر ظاهري، وأما باطن بوطوم فرابطُ الجأش ثابتٌ لا يتغيَّر. ويُولي شيكسبير الصدارةَ لبوطوم بتنبيهنا إلى أنه المفضَّل بين زُملائه العمال، وهم يَصِفونه بأنه «بوطوم البلطجي» ونتعلَّم الاتِّفاق معهم.

إن بوطوم، مثل دوجبري [في ضجة فارغة] من بعده، من أسلاف السيدة مالابروب عند شريدان؛ فهو يستخدم كلماتٍ معيَّنةً جاهلًا دلالاتها. وهكذا فعلى الرغم من أنه أحيانًا يُخطئ عند محيط الدائرة، فإنه على صوابٍ دائمًا في مركزها، وهو ما يَعنيه لقب بوطوم النساج؛ إذ يُفيد أنه قلب البكرة التي تلتفُّ حولها خيوطُ صوف النسَّاج. ويتضمَّن الفولكلور ارتباطاتٍ سِحريةً بفنِّ النسيج، ومن ثَم فإن اختيار بَكْ لبوطوم حتى يُمارس سِحرَه فيه؛ ليس اختيارًا تعسفيًّا كما يبدو لنا في البداية. وسواءٌ أصبح بوطوم عاشقًا جسَديًّا لملكة الجان (ولو لفترةٍ وجيزة) أم لم يصبح، فإن شيكسبير لا يقطع في ذلك برأيٍ أو يتحاشى ذكره؛ ربما لأنه غيرُ مهمٍّ في المسرحية بالقياس إلى تفرُّد بوطوم في المسرحية؛ فهو الوحيد الذي يرى مجموعةَ الجن ويتحادثُ معهم. والجنيات الصغيرات الأربع، بازلاء وخيط العنكوب والفراشة وخردلة يتَّسِمْنَ بالطفولية، وهنَّ مفتوناتٌ ببوطوم مثل افتتانِه بهن. فهنَّ يتعرفن على أنفسِهن في النسَّاج الظريف، وهو يرى فيهن أشياءَ كثيرةً موجودة أصلًا فيه. ولما كان لاسمه الدلالةُ المعروفة [أي العَجُز] فإن مونتاني يستخدمُ التورية اللفظية حين يقول «لو جلَسْنا على أرفَعِ عروش الدنيا فسوف يظل كلٌّ منا جالسًا على عَجُزه» أي على بوطوم الخاصِّ به، والمعروف أن مونتاني قد أعطى شيكسبير وأعطانا دروسًا في مقاله الأعظم «عن الخبرة». وبوطوم الرجل الطبيعي هو أيضًا بوطوم التعاليُّ، فهو يشعرُ بالراحة والسعادة في صُحبة الجنيتَين بازلاء وخيط العنكوب مثلَما شعر في صُحبة سناج وبيتر كوينس، زميلَيْه في الفرقة. ولا يرى بوطوم نَشازًا موسيقيًّا ولا اختلاطًا في تداخُل المملكتين في المسرحية. ومن السخف اعتبارُ بوطوم أدنى مكانةً من غيره؛ فهو يُعتبر مهرجًا رفيعَ القدر وصاحبَ رؤية عظيمة في آنٍ واحد.

٢

لا توجد ظُلمة في باطن بوطوم، حتى حين يقعُ في شراك السحر. وأما بَكْ، نقيضه، فهو شخصيةٌ ذات دِلالتَين متضادَّتين، فهو يهوى تدبير «المقالب» في أحسنِ حالاته، ويقوم بما هو أغربُ أيضًا، ولو أنَّ المسرحية (وأوبرون) يكتفيان بجعلِه متشردًا، بل ويستخرجان أعمالًا صالحة من مَقالبه المجنونة. والاسم البديل في المسرحية وفي الأدب الشعبي لهذا الجني هو روبن جودفيلو [أي الشخص الطيب] بمعنى أنه يدبِّر مقالبَ بريئةً وليس عِفريتًا خبيثًا، وإن كان وصفُه بالطيبة يوحي بالحاجة إلى إرضائه. وكلمة بَكْ (puck) أو بوك (pook) كانت تعني أصلًا العِفريتَ الذي يقصد إحداثَ الضرر أو الإنسان الشرير، وكان اسم روبن جودفيلو ذاتَ يومٍ الاسمَ الشعبيَّ لإبليس، ولكنه على طول المسرحية يؤدِّي لأوبرون الدورَ الذي يؤدِّيه أرييل للساحر بروسبيرو [في مسرحية العاصفة]، وهكذا فهو خاضعٌ للسيطرة الصالحة الصارمة عليه، ويستعيد بوطوم في آخرِ المسرحية صورته الخارجية، ويلتئم شملُ كلِّ عاشقَين الْتِئامًا عاقلًا، ويستأنف أوبرون وتيتانيا حياتهما الزوجية، ويقول أوبرون: «لكننا أرواحٌ من نوعٍ مختلف»، بل إن بَكْ عفريت صالح في المسرحية.
ويُساعد التضادُّ بين بَكْ وبوطوم على تحديدِ عالم حلم ليلة صيف؛ فإن بوطوم، أفضل نمطٍ للإنسان الطبيعي، يتعرَّض لألاعيب بَكْ، ولا يستطيع تجنُّبها، ويعجز عن تفادي تأثيرها من دون أن يأمرَ أوبرون بالنجاة منها. وعلى الرغم من أن المسرحية كوميديا رومانسيَّة، وليست عملًا رمزيًّا، فإن جانبًا من قوتها يتمثَّل في الإيحاء بأن بوطوم وبَكْ من المقوِّمات الإنسانية الثابتة. ويشير أحدُ المعاني الاشتقاقية لكلمة بوطوم (Bottom) إلى الأرض أو التراب، وربما يكونُ من الممكن تقسيمُ الناس بين الأرضيِّ أو الترابي، وبين الروحيِّ أو الجني، وتطبيق هذا التقسيم داخلَ كل شخص. ومع ذلك فإن بوطوم إنسان، وليس بَكْ بإنسانٍ ما دام يفتقر إلى المشاعر البشرية. وليس لبَكْ معنًى إنساني دقيق.

ويُعتبر بوطوم مثالًا شيكسبيريًّا مبكرًا يُبين لنا كيف يبدأ تكوين المعنى لا مجرد تَكْراره، فعلى نحوِ ما نرى في فولسطاف العظيم، ينشأ المعنى الشيكسبيري من الزيادة والتدفق وفيض الوفرة. ووعيُ بوطوم، على عكس وعي هاملت ووعي فولسطاف، ليس لا نهائيًّا، فنحن نعرف نطاقَ حدوده وبعضها يتَّسم بالبلاهة. ولكن بوطوم يتميَّز بالصحة البطولية في طِيبة قلبه، وشجاعته، وقدرته على أن يظلَّ كما هو في أية ظروف، ورفضه أن يُصاب بالذعر أو بالفزع. فهو، على غِرار لونص والنغل فوكونبريدج، مثالٌ رائع مبكر على قدرة شيكسبير على ابتكار الشخصية الإنسانية. وكل هؤلاء يسيرون في الطريق المؤدِّي إلى فولسطاف الذي سوف يتفوَّق عليهم حتى في حيوية وجودهم الفيَّاضة، وهو يتجاوزهم إلى حدٍّ بعيد باعتباره مصدرًا للمعنى. أما فولسطاف، الممثِّل للفوضوية القصوى فيُمثل خطرًا معادلًا لجاذبيته، بمعنى أنه يَزيد من عمق الحياة ويمكن أن يكون هَدَّامًا. إن بوطوم شخصية كوميدية رائعة، صالحٌ إلى حدٍّ بعيد، وذو طيبةٍ تُضارع طيبةَ أي شخص آخر عند شيكسبير.

