الفصل الرابع عشر
كما تحب
١
يرجع حبُّ الناس مسرحية كما تحب إلى ثلاثة
أسباب. الأول أنها لا تتكلم بالنَّظم المرسَل إلا دقائقَ معدودة. والثاني أنها
لا تلبس إزارًا إلا دقائقَ معدودة (والأثر الفظيع لتغييره في آخِر المسرحية
بفُستان الزفاف كفيلٌ بإقناع أغبى أنصار الأردية النِّسائية بالتحوُّل إلى
الملبس العقلاني). والسبب الثالث أنها تخطب ودَّ الرجل بدلًا من انتظاره ليخطب
ودها، وهذه قطعةٌ من التاريخ الطبيعي التي أبقت بطَلات شيكسبير في قيد الحياة،
في حينِ أن أجيالًا من الشابات اللاتي تربَّين على أيدي المربيات الصالحات،
واللاتي عُلِّمْنَ أن يَقُلْنَ «لا» ثلاثَ مرات على الأقل، قد فَنِينَ في شقاءٍ
وحسرة.
هذا ما قاله جورج برنارد شو (وهو ليس من عابدي شيكسبير!) في عام ١٨٩٦م، عندما كان
سلطان روزالند قد بلغ إحدى ذُراه. وعندما شاهدت كاثرين هيبورن مزدهيةً في دور
روزالند على أحد مسارح برودواي عام ١٩٥٠م، كان الدور لا يزال يحتفظ بسُطوع نجمه،
وإن كان الحال قد تغير اليوم، بعد نحو نصف قرن؛ إذ استولى على روزالند المتخصصون في
سياسات العلاقة بين الجنسَين، وهم الذين قدموا لنا أحيانًا روزالند ذاتَ الميول
الجنسية المثلية، الأكثر انشغالًا بحبِّ سيليا (أوفيبي) من حب أورلاندو المسكين.
وبانصرام الألفية الثانية وتراجُعِها للماضي، ربما نستطيع أن نرجع إلى الدور الأصلي
الذي كتبه شيكسبير، وربما استَطعنا في الوقت نفسه تخليصَ كَالِيبان من قبضة
«الماديين» المعجبين به، وإعادتَه إلى «رومانسته العائلية» المريرة (والتعبير من
صوغ فرويد) مع أهل منزل بروسبرو. وإذا عدنا إلى عام ١٩٣٢م، عندما كانت روزالند
الشغل الشاغل، سمعنا ج. ك. تشسترتون، يعترض على الصور المختزَلة الشائعة لها، رغم
إعجابه الشديد بها:
منذ ثَلاثِمائة عام تقريبًا، كان شيكسبير لا يعرف ما يصنع بشخصياته،
فأطلقهم للعبِ في الغابة، وجعل فتاة تتنكَّر في زيِّ غلام، وجعل يتسلى
بحدسِ تأثير الفضول الأنثوي إذا تحرَّر ساعة من الوقار النسوي. وأجاد فيما
فعَله، لكنه كان يستطيع أن يفعل شيئًا آخر. ولا تستطيع الرومانسات الراهنة
أن تفعل غيره. لقد حرَص شيكسبير على أن يشرح في المسرحية نفسِها أنه لا
يعتقد أن الحياة ينبغي اعتبارُها نزهة واحدة مديدة. بل ولم يكن يرى أن
الحياة الأنثوية ينبغي أن تكون قطعةً مديدة من التمثيل المسرحي الخاص. ولكن
روزالند التي كانت آنذاك غيرَ تقليدية لمدة ساعة أصبحَت الآن جِماعَ أعرافِ
حقبةٍ كاملة. كانت آنذاك في عطلة، لكنها الآن تخضع لجهد شديد حقًّا. فعليها
أن تقوم بالتمثيل في كل مسرحية، أو رواية أو قصة قصيرة، ودائمًا بالنثر
المتطاول المعهود نفسِه. بل إنها ربما كانت تخاف أن تكون نفسها: وسيليا
بالقطع تخشى أن تكون ذاتها.
وأنا أشكُّ في أن شيكسبير كان راضيًا، كما يقول تشسترتون، بإنهاء النزهة في غابة
آردن (وهي المُسمَّاة باسم والدته ماري آردن، من زاوية معيَّنة)، بل أعتقد أن
شيكسبير كان شديدَ الحب لهذه المسرحية. ونحن نعلم أن شيكسبير كان يلعب دورَ آدم
الهرم، المشرف المخلص على أورلاندو؛ فهو آدم الهرم البريء من جميع الخطايا والمتمتع
بالفضيلة الأصلية. والواقع أن عنوان كما تحب
دقيقٌ وملائم، وهي من بين جميع مسرحيات شيكسبير، تقعُ أحداثها في بقعة أرضية من
الخير الممكن مثلما تنتمي الملك لير ومكبث إلى بقعٍ أرضية كالجحيم. ومن بين جميع بطلات
شيكسبير الكوميدية تعتبر روزالند أكبرَهن موهبة، وهي فريدة في أسلوبها تفرُّدَ
فولسطاف وهاملت في أسلوبيهما. ولقد توخَّى شيكسبير الدقة والحرص في كتابة دور
روزالند إلى الحد الذي يجعلنا لا ننتبه تمامًا إلى تفردها بين جميع ذَوي اللماحية
(في الأدب كله). إنها ذاتُ وعي معياري، وتتسم بالتوازن القائم على التوافق، وتتميز
بالحصافة الجميلة، بحيث تعتبر السلف الذي لا شك فيه لإليزابيث بينيت في الكبرياء والتحيُّز، على الرغم من تمتعِها بحريةٍ
اجتماعية تتجاوز بها مناحيَ القصور الدقيقة عند جين أوستن.
