الفصل الثاني عشر

تاجر البندقية

١

على المرء أن يكون أعمى وأصمَّ وأبكم حتى لا يتبينَ أن تاجر البندقية، كوميديا شيكسبير العَظيمة الغامضة، عملٌ يتَّسم بالكراهية العميقة لليهود أيضًا. لكنني كلَّما درَّستُ هذه المسرحية، وجدتُ أن عددًا كبيرًا من أشدِّ طلابي حساسيةً وذكاءً يشعرون بتعاسةٍ بالغة إذا بدأتُ الدرس بهذه الملاحظة، بل ولا يَقْبلون ما أقول به من أن شايلوك شرِّير كوميدي، وأن بورشيا سوف تفقد قدرتَها على اكتسابِ تعاطفنا إذا سُمِحَ لشايلوك أن يُصبح شخصًا مثيرًا للشفقة العميقة والتعاطف. أما إن كان شيكسبير نفسُه يكره اليهودَ فلنا أن نُنكر ذلك لعدةِ أسباب منطقية، ولكن شايلوك يُعتبر إحدى الشخصيات الشيكسبيرية التي تنطلق، فيما يبدو، إلى خارجِ حدود المسرحية. فإنَّ شِعر شايلوك ونَثْره ينمَّان على طاقةٍ فذَّة، أو قُل على قوةٍ معرفية وعاطفية تزيد إلى حدٍّ كبير عن مقتضيات الكوميديا في المسرحية. ويتفوَّق شايلوك حتى على باراباس، يهودي مالطا الذي صوَّره مارلو، في كونه شِريرًا يجمع بين خَصائص الهزليَّة والرعب، وإن كان الزمن قد بَرى هاتين الخصيصتَين، فلم تكن إنجلترا تعرف في حياة شيكسبير ما أصبح يُسمى «المشكلة» اليهودية أو المسألة اليهودية بالمعنى المفهوم في الجزء الأخير من أزمنتِنا الحديثة؛ إذ لم يكن فيها إلا مائةٌ أو مائتان من اليهود، والمفترض أن معظمهم كان قد اعتنَق المسيحيَّة ويعيش في لندن. فمِن المعروف أن اليهود طُرِدوا إلى حدٍّ ما من إنجلترا في عام ١٢٩٠م؛ أي قبل ثلاثة قرون، ولم يُسمَح لهم بالعودة بصورةٍ ما، إلا حين قام كرومويل بثورته. وكان الدكتور لوبيز التعس الحظ، طبيب الملكة إليزابيث، قد أُعدم علنًا (وربما كان شيكسبير بين أفراد الجمهور الذي شهد الإعدام) نتيجةَ دسيسةٍ دبَّرها له، فيما يُقال، لورد إيسيكس، وربما كان قد اتُّهِم ظلمًا بالتآمُر لقتلِ الملكة بالسُّم. ولا يزال لوبيز البرتغاليُّ المسكين الذي تحوَّل إلى المسيحية، والذي ربما كان معروفًا لشيكسبير، يعيش باعتباره حافزًا غامضًا على إعادةِ تقديم مسرحية يهودي مالطا لمارلو على المسرح، وهي التي نجحَت نجاحًا كبيرًا في ١٥٩٣-١٥٩٤م، وربما على تمكينِ شيكسبير من التغلُّب آخِرَ الأمر على مارلو في تاجر البندقية، ربما في ١٥٩٦-١٥٩٧م.
تنتمي هذه الكوميديا التي كتبَها شيكسبير إلى بورشيا لا إلى شايلوك، على الرغم من الصعوبة التي تجدُها بعضُ الجماهير في التوصُّل إلى هذه النتيجة، أما أنطونيو الذي يُشير إليه العُنوان فهو المسيحيُّ الصالح في المسرحية، وهو يُثبت صلاحه بسَبِّ شايلوك والبصقِ عليه. ويرى الكثيرُ مِن بينِنا اليوم أن هذه مفارقة، على الأقل، لكن الواضح أنها لم تكن مفارقةً في أعيُن جماهيرِ شيكسبير. ولم أشهَدْ قط عَرضًا لتاجر البندقية يُصور شايلوك في صورةِ شرير كوميدي، ولكنَّ المقطوع به أن ذلك ما يجبُ مراعاته عند تقديم المسرحية. ولسوف يبدو شايلوك ذا شرٍّ مستطير إن لم يكن شخصيةً فكاهية، ولما لم يكن يجعلنا نضحك، فإننا نُقدمه لإثارةِ الشفقة، وهي الصورة التي قُدِّم بها منذ بداية القرن التاسع عشر إلا في ألمانيا والنمسا في ظلِّ الحكم النازي، واليابان. ويؤسفُني أن أقول إننا نسلب تاجر البندقية معناها إذا رسَمْنا لشايلوك صورةً تُثير التعاطف إلى حدٍّ كبيرٍ. ولكنني أشعرُ بالحيرة وأتساءل عمَّا تُكلفنا استعادة معنى المسرحية (ولا تقتصر التكاليفُ المذكورة على التكاليف الأخلاقية). من المحتمل أن تُكلفنا التخلُّصَ من شايلوك الفعلي عند شيكسبير، فلا يمكن أن يكون ذلك مطابقًا للصورة التي كان شيكسبير يقصدها، وذلك إذا استطعنا حقًّا معرفةَ ما كان يقصده. لو كنت مُخرجًا لطلبتُ من الممثل الذي يلعب شايلوك أن يتصرَّف تصرُّفَ «البعبع» الوهمي، كأنه كابوسٌ يسير على قدمَين، متبهرجًا بأنفٍ مصطنَع ضخم وشعرٍ أحمر كثيف مستعار؛ أي بأن يُشبه باراباس عند مارلو. ولنا أن نتصوَّر التأثير السيرياليَّ لمِثل هذا الشخص حين يبدأ الكلام بالتوتُّر العميق والطاقة الواقعية لشايلوك، الذي يعتبر شخصيةً إنسانية حقيقية إلى الحدِّ الذي يُنافس به على الأقل حفنة الشخصيات الإنسانية التي سبَقَته بمِثل هذه الحيوية في أعمال شيكسبير، مثل النغل فوكونبريدج في الملك جون، ومركوشيو والممرِّضة في روميو وجوليت وبوطوم النساج في حلم ليلة صيف. ولكن هذه الشخصيات جميعًا تُناسب أدوارها، حتى لو تصوَّرنا أنها شخصياتٌ إنسانية خارجَ مسرحياتها. ولكن شايلوك لا يُناسب دوره وحسب؛ فهو اليهودي غيرُ المناسب للمسرحية الصحيحة.

وأرى أننا إذا أرَدْنا أن نفهمَ الثغرة التي تفصلُ الإنسانَ الذي يبتكره شيكسبير عن الدَّور الذي حكَم على شايلوك بالقيام به، باعتباره كاتبًا مسرحيًّا، فعلينا أن نعتبر يهوديَّ البندقية ردَّ فعلٍ تشكيليًّا، أو نرى فيه ابتعادًا ساخرًا عن يهوديِّ مالطا عند مارلو؛ فكلُّ ما يشترك فيه شايلوك وباراباس هو أنهما من المفترض ألَّا يكونا يهودًا وحسب، بل أن يُمثِّلا اليهودي. فالواقع أن اليهوديَّ التطهُّري عند شيكسبير واليهودي المكيافيلي عند مارلو مُتضادَّان إلى الحدِّ الذي دائمًا ما يجعلني أتمنَّى أن يعمد مخرجٌ «تجريبي» ماكر إلى نقلِ بعض الأقوال خِلسةً من أحدِهما إلى الآخر، وكم يدعو إلى القلق الباهر أن نسمع شايلوك فجأةً يهتف بأبشعِ محاكاةً يأتي بها باراباس للشر اليهودي!

