الفصل الثالث عشر

ضجة فارغة

١

على الرغم من أن ضجة فارغة ليسَت من روائع كوميديا شيكسبير، فإنها لا تزال تُثبت أنها ذاتُ حيويةٍ فذة في الأداء على المسرح. ولم أشاهد من الممثلين في دوري بياتريس وبنيديك مَن يُنافس بيجي آشكروفت وجون جيلجود، ولكن ذلك كان منذ ما يقرب من نصف قرن، وقد ظلَّت المسرحية تُقدَّم حتى بعد أن قدمَها كينيث براناج في السينما، حيث كانت مناظر توسكانيا دائمًا تأخذ بألبابنا وتَشغلنا عن الإصغاء إلى بعضِ أفضلِ نثرٍ كتبه شيكسبير. وكانت المسرحية قد كُتِبت مباشرة بعد نبذ فولسطاف في هنري الرابع ٢، وقُبيل رفض انتصارِ هال مثار الخلاف في هنري الخامس؛ ولذلك فإن ضجة فارغة تحتفظ ببعض اللمحات من ذكاء فولسطاف ولماحيته، وإن لم يَشغل المسرحَ أيُّ عملاق في غيابه. فليست بياتريس روزاليند، وبنيديك أقلَّ قامةٍ من بياتريس. وأما هاملت التي نقَّحها شيكسبير من نسختها الأولى التي كتبها (إذا افترضنا صحةَ قول بيتر ألكسندر، كما ذكرتُ آنفًا) فقد واصلت المسار انطلاقًا من فولسطاف وروزاليند، بلماحيةٍ أشدَّ قتامةً، وذكاءٍ نهمٍ لا مثيلَ له في الأدب. ويعتبر بنيديك وبياتريس أخفَّ وزنًا في هذا السياق، ولكن من المهم أنهما يَسودان المسرحية لأن شيكسبير يمنحُهما نُسخًا مهذَّبة من التدفُّق الحيوي الأوَّلي والطاقة المعرفيَّة عند فولسطاف. وإحكامهما للنثر يَدين بشيء إلى المُنازَلة في اللماحية، الأشدِّ غضبًا، بين هال وفولسطاف (والغضب قائمٌ فقط عند هال). والتضادُّ في الدلالة الذي يعتبر السِّمة المميزة لنفسية هال، يكتسب معنًى بالغَ الاختلاف في العلاقة القائمة على المبارَزة بين بياتريس وبنيديك. كان يجمعهما الحب بصورةٍ ما فترةً معينة، ثم تراجع بنيديك:
بينديك : يا ألله! هذا يا سيدي طعامٌ لا يطيب لي! لا أستطيع احتمال الآنسة «لسان هانم!»

(يخرج بينديك.)