وروزالند ابنة الدوق سنيور، الدوق الشرعي الذي اغتُصب مكانه، ومن ثَم فهي أرفعُ
منزلةً إلى حدٍّ بعيد من أورلاندو (ابن السادة الفقراء)؛ ومن ثم يصعب أن تقبله
زوجًا، ولكن غابة آردن تُذيب الفوارق بين الطبقات، على الأقل لفترةٍ جميلة. ويقوم
الدوق الشرير، الأخ الأصغر للدوق سنيور، بصورة عبثية، بتسليم الدوقية المغتصَبة
للدوق الشرعي، والدِ روزالند، في حين أن أوليفر الخبيث يُفاجئنا بالتنازل عن منزل
أبيه إلى أورلاندو، أخيه الأصغر وحبيب روزالند. وليس من الممكن وضعُ هذا النسق
المختلط في سياقٍ تاريخي، والمعلقون الاجتماعيون على كما
تحب لا يُطلِعوننا على الكثير من أسرار الجوِّ الغريب والساحر لهذه
المسرحية. بل إننا لا نعرف على وجه الدقة موقعنا الجغرافيَّ في هذه الكوميديا.
والظاهر أن الدوقية المغتصبة تقع في فرنسا، وأن آردن هي منطقةُ الأردنِّ، ولكن صورة
روبن هود تلوح لنا، والغابة تبدو إنجليزيةً محضة. ونرى أن الأسماء الإنجليزية
والفرنسية موزَّعة بطريقة عشوائية على الشخصيات، في فوضى موفَّقة تنجح نجاحًا
باهرًا. وعلى الرغم من أن النقاد يستطيعون أن يجدوا، بل ويجدون بالفعل كثيرًا من
الظلال في غابة آردن، فإن مِثل تلك المكتشفات تُلقي لثامًا على أهم ما يُهمنا في
هذه المسرحية الرائعة. إنها أسعد مسرحية كتبها شيكسبير إلى حدٍّ كبير: لقد حدثَت
وفاةٌ في أركاديا، ولكن ذلك لا يعني أن ترين على نفوسِنا ما دام كلُّ شيء تقريبًا
هو كما نحب.
لقد كتب شيكسبير تسعًا وثلاثين مسرحية، من بينها أربعٌ وعشرون تقريبًا من
الروائع، ولا ينكر أحدٌ أن كما تحب تسطع من بينِ
الروائع، وإن كان عددٌ محدود يتصور (خطأً) أنها أخفُّ روائعه وزنًا. فإذا لم تستطع
روزالند أن تَسرَّنا، فلن ينجح أحدٌ عند شيكسبير أو عند غيره من الأدباء أن
يسرَّنا. وأنا أحبُّ فولسطاف وهاملت وكليوباترا باعتبارهم شخصياتٍ أدبيةً ودرامية،
ولكنني لا أحب أن ألقَى أحدهم فجأةً في الحياة الفعلية، وأما حبُّ روزالند فدائمًا
ما يجعلني أتمنى لو وجدت في عالمنا الأدبي الفرعي. قامت إيديث إيفانز بأداء دور
روزالند قبل أن أستطيع مشاهدتها لصغر سني، ويقول أحد النقاد إنها كانت تُخاطب
الجمهور كأنما كان كل فرد فيه أورلاندو، ومن ثم سلبَت ألبابهم جميعًا. والدور
العظيم، مثل دور روزالند، معجزة من نوع ما؛ إذ يبدو أن منظورًا عالميًّا قد انفتح
لنا، وشيكسبير يُخضع حتى فولسطاف وهاملت للتورية الدرامية الساخرة، ويقدم لنا عدة
منظورات ليست متاحةً لأعظم الأبطال الكوميديين أو لأشدِّ الأبطال التراجيديين
إثارةً للقلق. ولكن روزالند فريدةٌ عند شيكسبير، وربما في الدراما الغربية كلها؛
لأنه من الصعب تحديدُ منظورٍ لها لم تستبقه وتشارك فيه. من المحال تقديمُ عرض مسرحي
يخلو من درجةٍ ما من التورية الدرامية الساخرة، فهي امتيازٌ يتمتع به الجمهور. ونحن
نتمتع بهذه التورية الساخرة فيما يتعلق بشخصية تتشستون، وجاكويز، وكل شخصية أخرى في
كما تحب، باستثناء روزالند، ونحن نصفح عنها
لأنها تعرف أكثرَ مما نعرف، ولأنها لا تملك إرادة السلطة علينا، إلا باستعمال أشدِّ
مَلَكاتنا إنسانية في تقدير أدائها.