أمَّا عن نفسي، فأنا أتجوَّل وحدي أثناء الليل،
وأقتلُ مَرْضى تصَّاعَدُ أنَّاتهُمو تحت الجدران،
أحيانًا ما أتجول كي أضع سمومًا في الآبار!
هذه هي الصورة الكاريكاتورية التي حاكاها شيكسبير محاكاةً ساخرة مرةً أخرى في هارون المغربي في مسرحية تايتوس أندرونيكوس، ومثلُ هذه الحميَّة الوحشية لا يمكن أن يُكرِّرها شايلوك، فليس وهمًا مفزعًا حتى ولو فعَل ما يوحي بذلك. والضربة المقابلة هو أن نجعل باراباس يَصيح «إذا وخَزتُمونا سوف ننزف الدماء، وإن تُدغدِغونا سوف نضحك!» وهذه عباراتٌ قد تؤلم أو لا تؤلم حينَ يقولها شايلوك، ولكن مِن شأنها تدمير الواقع «المخبول» عند باراباس. فالحقُّ أن شيكسبير، وقد تخلَّص أخيرًا من مارلو، يُنشئ تناقضًا بين باراباس «الكارتوني» وبين المحاكاة الواقعية في شايلوك، وهي هائلةُ الأبعاد إلى الحد الذي يستحيل معه تكوينُها ليهوديٍّ مسرحي. ولكن شيكسبير يريد أن يجمع بين هذا وذاك؛ أي أن ينحيَ مارلو جانبًا وأيضًا أن يتفوَّق عليه بأسلوبه نفسه حتى تقشعرَّ أبدانُنا. والإقناع المذهل لشخصية شايلوك الإنسانية يَزيد من خشيةِ مشاهدة يهوديٍّ مسرحي يقطع رِطلًا من لحم أنطونيو الطيِّب ويزِنُه أمامنا، ولو «ليجعل منه طُعمًا للأسماك». وإن كان للجمهور بديلٌ في هذه الدراما فقد يكون جراتيانو، على ما يظهر، الذي يُذكرنا عَداؤه السوقي لليهود بيوليوس سترايخر، رئيسِ تحرير الصحيفة المفضَّل عند هتلر. لقد جعَلَت التقاليد المسرحية في القرنَين المنصرمين شايلوك بطلًا شريرًا، ولكن النص لا يُمكنه دعمُ هذا التفسير. فما دام شايلوك شريرًا سفَّاحًا فإن جراتيانو، على الرغم من فظاظته بعضَ الشيء، لا بد أن يعتبر شخصًا صالحًا؛ فهو بهيجٌ وذو بأسٍ في عدائه لليهود، بحيث يعتبر مثل بات بوكانان [اليميني المتشدِّد ومستشار الرئيس الأمريكي السابق للاتصالات] في البندقية إبَّان عصر النهضة.
وربما نلاحظ أن التورية الساخرة التي تُثير الشكوك وتنتشر في كلِّ مكان في تاجر البندقية تتوقَّف نِسبيًّا كلما تكلَّم شايلوك. ونثرُ شايلوك أفضلُ ما كتبه قبل كتابة نثر فولسطاف، وشِعر شايلوك يشقُّ طريقه إلى اللغة الدارجة أكثرَ من أي شعر كتبه شيكسبير قبل هاملت. والفصاحة المريرة عند شايلوك تؤثِّر فينا تأثيرًا بالغًا، إلى الحدِّ الذي نُفاجَأ فيه دائمًا حين نعلم ضَآلة ما يقوله في المسرحية: ٣٦٠ سطرًا وجُملة. وتتجلَّى في ألفاظه روحٌ بالغة القوة والخبث والسلبية إلى الحد الذي يجعلها لا تُنسى. ولكنها روح، وإن تكن روحَ استياءٍ وانتقام. وأشك إن كان شيكسبير يعرف ما يكفي من تاريخ اليهود بعد الكتاب المقدَّس حتى ينظر فيه، ومن ثَم فلا يمكن القولُ بأن شايلوك يُجسد تاريخ اليهود، باستثناء هذه الحقيقة المؤسفة، وهي أن سلطة شيكسبير قد حوَّلَت جانبًا كبيرًا من التاريخ اليهودي إلى شايلوك. كان من الأفضل لليهود، إن لم يكن لمعظمِ جماهير تاجر البندقية، لو كان شايلوك لا يتمتَّع بهذه الحيوية الظاهرة. وأما الذي دفع شيكسبير إلى تلك الحيوية، كما ألمحت من قبل، فكان النزاعَ مع باراباس عند مارلو. ولكن تُرى ما الذي حفزَ طاقةَ الابتكار عند شيكسبير؟

ربما يكون ذلك الولد الصغير «الشقي» في داخلي الذي يستمتع كثيرًا بشخصيةِ باراباس، ولا شكَّ أن مارلو كان يستمتع باليهوديِّ الذي رسَمه، وهو الذي يقترب من بعضِ جوانب طبع مارلو قدْرَ ابتعاد شايلوك عن طبع شيكسبير، إن كان فولسطاف يعتبر المعيار الشيكسبيري الذي أراه. وباراباس، بطبيعة الحال، لا يتَّسم بطِباع يهودية إلا بقدرِ ما يتَّسم المسيحيون في المسرحية بطباعٍ مسيحية أو يتسم المسلمون فيها بطباع المسلمين. ومصدرُ قلقي من شيكسبير أنَّ تأثيره غدا عالميًّا إلى الحد الذي جعَل شايلوك يبدو يهوديًّا لجماهيرَ كثيرة، وإن كان الشخص الذي يرونه تحوَّل إلى شخص يكتسب مشاعرَ بطولية. وعندما نتأمل صورة اليهودي في الأدب اللاحق للكتاب المقدس، يخطر ببالنا دانيال ديروندا عند جورج إليوت، وفاجن عند ديكنز، وبولدي نصف اليهودي عند جويس، وغيرهم، ولكن بعد أن نُنعِمَ النظرَ في شايلوك. لم يخطر لأحد، باستثناء ت. س. إليوت المعادي للسامية دائمًا، أن يتصوَّر أن باراباس شخصيةٌ يهودية حقيقية. إن باراباس يُشبه المارد الذي يخرج من القُمقم، أو عِفريت العلبة اليهودي الذي ما انفكَّ يهبُّ في وجوهنا، نحن الجمهور. ولا نملكُ إلا أن نستمتع به؛ ففظاظته تُشبه الشخصياتِ الكاريكاتيرية. ولكنني سوف أعود إلى باراباس فيما بعد، في سياقِ تنقيح شيكسبير لمارلو؛ تحقيقًا لأغراضه الخاصة المختلفة.

وقد جاءتنا أخيرًا دراسةٌ عِلمية واضحة لتاجر البندقية في كتاب شيكسبير واليهود الذي وضَعه جيمز شابيرو (١٩٩٦م) و«خاتمته» جديرةٌ بالتأمُّل العميق:

حاولتُ أن أبين أنَّ جانبًا كبيرًا من حيويةِ المسرحية يمكن أن يُعْزَى إلى طرائقِ احتكاكها بقاعدةٍ صُلبة من المعتقَدات حول اختلاف الآخرين عنصريًّا وقوميًّا وجِنسيًّا ودينيًّا. ولا يخطر ببالي أيُّ عمل أدبي آخَر يفعل ذلك بهذا القدر من الإصرار والأمانة. وتحويلُ نظرنا عمَّا تكشف المسرحيةُ عنه حولَ العلاقة بين الأساطير الثقافية وهويات الشعوب لن يؤدِّي إلى اختفاء المواقف غير العقلانية والإقصائية. فالواقع أن هذه النوازعَ الظلماء تظلُّ مراوغة، وإدراكها بالغُ الصعوبة في مسار الحياة المعتادة. ولا يتسنَّى لنا إلا في حالاتٍ معيَّنة مِثل إخراج هذه المسرحية أن نلمحَ هذه الصدوع الثقافية. ولهذا فإنَّ منع الرقابة تقديم هذه المسرحية يُعتبر دائمًا أشدَّ خطرًا مِن عرضِها على المسرح.