٣

لا شك أن شيكسبير كان يذكر أن أوبرون كان في ملكة الجان التي كتبَها إدموند سبنسر العُظمى. ويعتقد الباحثون أنه من المحتمل أن الملكة إليزابيث كانت قد شاهدَت العرضَ الأول لحلم ليلة صيف، وكانت بالضرورة ضيفَ الشرف في حفل الزفاف. وتحفل حلم ليلة صيف، مثل خاب سعي العشاق، والعاصفة، وهنري الثامن بالمناظر الخلَّابة على خشبة المسرح. ونجد تحليلًا رائعًا لهذا الجانب من حلم ليلة صيف في كتاب سي. ل. باربر وعنوانه الكوميديا الاحتفالية عند شيكسبير، ولا يكاد يتَّصل بتوكيدي الأوَّلي لابتكار شيكسبير للشخصية الأدبية والشخصية الإنسانية جميعًا. والمسرحية باعتبارها عرضًا للترفيهِ عن الطبقة الأرستوقراطية، لا تُنفق إلا قدرًا ضئيلًا نِسبيًّا من طاقاتها على جعل ثيسيوس وهيبوليتا، وأوبرون وتيتانيا، والعشَّاق الأربعة اليافعين الذين تاهوا في الغابة، شخصياتٌ متميزة ذواتُ خصائصَ متفردة. أما بوطوم وبَك العجيب؛ فهُما بطَلا المسرحية، وهما مُصوَّران تصويرًا دقيقًا، وأما ما عداهما — حتى أولئك العمال بألوانهم المختلفة — فيتَّسم كلٌّ منهم بخصيصةٍ تُميزه، مما تتطلَّبه المشاهدُ الجذابة على المسرح في العادة. ومع ذلك فيبدو أن شيكسبير قد تطلَّع إلى ما بعدَ المناسبة المبدئية للمسرحية باعتبارها عملًا يصلُح للتقديم في المسارح العامة؛ إذ نجد بعضَ اللمسات البالغة الدقة في رسم الشخوص، وهي اللمسات التي تتجاوزُ وظيفةَ العمل الفني الخاص بحفل الزفاف. فإن هيرميا تتمتَّع بقدرٍ أكبرَ كثيرًا من صفات الشخصية الإنسانية بالقياس إلى هيلينا، وأما ليساندر وديميتريوس فيُمكن استبدال أحدهما بالآخَر، وهذه سخريةٌ شيكسبيرية توحي بأن حبَّ الشباب لا منطق له ولا سبب، من وجهة نظر الجميع باستثناء العاشق. ومع ذلك فإن الحب بشتى أشكاله يقوم على السخرية في حلم ليلة صيف. فلننظر إلى هيبوليتا: إنها، على الرغم من رِضاها الظاهر، عروسٌ أسيرة، مقاتلة أمازونية رُوِّضَت إلى حدٍّ ما، وأما أوبرون وتيتانيا فهما قد اعتادا الخيانة الجنسية المتبادَلة إلى الحدِّ الذي تنقطع فيه الصلةُ بين انفصالهما الحاليِّ وبين المشاعر المشبوبة، بل تتعلق بقضيةِ مَن يرعى طفلًا بشريًّا مختطَفًا، وهو غلامٌ صغير ترعاه تيتانيا في الوقت الحاضر. وعلى الرغم من أن عظَمة حلم ليلة صيف تبدأ وتنتهي ببوطوم الذي يظهر أولَ مرة في المشهد الثاني، وبَكْ الذي يستهلُّ الفصل الثاني، فنحن لا نرتقي إلى اللغة الرفيعة التي تنفردُ بها هذه الدراما إلا حين يُواجه أوبرون وتيتانيا بعضهما بعضًا:
أوبرون : لقاءٌ منحوس في ضوء القمر يا تيتانيا المتكبِّرة!
تيانيا :
مَن؟ أوبرون الغَيور؟ ابتعِدي أيَّتها الجنيات!
لقد هجرت فراشه وسلوت صحبته!
أوبرون : مهلًا أيَّتها الناشزة الطائشة! ألم أزل زوْجَك؟
تيانيا :
لا بد أنني ما زلتُ زوجتك إذن! ولكنني أعرفُ كيف
تسلَّلتَ خارجًا من أرض الجان،
وجئت في صورةِ أحد الرعاة، فجلست سحابةَ يومك،
تعزفُ أناشيدَ غرامك في مزمارٍ من البوص
للراعية التي عَشِقَتك! لماذا جئتَ الآن
قادمًا من أقاصي الهند؟
إن الأمازونة الوثابة، حبيبتك المقاتلة،
وخَليلتك التي ترتدي حذاء الصيد،
سوف تتزوج اللَّيلةَ من ثيسيوس! ولا بد أنك أتيتَ لتُضفي
على فِراشهما الهناءَ والسعادة!
أوبرون :
كيف تَجْرُئين يا تيتانيا على التلويح
بأيِّ سوء في علاقتي الناصعةِ بهيبوليتا،
وأنتِ تعلمين أنني أعرف غرامَك بثيسيوس؟
ألم تسيري به في ضوء اللَّيل الخابي،
وتجعَليه يهجر بريجونا التي اغتصَبها،
ويخون عهدَه مع إيجلز الجميلة
وأريادني وأنتيوبا؟
(٢ / ١ / ٦٠–٨٠)
ويقول بلوتارخوس في كتابه حياة ثيسيوس الذي قرأه شيكسبير في الترجمة التي وضعها السير توماس نورث، إن ثيسيوس كانت له غزواتٌ نسائية بالغةُ الكثرة، وهي التي يُعدِّدها أوبرون هنا وعلى شفتَيه ابتسامة، وينسبُ إلى تيتانيا دورَ القوَّادة التي تقود البطلَ الأثيني إلى حيث يُحقق انتصاراته، ولا شكَّ أنها كانت إحداهن. وعلى الرغم من ردِّ تيتانيا قائلةً «هذه أكاذيبُ مِن صُنع الغيرة» فإنها لا تُقنعنا مثل روايتها لرؤية أوبرون «وهو يؤلِّف أهازيج الغرام/للعاشقة فيليدا» ويستمتع ﺑ «الأمازونة الوثابة» هيبوليتا. أما ثيسيوس في المسرحية فيبدو أنه قد تخلى عن مُصاحبته للنِّسوة، فأصبح يتمتَّع بالاحترام العقلاني، وما يُصاحبه من بلادةٍ أخلاقية، وأما هيبوليتا التي أعلنَت الناقداتُ النسويات أنها ضحيةٌ وانْبرَين للدفاع عنها، فإنها لا تكاد تُفصح عن أي نفورٍ من كونها تزوجَت بحد السيف، وتبدو مقتنعةً بأن تتضاءل وتُصبح ربة منزل في أثينا، بعد مُغامراتها مع أوبرون، على الرغم من احتفاظها برؤيةٍ خاصة بها وحسب، على نحوِ ما سوف أُبين. وأما الذي تقصُّه علينا تيتانيا فيما بعد بأسلوبٍ رائع فهو أن الشقاق الذي نشب بين أوبرون وبينها، كارثةٌ للمملكة الطبيعية والمملكة الإنسانية أيضًا، انظر ما يلي:
تيتانيا :
هذهِ أكاذيبُ صَنَعَتْها غَيْرتُك!
ولقد دأَبْتَ منذ بدايةِ منتصفِ الصيف
على التَّشاجرِ مَعَنَا وتعكيرِ صَفْوِ لَهْوِنا
كلَّما اجتمَعْنا فوقَ تلٍّ أو في وادٍ أو غابةٍ أو مَرعًى،
أو حولَ نبْعٍ صاف أو غديرٍ رَقْراق،
أو على شاطئ البحر الرَّمليِّ كي نرقصَ
في حَلقاتٍ على أنغام مِزمار النَّسيم!
فإذا بالرياح قد ضاعت ألحانُها سُدًى،
فكأنَّما أرادت الانتقامَ منها، وأتَت من البحر
بضَبابٍ ينشر الأمراضَ في كل مكان!
وحينَما هبَط على الأرض، انتفش بالزَّهوِ كُلُّ نهرٍ
صغيرٍ، ففاض وأغرق الضِّفاف،
وهكذا ضاع جُهْدُ الثَّور في جرِّ المحراث،
وضاع مِن الفلَّاح العرَقُ الذي بذَله،
وتَلِف القمحُ الأخضر قبل أن تنبت سنابلُه،
وأصبحَت الحظائرُ خاويةً بعد أن غمرَت المياهُ الحقول،
والتهَمَت الغِربانُ جُثثَ الأغنام فسَمِنَت،
وكَسا الوحلُ أماكنَ لهوِ الفلَّاحين ولَعبِهم،
واختفَت الطرقُ الملتوية في المراعي الكثَّة،
بعدَ أن هجَرَتْها الأقدام،
وافتقد البشرُ الفانون أهازيجَ الشتاء،
ولم تَعُد تسمع بالليل نشيدًا أو ترتيلًا يُباركه …
ولذلك فإن القمر الذي يتحكَّم في المدِّ والجَزْر
يغضبُ ويَمتقِعُ لونُه، فيملأُ الجوَّ بالرطوبة،
وتنتشر أمراضُ التهابِ المفاصل.
وبسببِ هذا الخلل نَرى الفصول وقد تغيَّرَت،
فتساقطَت ندفُ الصَّقيع التي وخَطَها الشَّيبُ
بين أحضانِ الزهور القانية ذاتِ الشباب النضر،
وفوق تاج الثلج النَّحيل على رأس الشتاء الهرمِ تنبت طاقة
عطرةً من براعم الصيف الرقيقة كأنما تَسْخر منك
وتضحك. فالرَّبيع والصيف والخريف المثْقَل بالثمار،
والشتاء الغاضب، تُغيِّر من أردِيَتها المألوفة، ويختلط
الأمرُ على الناس فلا يستطيعون تمييزَ الفصول بعضِها عن
بعضٍ بما تُثمره من الثمار. ومحصول الشرِّ ذاك كلِّه ثمرةٌ
من ثمار خِلافنا وفُرْقتنا.
فنحن ولَدْناه وبذَرْنا بُذوره.
(٢ / ١ / ٨١–١١٧)
لم يبلغ أيُّ شعر سابقٍ كتبه شيكسبير هذه السِّمةَ الفذَّة؛ إذ يجد هنا أحدَ أصواته الصادقة الكثيرة، وهو ترنيمة النَّعي الطبيعية. فالسُّلطة في حلم ليلة صيف سِحريةٌ لا سياسية، وثيسيوس جاهلٌ حين يولي السلطةَ للأب أو لجنسِ الذكَر. إنَّ مُعاصرينا الذين ورثوا الميتافيزيقا الماديَّة عند ياجو، وثيرستيز وإدموند يرَون أن أوبرون لا يَزيد عن توكيدٍ آخَر لسُلطة الذكر، ولكن عليهم أن يتأمَّلوا نعْيَ تيتانيا. فأوبرون متفوِّق في الخداع، ما دام يُسيطر على بَكْ، وسوف يظفر بعودة تيتانيا إلى ما يعتبره نوع المودة الخاص به. ولكن هل هذا إعادة توكيد لسيطرة الذكَر أم لشيء أدق وأخفى؟ إن القضية القائمة بين ملكة الجان ومليك الجان نزاعٌ على الوصاية: «لا أريد سوى ذلك الغلام الصغير/الذي استَبْدَلْتِهِ أنتِ لأجعله من أتباعي» أي أن يجعله «وصيف الشرف» في القصر الملكي. وأنا لا أجد ما يصرُّ على رؤيته عددٌ كبير من النقاد من فحش، بل توكيد بريء للسيادة في نزوةِ أوبرون، أو في رفض تيتانيا الحاد الجميل للتنازل عن الطفل:
تيتانيا :
لا تُتعب نفسك؛ فلن أبيعَه مقابلَ بلاد الجان كلها!
كانت أمُّه من تابعاتِ مذهبي، وكثيرًا ما كنا
نقف معًا في اللَّيل، نتنسَّمُ هواءَ الهند العطر ونتحادث،
وكثيرًا ما كنَّا نجلس على رمالِ البحر الصفراء
نتأمَّل السفُن السارية في البحر، حاملةً تجارتها،
ونضحك عندما نرى الأشرِعةَ تنتفخُ بطونُها
كأنما تحملُ أطفالًا من الهواء الماجن، وإذا ذاك
كانت تُحاكي السفينة بخطوات سابحةٍ رقيقة
(وهي حاملٌ أيضًا بغلامي الصغير)، بل كانت تسبح
على الأرض لتأتيَ لي ببعضِ أشيائي وتعود
كأنَّما عادت من رحلةٍ بالبحر حاملةً تِجارتَها!
ولكنها كانت من البشر الفانين،
فماتت أثناءَ وضع الغلام، وأنا أُربِّيه اليوم
من أجْلِها، ومن أجلِها لن أتخلَّى عنه.
(٢ / ١ / ١٢١–١٣٧)