٢
ذكرتُ آنفًا أن شيكسبير لعب على المسرح بنفسه دورَ آدم الهرم، الخادم المخلص الذي
يخرج مع أورلاندو إلى غابة آردن. وآدم الفاضل «لا ينتمي لطراز هذا الزمان»، كما
يقول أورلاندو، لكنه يمثل «الخدمة المخلصة للعالم القديم» وكما تحب أشدُّ مسرحيةٍ كتبها شيكسبير اتسامًا بدماثة الطبع ورقة
الحاشية، وإن قلتَ لي وكذلك الليلة الثانية عشرة
أيضًا، قلتُ لك إن كل من فيها مجنونٌ باستثناء المهرج فسته. إن أورلاندو يشبه هرقل
في شبابه، وليس بالقطع مكافئًا إنسانيًّا لروزالند، ولكنه أعقل كثيرًا من المخبول
أورسينو في الليلة الثانية عشرة، وأما روزالند
وسيليا فهما مثاليتان في أية صُحبة، وأما من ناحية الحكمة واللماحية فهما ربَّتان
إن قورِنَتا بغريبتَي الأطوار الساحرتين فيولا وأوليفيا. وأنا على استعدادٍ للاتفاق
مع بعض الباحثين على وجود بعض الظلال السوداء في غابة آردن؛ إذ إن حسَّ شيكسبير
الواقعيَّ الطاغيَ لم يكن يسمح له بتصويرِ عالم لا شِيَة فيه على الإطلاق. وما دمت
قلت هذا، فإنه يسرُّني أن أقول إن غابة آردن أفضلُ مكان يعيش المرء فيه وحسب عند
شيكسبير. فأنت لا تستطيع أن تُنشئ فردوسًا أرضيًّا ثم تبني فيه كوميديا مسرحيةً
ناجحة، ومع ذلك فإن كما تحب أقربُ ما تكون إلى
تحقيق ذلك. إن آدم الهرم (شيكسبير) يناهز الثمانين ولا شيء يُذكر عن حواء (أو أية
أنثى) زوجًا له. إنَّني في عالم ما بعد السقوط [الخروج من الجنة] وهو فِضي على أفضل
تقدير، ولكن به امرأة تجاوزَت حواء، روزالند السامية. إن حواء، أم جميع الأحياء،
يُحتفل بها بسبب حيويتها وجمالها، لا بسببِ ذهنها في جميع الأحوال. والدفَّاقة
الرائعة روزالند ذات حيوية وجمال في الروح وفي الجسد وفي العقل، ولا يُعادلها أحدٌ
داخل آردن أو خارجَها، وتستحقُّ عاشقًا أفضلَ من اللطيف أورلاندو، وتستحق ذَوي
لماحية أفضل للحديث معها من جاكويز وتتشستون. وكلَّ مرة أقرأ فيها كما تحب، أنطلقُ في تخيُّلات أحبُّها، مفادها أن
شيكسبير لم يكتب زوجتان مرحتان من ويندسور (فهي
لا تليق بفولسطاف الذي يُمثله في المسرحية دجال) ولم يقتل فولسطاف في هنري الخامس. كلَّا! إن كان لا بد من مشاهدة فولسطاف في
دور العاشق، فلا بد أن يفرَّ بدلًا من تتشستون إلى غابة آردن، مع روزالند وسيليا،
حيث نستبدل أودري وفيبي بالسيدة كويكلي ودول تيرشيت. وأي نثرٍ تُرى كان شيكسبير
يمكن أن يكتبه لفولسطاف وروزالند أثناء تطارحهما اللماح الفَكِه، أو لفولسطاف وحده
حتى يسحق جاكويز سحقًا! وتخيلاتي ترمي إلى فكرة نقديَّة، ألا وهي أن جاكويز
وتتشستون معًا لا يخففان من شدةِ افتقادي لفولسطاف. ولكن شيكسبير كان سيرفض
بحَصافته اقتراحي، فإن فولسطاف، «سارق» المشاهد العظيم كان سيَحول دون مشاهدتنا
روزالند مشاهدة كاملة، إن صحَّ هذا التعبير، وربما عاق روزالند من أداء مشروعها
التعليمي؛ أي تثقيف أورلاندو، وليس بالتلميذ الذكي ولا الخطر كالأمير هال.