دون بيدرو : أقْبِلي أيتها الليدي! تفضلي! لقد خسرتِ قلبَ السنيور بينديك!
بياتريس : حقًّا يا مولاي! كان قد أعارني إيَّاه فترةً ما، وأعطيتُه فوائد القرض في صورة قلبَين بدلًا من قلب واحد، وأقسم إنه كان قد كسَبَه مني ذات يوم في مباراةٍ بنَرْدٍ مغشوشٍ، ومن ثم فمن حقِّ معاليك أن تقول إنني خَسِرتُه!
(٢ / ١ / ٢٥٧–٦٤)
والهجر الذي يتكلَّمان عنه هنا لم يضع نهايةً لشيء، كما يُدرك كِلاهما، ما دام كلٌّ منهما عدميًّا عظيمًا! وضجة فارغة أعظم مسرحية عدمية مَرِحة كُتِبَت على الإطلاق، وعنوانها يُناسبها إلى أقصى حدٍّ ممكن. فإن بياتريس وبينديك يتَّبعان مذهب نيتشه قبل مولد نيتشه، ومذهب كونجريف قبل أن يضعه كونجريف. ففي كلِّ حوار بين الحبيبَين المتبارِزَين تلتمع الهُوَّة بينهما، ولماحيتهما المشتركة لا تُدافع عن ذواتٍ أخرى بقدر ما توجه دفاعها ضدَّ انعدام المعنى. إنهما يثيران ضجةً حول العدم؛ لأنهما يعرفان أن العدم لا يأتي إلا بعدم، ومن ثَم يعودان إلى الكلام. وبياتريس تفوز دائمًا، أو قل إنها تفوز بما يمكن الفوزُ به، ما دامت أقوى لماحية وأصلب مكسرًا ممَّا يستطيع بينديك أن يكون. ونحن نرى قبل أن نَلْقاه أن بياتريس قد انتصرَت عليه من قبل:
قل لي أرجوك: كم عددُ مَن قتلهم وأكلهم في الحرب؟ أو كم عدد من قتلهم؛ فقد وعَدتُه أن آكل أيَّ شخص يستطيع أن يقتله!
(١ / ١ / ٣٨–٤١)
و«الحروب» التي تُشير إليها كانت، فيما يبدو، مناوشات شكلية، قد يموت فيها جنديٌّ عادي عرضًا، ولكن نادرًا ما قتل فيها أحد السادة أو اللوردات. الظاهر أن أحداثَ المسرحية تقع في صقلِّية، ولكن كل فرد يبدو إنجليزيًّا بلا مِراء، وخصوصًا بياتريس الممتعة. ومناوشات لماحيتها مع بينديك تكاد تكون شكليةً مثل الحروب الوهمية بين الرجال. أما اللماحية فهي حقيقية، وأما الحب، في ضجة فارغة فهو سطحيٌّ مثل الحرب. ولا تتعرض العاطفة بين الرجال والنساء للاستخفاف بها، حتى في خاب سعي العشاق، مثلما يُستخَفُّ بها في هذه المسرحية، حيث نرى أن الاحترام الدَّفين نفسه بين بياتريس وبينديك يتَّسم بعناصرَ ملتبسة.

إن كلوديو، النبيل الشاب، يرمق الفاتنةَ الشابة هيرو، ابنة عم بياتريس، بعين الحب ويُعلن، «أشعر أنني أحبها»، وهذا الشعور يُثير التساؤل المعقول عن كونها الوارِثةَ الوحيدة لوالدها، وحين يطمئنُّ إلى هذه المسألة المهمة، يطلب كلوديو من قائدِه، أمير أراجون، أن يقوم بالنِّيابة عنه بالتودُّد إلى تلك الآنسة. وهكذا يتحقَّق الحب المخلص ولا تبقى لدينا مسرحية، ولكن الحظ يبتسمُ لنا؛ لوجود دون جون النَّغْل [ابن السفاح] الأخ غير الشقيق لدون بيدرو. ويقول لنا دون جون «لا أنكر أنِّي وغدٌ أتعامل تعاملًا صريحًا»، ويُقسم أن يُفسد مشروع الزواج بين كلوديو وهيرو. فالمسألة كلُّها مباشرة على هذا النحو: أي إننا سنُشاهد كوميديا من دون ألغاز، باستثناء القياس الدقيق والصحيح لما بين بياتريس وبينديك. وفن شيكسبير رائع في إخبارنا بما لا يعلمه الطرفان: فاللماحية عند كلٍّ منهما ترغب في الآخر، ولكنَّ كلًّا منهما لا يثقُ في الآخر ولا في الزواج. وعندما تُخاطب بياتريس قريبتها هيرو، تبشر بشخصية روزاليند في واقعيتها:

بياتريس : سيكون الذنبُ ذنبَ الموسيقى يا بنت عمي، إذا لم يخطبك في اللحظة المناسبة. فإذا كان الأميرُ شديدَ الإلحاح، قولي له إن الاعتدال لازمٌ في كل شيء، وأجيبيه برقصةٍ وحسب! كما أريدك أن تفهمي يا هيرو، أنَّ مراحل الخِطبة والزواج والندم تشبه ثلاث رقصاتٍ مختلفة: هي الرقصة الدوَّارة الاسكتلندية، والرقصة المعتدلة العاقلة، والرقصة الخماسية. أما الخِطبة فهي حارةٌ متعجلة، كالرقصة الاسكتلندية، ودوارة مثلها تُدير الرءوس بالأوهام! وأما الزواج فهو رقصةٌ معتدلة مهذَّبة حافلة بالفخامة ومراعاة التقاليد، وبعدها يأتي الندم، حين تتخاذل السِّيقان، ولا تقدر إلا على الرقصة الخماسية التي تزداد سرعتها حتى السقوط في القبر!
(٢ / ١ / ٦٣–٧٣)
ولمسات روزاليند أخفُّ من لمسات بياتريس، فالأخيرة تقف دائمًا على حافة المرارة. ففي مشهد الرقص المُقَنَّع [الحفل التنكُّري] الذي يرمز للمسرحية كلها، يُوَجِّهُ دون بيدرو إلى هيرو قَولتِه المشهورة «تكلمي الآن إن كنتِ تقصدين الحب»، حيث تعني كلمة «الحب» الرقصة المُقَنَّعَة. وعندما يرقصان معًا تقول بياتريس قولًا جارحًا جُرحًا لا يزول أثره في بينديك. يقول بينديك:

ولكني أعجب للآنسة بياتريس كيف تَعرفُني ولا تعرفني حقًّا! مُهرج الأمير؟ ها! لربما أُطلِقَ عليَّ ذلك اللقب بسبب مرَحي. نعم، لكنني بذلك أظلم نفسي؛ فلَم أشتهر حقًّا بهذه الصفة، ولكنها من ابتكار بياتريس ذاتِ الطبع المنحطِّ وإن كان لاذعًا مريرًا، فهي تتصور أن ذاتها وحدها تُمثل العالم وتتكلم من ثمَّ بلسانِه. لكنني سوف أثأر منها بصورةٍ ما!

(٢ / ١ / ١٨٩–١٩٥)

يقول بينديك إن بياتريس تتصوَّر أنها تُمثل العالم — أي إنها تُحول رأيها إلى حكم عام — وذلك أكبرُ عيوبها. ويهتف بينديك «ألفاظها خناجر، وكل لفظٍ يطعن»، ونبدأ في التعجُّب من العُدوانية الدائمة لطبعِها المرح الرائع. ويمتدحها دون بيدرو قائلًا «إنك ولدت في ساعة فرحة» وتردُّ عليه ردًّا يسحر الجمهور قائلة: «قطعًا لا يا مولاي! فقد صرَخَت أمي وبكَت، ولكنَّ نجمًا كان يرقص في السماء. وهو الطالع الذي ولدت في برجه!» ومن ذا الذي يصبح زوجًا مناسبًا لامرأة «كثيرًا ما حلمت بالتعاسة وأيقظَت نفسها بضحكة»؟

وتتبدَّى قدرة الابتكار البالغة الحيوية فيما يغدقه شيكسبير منها على بياتريس في ضجة فارغة؛ فهي التي تتمتع بالبروز وحدها في المسرحية، وأما بينديك الذي يتعاطف معه الجمهور إذ يراه يبذل قُصارى جهده في مسايرتها، وأما دوجبري فهو للأسف من حالات الفشل القليلة في كتابة الكوميديا عند شيكسبير، فيما يبدو لي، فكلُّ إساءات استخدامه للألفاظ تُشكل فكاهةً واحدة وحسب، وتَكْرارها الذي يَزيد عن حده يُفقدها القدرة على الإضحاك. وتفضيلي لبياتريس يُحفزني على أن يرتفع مستوى بينديك ودوجبري والمسرحية حتى تكون جديرةً بها. والخُطة التي دبَّرها دون جون للقضاء على سعادة هيرو حيلةٌ ضعيفة، وهو ما يُذكرنا بأن اهتمام شيكسبير بالحدث كثيرًا ما يَشغل المرتبة الثالثة بالقياس إلى طاقات رسم الشخصية واستخدام اللغة. والنجاح الذي يعتبر تعويضًا عن الضعف النسبي في مؤامرةِ الافتراء على هيرو هو النجاح في خِداع بياتريس وبينديك من جانب أصدقائهما، وهو الذي يُساعد على إظهار الحقيقة بتأكيد صدق قول العاشقين المترددين في حبِّ بعضهما بعضًا. وهذا هو الذي يُضفي الروعة على إعلان بينديك قَبوله للزواج هاتفًا «لا بد من عمار الدنيا.»