وقد أصابت روث نيفو في قولها إنَّ تيتانيا تستوعبُ المؤمنين بها استيعابًا كاملًا إلى الحدِّ الذي جعل الطفلَ المستبدل طفلها، في علاقةٍ تستبعد أوبرون. فإذا جعله أوبرون «وصيف شرف» كان يؤكِّد ذلك تبنِّيه له، مثل موقف بروسبرو المبدئي تجاه كَالِيبان [في مسرحية العاصفة] وسوف ينتفع أوبرون ببَكْ لتحقيق هدفه، ولكن لماذا نجد أن أوبرون الذي لا يَغار من ثيسيوس والذي يُبدي استعداده لأن يُصبح ديوثًا بسبب سحرِ تيتانيا يظهر استياءً ضاريًا؛ بسبب وصاية الطفل المستبدل؟ لن يُخبرنا شيكسبير بالسبب، وعلينا مِن ثم أن نتولَّى بأنفسنا تفسيرَ ما يمتنع شيكسبير عن تفسيره.

ومن الدلالات الواضحة المترتِّبةِ على ذلك أن أوبرون وتيتانيا لم يُنجبا أطفالًا ذكورًا، وأوبرون خالدٌ وليس له أن يَقلق على وريث، ولكن لديه من الواضح طموحات أبوية، وهي التي لا يستطيع مُساعِدُه بَكْ أن يُحقِّقها له. وقد يرتبط بهذا الموضوع أيضًا أنَّ والد الطفل كان من ملوك الهند، وأن التقاليد ترجع النسبَ الملكي لأوبرون إلى إمبراطور هندي. وأهمُّ شيء فيما يبدو هو رفضُ تيتانيا أن تَسمح لأوبرون بأيِّ نصيب في تبنِّي الطفل. وربما يكون ديفيد وايلز على حقٍّ في قوله إن أوبرون يرغبُ في مُوازاة نسَق الزِّيجات الأرستوقراطية في العصر الإليزابيثي، حين كان إنجابُ وريثٍ ذكر أعلى هدف، على الرغم من أن الملكة إليزابيث، باعتبارها الملكةَ العذراء، تُقوِّض هذه التقاليد، وإليزابيث هي الراعية القُصوى لحلم ليلة صيف.

وأعتقد أن النزاع بين تيتانيا وأوبرون أدقُّ وأشدُّ خفاءً إذ يدور حول مسألة الصلات بين البشر الفانين وبين الكيانات الخالدة في المسرحية. أما «غراميات» ثيسيوس وهيبوليتا مع الجان فتنتمي إلى الماضي، وأصبحت مأمونةَ الجانب، ولقد وصل أوبرون وتيتانيا إلى الغابة، بالقرب من أثينا مهما يكن انفصالهما لمباركةِ زواج عاشِقَيهما السابقَين. وسوف يُقيم بوطوم فترةً قصيرة وسط الجان، وإن يكن من أبعدِ المرشحين لهذا من البشر، ولكن مَسْخه حين يقع مسخٌ خارجي وحَسْب. وأما الطفل الهندي فهو مستبدل بحق؛ أي إنه سوف يحيا حياته وسط الخالدين. وليس ذلك على الإطلاق بمسألةٍ تافهة في نظر أوبرون؛ إذ إنه يحتفظ مع رعاياه بأسرارهم المحرَّمة على الفانين. ومن ثَم فإن حِرمان أوبرون من صُحبة الطفل لا يُمثل تحدِّيًا وحسبُ للسلطة الذكورية، بل هو إساءةٌ إلى أوبرون، وهي إساءة لا بد له من محوِها وإدراجِها باسم شرعية الزِّعامة التي يشترك فيها مع تيتانيا. ويقول أوبرون إنها «إهانة له.»