ولكن «الرقابة» ليست بطبيعة الحال القضيةَ المطروحة، إلا في ألمانيا النازية وفي إسرائيل، على نحوِ ما يُبين شابيرو، وأما الذي يُحيرنا فكيف يمكننا أن نُقدِّم على المسرح كوميديا رومانسية تتضمَّن في أجواءٍ مرحة إلى حدٍّ ما إرغامَ يهوديٍّ على اعتناق المسيحية وإلا كان الإعدامُ عقابَه. وعندما يقول شايلوك بنبرةِ انكسارٍ «بل أرضى!» لن تشعر جماهيرُ كثيرةٌ بالرضا، إلا إذا استطعتَ استحضار جمهورٍ مُبتهج مُعادٍ للسامية من مكانٍ ما. إن الملك لير مسرحيةٌ وثَنية مقدَّمة لجمهور مسيحي، كما يحبُّ بعض النقاد أن يقولوا، وتاجر البندقية مسرحيةٌ مسيحية لجمهورٍ مسيحي، حسَبما يقول نورثروب فراي. لكنني لا أظنُّ أن شيكسبير كتَب مسرحياتٍ مسيحية، أو حتى «ضد مسيحية»، بل أُكرر ما ذكرتُه آنفًا من أن إحساسي بالمنظور الدائم لشيكسبير يستبعدُ إمكان كونه مُعاديًا للسامية أو محبًّا لها، وهو ما انتهى إليه شابيرو أيضًا. ويصعب عليَّ ألا أُوافق على الرأي الجميل الذي قدَّمه جراهام برادشو، الذي يقول إن «استيعاب شيكسبير الخلَّاق لشايلوك» [أي تَقمُّصه إياه] يجعل مِن غير المحتمل قَبولَ القول بأن التاجر اليهودي شرير كوميدي كامل، أو شخصٌ مثير للتعاطف التراجيدي فقط. وأما الذي يصدُّني ويُسبب لي تعاسةً نقدية فهو إضافةُ شيكسبير المقلقة لإرغام شايلوك على التحوُّل عن دينه إلى قصة رِطْل اللحم. إنها مِن ابتكار شيكسبير، ولم أجد أيَّ سببٍ درامي مقنِع لِرضا شايلوك بذلك. لقد كسَرَت بورشيا، شايلوك، لكنها لم تسحَقْه سحقًا، ولم يَعُد شيلوك نفسه الذي يُجرر أقدامه خارجًا من المسرح، حتى يغدوَ مسيحيًّا جديدًا أو مسيحيًّا زائفًا، أو سوى ذلك. لماذا سمح شيكسبير لأنطونيو بهذا الضغط الأخير الذي يقوم به مُعذبو شايلوك؟
هل زادت أبعادُ شايلوك عمَّا تحتمله المسرحية، وَفقًا لِحَدس شيكسبير الحذر، بحيث كان لا بد من التخلُّص منه، مثلما تخلص من ميركوشيو ومن المهرج في الملك لير ومن ليدي مكبث؟ لا أظنُّ ذلك، ولو لسببٍ واحد وهو أن شيكسبير قد انتظر مدةً أطولَ ممَّا ينبغي في المسرحية قبل إخراج شايلوك. من المحتمل أننا نُتمتم «كان ينبغي أن يتحوَّل إلى النصرانية فيما بعد»، مُدرِكين أن ذلك لن يحدث قط. وليس من طبع شيكسبير أن يُخطئ بالإقدام على حركةٍ مسرحية تؤدي إلى عدم الاتساق الدرامي، حتى في حالة شرير كوميدي. فإن مالفوليو، في زنزانة المجانين، يحافظ على رِباطة جأشه، ولكن شايلوك، الذي يُحاط بالأعداء، لا يسمح له بذلك. كنتُ يومًا ما أظنُّ أن هذا خطأٌ نادر نسبيًّا من أخطاء شيكسبير، لكنَّ رأيي اختلف الآن؛ إذ أرى أن شيكسبير كان يحتاج إلى تَنصُّرِ شايلوك، لا من أجل اختزال شايلوك بقدرِ حاجتِه إلى نقل الجمهور إلى بلمونت، في غَيبة ظلِّ يهودي يُحوِّم في الفصل الختامي العامر بالنشوة وإن يكن قائمًا على مفارقةٍ ساخرة لطيفة.
لا توجد في شخصية شايلوك أيُّ ملامح «غنائية»، وليس له مكان في بلمونت. ولكن ترى ماذا كان على شيكسبير أن يفعل؟ لو اختار الإعدامَ العلني أو أيَّ تسريةٍ جماهيرية مماثلة، لأصبَح ذلك مُناقضًا لكلِّ ما سوف يحدث في بلمونت. لا نستطيع أن نعرف على وجه الدقة رأي شيكسبير الإنسان في حالات «التنصير» الفرديَّة لليهود، ولكن الأرجح أنه لم يكن أقلَّ تشكُّكًا فيها من أغلب معاصريه. كان قد مرَّ أكثرُ من قرن على طرد اليهود من إسبانيا، وهي الواقعة التي كان من أسبابها وعيُ المسيحيِّين بالصلابة الشديدة لليهود وميلهم إلى التظاهر إذا أُرغموا على التنصُّر. ويرى شابيرو أن تنصير شايلوك يُمثل رَدًّا على بواعث القلق البروتستانتية الإنجليزية. والتي كانت تتضمَّن توقُّع التنصير الجماعي لليهود؛ الأمر الذي يساعد على إثبات صحة حركة الإصلاح الديني. ويبدو لي أنَّ صِلة هذا التخيُّل المسيحي بتاجر البندقية صلةٌ واهية، ما دامت أفراحُ بلمونت في الفصل الخامس علمانيةً ممتعة، بل ولا يُمثل تنصير شايلوك بالقوة على الإطلاق تبشيرًا بعصر مسياني. ونحن نُحس أن شيكسبير كان يقصد وضع نهايةٍ خصوصية لشايلوك؛ باعتبارها عقابًا لا خَلاصًا، ويمكن أن يكون هنا مِفتاح القضية. فحالات التنصير القسري، على أسُس فردية، كانت ظاهرةً بالغة الندرة، على نحوِ ما تُؤكده بحوثُ شابيرو. وكان شيكسبير يذكر باراباس عند مارلو، ولا يريد أن يمنح شايلوك خيار الرفض فيقول «لن أتنصَّر» مثل باراباس. أي إن تدميره للاتِّساق في شخصية شايلوك يساعد أيضًا على تمييزِه عن باراباس الذي لا يستسلم قط، ويُساعد كذلك على زيادة العنصر العدمي ذي الوجودِ الرهيف في المسرحية. لا أحد في تاجر البندقية يظهر بما هو عليه في الحقيقة — لا بورشيا، ولا أنطونيو، ولا باسانيو ولا جيسيكا — فهل كان يمكن لشيكسبير أن يسمح لشايلوك وحده باتخاذِ موقفٍ متَّسق صادق؟ من ذا الذي يستطيع في هذه الكوميديا أن يحصل على ما ينصُّ عليه «عقده»؟ لو كان للمسرحية فصلٌ سادس لَذابت بلمونت في ضوء القمر، وانْمحَت مثل الطين. وشايلوك يقبل التنصُّر لأن البندقية في هذه المسرحية تشبه فيينا في دقة بدقة؛ فهي ملتبسة متأرجحة إلى الحدِّ الذي يَحول دون سيادةِ أيِّ اتساق أو ثبات فيها. وأجمل مفارقةٍ في تاجر البندقية أن شايلوك الغريب بمعنى الأجنبيِّ لا يُثبت انتماءه للبندقية في أيِّ شيء أكثرَ مما يُثبته عندما يبيع نفسه. وما دافعه؟ هل نُسيء قراءة جملته «بل أرضى» حين نعجز عن سَماع مفارقة رهيبة فيها؟ هل نفترض أن شايلوك قد تعلَّم أكثرَ مما ينبغي عن العدالة المسيحية بحيث أصبحَ مستعدًّا لنقل كِفاحه إلى أسلوبٍ باطني للمقاومة؟
لا نستطيع إلا الظنَّ إزاء هذه الكوميديا التي تقع أحداثها في مدينةٍ ذات جحور نفسية مظلِمة. وعلى الرغم من الفصل الخامس الذي يدور في بلمونت، فإن تاجر البندقية قد تكون أولى «الكوميديات السوداء» أو «المسرحيات المشكل» عند شيكسبير؛ إذ تُبشِّر بالعبرة بالخاتمة، وطرويلوس وكريسيدا، ودقة بدقة، وهي التي تجمع الشخصياتِ الملتبِسةَ، مثل هيلينا، وبرترام، وبارول، وبانداروس، وثيرستيز، ويوليسيز، والدوق فنشنتيو، وإيزابيلا ولوشيو. أما أنطونيو فهو، كما يقول الكثير من النقاد، صورة شايلوك في المرآة؛ فهو يرتبط به بالعداوة المتبادلة، وليس به من البشاشة أكثر ممَّا لدى شايلوك. وأما بورشيا، مركز المسرحية، فهي أشد تعقيدًا وظلالًا عمَّا يتجلى في أي عرضٍ شاهدتُه للمسرحية. وما دامت تمتاز بالسخرية الرفيعة الدقيقة، فهي تقبل بسعادةٍ خاطبها البراق الباحث عن الثراء، باسانيو، وتحكم باحتقار على أمير المغرب وأمير أراجون بالحرمان من الزواج إلى الأبد، وتهنأ بالوجود في بلمونت وفي البندقية التي تنتمي إليهما على حدٍّ سواء. وهي تجسد، حتى أكثرَ من جراتيانو، روح البندقية القائمة على مبدأ «كل شيء مباح»، وحديثها عن الرحمة يخدع شايلوك، وهي هاشةٌ باشة، حتى يتنازل عن مدَّخَرات عمره لإثراء أصدقائها. ولا يزال المخرجون المسرحيون يوجِّهون ممثلاتنا على أن يلعبن دور بورشيا كأنها روزاليند، وهو عمل مُحَرَّم. ويقول برادشو إنه يجد في بورشيا عنصرًا دنيويًّا ينتمي إلى هنري جيمز، لكننا نستطيع «ترجمتها» ترجمةً أفضل إذا استعنَّا بشخصيات نويل كوارد أو كول بورتر. وأنا لا أقترح أن يُقدم لنا أحدُ المخرجين تاجر البندقية باعتبارها أولَ كوميديا موسيقية معادية للسامية، لكنني أقول إن بورشيا رغم حصافتها، دائمًا ما تبتهج حين تخذل كل جوانب وعيها الذاتي المحكم البناء. والواقع أن نسيجها الأخلاقي ينتمي لهنري جيمز، ولكن مفهومها للحياة الراقية منحرفٌ إذ يسمح لنا بقَبول باسانيو المحتال ومبدأ الاحتيال. والحق أنها ذميمةٌ رائعة، ومنحطةٌ باختيارها الهانئ. ولديها من الذكاء ما تَقضي به على شايلوك اليهودي الأجنبي، ولكن مدينتها، البندقية، تؤازرها مؤازرةً كاملة، وشايلوك المهموم بقضيته وحدها لا يُسانده أحد. وهو ينال ما يستحقُّ باستثناء ذلك التَّنصير القسري الذي ليس له لزوم، وهو الذي تُؤيده بورشيا، بسعادة، وإن يكن أنطونيو هو الذي اقترحه. وهي في أسوأ حال لها منافقة سعيدة، وهي أذكى من أن تغفل عن أنها لا تُقدم الرحمة المسيحية إلا بمعايير البندقية. أما أنطونيو فأمر آخر تمامًا، فهو مِن الزاوية الساخرة أفضلُ مسيحي في المسرحية؛ فهو بطلٌ في ركل اليهود والبصق عليهم. فإذا كان القارئ أو المتفرج يهوديًّا فلن يكون مِن جمهوره المقصود، ناهيك بأن يصبح ناقده المتوقع، حتى ولو لم يكن المرء راغبًا في رطل من لحم قلبه المؤمن بالقديس بولس أو أعضائه التناسلية المنتمية للبندقية.

لا يخرج أنطونيو الحزين من هذه المسرحية التي لا تنتهي تورياتها الساخرة بشيء يذكر إلا استعادةَ ثرواته وانتصار عدائه للسامية، باعتبارهما مصدرًا لسروره. والحقُّ أن مصيره الجنسي يتَّفق على وجه الدقة مع مصير أميري المغرب وأراجون؛ أي أن يظل عزَبًا مدى الحياة، ما دام باسانيو سوف ينشغل عنه بخدمة بورشيا. ومع ذلك فإن أنطونيو موجود في بلمونت، محاطًا بثلاثة أزواج من العشاق، في حين أن عدوَّه شايلوك في البندقية، ويتلقَّى بلا شك تعاليمَ الكاثوليكية. فالكوميديا المسيحية تنتصر، ويُحبط الشر اليهودي، وكل شيء يُصبح على ما يُرام، لو توقفَت وحسبُ أصداءُ صوت شايلوك وحضوره، وهي التي لم تتوقَّف قط ولن تتوقف أبدًا، بعد انقضاء أربعة قرون على تأليف شيكسبير، وعلى مدى القرون المقبلة. لو أن هتلر انتصر في الحرب العالمية الثانية وواصل نشاطه فأضاف عشَرة ملايين يهودي إلى حصاده للملايين الستة من جُثث اليهود، لتوقف صوتُ شايلوك عن ترجيع أصدائه، ولكن إصراره التَّعِس سوف يستمر على امتداد تاريخ اليهود، الذي لعب فيه دورًا شائنًا، وهو دور لم يكن ليتوقَّعه شيكسبير على الإطلاق. لم تكن معاداة السامية في بواكير العصر الحديث جميلة؛ إذ سوف يقفُ أنطونيو الصالح وجراتيانو الزاعق باعتبارهما من العرابين لشايلوك عند جرن المعمودية، على الرغم من تمنِّي جراتيانو شنَق شايلوك، وليس من المحتمل إطلاقًا أن يتوقف أنطونيو عن الرَّكْل والبصق، ما دامت مسيحية البندقية على ما كانت عليه وعلى حالها الراهن. ونحن نفترض أنَّ شيكسبير كان يتمتع بأكبرِ موهبةٍ بين نقاد شيكسبير، ولا بد أنه كان يُدرك أن شايلوك كان إنجازًا أكبر مما كان في طَوْق أنطونيو. ومع ذلك فإن أنطونيو مادةٌ سوداء [إذا استعرنا الصورة الفلكية] ويتطلَّب بعض التأمل ابتغاء تكوين منظور صحيح لغريمه شايلوك.