كان ابتكار شيكسبير للشخصية الإنسانية، الذي أثبت انتصاره من قبل في خلق فولسطاف،
قد اكتسَب بُعْدًا جديدًا في روزالند، شخصيته الإنسانية الثانية العظيمة حتى الآن،
متجاوزًا بها جوليت وبورشيا، وبياتريس. وكان دور روزالند أفضلَ إعداد لشخصية هاملت
المنقَّحة في ١٦٠٠-١٦٠١م، حيث تُحقق اللماحية قدرًا من العبادة، وتصبح نوعًا من
التعاليَّة السلبية. وذكر الشخصية الإنسانية عند شيكسبير دائمًا ما يُعيدني إلى
المهمة العسيرة المتمثِّلة في حَدْس شخصية شيكسبير نفسه. كان شيكسبير مثل شايلوك
مرابيًا، والواضح أنه اشتهر بالبراعة في تعاملاته التجارية. وباستثناء ذلك، لا
نصادف الكثير مما يَعيب شيكسبير، إذا نحَّينا المرارة المبكرة للكاتب المسرحي جرين
الذي عجز عن منافسة شيكسبير وأصيب بكربٍ كبير. وتوجد ظلالٌ قاتمة حول ضمير المتكلم
في السونيتات، وبعض النقاد يحدسون أنها تتعلق بالشجن الذي أصابه بحمل اسم مجروح في
«المرثية» المتأخِّرة ﻟ «وِلْ بيتر»، إن كان شيكسبير فعلًا هو مؤلِّفَ هذه القصيدة.
وينصحنا هونيجمان نصيحةً حصيفة تقول إن علينا أن نَقبل صورتين متناقضتين لشيكسبير؛
الأولى لطيفة وصريحة، والثانية مظلمة ومعزولة، كأنما انصهَر فولسطاف وهاملت في وعيٍ
واحد. ما الذي يشترك فيه فولسطاف وهاملت، بخلاف الذهن الحاد؟ قال نيتشه إن هاملت
أجاد في التفكير إجادةً زادَت عن الحد، ومن ثَم قتلَته الحقيقة. هل يمكن للمرء أن
يُجيد التفكُّه إجادةً تَزيد عن الحد؟ إن فولسطاف يموت لأن نظام اللعب تخلَّى عنه
بخيانة هال له، وهذا قتلٌ ليس باللماحية بل بفقدان الحب، شبيهٌ بحالات الموت الصغرى
التي يُكابدها شيكسبير (أو المتكلم باسمه) في السونيتات. والنوع المسرحي مائعٌ
ويخضع للذوبان عند شيكسبير، ولكنه لم يسمح لفولسطاف إلا بكوميديا وهمية، هي
زوجتان مرحتان من وندسور، لا بالكوميديا
الأصيلة مثل كما تحب أو الليلة الثانية عشرة.
ومن حُسن حظ روزالند العظيم — الذي يرفعها فوق فولسطاف وهاملت وكليوباترا — أن
تقف وسطَ مسرحية لا يمكن أن يُصيب أحدًا فيها ضررٌ حقيقي، كما يُسمح لنا بالاسترخاء
مطمئنِّين إلى عبقرية روزالند. ويبدو أن شيكسبير الإنسان كان يُساوره خوفٌ لا غبار
عليه من الإصابة بالضرر أو الأذى؛ فالمتحدث في السونيتات لا يكشف عن نفسه كشفًا
كاملًا مثلما يكشف فولسطاف عن نفسه إلى هال، أو مثلما يكشف هاملت عن نفسه أمام ذكرى
والده. وتحمي كليوباترا نفسها، حتى موت أنطونيو، من الاستغراق في الحبِّ استغراقًا
لا ينبغي، بل إن روزالند نفسَها تحرص على ضبط علاقتها بأورلاندو. ولكن بهاء روزالند
ومسرحيتها يرجع إلى ثقتها وثقتِنا في أن كل شيء سيُصبح على ما يرام.
٣
لا يتمشى دورا تتشستون وجاكويز، رغم اختلافهما، مع دور روزالند أو مع سياقِها
المثالي في غابة آردن. فإن سخافات تتشستون في المحاكاة غير المقصودة تتجاوزُ كثيرًا
حماقاته المقصودة؛ فهو النقيض الكامل للمهرج فسته في الليلة
الثانية عشرة، الذي يعتبر أحكم مهرِّج في شيكسبير (وأكثرهم لطفًا
إنسانيًّا). وأما جاكويز، العييُّ المعقد، فقد تخلَّى عن مشاعر الوجود المشبوبة،
ولكن ذلك ليس باسم أية قيمٍ يمكن لروزالند (أو يمكننا) أن نبجِّلها. ويقول كثيرٌ من
النقاد، محقين، إن روزالند بل وحبيبها أورلاندو (ولو إلى درجة أقل) لا تكاد تكون
لديهما أوهامٌ عن طبيعة العاطفة السامية التي يشتركان فيها. إنهما لا يلعبان وحسبُ
لعبة الحب (أو لعبة التودُّد) ولكنهما يحرصان على مُواصلة اللعب باعتباره عنصرًا
حاسمًا في الحفاظ على الطابع الواقعي للحب. فالاتزانُ هو الموهبة الخاصة لروزالند،
وأورلاندو يتعلَّمه منها. وإذا تحدثنا عن اتزان روزالند فلنا أن نقول إن هذه الصفة
لا ترجع إلى ظواهر السلوك أو الأخلاق. ولكن مثل ذلك التوازن ينبع من حركةٍ روحية
معقدة، ولا يمنع فولسطاف من التحلِّي بها إلا حبه الشديد للأمير هال، ويتخلى عنها
هاملت لأنه يستوعب في داخله الجرحَ المفتوح وهو إلسينور. وأما كليوباترا فهي دائمًا
الممثلة، تحاول القيام بدور ذاتها، وهو ما يحول دون أن تنافس روزالند في كرم النفس
أو في التحكم في المنظور. هل من المصادفات أن روزالند أكثرُ شخصية إنسانية تحظى
بالإعجاب في كل ما كتب شيكسبير؟ بل إن الاسم نفسه كان فيما يبدو يحمل سحرًا خاصًّا
له، على الرغم من أنه سمَّى ابنتَيه الحقيقيتين سوزانا وجوديث. إن بيرون في
خاب سعي العشاق يفشل في حملته للظفر بالجبارة
روزالاين، وروميو قبل أن يقابل جوليت كان مولَّهًا بحب فتاة اسمها روزالاين، ولكن
روزالند تختلف عن هاتين اللتين تحملان اسم روزالاين، واللتين تُقاومان المعجبين
بهما. لا أحد يعرف اسم السمراء المذكورة في السونيتات، لكننا نستطيع أن نقول بقدرٍ
لا بأس به من الثقة إنها لم تكن تُسمى روزالاين ولا روزالند.