وحتى يُعذب أوبرون تيتانيا حتى تتخلَّى عن موقفها الصارم، يرسم صورةً تُصبح أجملَ رُؤَى شيكسبير في المسرحية [يقول مخاطبًا بَكْ]:

هل تذكُر اليومَ الذي جلستُ فيه
على صخرةٍ ناتئةٍ في البحر،
وسمعتُ حوريةً فوق ظهر دولفين تُغنِّي؟
كانتْ ألحانُها حُلوةً متناغمةً
حتى لقد هَدَأَ البحرُ الثائرُ عند سَماعها
وهَوَتْ بعضُ النجومِ من أفلاكها مُسرِعةً
لتُصغيَ إلى موسيقى عَروس البحر.
بَكْ : نعم … أذكره!
أوبرون :
في ذلك اليوم … رأيتُ — ولكنك لم تستطعْ أن ترى —
كيوبيد وفي يده كُلُّ سهامه،
يَطير بين القمر البارد والأرض،
ثم حدد هدفه، وأطلق سهم الحب في خفة من قوسه
نحو عذراءَ رائعة، كلَّلَتها أشعةُ الغروب،
فكأنما انطلَق السهمُ يخترق مائةَ ألف قلب.
ولكني استطعتُ أن أرى نَصْل السهم الناري
وهو ينطفئ في أشعة القمر الذَّائبة في الماء الطاهر
ثم مرَّت العذراء الملكية في طريقها،
تحلم بأحلام العذارى، دون أن يُصيبها الحب!
ولكنني رأيتُ المكان الذي سقط فيه السهم؛
لقد سقَط على زهرةٍ صغيرة تنمو في الغرب،
كانت مِن قبلُ بيضاءَ اللون،
فأصبحت حمراء من جرح الحب،
وتُسميها العذارى زهرة البانسيه،
أحضِر لي هذه الزهرة
التي أريتك أعشابها من قبل.
وإذا أنزلنا قطرةً من رحيقها
على جَفنٍ نائم من الرجال أو النساء،
وقع في حبِّ أول من تقعُ عليه عيناه،
حينما يصحو، وهام به بجنون!
أحضِر لي أعشاب هذه الزهرة،
وَعُدْ إلى هذا المكان
بأسرعَ ممَّا يَسبح التِّنين
فَرْسَخًا في البحر!
بَكْ : سأربطُ حزامًا حول الأرض في أربعين دقيقة!

(يختفي.)

أوبرون :
إذا جاءني هذا الرحيق
انتظرتُ تيتانيا حتى تنام،
ثم وضعتُ قطرةً منه في عينَيها.
فإذا ما استيقظَت
وقَعَتْ في حبِّ أولِ مَن تراه وطاردَتْه في جنون،
«ولو كان أسدًا أو دبًّا أو ذئبًا أو ثورًا،
أو غوريلا بشعة أو قردًا كثير الحركة»
ولن أُزيلَ هذا السحرَ من عينَيها،
«وهذا ممكن إذا وضعتُ فيهما رحيقَ عُشْبٍ آخر»
إلا إذا أعطَتْني الغلامَ الذي تحتفظُ به.
(٢ / ١ / ١٤٨–١٨٥)

أما الزهرة التي تُسمَّى زهرة البانسيه فهي التي تُوصَف بأنها «الحب العاطل»، وأما «العذراء الرائعة التي كلَّلَتها أشعةُ الغروب» فهي الملكة إليزابيث الأولى، ومِن وظائف هذه الرؤيا الجنِّية أن تُصبح أعظمَ تحية وأشدَّها مباشرةً يُقدمها شيكسبير إلى مليكته أثناء حياتها. فهي تمرُّ في طريقها وتظلُّ ذاتَ قلب خالٍ، ولكن سهم كيوبيد الذي عجز عن جَرْح قلب الملكة العذراء، يُحول زهرة البانسيه إلى تميمةِ حب عالمية. فكأنما يؤدِّي اختيار إليزابيث للعفاف إلى خلقِ عالم من الإمكانيات الغرامية للآخَرين، ولكن بثمنٍ غالٍ؛ هو أن يكون الحبُّ عارضًا تعسُّفيًّا بدلًا من أن يكون خيارًا منطقيًّا. فالحبُّ من أول نظرة، الذي تُعلي قدره روميو وجوليت؛ يتخذ هنا صورةَ الكارثة. ونحس الإمكانات الساخرة لأكسير الحب أول الأمر حينما يُدبر أوبرون أسلوبَ إيقاع تيتانيا في الشرَك، في فقرةٍ من أجمل فقرات المسرحية:

في الغَابةِ الفَيْحاءِ أعرِفُ رَبْوَةً سِرِّيَّة،
تَنْمُو عَلَيْهَا الزَّهْرَةُ البَرِّيَّة،
تَحُفُّها الوُرُودُ والبَنَفْسَجُ الذي يَمِيلُ لِلنَّسيمْ،
وفَوْقَها خَمِيلةٌ كثيفةٌ من الرَّيْحانْ
وحَوْلَهَا بَرَاعِمُ المِسْكِ العَطِرْ،
وأُقْحُوانٌ فارع نَضِرْ،
هُنَاكَ تَغْفُو زَوْجَتِي جُزْءًا من اللَّيْلِ الطَّوِيلْ
وَسْطَ الزُّهُورْ،
ما بَيْنَ رَقْصٍ وغِنَاءٍ وسُرُورْ،
وَهُنَاكَ تُلْقِي الحَيَّةُ الثَّوْبَ القَدِيمْ؛
كي تَرْتَدِي الجِلْدَ المُزَرْكَشَ بعضُ جِنِّيَّاتِهَا!
وَلَسَوْفَ أَعْصِرُ هَذِهِ الزَّهْرَة،
فَأَصُبُّ بَعْضَ رَحِيقِهَا في عَيْنِهَا؛
كي أُرْسِلَ الأَوْهَامَ ذَاتَ الهَوْلِ في أَحْلَامِها!
(٢ / ١ / ٢٤٩–٢٥٨)

والتضادُّ بين السطور التسعة الأولى والخمسة التي تَتْلوها يمنحُنا رعشةً جمالية؛ فالانتقال هنا من كيتس وتنيسون إلى براوننج وت. س. إليوت المبكر، حيث يتحوَّل أوبرون من الطبيعيَّة الحسِّية إلى الدفقة الحيوية الجروتسك. ومن ثَم فإن شيكسبير يُمهد الطريق لأعظم نقطةِ تحول في المسرحية، في الفصل الثالث، المشهد الأول، حيث يمسخ بَكْ بوطوم، وتستيقظ تيتانيا بصيحةٍ عظيمة تقول «مَن هذا الملاك الذي أيقظني من فِراش زهوري؟» والملاك هو بوطوم الذي لا يُبْدي أيَّ انزعاج، بل ولا يحزن لأنَّ طلعته المحبوبة قد مُسِخَت فغَدَت رأسَ حمار.