إن أنطونيو يَحيا من أجل باسانيو، بل ويُبدي استعداده الفعليَّ للموت في سبيله، فيرهن رطلًا من لحمه لشايلوك؛ لا لسببٍ إلا أن يَزيد وسامتَه جاذبيةً؛ ابتغاءَ الظفَر بزوجةٍ غنية في بلمونت. وليس باسانيو فاسدًا، ولكننا لن نجد من يُنفذ مشروع التمييز بين باسانيو ولورنزو، فهما شابَّان لاهيان من شباب البندقية يسعيان في طلب الوارثات. صحيحٌ أن جميع بطلات شيكسبير محكوم عليهن أن يتزوَّجن ممَّن دونهن منزلة، ولكنك إذا قارنت باسانيو خطيب بورشيا بأورلاندو خطيب روزاليند، فالواضح أنك سوف تُفضل المصارع الشاب البشوش في كما تحب على صائد الثراء المخلص في تاجر البندقية. وقد اشتهرَت مسرحية بورشيا، وبورشيا نفسها وأصدقاؤها، بأن الجميع ديدنهم المال، وهي شهرةٌ غير حميدة. وبلمونت جميلة، وبالغة التكاليف بوضوح، وبورشيا، على الرغم من تمتُّعِها بحصافةٍ تَزيد عمَّا لدى جيسيكا، ونيريسا، وجراتيانو، ولورنزو، وباسانيو، لا تطلب صحبة أرفع من هؤلاء المهذَّبين المتأنقين في الملبس. لا أعرف أبدًا ما يظن النقَّاد أنهم يتحدثون عنه حين يجدون فضائلَ تعاليَّة في بلمونت حيث تقيم بورشيا. فقد كتب جون ميدلتون مري، الناقد الرائع للشاعرَين كيتس وبليك، دراسة صغرى بعنوان شيكسبير (١٩٣٦م) يؤكد فيها أن «تاجر البندقية ليست مسرحيةً مشكلة بل قصة خُرافية.» وتمتمتُ وأنا أقرأ ذلك قائلًا إنني لا أتوقَّع من القصص الخرافية أن تكون مُعاديةً للسامية، على الرغم من وجود بعضها، بطبيعة الحال. والأقربُ لقضيتنا أن بورشيا وأصدقاءها، في الفصل الخامس، لا يحتفلون في تعريشة قرع عسَلي، أو في مقهًى يُقدم خبز الزنجبيل، بل في قاعة هائلة، تعزف فيها فرقةٌ موسيقية، ويصدح فيها البوقُ ليُعلِن وصولَ كل فرد. وبعد حلِّ قضية الخواتم الطريفة، وهي التي جعلَت بورشيا تطمئنُّ إلى أنها تتمتَّع بالأولوية في مشاعر باسانيو على أنطونيو، يُصبح السؤال المتبقِّي: هل تستمر حتى الفجر أم يأوي الأزواج إلى الفِراش للمضاجعة. ويتمتع كل منهم بنضرةٍ تفوق ما سوف يكونون عليه بعد أربعة قرون في فيلم لا دولشي فيتا [أي: الحياة الحلوة]، ولكنهم الطاقم نفسُه أساسًا.

وأما أنطونيو، فعلى الرغم من وجوده في بلمونت، فسوف يَأوي إلى الفراش وحيدًا، إذ يجد السلوان، فيما نظن، في فضيلة الإيثار، وفي الورع، وفي انتصاره على شايلوك. وعلينا أن نفترض أنَّ لدى باسانيو ميولًا جِنسية ثُنائية، على عكس أنطونيو، بوضوح، وربما كانت ميوله الجنسية المِثلية أقلَّ اتصالًا بقضيتنا من الصادية الماسوكية عنده، و«غريزة الموت» التي تجعله يقبل إبرامَ مِثل ذلك العقد الجنوني مع شايلوك. وإذا كان للكوميديا بطل، يُنافس بورشيا البطلة، فلا بد أن يكون أنطونيو لا باسانيو الخفيف الوزن، الظريف الذي لا ضرر منه، لكنني لم ألْقَ في حياتي أحدًا يحب أنطونيو حبًّا جَمًّا، بغض النظر عن عادته القهرية لركل اليهود العابرين والبصق عليهم. فنحن نريد لغريم شايلوك تاجرًا جذَّابًا من تُجار البندقية ولو إلى حدٍّ ما، ولديه شيءٌ يؤهله لذلك إلى جانبِ دينه المسيحي. وقد كتب لزلي فيدلر ذات يوم يقول إن أنطونيو «إسقاطٌ للكرب الشخصي للمؤلف» وهو لا يَزيد عن حدْسٍ طريف وحسب. وقد وجد نقادٌ مختلفون أن أنطونيو مغفَّل، يُمثل المسيح، ويُعذب نفسه، إلى جانبِ صفاتٍ أخرى كثيرة، والواضح أنه شخصية غامضة إلى حدٍّ ما. ولكن كل ما يُضفي الحيوية على شخصيته ويجعلنا نذكرها هو خصيصة الكراهية المتبادَلة بينه وبين شايلوك. أما من زاوية الكراهية فإن شايلوك يتفوَّق عليه، ولكن أنطونيو يكتسب قامةً معيَّنة بسبب تقديمه لفكرة التَّنصير القسري. فذلك، ورطل اللحم المجاور لقلبه، ذو السمعة السيئة، هما سبب الاهتمام به، ولا بد للمرء أن يسأل إن كان شيكسبير قد أهمَل لسببٍ من الأسباب، تصويرَ دَخيلة أنطونيو.