والرائعة روزالند أولى شخصيات شيكسبير في الاتزان، وهي أكثرهم انتصارًا في مصيرها
الشخصيِّ وفيما تأتي به للآخرين. والليلة الثانية
عشرة هي المنافِسة الوحيدة لمسرحية كما
تحب من بينِ كوميديات شيكسبير الرومانسية، ولكنها تفتقرُ إلى
روزالند. وقد يكون الفرق أن كما تحب تسبق مباشرةً
هاملت المكتوبة عام ١٦٠٠-١٦٠١م، والليلة الثانية عشرة تتبعها مباشرة، وهكذا فإنَّ هاملت
جعل من غير المحتمل الإتيانَ بروزالند أخرى. كان نيتشه يعتقد أنَّ هاملت هو البطل
الديونيسي الأصيل. وعلى الرغم من أن كاميلا باليا تحدس بجرأة أن روزالند بطلة
ديونيسية، فإنني غيرُ مقتنع تمامًا بذلك. وتؤكِّد باليا بشدة المزاج الزئبقي عند
روزالند، وهو موهبة مختلفة قليلًا عمَّا يرتبط بديونيسيوس في نظر نيتشه. وعلى الرغم
من أن باليا ليست ناقدةً نِسوية أكاديمية، فإنها تشاركنا قلقنا الراهن إزاء
الأندروجينية [اجتماع الأنوثة والذكورة في الشخص نفسه] المفترضة في بطلات شيكسبير
اللاتي يتنكَّرن في ملابس الرجال: جوليا، وبورشيا، وروزالند، وفيولا، وإيموجين. لا
أستطيع أن أزعم أنني أفهم تمامًا رؤية شيكسبير للحياة الجنسية، لكنني لا أثقُ فيما
يقوله ج. ويلسون نايت وباليا من نسبة المثل الأعلى الذي يضمُّ الجنسَين معًا إلى
شيكسبير، وإن يكن هذان الناقدان من المفسرين الممتازين. ولا تبدو روزالند، على أية
حال، في صورة هذا المثال، ما دامت رغباتُها الجنسية ترتكز كليةً على أورلاندو،
المصارع الهرقلي والذي يعتبر أبعدَ ما يكون عن الشاب الخجول. وروزالند جذابة للجميع
إناثًا وذكورًا (من أفراد الجمهور أو من غيرهم) فهي تتَّسم بالحصافة المطلقة في
اختيارها لأورلاندو، وهي تتولى تعليمه الحبَّ في دور صاحبة المبادئ المصمِّمة على
أن يتخرج. ومن غير المعتاد أن تكون شخصيةٌ دراميةٌ ممتعةً في ذاتها ومعياريةً في
الوقت نفسِه مثل روزالند: فهي بريئة من الحقد، ولا تُوجه عدوانيتها إلى نفسها أو
إلى الآخرين، ولا تحمل في صدرها أيَّ نوع من أنواع الاستياء، مُبْدية حبَّ استطلاع
حيوي ورغبةً دفاقة.
أما أورلاندو فهو يكتب شعرًا بالغ الركاكة:
إذْ كَلَّفَ خَالِقُنَا الفِطْرَةَ في العَلْيَاءْ
أنْ تَحْشِدَ في الجَسَدِ المُفْرَدِ لِلْحَسْنَاءْ
كُلَّ مَحَاسِنَ نَعْرِفُها وتَزِيدُ بَهَاءْ،
وانْصَاعَتْ فِطْرَتُنا وأَتَتْ فَوْرًا بالأطْيَبْ
في خَدِّ هِلينَ ولم تَأْبَهْ بالقَلْبِ القُلَّبْ!
وأتَتْ بِجَلَالِ المَلْكَةِ كِلْيُوبَاترا،
ومَحاسِنِ أَتْلَانْتَا الفَاتِنَةِ الأُخْرى،
تَدْعَمُهَا عِفَّةُ لوكْرِيشيا وكَرَامَتُها،
جَمَعَتْ رُوزَالِنْدُ إذَنْ كُلَّ شَمَائِلِهَا؛
وَفْقَ إِرَادَةِ مَنْ في المَلإِ الأَعْلَى
مِنْ شَتَّى الأَوْجُه والأَعْيُنِ والأَفْئِدَةِ المُثْلَى؛
كَيْمَا تَجْمَعَ خَيْرَ صِفَاتِ بَنِي الإنْسَانِ مَعًا.