وهذا المشهد الفُكاهي الرائع جديرٌ بالنظر فيه: تُرى مَن منَّا يُمكنه أن يُصاب بمِثل هذه الكارثة الغريبة ويُحافظ على هدوئه ورزانته؟ إن المرء لَيشعر أن بوطوم كان يُمكنه أن يتعرَّضَ لمصير جريجور سمسا [الذي مُسخ إلى صرصور كبير] في قصة المسخ التي وضَعها كافكا من دون أن يشعر إلا بأسًى معتدل. إنه يدخل المسرح [بعد المسخ] كأنما في وقته المحدَّد منشدًا: «إنْ كُنْتُ جَمِيلًا يا تِسْبى العَذْبَة/فَأَنا مِلْكُ يَدَيْكِ الحُلْوَة!» فيتفرق زملاؤه مَذعورين. ويبدو أن بَكْ يشعر بالخيبة لعدم إخافته بوطوم، فيُقرِّر بسبب إحباطه متابعةَ العمال ومُلاحَقتَهم، متخذًا عدةَ أشكالٍ مخيفة. وعندما يَصيح كوينس: «رحمة الله عليك يا بوطوم! لقد تبدَّلت!» يردُّ بوطوم البلطجي بأغنيةٍ صغيرة تُلمح إلى خيانة المرأة لزوجها، ومن ثَم يُعِدُّنَا للاستماع إلى حوارٍ فُكاهي لم يستطع شيكسبير نفسُه أن يتفوق عليه:
تيتانيا :
أرجوك يا ابن البشَر الرقيق … عُد إلى الغناء؛
فإنَّ أذُني سحَرَتها ألحانك!
وعيني استولَت عليها صورتُك،
وقوَّة شمائلك الناصعة تُثيرني رغمًا عني،
فأقول لك وأقسم إنني أحببتُك من أول نظرة!
بوطوم : أعتقد يا سيدتي أنه لا يوجد سببٌ منطقي يدعوكِ إلى هذا. ومع ذلك فالحقُّ أن العقل والحب لا يجتمعان كثيرًا هذه الأيام، وهذا مما يُؤسَف له؛ إذ يرفض كثيرٌ من جيراننا الشرفاءِ أن يوفِّقوا بينهما! وهذه فكاهةٌ خطرَت لي بهذه المناسبة!
تيتانيا : إنَّ حِكْمتك في مثل جمالك!
بوطوم : لستُ حكيمًا ولا جميلًا! ولو كان لي من العقل ما يُعينني على الخروج من هذه الغابة لَكفى …
تيتانيا :
لا تَنشُد الخروجَ من هذه الغابة!
بل ستَبقى هنا … شئتَ أم أبَيت!
بل إنَّ سي. ل. باربر نفسَه لا يقدر بوطوم حقَّ قدره، قائلًا إن تيتانيا وبوطوم يُمثلان «الخيال في مواجهة الواقع»، ولكن «السحر في مواجهة الحقيقة» تعبيرٌ أدق. فإن بوطوم يتميز دائمًا بالسلوك المهذَّب والمجاملة، والشجاعة، والرأفة، وطيبِ المَعْشر، وهو يوافق الملكةَ الجميلة مُجاملةً لها، مدركًا بوضوحٍ أنها ذاتُ جنون مُطبق. والمفارقات هنا تخضع خُضوعًا كاملًا لسيطرة بوطوم، وتحافظ كِياستُه على أن تظلَّ لطيفة، ولا يوجد في حلم ليلة صيف شيءٌ يعبر بإيجازٍ عن ضُروب الاختلاط في مشاعر الحب مثل قوله: «فالعقل والحبُّ لا يجتمعان كثيرًا هذه الأيام.» ويستطيع بوطوم أن «يتفكَّه» أيضًا أحيانًا، وهذه هي الإمكانية الأخرى الوحيدة، إذا اتضَح أن تيتانيا المسكينة عاقلة. يقول إنه ليس حَكيمًا ولا جميلًا، ولكنه يرجو بحَصافةٍ أن يخرج من الغابة، ولكنه لا يُظهِر انزعاجًا شديدًا حين تُخبره تيتانيا أنه أسيرٌ لديها. وتوكيدها المتباهي لمرتبتِها وذاتِها مُضحك؛ فهي واثقةٌ ثقةً «لا معقولة» أنها تستطيع تخليصَ بوطوم من «صلصاله الفاني» وتحويله إلى «روح هوائيَّة» أخرى، كأنما كان يمكن أن يُصبح شخصًا «مستبدلًا» آخَر مثل الغلام الهندي:
إنَّني جنِّية ذاتُ منزلةٍ سامية
وكلُّ ما ينتمي للصَّيف يخدمني!
وأنا أحبُّك … فهيَّا إذن معي
سأُعيِّن لك خدمًا من الجن
يأتينَ لك بالجواهرِ من أعماق البحر،
ويُغنِّين لك، بَيْنا تنامُ على فِراشٍ من زهورٍ ناعمة!
وسوف أُطهرك من طينتِك البشرية،
حتى تطير كأنَّك عفريتٌ من الهواء!
يا زهرة البازلاء! يا خيط العنكبوت! يا فراشة! يا خَرْدلة!
(٣ / ١ / ١٤٧–١٥٥)

إن بوطوم الذي يُبْدي الودادَ الكافيَ لتيتانيا المتيَّمة بحُبِّه، خاضعٌ بالفعل لسِحر الجنيَّات الأربع، مثلما تخضع هي لسحره؛ إذ يودُّ بوطوم لو غدَا واحدًا منهنَّ حتى من دون مسخ بَكْ له:

بازلاء : حاضرة!
خيط العنكبوت : وأنا.
فراشة : وأنا.
خردلة : وأنا.
الجميع : أين نذهب؟
تيتانيا :
أكرِموا هذا السيد واعتَنوا به.
تواثَبوا حوله حين يسيرَ وتراقَصوا أمامه.
قدِّموا له المشمشَ والتوت الأسود،
والعنب الأحمر والتين الأخضر والتوت الأبيض،
اسرِقوا أقراصَ العسل من النحل،
واجمَعوا الشمع من تحت أرجلها واصنعوا منه الشموع،
وأضيئوها من عيون الحُباحب الوهَّاجة،
حتى تُرشدوا حبيبي إلى فراشه ثم توقِظوه،
واقطفوا أجنحةَ الفراشات الملوَّنة؛
حتى تحجبَ أشعَّةَ القمر عن عينَيه النائمتين،
انحنُوا له أيها الجان وحيُّوه!
بازلاء : مرحبًا بك يا ابن البشر!
خيط العنكبوت : مرحبًا!
فراشة : مرحبًا!
خردلة : مرحبًا!
بوطوم : أرجوكم يا أصحاب السموِّ أن ترحموني! أتوسَّل إليك يا صاحبَ السمو أن تُخبرني مَن أنت!
خيط العنكبوت : خيط العنكبوت!
بوطوم : أرجو أن أزدادَ معرفةً بك، يا أستاذ خيط … وعندما أجرحُ أصبعي فسوف تتوثَّق علاقتي بك … وأنت أيها السيد الكريم … ما اسمُك؟
بازلاء : زهرة البازلَّاء!
بوطوم : أرجوك أن تنقل تحيَّتي إلى والدتِك برعمة، وإلى والدك قَرْن البازلاء، وأرجو أن أزدادَ معرفةً بك أنت أيضًا يا أستاذ زهرة … وأنت يا سيد … ما اسمك لو سمحت؟
خردلة : خردلة.
بوطوم : يا سيدي الخَردل الكريم … أعرف جيدًا مَدى صبرِك. وأعرفُ أن الثَّور، ذلك الجبان العملاق، قد التهمَ الكثيرين من أهل منزلك وأؤكِّد لكأنني بكيت كثيرًا على أقربائك … وأرجو أن تزداد معرفتي بك يا أستاذ خردل …
(٣ / ١ / ١٥٦–١٨٩)
وعلى الرغم من أن تيتانيا سوف تتبع هذا الحوار بين الأبرياء بأن تأمر الجنيَّات بقيادة بوطوم إلى خميلتها، فلا يتَّضح لنا على وجه الدقة ما يحدث هناك وسط زهور البنفسج المومئة برءوسها، والتعريشات الغضَّة البضَّة، وورود المسك الحلوة. إن لم تكن يان كوط أو بيتر بروك، فهل هذا مهم؟ هل يتذكَّر المرء المسرحية بسبب «الشهوانيَّة الحيوانية» أم بسبب البازلاء وخيط العنكبوت والفراشة والخردلة؟ كانت هذه الأدوارُ يلعبها الأطفالُ بلا شكٍّ آنَذاك، كما هو الحالُ الآن، وكانت هذه الجنيات الصغيرة ماهرةً في السرقة من عسَل النحل والفراشات، وهو فنٌّ متأرجحٌ يرمز لمسرحيةِ حلم ليلة صيف برُمَّتها. والمجاملات الوقورة التي يُبْديها بوطوم لها، وانتباهها وتجاوُبها في مرحٍ معه، تساعد على إنشاء أجواء طفولية عميقة حول بوطوم (لكنها ليست بلهاءَ أو حيوانية). ومشكلة الردِّ على أولئك «المستائين» أنها أحيانًا ما تجعلني أسمع صوتَ أستاذي في جامعة ييل، المرحوم فريدريك أ. بوتل، ينصحُني قائلًا: «يا سيد بلوم! لا تضرِبْ في حديدٍ بارد!» [لا تنفخ في قِربة مقطوعة!] ولكني لن أتوقَّف، ويكفيني الاستشهادُ بما يقوله إمبسون عن «يان كوط»:

أتَّخذ موقفي مع الزملاء القدامى هنا. فإن كوط لا يكترث بنصِّ المسرحية إلى درجةٍ تُثير السخرية ويبذل جهده لإفساد روح النص.