مهما تكن إشكالية تاجر البندقية فهي أساسًا كوميديا رومانسية، ومشاعر التعاطف غريبة عنها، غريبةٌ غرابةَ شايلوك اليهودي. وأنا نفسي لا أجد تعاطفًا يذكر مع شايلوك، ولا تهزني خطبتُه التي يُكرر فيها «أليس لليهودي ما للمسيحيِّ من أعضاء ومشاعر»؛ إذ إن ما يقوله لا يمكن أن يُثير اهتمام أحد إلا المتمردين المتأرجحين في مواقِفهم وأمثالهم من المرضى الاجتماعيِّين. ربما كانت الخطبة جديدةً على جمهور شيكسبير، ولكنها ينبغي ألا تكون جديدةً على أي جمهور اليوم. وأما شايلوك فتبرز أهميتُه حيث يبدو بالغَ الجبروت، على نحو ما يحدث عندما يُواجه الدوق ويصرُّ على تنفيذ عقده. فلننبذ الفكرة التي يُقدمها نورثروب فراي، وهي أضعف أفكاره، التي تقول إن شايلوك يتكلم باسم العهد القديم [في الكتاب المُقَدَّس] وإن بورشيا تتكلم باسم العهد الجديد الذي يحضُّ على الرحمة. ولا شك أن فراي ناقدٌ عظيم، ولكن ذلك ينتفي حين يمزج النقدَ بموقفه باعتباره كاهنًا في الكنيسة الأنجليكانية المُقَلِّلة [أي التي تُقلل من شأن الأساقفة والمغالاة في الطقوس الدينية: مجدي وهبة في النفيس]، تمامًا مثلما لم ينتفع نقد ت. س. إليوت بميوله إلى الكنيسة العُليا. فإن سِفْر التثنية يُحرم ما يحاول شايلوك أن يفعله، وأدعو الله أن يَقيَني (مع الديموقراطية) شرَّ رحمة بورشيا! وبورشيا ذات طابعٍ مسرحي ذي خطر، وهو لا يقتصر على ارتدائها ملابسَ الرجال. وهي تشترك في هذه الخصيصة مع حبيبِها باسانيو ومع منافسها أنطونيو. ومن الغريب أن شايلوك ليس مسرحيًّا على الإطلاق، على الرغم من امتيازه الدرامي حتى لحظة تنصيره غير المحتمل. ويعتمد تهديدُه، مثلما تعتمد قوتُه الكوميدية التي ضاعت، على التضادِّ بين إخلاصه الجنوني لفكرةٍ واحدة (monomaniacal) وبين الجوِّ اللاهي الخلاب للطاقم «البندقي» الذكي عند بورشيا. فإذا حوَّلنا هذا التضادَّ إلى الجو المسرحي المعاصر قلنا إنه التضادُّ بين بطلٍ من أبطال آرثر ميلر وبين كوميديا المؤلف الموسيقي كول بورتر، فلْنتصوَّر ويلي لومان وهو يتجول في أرجاء مسرحية قبِّليني يا كيت.
كان شيكسبير متخصصًا في أمثال هذه الأرواح النازحة؛ أي الغريبة عن دنياها، وفي هذا الصدد يرتبط شايلوك بصُحبةٍ بالغة التنوُّع وتتضمَّن مالفوليو، وكَالِيبان، والمهرج في الملك لير، وبرناردين، بل وبجانب من جوانب فولسطاف. لو كان مالفوليو في مسرحية لبن جونسون لأصبح بن جونسون نفسه، ولكن نُزوحه في الليلة الثانية عشرة يجعل منه مثارَ تفكُّهٍ وإضحاك. وأتصور أن شايلوك بدأ في تاجر البندقية باعتباره شخصيةً فكاهية مماثلة، وفق تخطيط شيكسبير، ولكن شايلوك ألهب خيال شيكسبير فزادت أبعادُ شخصيته عن نطاق الكوميديا، وإن كانت الزيادة في اتجاه التهديد لا التعاطف الشعوري. ولا بد أن يكون الحافز على تحوُّل شايلوك صورة باراباس عند مارلو، وهو الذي ظلَّ يَشغل خيال شيكسبير الكاتب المسرحيِّ منذ بداياته.
إن شايلوك مضادٌّ لباراباس؛ فالتركيز فيه على الباطن، وهو ذو نفس عميقة بقدرِ ما يعتبر باراباس شخصية كارتونية. والشخصيتان اللتان يُحاكي شيكسبير فيهما باراباس، هارون المغربي وريتشارد الثالث، تُقرَّان بالفضل لمارلو، ولكن شايلوك يفضح باراباس بصفته مجردَ كاريكاتير، مهما يكُن ذكاؤه وضَراوته. ويقول شيكسبير ردًّا على مارلو «سوف أُريكم اليهودي»، وقد فعل، بكل أسف، فأصاب الشعبَ اليهودي الحقيقي بضررٍ سرمدي. ولا يعني هذا أن شايلوك تمثيلٌ صحيح لأحد اليهود، ناهيك بتمثيله لشخصية اليهودي، ولكنه يعترف بالسلطة الفاضحة لشيكسبير في الثقافة العالمية، وهي سُلطة في هذه الحالة وحدها تجلب الأحزانَ لا النفع. والواقع أن يهودي مالطا لا تزال مسرحيةً مرحة صاخبة ذاتَ حيوية، ويُبدي بها ت. س. إليوت إعجابًا شديدًا، وإن كنتُ أظن أن إعجابه يرجع إلى أسبابٍ غير صحيحة، ما دام يحتفل بها باعتبارها هزليةً مُعادية للسامية، وهذا غير صحيح. إذ إن صور المسيحيين والمسلمين فيها أسوأ من صورة باراباس، وكان يمكنهم أن يجاروه في الشر لولا أنهم يفتقرون إلى عبقرية باراباس الشريرة. ليس اليهوديُّ عند مارلو إلا كريستوفر مارلو نفسَه، وقد انطلق انطلاقًا كاملًا في حماسٍ جنوني وطاقة شيطانية، قالِبًا كلَّ القيم رأسًا على عقب، وساخرًا من كل شيء وكل فرد. وهكذا فإن يهودي مالطا عطلةٌ رائعة بعيدًا عن الواقع، وتعلي من شأن الشر الفعَّال على الخير السلبي، ويمكن أن تُسمَّى مسرحية أوبو الملك (Ubu Roi) [كتبها ألفريد جاري عام ١٨٩٦م في فرنسا] الخاصة بعصرها، وبذلك تُعتبر أولَ دراما باتافيزيقية (Pataphysical) [أي ما بعد الميتافيزيقا]. ويقول جاري في الإرشادات المسرحية: «تقع الأحداث في «لا مكان»؛ أي في بولندا»، وربما كانت هذه أولى الفكاهات البولندية الحديثة. وبالروح نفسها نجد أن الحدثَ عند مارلو (إذا اعتبرناه حدثًا) يقع في مالطا؛ أي في «لا مكان». ولم يكن لدى مارلو أيةُ مصادر أدبية أو تاريخية لمسرحية يهودي مالطا وهي التي يمكن أن تقع أحداثها في أي مكان تقريبًا في البحر المتوسط، وفي أي قُطر من أقطاره المتعددة، ولكن فقط بعد أن نرى مكيافيل الذي يخطو خطواتٍ رائعة في مستهلِّ المسرحية ليحثَّنا على تحية باراباس. ويهودي مارلو، مثل أستاذه ماكيافيل، مشغول انشغالًا شديدًا بما يسمِّيه «السياسة»، أي بالمبادئ التي تُحطم المسيح، وباراباس الشيطاني الذي يزدهي جَذلًا وطربًا بشروره، لا يرتبط بشيءٍ مع شايلوك الشاعر بالمرارة ويرتكز انتقامه الضيِّق النطاق على أنطونيو.
ويبذل شيكسبير جهدًا جهيدًا لتخليص شايلوك من أيِّ عنصر من عناصر عمل مارلو، ولكن ذلك يقتضي بالضرورة الغوصَ في باطن شايلوك؛ فباراباس لا باطن له، وشيلوك على عكسِه مُركَّزٌ في الطاقة الباطنة إلى الحد الذي يجعل صور بورشيا وأصدقائها بل وأنطونيو صورًا مختزَلة، كأنها توريات ساخرة. إن ظاهرة وجود شخص حقيقي [أي قائم في الواقع] داخل فخٍّ في مسرحيةٍ ما، مُحاط بظلال ناطقة، أقوى ما تكون في هاملت، وذلك بوضوحٍ أمرٌ مقصود. ولكن التجرِبة الجمالية للأسلوب الشبيه بأسلوب بيرانديلو، والتي وصلَت إلى الكمال في هاملت، يغامر شيكسبير بإجرائها أولًا في تاجر البندقية؛ إذ إن الوزن الوجودي لشايلوك، منذ أول ظهور له إلى آخرِ مشهد له، يجعله ممثلًا للواقع [أي الحقيقة الواقعة] بحيث يبتعد عنه بمسافة كبيرة كلُّ شخص آخر من شخوص المسرحية. ومن ثَم فإن شايلوك، على ما به من التباس بالضرورة، يُمثل أفضل أداة تُعيننا على رصد الخطوات العمَلية التي مكَّنَت شيكسبير من التفوق على مارلو، وبذلك ابتَكر الشخصية الإنسانية أو أعاد ابتكارها.
إن باراباس متدفق الحيوية، ولكنه وحشٌ لا إنسان. وشايلوك عند شيكسبير يُسيطر عليه دافع قهري من كراهيته لأنطونيو إلى الحد الذي كان يمكن أن يجعله يتصرَّف تصرفًا وحشيًّا، لولا بورشيا، ولكن شايلوك ليس وحشًا بل اعتقاد جبار طاغٍ لإنسان يمكن وجوده. ولشايلوك أهميةٌ كبرى لا في سياق العالم التاريخي للعداء للسامية وحسب، بل أيضًا في سياق العالم الباطن لتطور شيكسبير؛ لأننا لم نشهد من قبله عند شيكسبير شخصًا يتمتع بما لدى شايلوك من قوةٍ وتعقيد ودفقة حيوية كامنة. أما مشاعر العطف والشفقة عند شايلوك فيمكن وصفُها بطاقته الكامنة (potentia)؛ أي إمكان تضخُّمه على الميزان الوجودي. وأما إقدام هذه الروح الواسعة الحيلة على اختزال نفسها بحيث تقتصر على اشتهاءِ وزن رطل من لحم أنطونيو في ميزان حقيقي فهو أشدُّ التوريات الساخرة رعبًا عند شيكسبير، في هذه الكوميديا القائمة على التوريات الساخرة.
ويتبقى أمامي أكبرُ ألغاز شايلوك، في نظري على الأقل: هل يعتبر شايلوك أولَ مثال أصيل عند شيكسبير للعفريت الصغير الذي فرَّ حاملًا طاقةَ أزهار أبوللو؟ أي هل ينتمي لسلالة فولسطاف، وبيكويك عند ديكنز، وللقبيلة التي يُشارك فيها دون كيخوته، وسانشو بانزا، وهاملت المقام الرفيع الذي يَشغله فولسطاف؟ هل يمكننا أن نقول إن شيكسبير فقدَ السيطرة على شايلوك؟ فالواقع أنه لا شيء أغرب من أن نصف شايلوك بأنه شرير فكاهي، مثل المتحمس باراباس، على الرغم من أن تاجر البندقية، على الرغم من الظلال التي تكتنفُها لا تزال كوميديا، ولا يزال المرابي اليهودي يعتبر الشريرَ فيها. وبسبب رفض شيكسبير خلْقَ شخص آخر مثل هارون المغربي أو ريتشارد الثالث، وكلاهما مُحاكاة لبراباس، عدل شايلوك، فجعله غنيًّا وغريبًا، بعدة معانٍ معًا. إن العاطفة الرئيسية عند باراباس هي الاستمتاع بذاته؛ أي الفرح الذي تأتي به شروره المخبولة الظافرة. كما أن هارون وريتشارد الأحدَب يستمتعان بذواتهما إلى أقصى درجة، ولكن شايلوك لا يجد متعة في ذاته ولا في أي شيء آخر، على الرغم من اعتزازه بهُويته الذاتية. وكثيرًا ما يشير النقادُ إلى الحزن المشترك بين أنطونيو وشايلوك، وهو رابطةٌ لا إرادية بين من يكرهون بعضهم البعض حقًّا وصدقًا. وإذا كان الحزن مشتركًا فإنَّ أسبابه بالغةُ الاختلاف، فإن أنطونيو، مهما تكُن علاقته بباسانيو، فلا بد أن يفقده حين يتزوَّج باسانيو بورشيا، وأما شايلوك فلقد طال به الحزن على وفاة زوجته «ليا»، والدة الفتاة جيسكا التي لا تُطاق، أميرة البندقية اليهودية التي ستنال ما تستحقه ممثلًا في الشاب اللعوب لورنزو. ولا يوضح شيكسبير علاقته بابنته السارقة، لكن تخلُّصه منها أفضل له ولا شك، وهو صادقٌ في حزنه على دنانيره حزنًا يوازي حزنه على مَن سرَقَتها.
إننا نحبُّ باراباس وهارون بل وريتشارد الثالث؛ لأن أحاديثهم الجانبية إلينا تجعلنا شركاءَ لهم. وحتى يَحول شيكسبير دون ذلك؛ فإنه لا يسمح لنا قط بأن ننفرد بشايلوك. إن باراباس يُمارس التصنُّع ودائمًا يلعب دورًا، ولكن شايلوك مخلصٌ إخلاصًا شديدًا ومخيفًا، وعنيدٌ عنادًا لا هوادة فيه، فلا يمثل دورًا قط، بل هو دائمًا شايلوك. وعلى الرغم من أن ذلك يهَبُه قوةَ تعبير هائلة، فإنه يعرضه أيضًا للأذى بشدة، بحيث يُحوله حتمًا إلى كبش الفداء في المسرحية. وهو قادرٌ على تقديم سخريةٍ مُدمرة، خصوصًا في أحاديثه للدوق، ولكن أعظم تورية في الكوميديا تجعله ضحيةً لها. وبورشيا هي الصانعة المتميزة للتورية الساخرة في تاجر البندقية، ولكنها تُعد صانعة سخرية مدمرة على حساب شايلوك، وإن لم تكن قتالة مثل سخرية أنطونيو الصالح، الذي يقدم إلى شايلوك اختيارًا بين الإعدام بعد تجريده من أمواله، وبين البقاء باعتباره مرابيًا مسيحيًّا متقاعدًا، ما دام شايلوك الذي تنصَّر لا يستطيع مزاولة عملٍ مقصور على اليهود.
ويبين شيكسبير، بأسلوبٍ أدقَّ من أسلوب مارلو، أن المسيحيين (باستثناء جراتيانو) وإن كانوا يتميزون بتهذيبٍ أكبرَ من شايلوك، ليسوا أكثرَ منه رحمة. إن بورشيا ساحرة عظيمة، ولكن باسانيو ولورنزو ونيريسا وجيسكا سحَرةٌ أيضًا، وإن كانوا أشد خَواءً من بورشيا. إن شايلوك مرشحٌ لأن يُعتبر أقلَّ الشخصيات جاذبيةً في كلِّ ما أبدعه شيكسبير، لكنه يبهرنا، ولأسبابٍ تتجاوز شروره المكشوفة؛ إذ إن لغته، تلك الأداة الفذة، لا بد أن تميز شيكسبير باعتبارها إنجازًا دراميًّا جديدًا للشاعر المسرحي، فإننا لا نُقابل شايلوك حتى المشهد الثالث من الفصل الأول، بعد أن عرَفنا أنطونيو وباسانيو وبورشا، وأول ما نسمعه منه نثرٌ أنيق ينتهي برفضه دعوة باسانيو المهذبة لتناول العشاء؛ قائلًا:

لأشمَّ رائحة الخنازير؟ لأذوق لحْمَ مَن أدانه نبيُّ الناصرة … نبيكم؟ إذ أدخل الشيطان في جسده؟ كلا! إذ إنني أبيع منكمُ وأشتري، وأقبل الحديثَ بينكم وصحبة الطريق، لكنني لا أستطيع أن أذوقَ أكلكم وشرابكم، أو أن أصلِّي معكم.

(١ / ٣ / ٢٩–٣٣)

والإشارة إلى إنجيل مرقس، مثل الإشارة إلى إنجيل لوقا عندما يرى شايلوك أنطونيو قادمًا يُقدم تفصيلاتٍ إضافية تدلُّ على أن يهودي شيكسبير قد قرأ الكتاب المُقَدَّس عند أعدائه. والحق أن شايلوك يُقدم إشكاليات جبارة ضد المسيحية، وخصوصًا ضدَّ ما جرى العرفُ على اعتباره أخلاقيات مسيحية في البندقية. وإذا كان شايلوك أقلَّ مشاكسةً من يهودي مارلو، فإنه على الأقل صُلْبُ الإخلاص لشعبه مثل باراباس، الأمر الذي يجعل موافقته على التنصير القسري آخر الأمر تبدو غير متسقة مع موقفه إلى حدٍّ ما. وأول حديث له منظوم، وهو من الأحاديث الجانبية النادرة، يشير إلى عداوة قديمة تسبق نزاع أنطونيو وشايلوك:

يا لَيْتَ الفُرْصَةَ تَسْنَحُ لِي،
فَأَفَاجِئَهُ في لَحْظَةِ ضَعْفٍ؛
كي أُطْعِمَ ذاكَ الحِقْدَ الرَّاسِخَ مِنْهُ فَأُتْخِمَهُ!
لِمَ يَكْرَهُ شَعْبَ اللهِ المُخْتَارْ؟
لِمَ يَهْجُوني وَسْطَ التُّجَّارْ؟
لِمَ يَسْخَرُ مِنْ صَفَقَاتِي … مِنْ حِرْصِي
مِنْ رِبْحِي المَشْرُوعْ … ويُسَمِّيهِ رِبًا!
فَلْتَنْزِلْ بِعَشِيرَتِيَ اللَّعْنَةُ إنْ سَامَحْتُهْ!
(١ / ٣ / ٤١–٤٧)
إن شايلوك يؤكد هُويته باعتباره اليهوديَّ الذي يرثُ كبرياءه المضطهَدة على امتداد خمسة عشر قرنًا، في أسطر تلتهب بحقدٍ روحي رهيب، ويبث فيها من الحياة ما لا بد أن نُسميه ذكاءً روحيًّا جبارًا. لكَم يؤسفني أن أتفق مع فرق المستائين من أصحاب المادية الثقافية والجماليات الثقافية الذين ينقمون نقمةً خاصة على نقد أ. م. و. تيليارد، ولكن تيليارد قد أخطأ في الحكم على شايلوك خطأً فاق فيه الجميع؛ إذ سمح لنفسه أن يتحدَّث عن «الغباء الروحي» عند شايلوك، وعن «العطف النزيه» عند أنطونيو. كان ذلك عام ١٩٦٥م، ولكن الوقت لم يكن قد فات، فيما يبدو، على تجلِّي العداء للسامية الإنجليزي. إن لنا أن نُنحِّيَ الركل والبصق النزيهين، وقد تكون روح شايلوك معتلَّة، وقد شوَّهَتها الكراهية، مهما تكن مبررة، فأما ذكاء شايلوك، في أي مجال، فلا شك فيه. لم يكن شايلوك ليُمثل ما يُمثله من خطر لو لم يكن عالمًا نفسيًّا على درجةٍ ما من العبقرية، وسلفًا مبشرًا بياجو، الناقد العظيم، وإدموند، العدمي الرائع في الملك لير.

وصاحب شايلوك في الكراهية هو أنطونيو، وعداؤه للسامية، على الرغم من أنه مناسب للبندقية التي تشهد أحداثَ المسرحية، يتَّسم بعمقٍ شرير يفوق ما لدى الجميع، حتى جراتيانو نفسه. فالعداء للسامية القائم على الميول الجنسية المِثلية قد أصبح اليوم مرضًا ذا خصوصيةٍ غريبة تحول دون فهمه، فمنذ عهد بروست ومَن تلاه ونحن نشهد التلاقيَ بين حالات اليهود وحالات ذوي الميول الجنسية المثلية، وهو تلاقٍ رمزي، وأحيانًا ما كان تلاقيًا فعليًّا على نحو ما حدث في ألمانيا النازية، فإذا نظرنا إلى البندقية وبلمونت وجَدْناهما يسبحان معًا في بحرٍ من الأموال، ولا تُفلح محاولة أنطونيو للتمييز بين روحه التِّجارية والربا عند شايلوك في إقناع أحد؛ فالتاجر واليهودي يؤديان رقصةً قاتلة بين الماسوكي والصادي؛ أي المقتول والقاتل، والسؤال الذي يبغي تحديدَ مَن منهما التاجر ومن منهما اليهودي لا يُجيب عنه إلا التنصيرُ الذي لا يُصَدَّق. فأنطونيو يفوز ولا شيء لديه سوى المال، وشايلوك يخسر (ويستحقُّ أن يخسر) ولا شيء لديه إطلاقًا، ولا حتى هُوية. ونحن لا نستطيع تفسير جملته «بل أرضَى!» لأننا لا نستطيع أن ننتزع من آذاننا خُطبتَيه الكُبرَيين، وكلٌّ منهما موجَّه إلى البندقية، تتضمن الأولى أنشودة «الخنزير الذي يفتح فاه»، والخطبة الثانية تدور حول العبيد في البندقية. وليست أيتُهما لازمةً لاستكمال الكوميديا، وليست أية واحدة منهما موجَّهةً لإثارة العطف والشفقة. ويدفع شيكسبير بإبداعه إلى آخر حدوده، كأنما ليكتشفَ أية شخصية قد رسم حدودها في شايلوك، وكانت تلك موسيقى ليليةٌ ظلَّت أفضلَ ما عنده حتى أعاد تشكيل هاملت، فحوَّله من مُخادع ماكر إلى نوع إنساني جديد.