ومع ذلك فإن روزالند شخصيةٌ إنسانية متكاملة كما رسمها شيكسبير،
وليست نزهةً بين النفوس، مثلما يصبح هاملت أحيانًا. وكل تغيير فيها مُقنع ويعمق من
الاستمرار الثابت لطبيعتها. ومن بين أبشعِ طُرزِنا النقدية الحالية، أكاديميًّا
وصحفيًّا، طراز يُطلق على نفسه السياسات الجنسية (sexual
politics) والسياسيون الجنسيون يحثُّوننا على أن نُصدق أن
شيكسبير يتخلى عن روزالند «لروابط الذُّكُورَةِ الأبوية». ولا يتَّضح لي كيف كان في
طَوْق شيكسبير أن يتجنب هذا التخليَ المفترض عن بطلته. تُرى هل تتزوَّج روزالند من
سيليا؟ إنهما لا تريدان ذلك؛ فإن روزالند تُهرَع إلى أورلاندو، وسيليا (بسرعةٍ
مدهشة) تقفز نحو أوليفر الذي أصلح حاله. ترى هل كان على شيكسبير أن يقتل الدوق
سنيور الرائع، والد روزالند العطوف؟ أكان ينبغي أن ترفض روزالند أورلاندو مفضِّلةً
فيبي عليه؟ يكفينا أن نؤكد أنه لا توجد أية شخصية أخرى في المسرحيات، بما في ذلك
فولسطاف أو هاملت، يُمثل موقف شيكسبير الخاص تجاه الطبيعة البشرية تمثيلًا أكملَ من
تمثيل روزالند له. إذا استطعنا أن نُشير إلى مَثله الأعلى الذي لا تكتنفُه الظلال
فلا بد أن يكون روزالند ومفارقاتُه، التي هي مفارقات روزالند، أدقَّ وأكثر اتساعًا
من مفارقاتنا، وأقربَ إلى الإنسانية أيضًا.
٤
ومعظم العُروض التجارية لمسرحية كما تحب
تَكْسوها طابَعًا سوقيًّا، كأنما لا يثقُ المخرجون في قُدرة الجمهور على استيعاب
الصراع بين اللماحية الكريمة لروزالند وبين فساد طبع تتشستون ومرارة جاكويز، وأخشى
ألا تكون اللحظةُ الحاضرة هي اللحظةَ الثقافية المناسبة على وجه الدقة لروزالند عند
شيكسبير، ومع ذلك فإنني أتوقَّع أن تعود اللحظةُ المناسبة، ثم تتكرَّر عودتها،
عندما تبلغ ضروبُ مناهجنا النقدية النسوية درجةً أعلى من النضج، وتُحقق مع ذلك
نجاحًا أكبر. إن روزالند أقلُّ الشخصيات الدرامية جميعًا اتصافًا بالأيديولوجيا،
وهي تتفوق على كل امرأة في الأدب فيما يمكن أن نُسميه «إمكان فهمها». لن تستطيع
تحقيقَ الكثير إذا قلت إنها «بطلة رعوية» أو «كوميديانة رومانسية»؛ فإن ذلك يعني
حبس ذهنها الشاسع وروحها الحرة في أوصافٍ أضيق من أن تحتويَها. فهي تتفوق كثيرًا
على سائر الآخَرين في مسرحيتها مثلما يتفوق كلٌّ من فولسطاف وهاملت على غيرهما في
مسرحيَّتَيهما. وأفضلُ نقطة انطلاق لفهمها الفَهْم الصادق جملةٌ عظيمة واحدة تقولها
عندما يقول أورلاندو إنه سيموت إن لم تقبَلْه حبيبًا. وكثيرًا ما سمعتُ هذه الجملة
الرائعة يُستهان بها، عندما تُعاني الممثلات من سوء الإخراج، لكنها إذا أُلقِيَت
بوضوحٍ أصبحَت لا تُنسى؛ تقول روزالند: «لقد مات الرجال على مَرِّ التاريخ وأكَلَهم
الدود، ولكن ليس بسببِ الحب.» فالجملة تتَّسم باللماحية والحكمة، ويُمكنها منافسةُ
فولسطاف في أعظم لحظاته، عندما لامه قاضي القُضاة على حديثه عن «شبابه» الخاص؛ إذ
ردَّ فولسطاف قائلًا: «سيدي القاضي! إنني وُلدتُ في نحوِ الساعة الثالثة عصرًا
بشعرٍ أبيض وكَرِش مستدير تقريبًا». أما تأكيدُ عدم التقدُّم في السنِّ فيُعتبر
انتصارًا شخصيًّا؛ وأما انتصار روزالند فغيرُ شخصي وعارم، ويعتبر أفضلَ دواء للذكور
المرضى بالحب. إنها تؤكد أن الرجال ماتوا وأن الدود أكلهم، فالموتُ حقيقي ومادي،
و«لكنه ليس بسبب الحب»؛ أي إن فولسطاف يتناول شكوى قاضي القُضاة ويُفجرها بتخيُّلٍ
من ابتكاره، وتُوازيه روزالند في دِقَّة توقيتِ الرد، فتُدمر خفيةً وبشكلٍ قاطع
رفضَ الذكور أن يَبلغوا سنَّ الرشد.