٢

مهما تكن سخافةُ الحبكة الفرعية الخاصة بهيرو فإنها تسمح لشيكسبير بأن يُبدع مشهدًا من أعظم مشاهده الكوميدية، في المواجهة بين المتمكِّنة بياتريس وبين بينديك الذي تُحاول التحكم فيه:

بينديك : لا أحبُّ شيئًا في الدنيا قدر حبِّي لك! أليس هذا غريبًا؟
بياتريس : بل غريبًا غرابةَ كلِّ ما أجهله. وربما استطعتُ أن أقول أنا أيضًا إنني لا أحبُّ شيئًا قدْرَ حبي لك، لكن لا تصدقني! ومع ذلك فلستُ كاذبة، فأنا لا أعترف بشيءٍ ولا أُنكر شيئًا، وأشعر بالأسى لما حلَّ بابنة عمي.
بينديك : أقسم بسيفي يا بياتريس، إنك تُحبِّينني.
بياتريس : لا تُقسم قسَمًا وتبتلعه!
بينديك : أُقسم على السيف إنك تُحبينني، وسأُرغم من يُنكر حبِّي لك على ابتلاع السيف!
بياتريس : لن تبتلعَ كلمتك؟
بينديك : بل مهما تَكُن الصلصة التي تبتكر لها! وأنا مُصرٌّ على إعلان حبي لك؟
بياتريس : وإذن فلْيَغفر الله لي!
بينديك : أيُّ ذنبٍ يا بياتريس الرقيقة؟
بياتريس : لقد استوقفتني في ساعة هنيئة؛ إذ كنتُ أوشك أن أعلن أنني أحبك.
بينديك : أعلِنيها من كل قلبك.
بياتريس : لقد مَلَكَ حُبُّكَ أقطارَ قلبي فلم يترك فيه ذرةً مُعَارِضَة!
بينديك : هيا اطلُبي مني أن أفعل شيئًا من أجلك.
بياتريس : اقتل كلوديو!
(٤ / ١ / ٢٦٦–٢٨٨)
وبياتريس تُلاعبه بفنِّ كاتب المسرح المتمكِّن، حتى يصبح قسمُه بأن يُنازل كلوديو إعلانَ خُطوبتهما العملي. وطابع غضبة بياتريس، ذات النقاء العميق مثل لماحيتها، يضعُ حدًّا لمحنة هيرو، وذلك وحسب لأننا، مثل بينديك، مقتنِعون تمامًا بأن إرادة بياتريس أقوى من تلاعبها. والواقع أن بياتريس شخصيةٌ يَدين لها جورج برنارد شو بأكثرَ مما يعترف بها راضيًا، فهي مصدر فخر المسرحية الوحيد، وهي روحها بقدرِ ما تعتبر روزاليند الروح الهادية لمسرحية كما تحب. ومسرحية ضجة فارغة يعرفها الكثير من الناس باسم بياتريس وبينديك، ولربما اتخذَت عنوانًا آخر هو كما تحب بياتريس، أو كما تشاء بياتريس. والتضادُّ في إرادتها يعتبر آخِرَ الأمر مصدرَ قوة المسرحية، أو النبعَ الذي يتدفق منه فيضُ طابعها الكوميدي. وكلما ازداد تأملك لبياتريس ازداد غموض صورتها في عينك، وبينديك لا يتمتع بمثل هذه الموارد الحيوية؛ فلماحيته الدفاعية مستمَدةٌ كلُّها من بياتريس، ولولا بياتريس لعاد للانضمام إلى حشد الاحتفال في مسينا، أو انطلق إلى أراجون مع دون بيدرو، سعيًا لمعارك أخرى. ولكن حتى لو لم يكن للوسطاء دورٌ في إعلام العاشقين بحبِّ أحدهما للآخر، فإن بنيديك كان سيكون من نصيب بياتريس؛ فهو أفضلُ ما تملك مسينا أن تُقدمه لها. وهي تستغرق وقتًا طويلًا في ضمان حصولها عليه؛ لأن اهتمامها الأول مُنْصَبٌّ على ذاتها، وحب بينديك لنفسه يرجع صدى حبها لذاتها، وانتشاء دوجبري بذاته محاكاة ساخرة للعاشقَيْن معًا.
ويرجع سحرُ بياتريس إلى مزْجِها الفذِّ بين المرح والمرارة، على عكس كيت، الأكثرِ بساطةً، في ترويض الشرسة. إذ ترتبط بياتريس ارتباطًا أكبر بالآنسة الغامضة روزالاين في خاب سعي العشاق، على الرغم من أن مراح روزالاين ليس بالغَ البراءة. والتصدير [إيلاء الصدارة] عند شيكسبير يسمح خِلسةً بتقديم بعض «المفاتيح» التي تكشف عن طبيعة بياتريس، وربما أيضًا عن انشغالها السلبي بعاشقها بينديك، الذي يُمثل التهديدَ الوحيد لحريتها والطريق المحتوم لخلاصها من الصلابة الدائمة لروحها (في آنٍ واحد). أما أهم ما يتصدر حياةَ بياتريس فهو أنها يتيمة، وأن عمها ليوناتو هو الوصيُّ عليها، من دون أن يكون، بوضوح، قد تبنَّاها:
ليوناتو : وإذن تدخلين النار؟
بياتريس : لا … بل أصِلُ إلى الباب فقط حيث أُقابل الشيطان في صورة ديوث عجوز في رأسه قَرنان، ويقول لي «ادخلي الجنة يا بياتريس، فلا مكانَ في النار للعذارى!» وهكذا أقوم بتسليمه قرودي وأتَّجه إلى القديس بطرس، الذي يحمل مِفتاح الجنة أمام بابها! وسوف يُدخلني مشيرًا إلى مكان إقامة كلِّ مَن لم يتزوج، وهناك نمرح ما شاء الله لنا أن نمرح!
أنطونيو (إلى هيرو) : أما أنتِ يا بنتَ أخي فأرجو ألا تعصي والدك!
بياتريس : نعم وأقسم! واجبُ ابنة عمي أن تنحنيَ إجلالًا وتقول «افعل ما شئت يا أبي». ولكن اسمعي يا بنتَ عمي، فليكن العريس وسيمًا! وإلا كان عليك أن تنحني من جديد قائلةً «سأفعل يا أبي ما أشاء أنا!»
(٢ / ١ / ٣٨–٥٢)