والواقع أن تحويل شايلوك من شرير فكاهي إلى شرير بطولي (بدلًا من بطل شرير، مثل باراباس) يُبين أن شيكسبير كان يعمل عملًا لم يسبقه إليه أحد، وبدوافعَ درامية من بالغ الصعوبة أن نحدسَها. ولقد كان دور شايلوك على المسرح دورًا عظيمًا دائمًا؛ إذ يخطر ببالنا كبار الممثلين مثل ماكلين وكين وإيرفنج، وإن لم يبدُ أن زماننا شهد أداءً جبارًا، ولم أستطع أن أقبل يومًا ما صورة شايلوك التي قدمها لورنس أوليفييه وهي الصورة المهذبة التي تظهر الحب لليهود؛ إذ يبدو شايلوك فيها من أهل فيينا في عهد فرويد لا من أبناء البندقية في عصر شيكسبير. فلقد استبدل القبعة العالية ورباط الرقبة الأسود بالسترة اليهودية الصوفية، وأما الخُطب القوية القائمة على التهديد فقد عدلها أوليفييه كي تُهاجم الحضارة وبواعث الاستياء منها. وعلى الرغم من أن تأثير هذا التعديل كان يُقنع المتفرج، بلا جلبة، بأنه غيرُ واقعي، فإن التعديل أدَّى إلى تواري النزعة العدمية المشبوبة عند شايلوك عندما يلقي السطور الصادمة:

قَدْ تَسْألُني هَلْ رَطْلٌ من لَحْمٍ فاسد
أَفْضَلُ من آلافِ الدِّينَارَاتْ؟
لَكِنَّكَ لَنْ تَحْظَى بإجابة،
بل سأقولُ لَكُم: هذا ما يُمْليه مِزاجي!
أفلا تُعْتَبَرُ إجابَة؟
ولنفرضْ أَنَّ ببيتي فَأْرًا يُزعِجُني
أنفقتُ لكي أضعَ السُّمَّ لهُ عَشْرة آلافْ!
أَفَلا يُقْبَلُ هذا المَنْطِقْ؟ أَوَلَيْسَتْ تلكَ إجابة؟
بعضُ الناسْ … تَنْفِرُ من رأس الخِنزيرِ المَشْوِي،
والبعضُ يُجَنُّ إذا أَبْصَرَ قِطَّة،
والبعضُ يبلِّلُ سِرْوالَه
إنْ سَمِعَ المِزْمَارَ الأَخْنَفَ في موسيقى القِرَبِ العَذْبَة؛
فمُيولُ الإنسانِ الفِطْرِيَّة []
تَتَحَكَّمُ في أعماقِه
وَتُوَجِّهُ دَفَّةَ إحساسهِ
وفْقًا لِهَوَاهَا … حُبًّا أَوْ مَقْتًا!
والآن أُجِيبُ سُؤَالَكْ.
مَنْ يكرهُ رَأْسَ الخِنْزير
لا يَسْتَنِدُ لِسَبَبٍ قَاطِعْ،
وكذلَك من يَنْفِرُ من قِطٍّ لا يُؤْذِي،
وَلَهُ في المَنْزِلِ بعضُ ضرورة،
وكذلك من يفضحُ نَفْسَهْ
عند سماع المِزْمَارِ الأَخَنَفْ؛
إذ لا يملكُ دَفْعَ فَضِيحَتِهِ واشمئزازِ النَّاسْ،
بعد اشمئزازه! وإذنْ لنْ أُعْطِيَكُمْ سَبَبًا
إلَّا بُغْضًا أَحْمِلُه في قَلْبي … مَقْتًا لا يتزعزعُ للسيد «أنطونيو»
يدفَعُني لِمُقَاضَاته … وَخَسَارَةِ أموالي …
أوَلَيستْ تلكَ إجابتَكُم؟
(٤ / ١ / ٤٠–٦٢)
والكلمة الناقصة في السطر ٩٣ يمكن أن تكون «غلابة» [بحيث يُصبح السطر «فميول الإنسان الفطرية غلَّابة»] وما دام شايلوك يعني بكلمة affection ميلًا فطريًّا للكراهية، وكلمة passion يقصد بها الإحساس الصادق، فإنه يُصور نفسه، على ما في هذا من مُفارقة، في صورةِ غيرِ القادر على التحكم في إرادته الشخصية. ولكن المفارقة الشيكسبيرية تنقلبُ على شايلوك إذ إن شايلوك يلعب اللعبةَ المسيحية ولا يستطيع الفوز فيها. وقوله إنه «يحمل بُغضًا في قلبه وكراهية لا تتزعزع» يعتبر تعريفًا ممتازًا للعداء للسامية، وعندما عجز شايلوك عن التحكم في نفسه أصبحَ ما يراه في أنطونيو: إرهابيًّا يهوديًّا يرُدُّ على الاستفزازات التي لا تتوقَّف، المعاديةِ لليهود. ولكن الصور الواردة في خطاب شايلوك أكثر تعلقًا بالذاكرة من دفاعه عن شطحاته الخاصة. فمُعاداة شايلوك لأنطونيو ومعاداة أنطونيو لشايلوك حالتان متوازيتان لجنون الذين يَفقدون السيطرةَ على أنفسهم عندما يرون خنزيرًا مشويًّا فاتحًا فاه، أو يُجنُّون عندما يرون قطًّا بريئًا له ضرورة، أو يتبولون لا إراديًّا حين يسمعون موسيقى القِرَب. والذي يحتفل به شايلوك هو السلوك القهري في ذاته أو النزوة الصادمة. وهكذا فإن يهودي شيكسبير باعتباره عالمَ نفس سلبيًّا، يُهيِّئنا للأغوار السحيقة للإرادة عند الأشرار الأعظم أبعادًا عند شيكسبير في المستقبل، ولكن شيكسبير قد جرَّدَ شايلوك من جلال التعاليِّ السلبي الذي سوف يغذو ياجو وإدموند ومكبث. إن خطبة «الخنزير المشوي» أكثرَ من هتافه المجروح «لا بد من تنفيذ العقد!» هي التي تكشف إفراغَ شايلوك لذاته.

لا نكاد نعرف شيئًا عن ديناميات العلاقات الشخصية لشيكسبير، إن وُجدت، بالأدوار العظيمة التي ألفها. فإنَّ نسَق الدلالة المزدوجة لعلاقة فولسطاف بهال لا يختلف، فيما يبدو، عن الدلالة المزدوجة التي رسم خطوطها العريضة في السونيتات، كما أن صورة ابن شيكسبير هامنت ربما استعملها شيكسبير بطرائقَ لا تزال مجهولةً في خلق ألغاز الأمير هاملت. ومن المستبعَد أن نتصور أن شايلوك كان يُمثل عبئًا شخصيًّا من أي نوع لشيكسبير، الذي ينتمي أساسًا إلى عصره، في هذه المرة وحسب، فيما يتعلق باليهود. ولما لم يكن شيكسبير مارلو ولم يكن يكتب هزلية دموية، فإنه كان يتَّسم بالخبث أو الجهل (أو بهما معًا) حين يجعل شايلوك يحث طوبال على مقابلته في المعبد لوضع التفاصيل الخاصة باغتيال أنطونيو قضائيًّا. ومع ذلك فإن الخبث والجهل كانا وراثيَّين، وهو ما لا يجعلهما أقربَ للعفو عنهما. كانت الحبكة تتطلب وجودَ يهودي، ويهودي مارلو لا يزال فوق خشبة المسرح، وشيكسبير يحتاج إلى الكفاح حتى يتحرَّر من مارلو. وأظن أن فخر شيكسبير بأنه قد حقق ذلك فعلًا قد زاد استثماره الدراميَّ في شايلوك، وهو يساعد في تبرير أكثرِ خطاب في المسرحية إثارةً للدهشة. فعندما يسأله الدوق: «هل ترجو الرحمةَ في الدنيا/وبصدرك قلب لا يرحم؟» يجيبه شايلوك بقوةٍ خارقة، مستشهدًا بالأساس الأقصى لاقتصاد دولة البندقية، ألا وهو امتلاك العبيد:

أنا لا أخشى حُكْمَ القانونْ
ما دمتُ بريئًا لم أُذْنِبْ،
أَوَليسَ لديكمْ بعضُ عبيد؟
أَوَمَا ابْتَعْتُوهُمْ بالمال؟ أَوَمَا سَخَّرْتُوهم؟
كَحَمِيرِكُمُ وكِلابِكُمُ وبِغَالِكُمُ
في أحقرِ ما رُمْتُمْ من أعمال؟
لقد ابتَعْتوهمْ بالمال …
أَفَلِي أنْ أطلُبَ مِنْكُمْ إعتاقَهُمُ أو تزويجهَمُ منكمْ …
مِن أبنائِكُمُ وبناتِكُمُ؟
أَفِلي أَنْ أعْتَرِضَ على ما يُثْقِلُهُمْ مِن أَعْبَاءْ؟
أَفَلِي أَنْ أطلبَ مِنْكُمْ توفيرَ الفُرُشِ الناعمةِ لهمْ،
وأطايبَ مأكولاتِكُمُ ولُحومِكُمُ؟
ستُجِيبُونِي … كَلَّا؛
فعبيدُكُمُ مما ملكَتْ أيمانكُمُ وكذاك أُجيبكُمُو!
إني أطلبُ رطْلًا من لَحْمٍ كنتُ ابْتَعْتُهْ،
ودفعتُ له أغْلى الأسعارْ،
ذا ملكُ يميني ولسوفَ أَنَالُهْ!
أما إنْ أَنْكَرْتُمْ حَقِّي فالعارُ على نُظُمِ العَدْلِ هُنا،
بل لن يَنْفُذَ قانونُ الدولة!
إني أنتظرُ الحُكْمَ إذنْ فَأَجِيبوني …
هَيَّا يا دوقُ انْطِقْ بالحُكْم!
(٤ / ١ / ٨٩–١٠٣)

ما أيسرَ أن نُسيء فهم هذا الخطاب، على نحوِ ما فعل بعضُ النقاد الماركسيين أخيرًا، فإن شايلوك لا يُبدي التعاطف مع العبيد، ولا يدرك، فيما يبدو، السخرية الكامنة في استشهاده بالعبيد، ما دام باعتباره يهوديًّا يحتفل سنويًّا بعيد الفِصْح، وفي مقدمته التذكير بأن أسلافه كانوا عبيدًا في مصر حتى حرَّرهم الله. وليس من الحكمة قط أن نَفترض أن شيكسبير لم يكن يعرف أيَّ شيء كان متاحًا في عالمه أو بالقرب منه، فقد كان حبُّ استطلاعه لا يشبع، وطاقةُ حصوله على المعلومات غيرَ محدودة. فالواقع أن شيكسبير يعني فعلًا تلك الموازاة البشعة؛ أي إن رطلًا من لحم أنطونيو أصبح عبدًا له، ولا بد له من تنفيذ عقده. وأما الذي يبهرنا ويسرُّنا فهو الاتهام البارع بالنفاق الذي يوجِّهه للمسيحيين، وكان قد عبر عنه من قبل في المسرحية ولكن بغيرِ هذه القوة الصادمة. أي إنَّ عبيد البندقية، مثل سائر العبيد، أرطال كثيرة من اللحم، لا أكثر ولا أقل. وفي سياق أمريكا في ظل كلينتون — جنجريتش، لا تزال السخرية فعالة؛ فالمصلحون الأتقياء لنظام رعاية الدولة للفقراء مصمِّمون على ألا يرقد نسل عبيدنا في سرر لينةٍ ناعمة مثل سُررهم، وألا يتلذذوا بأفخر الأطعمة، ناهيك بالتزاوج مع ورثة «العقد من أجل أمريكا» [النظام الذي وضعه جنجريتش، ممثل الحزب الجمهوري]. ولكن شايلوك لا يأبهُ لأهم قضية أثارها، بل أشد القضايا ضراوة؛ فهو للأسف ليس نبيًّا، بل يريد أن يمارسَ التعذيب والقتل. ولكن شيكسبير، الذي يستغلُّ دور شايلوك، هو الذي يتوسَّل بدهائه في تقديم المادة اللازمة للتنبؤ الأخلاقي، وهو الذي لا نرى أحدًا في هذه الكوميديا على استعدادٍ للقيام به أو قادرًا على ذلك.