ومن طبعِ الجن (وبَكْ خصوصًا) ألا تُصيب هدفًا مقصودًا وتُصيب هدفًا آخَر غير مقصود. وكان أوبرون قد كلَّف بَكْ بأن يُحوِّل عاطفةَ ديميتريوس من هيرميا إلى هيلينا، ولكن بَكْ يُخطئ ويُحوِّل ليساندر إلى عاشق لهيلينا. وعندما يصيبُ بَكْ هدفه في محاولته الثانية، يتحوَّل الموقف إلى اختلاطٍ عبَثي بين الأربعة؛ إذ تتصور هيلينا أنها تتعرَّض للسخرية منها فتفرُّ هاربةً من الشابَّين، وتُعاني هيرميا من الذهول بسببِ الحيرة الشديدة. ويُختتم الفصل الثالث بأن يجلب بَك النوم إلى عيون الجميع، ثم يُبدي الحرصَ في إعادة توجيه مَشاعر ليساندر إلى حبيبتِه الأصلية هيرميا، والإبقاء على حبِّ ديميتريوس لهيلينا. ويؤدي ذلك إلى مفارقةٍ عجيبة لا تحسمها المسرحيةُ على الإطلاق، وهي السؤال القائل: هل من المهمِّ حقًّا تحديدُ كلِّ زوج وزوجة؟ وإجابة شيكسبير البرجماتية هي: ليس لذلك أهميةٌ كبيرة، سواءٌ في هذه الكوميديا أو في غيرها؛ إذ إنَّ جميع الزِّيجات عند شيكسبير، فيما يبدو، تَسير في طريقٍ يؤدِّي إلى التعاسة. ويبدو لي أنَّ شيكسبير دائمًا ما يحتفظ بما أُسمِّيه نظريَّة «الصندوق الأسود» لاختيار الفرد. فالطائرةُ تسقط، ونبحث عندها عن الصندوق الأسود حتى نعرفَ سببَ الفاجعة، ولكنَّ صناديقنا السوداء يستحيلُ العثورُ عليها، وكوارثنا الزوجيَّة تعسُّفية مثل حالات نجاحنا. ربما ينبغي لنا أن نُطلق على هذا اسم «قانون بَكْ»: أي مَن ذا الذي يستطيع أن يقول إن زيجة ديميتريوس وهيلينا ستتفوَّق على زِيجة ليساندر وهرميا؟ والفصل الثالث من حلم ليلة صيف يُنحِّي هذا السؤال جانبًا، إذ ينتهي بأغنية بَكْ:
قَيْسٌ سَيَفُوزُ بِلَيْلَاهُ،
ويَعُودُ المَاءُ لِمَجْرَاهُ،
لَنْ يَحْدُثَ ما يُفْسِدُ وُدًّا،
وسَيَسْعَدُ كُلُّهمُ أَبدًا.
(٤ / ٢ / ٤٦١-٤٦٢)

٤

ينبغي لكلِّ قارئ أن يجمعَ الفصول التي يُفضِّلها في مسرحيات شيكسبير، وأحد فصولي المفضَّلة هو الفصل الرابع من حلم ليلة صيف، حيث تتكدَّس العجائبُ والغرائب، وتتدفَّق الفصاحةُ والبلاغة؛ إذ يَعرض شيكسبير ثراءه الخلَّاق الحافلَ بلا توقُّف. أما المشهد الأول فينفي أيَّ احتمالٍ للتفسير القائم على العربدة الشهوانية؛ إذ تُجلِس تيتانيا بوطوم الوَدودَ على فِراشٍ من الزهر وتُداعب خدَّيه، وتضع في رأسه ورودَ المسك، وتُقبِّل أذنيه. ومن المستبعَد أن يؤدِّي ذلك إلى إثارة شهوة بوطوم:
بوطوم : أين بازلاء؟
بازلاء : حاضرة.
بوطوم : اهرشي رأسي يا بازلاء. أين المسيو خيط العنكبوت؟
خيط العنكبوت : مرحبًا!
بوطوم : مسيو خيط عنكبوت! أيها المسيو الكريم! جهِّزْ أسلحتك واستعدَّ حتى تقتلَ لي النحلة التي تقفُ فوق تلك الشوكة، وأردافُها حمراء! ثم أحضِر لي أيها المسيو الكريم قُرص العسل ولا تُجهِد نفسك كثيرًا في العمل يا مسيو! وحذارِ أيها المسيو الكريم أن ينكسرَ منك قرصُ العسل، فلا أحبُّ أن يَغمرك العسلُ يا سنيور! أين المسيو خردلة؟
خردلة : حاضرة.
بوطوم : صافِحْني يا مسيو خردل! أرجوك! تكفي الانحناءاتُ أيها المسيو الكريم!
خردلة : ماذا تريد؟
بوطوم : لا شيء أيُّها المسيو الكريم! سِوى مساعدةِ الفارس الهُمام المسيو عنكبوت في هرش رأسي. لا بد أن أذهبَ إلى الحلاق يا مسيو، فأظنُّ أن الشَّعرَ الكثيف يُغطي وجهي. وأنا حِمارٌ رقيق، ما إن أُحِسَّ بدغدغةٍ حتى أُسرع إلى الهرش!
تيتانيا : هل تودُّ الاستماعَ إلى بعض الموسيقى يا حبيبي الجميل؟
بوطوم : إن أذُني موسيقيةٌ لا بأس بها. فلنسمع الصاجاتِ والشخاليل.
تيتانيا : قُل يا حبيبي الجميل، ما تريد من الطعام؟
بوطوم :
في الحقيقة … قليلٌ من العلف … أشتهي بعض الشُّوفان الجاف!
وأظن أنَّ بي عطشًا شديدًا لزجاجةٍ من شراب الدريس!
الدريس الجميل، الدريس الحلو، ليس له أخٌ!

ما الذي صنَعه بَكْ؟ لقد أهان تيتانيا إهانةً كبرى، بلا شك، ولكنه أتى لبوطوم بصَداقة أربع جنيَّات. ولما كان بوطوم يُغالب النعاس، فليس غريبًا أن يخلطَ بين خيط العنكبوت وبازلاء، ولكنه باستثناء ذلك رابطُ الجأش، وإن كانت عاداتُ الطعام لديه قد تغيَّرَت، بالضرورة، وهو ينام، وقد احتضنَته تيتانيا المبهورة، في عِناقٍ ذي براءةٍ ساحرة. ويُخبرنا أوبرون أن تيتانيا قد أعادت له الغلامَ «المستبدل»، فصفَح عمَّا كان وأمَر بَكْ أن يُعالجها من أثرِ السحر، وأن يُعالج أيضًا بوطوم، فيعود النَّساج إلى سابقِ عهده وإن كان يُصر على مواصلة النوم. ولمسات شيكسبير هنا خفيفةٌ إلى حدٍّ مدهش؛ إذ تختفي آثارُ المسخِ أثناء رقصة التَّصالح التي تُعيد قوةَ الزواج بين أوبرون وتيتانيا:

والآنَ يا مَلِيكَتِي! ضَعِي يَدَيْكِ في يَدِي!
في رَقْصَةٍ تُزَلْزِلُ الأَرْضَ التي نَامَ الغُفَاةُ فَوْقَهَا!
(٤ / ١ / ٨٤-٨٥)