وأما الصورة التي يرسمُها بينديك للفِردوس الذي ينتظر مَن لم يتزوجوا (ومن لم يتزوجن) فهو أقلُّ رِفعةً وجلالًا:

بينديك : أما أنَّ امرأةً حملت بي فأنا لها شاكر، وأما أنها ربَّتْني، فأنا لها شاكرٌ كذلك وبكل تَواضُع! وأما أن يُستخدَم القَرْنُ على جبهتي بوقًا لنداء كلاب الصيد، أو أن يعلق البوق في حزامٍ خفي على صدري، فأنا أرفضه، وأرجو من جميع النساء أن يصفحن عني! وما دُمت لن أظلم النساء بالشك في أيهن، فسوف أُنصف نفسي بألا أثق في أيٍّ منهن! والخلاصة أنني سوف أظل عزبًا كي أنفق أموالي خالصة لأناقتي!
(١ / ١ / ٢٢١–٢٢٨)

وسواءٌ كان بياتريس، كما يقول بينديك، «يتملَّكها عِفريت غضب» أم لا، والمقصود ميلها الشديد الدائم إلى الهجوم، فليس واضحًا على الإطلاق. وهجر بينديك إياها من قبل، «قلبان في مقابل قلبه الواحد»، يُمثل لها نقطة انطلاق ولكنه لا يُفسر قوة نيرانها التي تبثُّ الحياة، ولا اندفاعها وحَميَّتها، على الدوام، ولا يُفسر «مَراحها الذي يبهر عيون عالمها ويُرهقه في آنٍ واحد»، وإن لم يبهر أو يرهق جمهورها. إننا نتعلم أن نُنصت إليها بحرصٍ شديد، على نحوِ ما يحدث هنا حين تردُّ على كلوديو الذي أشار لتوه إلى هيرو باعتبارها «خطيبته» وفقًا لحقوق الأقارب:

بياتريس : ما أروعَ رابطة القرابة! لقد تزوج كلُّ مَن في هذه الدنيا ما عداي أنا، أنا التي لَوَّحَتها الشمس! لي أن أقبع في ركن وأهتف «أمَا من زوجٍ يأتيني؟»
دون بيدرو : يا ليدي بياتريس، سوف آتيك بزوج!
بياتريس : أوثرُ أن يكون من أبناء أبيك! ألم يكن لك يا صاحبَ المعالي في يومٍ ما أخٌ مثلك؟ فلقد أنجب أبوك أفضلَ الأزواج، إن كان لآنسةٍ أن تنال أحدهم!
دون بيدرو : هل تَقبلينَني يا آنسة؟
بياتريس : لا يا مولاي! إلا إذا كان لديَّ زوجٌ آخر لغيرِ يوم الأحد! فمعاليك ثوبٌ أغلى من أن يُلْبَسَ كلَّ يوم. ولكنني أرجو الصفح من معاليك، فقد فُطِرتُ على قول الهَزْلِ وتحاشي الجِدِّ!
(٢ / ١ / ٢٩٩–٣١١)

وتُعبر بياتريس عن الزواج في السطر الأول بتعبير «يدخل الدنيا»، وهي استعارةٌ خاصة بها [ومثالها بالعامية المصرية «يخُش دنيا»]، وأما الفتيات اللاتي «لوَّحَتهن الشمس» فلم يكنَّ يجتذبن خُطَّابًا كثيرين في إنجلترا في عصر النهضة. ودون بيدرو شخصٌ محيِّر، فقد يكون جادًّا في خطبته، ورفض بياتريس يبدو فيه الحرصُ على التمييز بين الإطراء وبين جميع الدلالات الكامنة في تعبير «الغلاء» وصفة «الغالي». والواضح أنها دائمًا ما تنتوي الظفَر بحبيبها بينديك، ولكنها عازفةٌ بصدق عن قبول أي حد، حتى من يتمتع بأشد لماحية من المتاحين لها. والسخرية الذاتية عند دون بيدرو تُخفف من غُلَواء حبِّه لنفسه، وأما ما تُبديه بياتريس أحيانًا من المحاكاة الساخرة لنفسها فهي أقلُّ لحظاتها إقناعًا لنا؛ إذ إن اعتدادها بنفسها الذي له ما يُبرره من أسباب استمتاع الجمهور بها، فهي ترجع أصداءَ الاعتداد الرائع الذي يبديه فولسطاف بذكائه في التفكُّه. إننا نسعد برؤية السير جون فولسطاف مع الآنسة كويكلي والآنسة دول تيرشيت، فالواضح أنه لم توجد من قبل ولا يمكن أن توجد ليدي فولسطاف! و«الزوجة القادمة من مدينة باث» عند تشوسر هي التي كان يمكن أن تنهض بدور زوجة السير جون، ويظل السؤال قائمًا عمن سيبدأ منهما بقتل الآخر، سواءٌ كان القتل باللغة أو بالإفراط في النشاط الجنسي. وعلينا أن نستنبط أن بياتريس وبينديك كانا عاشقَيْن من قبل، وأن حيويتها، مهما تكُن صورة التعبير عنها، قد أفزعته ففرَّ هاربًا. ومن الحصافة أن شيكسبير يجعل بينديك يرد على خداع أصدقائه نثرًا — «الحب؟ طبعًا، لا بد من إشباعه» — وأما بياتريس فعندما تواجه الاستفزاز نفسه، تردُّ بنظمٍ غنائي:

بياتريس :
ما هذِي النَّارُ بآذَاني؟ هَلْ حَقٌّ ما سَمِعَتْهُ الآذَانْ؟
أَتُراني أُتَّهَمُ بِأنِّي مُتَكَبِّرَةٌ ساخِرَةٌ، وإلى هذا الحَدِّ أُدَانْ؟
وإذَنْ فَوَدَاعًا يا سُخْرِيَةُ وَدَاعًا يا زَهْوَ العذْرَاءْ!
لا يَكْمُنُ خَلْفَ تكَبُّرِنَا وتَعَالِينَا مَجْدٌ بَلْ مَحْضُ هَبَاءْ!
لا تَيْئَسْ يا بِينِدِيكْ مِنْ حُبِّكَ فَلَسَوْفَ أُبَادِلُك غَرَامَكْ،
وأُرَوِّضُ قَلْبي البَرِّي الشَّارِدَ بأَيَادِي حُبِّكَ وهُيَامِكْ،
إنْ كُنْتَ تُحِبُّ فَسَوْفَ يَحُثُّكَ ما عِنْدِي مِنْ فَرْطِ حَنَانْ
أنْ تَرْبِطَ ما بَيْنَ عَوَاطِفِنَا المَشْبُوبَةِ بِرِبَاطِ قُدْسِي وقِرَانْ.
الناسُ تقولُ بأنَّكَ تَتَمَتَّعُ بِشَمَائِلَ عُلْيَا وجَدِيرٌ بي،
وأنا مِن دُونِ كَلَامِ النَّاسِ أُحِسُّ بذلكَ في قَلْبي.
(٣ / ١ / ١٠٧–١١٦)
وكانت هيرو قد ذكرت لأورسولا أن مزاج بياتريس متكبرٌ مثل الصقور البرية. وعندما تتغنَّى بياتريس قائلة «سأروض قلبي البري الشارد بأيادي حبِّك وهُيامك» فإنها لا تعني ضمنًا أنها سوف تَقبل التَّدجين، فإن في طابعها البريِّ حريَّتَها، وذلك الإحساس بالانطلاق هو الذي يفوز، أكثر من لماحيتها بقلوبِ الجمهور. والفيلم الذي قدَّمه براناج بعنوان ضجة فارغة، وخيَّب آمالنا إلى حدٍّ ما، أنقذته من جانبٍ معين الممثلة إيما طومسون في دور بياتريس، بما توحي به من استقلالٍ يُشبه الاستقلال الذي تُصوره إميلي برونتي، وتوحي به في معظم الأحيان بنبرات الكلام والتعبير بملامح الوجه. ويوجد في طبع بياتريس عنصر سوف يَروغ دائمًا من التدجين، ولْتَشهدْ غضبها من استحالة تحولها إلى رجلٍ حتى تنتقم لما افتراه كلوديو وطعن به في عفة هيرو، وهو ما يتجاوز مبادئ العلاقة بين الجنسين ويتحول إلى وحشية أصيلة:
بياتريس : أَفَلَمْ يُثْبِتْ أنه وغدٌ إلى أقصى الحدود؟ أفلم يقذفْ بالباطلِ والبُهتان ابنةَ عمي، ويحتقرْها ويُلوِّثْ شرفها؟ ليتني كنتُ رجلًا حتى أنازلَه! يا عجبًا! هل يخدعها بالذَّهاب إلى موقع عقد القِران ثم يرميها فيه بالتهمة علنًا، بالباطل والبهتان السافر المباشر والحقد القاهر؟ يا ألله! ليتني كنتُ رجلًا! إذن كنت ألوكُ قلبه وسط السوق!
(٤ / ١ / ٣٠٠–٣٠٦)

٣

كيف إذن يُجيب المرء عن السؤال القائل: ما تعريف الحب في ضجة فارغة؟ والإجابة الأولى تقول إنه هنا، في العنوان نفسه، الحبُّ ضجة فارغة. وأما الذي سوف يربط بين بياتريس وبينديك ويُبقيهما معًا فهو معرفتُهما المشتركة وقبولهما المتبادَل لهذه العدمية الحميدة. ولا شكَّ أن العنوان يشير أيضًا إلى الانتقال المزعزع في علاقةِ هيرو وكلوديو، الذي يتحول من عدم تطارُح الغرام إلى زواجٍ برجماتي مفيد للطرفين. فعلى الرغم من خَواء كلوديو وشخصيته المضجِرة فإن لديه خُيَلاء معينة في مدخله البهيج إلى خطبته الثانية إلى هيرو التي يفترض أنها ماتت: «لن يتغير رأيي حتى لو كانت حبَشية» و«من منكنَّ الآنسةُ المكتوبة لي؟» وهذه اللامبالاة مقدمة لأعلى كوميديا في المسرحية:
بينديك : أَرْجُوكَ تَمَهَّلْ يا كَاهِنْ! (إلى أنطونيو) مَنْ فِيهِنَّ بِيَاتْرِيسْ؟
بياتريس (وهي تنزع القناع.) : ذَلِكَ إِسْمي! ماذَا تَبْغي؟
بينديك : ألا تُحِبِّينَنِي؟
بياتريس : لا! لا أكثرَ مِنْ حُبِّي لِلْعَقْل.
بينديك :
وإذَنْ ضُلِّلَ عَمُّكِ وأَمِيرُ الدَّوْلَةِ وكُلودْيو!
فَلَقَدْ حَلَفُوا بِغَرَامِكَ لي!
بياتريس : وأَنْتَ؟ أَلَا تُحِبُّني؟
بينديك : حَقًّا لا! لا أَكْثَرَ مِنْ حُبِّي لِلْعَقْل!
بياتريس :
وإذَنْ ضُلِّلَتِ ابْنَةُ عَمِّي ووَصِيفَتُها أُوْرَسُولا وكَذَلِكَ مَارْجْرِيتْ!
إذْ أَقْسَمْنَ بِحُبِّكَ لي!
بينديك : حَلَفُوا إِنَّكَ أَضْنَاكَ غَرَامِي.
بياتريس : والفَتَيَاتُ حَلَفْنَ بِأَنَّكَ مِنْ حُبِّي كِدْتَ تَمُوتْ!
بينديك : لَمْ يَحْدُثِ الذي رَوَيَنَهُ! إِذَنْ فَأَنْتِ لا تُحِبِّينَنِي.
بياتريس : كلَّا، وحَقًّا إنَّما بِقَدْرِ ما يَرُدُّ صاحِبٌ صَنِيعَ مَعْرُوفِ لِصَاحِبِهْ!