ويقول تشيسترتون إن «روزالند لم تذهب إلى الغابة بحثًا عن حريتها، بل ذهبَت إلى
الغابة بحثًا عن والدها»، وعلى الرغم من حُبي الشديد لتشسترتون، فإنَّ قوله هذا كان
يمكن أن يدهش شيكسبير؛ فإن روزالند غيرَ المتنكِّرة لا تجتمع بوالدها قط حتى
تستعيدَ ملبس المرأة عند زفافها. فالبحث عن الوالد ذو أهميةٍ ضئيلة في كما تحب، وحرية روزالند ذاتُ أهميةٍ قُصوى لها. ربما
كانت مارجوري جاربر على حقٍّ عندما قالت إن روزالند تذهب إلى الغابة حتى تُساعد
أورلاندو في الوصول إلى النضج، وحتى ترفع مُستواه بصفته شخصًا وعاشقًا، والواقع أن
أورلاندو مُراهق لا يَزيد في هذه الخصيصة عن معظم الذكور عند شيكسبير: هل ابتكر
شيكسبير أم ابتكرَت الطبيعة انخفاض المستوى العاطفي للرجال عن مستوى النساء؟
وروزالند تتمتَّع بقدرٍ من البرجماتية يمنعها من نعي هذا التفاوت، وتكتفي بتعليم
أورلاندو. وهي تُشارك فولسطاف دورَ المعلم، وأما هاملت فيُشخص أعراض كلِّ من
يُقابله، لكنه لا يملك من الصبر ما يسمح له بتعليمهم؛ أي إن روزالند وفولسطاف
يَزيدان من عمق الحياة ويُثْريانها، وهاملت هو البابُ الذي تدخل منه طاقاتٌ سماوية،
والكثير منها سلبي، باعتبارها خاطراتِ الفَناء. وهكذا فإن كما تحب تَشغل مكانًا محددًا قبل التراجيديات الكبرى، وهي عملٌ
يبثُّ الحياة من جديد، وروزالند ممثلة فرحة للحرِّيات الممكنة في الحياة. أي إن
التمثيل الجماليَّ للسعادة يتطلَّب فنًّا معقَّدًا، ولم تتجاوز أيُّ صورة درامية
للسعادة قطُّ الصورةَ التي تُمثلها روزالند.
إذا أراد المرء أن يعشق وأن يرى ويشعر في الوقت نفسِه بالطابَع العبثي لعشقه؛
فعليه أن يذهب إلى مدرسة روزالند، فهي تُعلمنا كيف يكون المرء وعيًا متوافقًا،
ويستطيع أيضًا أن يستوعب واقعَ وجودِ ذاتٍ أخرى، وهو ما يُمثل معجزة. وكان الشاعر
شلي يتصوَّر تصورًا بطوليًّا يقول إن سرَّ الحب يكمن في الخروج الكامل من طبيعتنا
ودخول طبيعة شخصٍ آخَر، والعاقلة روزالند ترى أن هذا جنون. فليست من أصحاب
الرومانسية العليا ولا الأفلاطونية، وأوهام الحب بالنسبة لها أمرٌ يختلف اختلافًا
عن إدراك العَذارى أن «السماء تتغير عندما يتزوَّجن». وللمرء أن يُخاطر فيقول إن
روزالند تتولى تحليل «الحب» مثلما يتولَّى فولسطاف تحليل «الشرف»، بمعنى أنه يتضمن
المجموعةَ المتكاملة من سلطة الدولة، والتآمُر السياسي، والفروسية الوهمية والحرب
السافرة. ويكمُن الاختلاف بينهما في أن روزالند نفسَها عاشقةٌ سعيدة وتنتقد الحبَّ
من داخلِ دنياه، وأما فولسطاف فيُدمر ادِّعاءات السلطة، ولكن من موقع على الحافة،
مُدركًا طول الوقت أنه سوف يفقد حب الأمير هال الذي تفوز به الحقائقُ الواقعية
للسلطة. وتنتصر لماحية روزالند، ولكنها دائمًا ما تناسب هدفَها ولا تتجاوزه، وأما
سخرية فولسطاف المهينة فإنها، على انتصارها، تعجز برجماتيًّا عن إنقاذه من النبذ.
وكلاهما عبقريةٌ تعليمية، ولكن روزالند أقربُ إلى جين أوستن، وفولسطاف أقربُ إلى
صمويل جونسون، فروزالند ربَّة الإقناع، وفولسطاف يُقدم إلينا في النهاية الإحساسَ
بأن الأمانيَ البشرية باطلة.