وإذن فإن شايلوك يُمثل مجالَ قوةٍ أكبرَ من أن يحتويَها شايلوك نفسه، والواقع أن شيكسبير في تاجر البندقية، وفي دقة بدقة التي تلَتْها، يجعل الكوميديا تثير قضايا بالغةَ الجِد بالانفتاح على مجالات يندر أن تقدر الكوميديا على أن تشملها. ولكن أفكار شيكسبير لا تُخفف، للأسف، من شراسة تصويره لليهودي، بل وليس لنا أن نفترض أنها كانت ترمي إلى ذلك، على الأقل بالنسبة لجمهوره. لقد أدت المحرقة النازية لليهود إلى جعل تاجر البندقية مسرحية لا تقبل العرضَ على المسرح، على الأقل في حدود ما يبدو أنه معناها الحقيقي. ومن باب تلطيفِ الجو، أتحوَّل للحديث عما عاد شايلوك به من فائدةٍ على شيكسبير، الشاعر والكاتب المسرحي. والإجابة المدهشة تقول إن المسرحية قد أكملَت تحرُّره من مارلو، وهكذا فإن شايلوك أتاح لشيكسبير أن ينتقل إلى هنري الرابع الجزء الأول، وفيها شخصيتان تتفوَّقان حتى على شايلوك في وجود دلالتَين متضادَّتين؛ هما الأمير هال، والسير جون فولسطاف الذي يُمثل ذروةَ ابتكار شيكسبير للشخصية الإنسانية.

ويختلف ازدواج المعنى القائم على التضادِّ عند شيكسبير عن ازدواج المعنى نفسِه عند فرويد، على الرغم من أن فرويد، كان بوضوحٍ ذا موقف يتَّسم بالتضادِّ تجاه شيكسبير، لكنه أقام تفسيره للتضادِّ؛ أي الجمع بين موقفَين متضادَّين، مثلما يعني ازدواجَ المعنى أو الموقف، على مادةٍ نفسية وفَّرَها له شيكسبير في البداية. ولا يلزم أن ينشأ ازدواجُ الدلالة الأَوَّلي من تعدد العوامل الاجتماعية؛ فالكراهية بين أنطونيو وشايلوك تتجاوز اضطهاد اليهود، ويمثل جراتيانو تلك الهوايةَ المسيحية، ولكن ذلك لا يُبرِّئ أنطونيو تبرئةً كاملة، فإن التضادَّ عنده قاتل، ويختلف عن التضادِّ عند شايلوك في أنه ناجح؛ فإن أنطونيو يضع نهاية فعلية لشايلوك اليهودي، ويُقدم لنا شايلوك المسيحي الجديد. والمعروف أن التضادَّ الفرويدي يعني ازدواجَ الحب والكراهية تجاه الشخص نفسه، ولكنَّ التضادَّ الشيكسبيري أدقُّ وأرهف وأشد هولًا لأنه يحول كراهية الذات إلى كراهية الآخر، ويربط ما بين الآخر وبين الإمكانيات الذاتية المفقودة. وأما هاملت فإنه على الرغم من كل ما يقوله، ليس مهتمًّا في الواقع بالانتقام؛ فهو أشدُّ مَن يدرك أن الانتقام يؤدي إلى مزج الأشخاص بعضِهم بالبعض. فإن قتل كلوديوس يعني أن القاتل هاملت الأب، الأبُ الذي أصبح شبحًا، لا هاملت الأمير. ما أبشَع أن نقول ذلك! ولكن شايلوك المسيحي الجديد الكسير أفضلُ من شايلوك القاتل الذي حالت بورشيا دون إجرامه.

ما الذي كان يمكن أن يبقى لشايلوك بعد قتل أنطونيو؟ وماذا بقيَ لأنطونيو بعد أن سحق شايلوك؟ في إطار التضادِّ الشيكسبيري لا توجد انتصارات.

يقول أ. ب. روسيتر في كتابه (الذي نُشر بعد وفاته، في ١٩٦١م) وعُنوانه ملاكٌ ذو قرنَين إن التضادَّ أو اجتماع الضدَّين كان يُمثل خصوصًا النهج الجدلي في مسرحيات شيكسبير التاريخية، ويُعَرِّف التضادَّ الشيكسبيري بأنه أحدُ أنواع التورية الساخرة. والتورية الساخرة شائعةٌ عند شيكسبير في جميع فنونه الأدبية إلى الحدِّ الذي يجعل من المحال تقديمَ عرض شامل لها. هل يوجد في تاجر البندقية ما يخلو من التورية الساخرة، حتى الاحتفال المقام في بلمونت في الفصل الخامس؟ إن تعايُش أنطونيو وشايلوك في البندقية تورية ساخرة لا تحتمل، وهو تضادٌّ شديدُ الحدة إلى الدرجة التي تَقضي بضرورةِ إنهائه، إما بالتشويه الهمجي لأنطونيو، وإما بالانتقام المسيحيِّ الهمجي من شايلوك، وهو الذي لن تُتاح له فرصة تلقي العلم قبل تعميده. فالذبحُ أو التعميد جدَلية دقيقة، وتاجر البندقية تكتب له النجاة، ولكن يهودي البندقية يُحْرَق ما دام سوف يعجز عن مواصلة عمله بالربا بعد تنصيره. إن القانون الوحيد عند شيكسبير هو التغيير، ولكن التغيير مُحال بالنسبة لشايلوك أو لأنطونيو. إن صورة أنطونيو تزداد ظلمة، وشايلوك ينكسر، لكنه رجلٌ واحد ضد مدينة كاملة.
وأقول في نهاية هذا الفصل إنه كان من الأفضل للقرون الأربعة المنصرمة التي عاشها الشعبُ اليهودي لو أن شيكسبير لم يكتب هذه المسرحية. لقد اكتنف هذه المسرحيةَ من الظلال والالتباس قدْرٌ يجعلني غيرَ واثق من وجود طريقةٍ لعرض تاجر البندقية اليوم، على المسرح، بأسلوب يضمن استعادة فن شيكسبير الصادق في تمثيل شايلوك. لسوف يُواصل شايلوك بث الإحساس بالضيق فينا، نحن اليهودَ المتنورين والمسيحيين المتنورين، وهكذا أختتم كلامي بأن أتساءل إن كان شايلوك لم يتسبَّب لشيكسبير في قدرٍ من الضيق أكثر مما ندركه اليوم؛ إن مالفوليو يُعامل معاملة فظيعة، ولكن ذلك يبدو فكاهةً مسرحية «داخلية» موجَّهة ضد بن جونسون. وبارول يستحقُّ أن يُفضح ولكن الإذلال الذي يتعرَّض له مدمر. وأما لوشيو، الذي يُقدم لنا عقله الجارح محكًّا يساعدنا على تحديد منظور الجنون في دقة بدقة، فإن الدوق المريب يُرغمه على الزواج من عاهرة؛ لأنه تجاسرَ وقال الحقَّ عن الدوق وما يفعله في الزوايا المظلِمة. ويتفوق شايلوك على هؤلاء جميعًا فيما أُصيب به من العنت، وزيادة ضغط أنطونيو الذي يُطالب بتنصيره فورًا، وذلك من ابتكار شيكسبير وليس جزءًا من الرواية التقليدية لطلبِ رطل اللحم. وانتقام أنطونيو شيءٌ وانتقام شيكسبير شيءٌ آخر. فالكاتب المسرحي ذو الروح الرحيبة يُدرك أن البشاعة التي لا لزوم لها والمتمثلة في اعتناق مسيحيةِ البندقية تتجاوز كلَّ حدود الأدب واللياقة. وأما انتقام شايلوك من شيكسبير فيتمثَّل في تدمير الاتساق الدرامي لليهودي عندما يَقبل التنصير بدلًا من الموت.

وهكذا فإن شيكسبير يقضي بإذلال شايلوك، ولكن مَن ذا الذي يُصدق شايلوك حين يقول «بل أرضَى»؟ أذكر أنني قلت ذات يوم إن موافقة شايلوك على أن يتنصَّر «عبَثيةٌ» أكثرُ من تصوُّرِ انضمام كوريولانوس إلى حزب الشعب، أو موافقة كليوباترا على أن تُصبح من العذارى الربَّانية في روما. والأقرب أن يتحول فولسطاف إلى راهبٍ من أن يصبح شايلوك مسيحيًّا. حاوِلْ أن تتصور شايلوك يصلي صلاة مسيحية، أو يُدلي بالاعتراف إلى كاهن. لن ينجح ذلك. إن شيكسبير يُحاول إثارة المتاعب، ولكن عليك أن تكون باحثًا مُعاديًا للسامية، مؤمنًا بالتاريخية القديمة أو الجديدة، حتى تُقدِّر تقديرًا كاملًا ما تطمح إليه المتاعبُ المذكورة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