لقد تجاوَز التراشقُ هذه المبارزةَ وتحول إلى حوارٍ حذر بين الخطط المستخدمة، المصوغة في عبارات رائعة، تصل إلى ذروتها في رؤيا فكاهية من أمتع رؤى شيكسبير الكوميدية:

بينديك : معجزة! هاتان يدانا تفضحان قلبَينا. هيا! سوف أتزوجك ولكني، قسمًا بنور النهار، أتزوجك من باب الشفقة!
بياتريس : لن أرفضك ولكني، قسمًا بهذا اليوم الجميل، لم أقبَل إلا بعد إلحاحٍ شديد — وأيضًا لإنقاذ حياتِكَ؛ إذ سمعت أن صحتك قد تدهوَرت.
بينديك : صَمْتًا! (إلى بياتريس) سأغلق فمك!١
(٥ / ٤ / ٩١–٩٧)
وتحتجُّ بياتريس حتى أثناء القُبلة، ولكنها لن تتكلم من جديد في ضجة فارغة. ولا بد أن شيكسبير قد شعر بأنها في هذه اللحظة، قد اكتسبَت تعاطف الجمهور، وهو يسمح لبينديك أن يُدافع عن مكانته الجديدة باعتباره «الرجل المتزوِّج»، ودفاعه ينتهي بالنصيحة التي ما انفكَّ شيكسبير يقدمها، بأسلوب قهري؛ أي إنه يقول: تزوجْ وتوقَّع أن تُصبح ديوثًا:
بينديك : بل قبل الزواج وأقسم! وإذن فاعزِفوا أيها الموسيقيون! أيها الأمير، أنت جادٌّ متجهِّم، فاتخذ لك زوجة! اتخذ لك زوجة! لا توجد عصًا أشدُّ إجلالًا من عصًا في طرَفِها قرن.
 [والمعروف أن القرن يرمز للديوث] وهكذا يقول بينديك إن عصا السلطة وعصا الشيخوخة المكرمة لا تتَّسمان بالعراقة والأصالة أكثرَ من عصا الديوث التي تتَّسم بقرنٍ في طرَفِها. ويتفكَّه بينديك في ما نعتبره نحن من فساد الذوق، لكنه كان صحيحًا وواقعيًّا عند شيكسبير. وربما تلمح هذه الألفاظ إلماحًا خفيفًا إلى أن هذا الزواج، مثل معظم الزِّيجات عند شيكسبير، لن يُمثل خميلة هناء لبياتريس وبينديك. وهذا أمر غير ذي أهمية في هذه الكوميديا، على الإطلاق. فنحن نرى اثنين من أذكى وأنشط الشخصيات العدمية عند شيكسبير، وليس من المحتمل أن يغضب أحدهما أو ينهزم، وقد قَبِلا الفرصة التي أعدَّها القدر لهما.
١  تنسب هذه العبارة في طبعة آردن المعتمدة للمسرحية إلى ليوناتو الذي تقول الإرشاداتُ المسرحية: إنه يأخذ بياتريس من يدها ويُسلمها إلى بينديك، ولكنني التزمتُ بما جاء في كتاب بلوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