ويظلُّ العُشاق الأربعة في سُباتٍ عميق حتى حين يدخل ثيسيوس وهيبوليتا والحاشية إلى المسرح بضجيجٍ وعجيج في حوارٍ يُمثل دفاعَ شيكسبير عن فنِّ المزج والخلط في المسرحية:

ثيسيوس :
فلْيذهَب أحدُكم ويُحضر حارسَ الغابة،
وبعد أن احتفلنا بعيد الربيع،
وما دمنا في أوَّل النهار،
فلتسمَع حبيبتي موسيقى كلاب الصيد،
أطلِقوها في الوادي الغربي … أطلِقوها الآن!
قلت أسرعوا بإحضار حارسِ الغابة!
(يخرج أحد الأتباع.)
سوف نصعد أيَّتها الملكة الجميلة إلى قمة الجبل،
ونسمع اختلاطَ موسيقى النُّباح وأصداءها معًا!
هيبوليتا :
أذكر مرةً صحبتُ فيها هرقل وكادموس،
في رحلةٍ لصيد الدِّبَبة في إحدى غابات كريت،
بكلابٍ اسبرطيَّة! لم أسمع في حياتي
أصواتًا بهذا الغضب الجائح! إذ بدا لي
أنَّ الأدغالَ والسَّمواتِ والينابيعَ،
وجميعَ الأصقاع القريبةِ، تصيحُ صيحةً واحدة!
لم أسمعْ في حياتي مثلَ ذلك التنافُرِ المُتناغِمْ،
أو ذلك الرَّعد الجميلْ!
ثيسيوس :
إنَّ كِلابي من سُلالةٍ اسبرطية،
أشداقُها ضخمةٌ ولونُها رملي،
وآذانُها عريضةٌ تتدلى فتمسح أنداءَ الصباحِ أمامَها!
رُكَبُها منحنية، والجِلْد فضفاضٌ حول رِقابها،
كأنها ثيرانُ ثيساليا! وهي بطيئةٌ في الطِّراد،
ولكن أصواتَ المجموعة متدرجةُ الأنغام،
كأنَّها الأجراسُ نغمةً تحتَ نَغْمَة.
لَمْ تُسْمَعْ أنغامٌ أفضلُ من أنغامِ تلك المجموعة،
حين تُنَادَى أو حين يُنفَخُ لها في البوق،
في كريت أو في أسبرطة أو في ثيساليا،
واحْكُمي عليها بنفسك — ولكن ما هذه الحوريات؟
(٤ / ١ / ١٠٢–١٢٦)

ويضم التنافرُ الموسيقي أربعةَ أساليبَ مختلفة للتمثيل؛ فإن ثيسيوس وهيبوليتا ينتميان للأساطير الكلاسيكية، والعشاق الأربعة في سنِّ الشباب، ينتمون إلى كل زمان ومكان، وينتمي بوطوم وزملاؤه العمال، مثل الجن، إلى ريف إنجلترا، وهم انتقائيون إلى حدِّ الجنون، وأما تيتانيا فهي الاسم البديل الذي يُطلقه أوفيد على ديانا، وأما أوبرون فينتمي إلى تراث الرومانس الكلتي [في اسكتلندا]، على عكس بَكْ أو روبن جودفلو المنتمي إلى الفولكلور الإنجليزي. ويشترك ثيسيوس وهيبوليتا بحوارهما المجنون الممتِع في الاحتفال بالهُراء الرائع لكلاب أسبرطة؛ فالناس لا يُربُّونها إلا لنباحها، وهكذا فهي «بطيئة في الطراد». ويحتفل شيكسبير «بالرعد الجميل» في مُبالغاته الفكاهية، التي تُشبه كلاب ثيسيوس في عدم الحرص على الوصول بسرعةٍ إلى أي مكان، لكنها لا تزال تُجهز لنا مفاجآت رائعة. وسوف أتجاوز استيقاظ العشاق الأربعة (بعد أن أصبح ديميتريوس عاشقًا لهيلينا) حتى أصل إلى أجملِ حديثٍ كتبه شيكسبير، وهو حلم اليقظة الرفيع الذي يَرْويه بوطوم عندما استيقظ:

بوطوم (وهو يستيقظ) : عندما يأتي دوري في الحوار المسرحي نادني … وسوف أُجيبك. دوري القادم بعد عبارة «بيراموس يا أجملَ الناس.» (يتثاءب) آه! بيتر كوينس! فلوت يا مصلح المنافيخ! سناوت يا سمكري! ستار فلنج! يا للعجب! هل هرَبتُم وتركتموني نائمًا؟ لقد رأيتُ حُلمًا بالغَ الروعة! لقد رأيتُ منامًا لا يستطيع عقلُ الإنسان أن يصفَه أو يَحكيَه! حِمارٌ مَن يحاولُ وصْفَ هذا الحُلم! لقد حَلَمْتُ أنني — لا يمكن لإنسانٍ أن يقولَ ماذا كنتُ في المنام. لقد رأيتُ أنني — وحَلَمْتُ أن لي — ولكنَّ مَن يحاولُ أن يصف ما خُيِّلَ لي أنه لي … أحمقٌ مأفون لا تستطيع عينُ الإنسان أن تسمع، ولا تستطيع أذنُه أن ترى، ولا تستطيع يده أن تشم، ولا يستطيع لسانه أن يتصوَّر، ولا قلبه أن يحكيَ ماذا رأيتُ في منامي! سوف أطلبُ من بيتر كوينس أن يكتب مَوَّالًا شعبيًّا عن هذا الحلم، وسيكون عُنوانه «حلم بوطوم» لأنه لا معنى له. وسأغنِّيه في ختام المسرحية أمام الدوق. وربَّما غَنَّيته عند اكتشاف موتها حتى تزداد روعتُه.
(٤ / ١ / ١٩٩–٢١٧)
في ترجمة الآيتين ٩ و١٠ في الفصل الثاني من الرسالة الأولى إلى مؤمني كورنثوس ترِدُ عبارةُ «الروح يتقصَّى كلَّ شيء حتى أعماق أسرار الله» والترجمة تأتي بكلمة أعماق في مقابلِ كلمة بوطوم، وهجاؤها botome في نسخة جنيف من الكتاب المُقَدَّس، وبوطوم يُحاكي الآيةَ التاسعة، وهي جسارةٌ تُتيح لشيكسبير أن يستبقَ الرؤيا الرومانسية عند وليم بليك، حيث يرفض بليك الفصل الذي ينصُّ عليه القديس بولس بين الجسد والروح، ويبدو أن بوطوم قد سمع النصَّ في إحدى المواعظ المبنيَّة على نسخة الأساقفة من الكتاب المُقَدَّس التي تقول:
 [… ما لم ترَه عين، ولم تسمَعْ به أذُن، ولم يخطر على بالِ بشر، قد أعده الله.]١
ويقول بوطوم «لا تستطيع عينُ الإنسان أن تسمع، ولا تستطيع أذنه أن ترى، ولا تستطيع يدُه أن تَشَم، ولا يستطيع لسانُه أن يتصوَّر، ولا قلبه أن يحكي» حقائق هذا الحلمِ الذي لا غَوْر له (bottomless). وبوطوم، مثل وليم بليك فيما بعد، يقدِّم رؤيا نُبوئية للإنسان الذي لم يُخطئ، وهو الذي تختلط حواسُّه وتتمازج في وحدةٍ جمالية. من الصعب ألا يجدَ الإنسانُ عند بوطوم، في أرفع لحظاته وأعلاها، صورةَ ألبيون [أي إنجلترا] التي رسَمها بليك، وكذلك شخصية إيرويكر الحالمِ العالمي الذي صوَّرَه جيمز جويس في روايته مأتم فينيجان. وتظهر عظمة بوطوم — وشيكسبير في أعاليه — بأقوى عناصرها فيما يمكن أن يُسمى «رؤية بوطوم»، وهي الانتصار الغامض الذي سوف يستمتع به أمام ثيسيوس باعتباره الجمهور، حيث يعرض «مسرحية» لا تقتصر على كونها محاكاةً ساخرة، بل تعتبر مسرحية داخل المسرحية وعنوانها بيراموس وثسبي:

سوف أطلب من بيتر كوينس أن يكتب موَّالًا شعبيًّا عن هذا الحلم، وسيكون عنوانه «حلم بوطوم»؛ لأنه لا معنى له. وسأغنيه في ختام المسرحية أمام الدوق. وربما غنَّيتُه عند اكتشافِ موتها حتى تزدادَ روعتُه.

موت مَن؟ ما دُمنا لا نعرف الدراما الرُّؤَوِيَّة التي تدور داخل وعي بوطوم، فلن نستطيعَ إجابةَ السؤال، إلا بأن نقول إنها ليست تيتانيا ولا ثسبي. وعندما يعود البلطجي الظريف بوطوم في المشهدِ التالي فرحًا إلى أصدقائه، فلن يتكلم بهذه النبرات. ولكن شيكسبير لم ينسَ هذا الجانب «اللطيف» من بوطوم، ويجعله مُضادًّا للخطاب الشهير الذي يُلقيه ثيسيوس في بداية الفصل الخامس. وتتأمَّل هيبوليتا غرابةَ القصة التي يحكيها العشاقُ الشبان الأربعة، ويقيم ثيسيوس تَضادًّا بين شُكوكه ودهشتها.

ثيسيوس :
أغرب من أن تُصدق؛
فما صدَّقت يومًا هذه الخرافاتِ القديمة،
أو ألاعيب الجان. إنَّ للعشاق والمجانين
عقولًا فوارةً، وخيالُهم قوي خلَّاق،
يرى ما يعجزُ عن إدراكه العقلُ الهادئ.
خُلِقَ المجنونُ والعاشقُ والشاعرُ جميعًا من الخيال؛
فأحدُهم يرى من الشياطينِ ما لا تَسَعُهُ الجحيمُ الشاسعة،
ذاكَ هو المجنون. أما العاشق فهو لا يَقلُّ خَبَلًا
إذا يرى جمالَ هيلين في جَبْهَةٍ غجَرِيَّة!
وأما عينُ الشَّاعر التي تدورُ في حماسٍ رهيفٍ؛
فهي تهبطُ من السماء إلى الأرض،
ثم تصعدُ من الأرض إلى السماء،
وبينما يُجسِّدُ الخيالُ صورَ المجهول،
يُشكِّلُها قلمُ الشاعر، ويجعلُ لهباءِ العَدَمِ
مكانًا في الوجودِ ويمنحُه اسمًا محددًا.
فالخيالُ القوي قادرٌ على هذا الخداع،
فإذا أحسَّ ولو بفرحٍ قليل،
تَصَوَّر مصدرًا ما لهذا الفرح،
وإذا تَوَهَّم بعضَ الخوف أثناءَ الليل،
ما أيسرَ أن يتصورَ الشجرةَ دُبًّا مُفْزِعًا!
(٥ / ١ / ٢–٢٢)
ويمكن أن يوصَف ثيسيوس نفسُه، من دون قسوةٍ عليه، بأنه «ذو مُخيلةٍ بالغة العجز»، ولكنَّ لدينا هنا صوتَين، وربما يكون أحدهما صوتَ شيكسبير نفسِه، الذي يكاد يُقيم مسافةً بينه وبين فنِّه، وإن كان يرفضُ الاستسلام استسلامًا كاملًا، أيضًا، لما يقوله ثيسيوس بنبرةٍ مُتعالية. وعندما يكتب شيكسبير هذه السُّطور، ويرى العاشق جمالَ هيلين في جبهةِ بنتٍ غجَرية، فإن الوعي المتنبئ في مكانٍ ما عند شيكسبير يستبق رؤية أنطونيو لجمال هيلين في كليوباترا. كان «التخيُّل» يعني «التوهُّم» عند مُعاصري شيكسبير، وكانوا يرون أن التوهُّم أو الوهم ملَكة قوية من ملَكات الذِّهن، وإن كانوا لا يثقون فيها، وقد عبَّر عن هذا الازدواج السير فرانسيس بيكون تعبيرًا دقيقًا، قائلًا:

وليس الخيال مجردَ رسول وحَسْب، لكنه يتضمَّن — أو على الأقل يغتصب — سلطة غير ضئيلةٍ في ذاته، إلى جانب القيام بواجب الرسالة.

«يغتصب» هي الكلمةُ الأساسية هنا، فالذهن عند بيكون هو السلطة المشروعة، وعلى الخيال أن يَقنع بأن يكون رسولَ الذهن، وبألا يزعمَ لنفسه سُلطة مستقلَّة. وثيسيوس أقربُ إلى بيكون منه إلى شيكسبير، ولكن هيبوليتا تُعلن اختلافها عن عقيدة ثيسيوس الجامدة:

هيبوليتا :
ولكنَّ قصةَ ما حدثَ أثناء الليل بتفاصيلها الدقيقة،
والتحوُّل الذي أصاب قلوبَ الجميع في الوقت نفسِه،
يشهدُ بأنه ليس صُورًا من نسجِ الخيال،
بل يُشَكِّلُ روايةً متسقة لأحداثٍ وقعَت،
مهما كانت غريبةً وعجيبةً!
(٥ / ١ / ٢٣–٢٧)

لك أن تختار الحدَّ الأدنى من التأويل لما تقوله هيبوليتا قائلًا إنها لا تثقُ أيضًا في «الصور التي ينسجُها الخيال»، ولكنَّ ذلك يبدو لي تفسيرًا مؤسفًا؛ فالشِّعر في نظر ثيسيوس سَوْرةُ انبهار، والشاعر صاحبُ حيلة، وتُردد هيبوليتا صَدى الفكرة على نِطاقٍ أكبر، موحيةً بأنه سَورةٌ تُصيب أكثرَ من نفسٍ واحدة في الوقت نفسِه، والعشَّاق في نظرها تعبيرٌ مجازي عن جمهور شيكسبير، وإذن فإننا نحن الذين نتشكَّل أو نتَّخذ أشكالًا أشدَّ اتساقًا وثباتًا؛ أي إننا يُعاد تشكيلنا بصورةٍ غريبة تثير الإعجاب. ونبرة الجِدِّ السامية عند هيبوليتا تتضمَّن تقريعًا مُضمرًا لسخرية ثيسيوس من «الحماس الرهيف» عند الشعراء، ولقد توسَّع النقادُ مُحقِّين في تفهُّمِهم «لقصة الليل» متجاوزين بها المسرحية، على الرغم من روعتِها. ويقول بوطوم «لا! بالتأكيد! لقد زال الحائطُ الذي كان يَفصل بين أبوَيهما» وهو ردُّ فعله الأخير في المسرحية، ويتجاوز به الفَهم المتعاليَ لثيسيوس؛ إذ يقول ثيسيوس «إن أفضل الممثِّلين ظلال وحسب» وإذا كان لنا أن نقبل ذلك من مكبث، فلا نستطيع قَبوله من دوق أثينا البليد. ويبدو أنَّ بَكْ، في الخاتمة، يتَّفق مع ثيسيوس عندما يصفُ الممثلين بأنهم «ظلال» في «حُلم من الأحلام» ما دام الحلم هو هذه المسرحيةَ العظيمة نفسها. وأما الشاعر الذي رأى بوطوم في مَنامه فإنه يوشكُ أن يُبدع حُلمًا واقعيًّا أعظم، ألا وهو السير جون فولسطاف، الذي لن يهتمَّ بمُسايرة ثيسيوس في آرائه.

١  يقول النص العربي المعتمَد للكتاب المقدس «ولكن، وفقًا لما كُتِب «إنَّ ما لم ترَه عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على بالِ بشر قد أعده الله لِمُحبيه!» ولكن الله كشَف لنا ذلك بالروح؛ فإن الروح يتقصى كلَّ شيء، حتى أعماق الله» (الرسالة الأولى إلى مؤمني كورنثوس ٢: ٩–١٠، كتاب الحياة، ١٩٨٨م، طبعة ٢٠٠٣م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