كنتُ ولا أزال أدعو إلى رؤية روزالند في السياق العام؛ إذ تقف ما بين فولسطاف
وهاملت، فهي تضارعهما في اللماحية والحكمة ولكنها لم تقع في شَرَك التاريخ مثل
فولسطاف، ولا في شَرك التراجيديا مثل هاملت، ومع ذلك فإنها أكبرُ من الدراما الخاصة
بها، مثلما يَعجزان عن الانحباس في الدراما الخاصة بكلٍّ منهما. ينبغي أن يُقاس
ابتكار الحرية بالعوامل التي تحصرها أو تتهدَّدها: مثل الزمان والدولة في حالة
فولسطاف، ومثل الماضي والعدو داخل هاملت. وقد تبدو حرية روزالند غير مهمة؛ لأن
كما تحب تُنحِّي الزمان والدولة، وليس لدى
روزالند أحزان تراجيدية، ولا أمير يدعى هال، ولا جرترود [والدة هاملت] ولا شبح
[والد هاملت]. فإن روزالند تحيا في سياقها الخاص، ولا تواجه تحدِّيات، باستثناء
كآبة جاكويز وعفونة تتشستون.
٥
وعلى الرغم من التصنع الذي يتَّسم به جاكويز، فإن شيكسبير يمنحه عددًا من أفضلِ
خُطبه، ولا بد أن شيكسبير كان مُغرَمًا بهذا الرجل الذي يتصنَّع الكآبة. وهو من
اختراع شيكسبير، مثل تتشستون؛ إذ لا يتضمن مصدرُ المسرحية أيًّا منهما، وهو قصة
الغرام النثرية التي كتبها توماس لودج (١٥٩٠م). ومهما تكُن المتعة التي كان شيكسبير
يجدها في جاكويز وفي تتشستون، فإننا قد نضلُّ إذا اقتنَعْنا بمظاهرهما السلبية (وقد
أبدى كثيرٌ من الباحثين حساسية معينة تجاه تتشستون بصفةٍ خاصة). وتتشستون ذو لماحية
صادقة، ولكنه خبيثٌ خبثًا عفنًا، وأما جاكويز فإنه ذو عفونة وحَسْب (والنطق
الشيكسبيري لاسمه [المستعمَل في الترجمة] يتضمَّن تورية لتشابهه مع لفظ جاكيز الذي
يعني المرحاض). وكلاهما موجودٌ في كما تحب حتى
يكونا محكًّا لِلَّماحية الجميلة عند روزالند، وهي تنتصر عليهما وتمنع تجاوُزَهما
لمواقعهما. وروح انتصارها المشرقة تُبشر بانتصار بروسبرو، كما تقول مارجوري جاربر،
على الرغم من أن السيادة التي تُحققها روزالند ترجع إلى السحر الطبيعي الكامل، وهو
معياريٌّ وإنساني، وهل نُحجِم عن وصفه بأن ينتميَ إلى شيكسبير انتماءً كاملًا؟
ويعتبر جاكويز وتتشستون كارثتَين مختلفتين على ما بينهما من ارتباط، وهما من
المزالق التي يتحاشى المتحدثُ في السونيتات الوقوعَ فيها، على الرغم مما يدفعه إلى
اليأس الذي يُمثله خيرَ تمثيل اللورد الأشقر الشاب، والسيدة السمراء، مَناطُ غرامه،
وهما اللذان يُمثلان الراحة واليأس على الترتيب.
والمذهب الاختزاليُّ (reductionism) أو التشاؤمي،
أي الاتجاه إلى اعتبار أن أسوأ الحقائق عنا هي الصادقة وحدها، مذهب يُسبب ضيقًا
شديدًا لشيكسبير، وبهجة حالكة لجاكويز، ولذة فاحشة لتتشستون. فإن جاكويز ساخرٌ يهجو
المجتمع ويتهكَّم على غابة آردن، ولكن المجتمع لا يوجد إلا خارجَ الغابة ونحن هنا
في منفًى رعوي، وهو ما يعني أن موقف الهجاء الساخر عند بن جونسون ليس متاحًا
لجاكويز، بحيث لا يبقى لدينا إلا غابة آردن، حيث يعتبر جاكويز منافسًا لتتشستون
وزميلًا له باعتباره ساخطًا آخرَ على المجتمع. وتتشستون أقدر من جاكويز على
التفكُّه وأغلظ منه حسًّا، وهو يعتبر أن البراءة الريفية مجردُ جهل وحسب، وجاكويز
يبدي إشفاقًا أكبر قليلًا في هذا الصدد. والهدف الأكبر لهذين اللذين يريدان أن
يكونا هجَّاءَيْن هو السخرية من المثاليَّة الغرامية أو الحب الرومانسي. ولكن
نقدهما المتبادَل لا لزوم له، فإن روزالند ذاتُ مذهب واقعي في العشق، وناقدة بالغة
الكرم للحبِّ الرومانسي، وهي تجعل هذين الساخطيْن عاجزين في عيون الجميع عن أداء
مهماتهما المختارة، فهي تفضح بلاهةَ جاكويز وسخافةَ تتشستون؛ ومن ثم فهي تُدافع عن
غابة آردن وما بها من عواطفَ ضد هجمات التشاؤم المريض.
ومع ذلك فإن جاكويز لديه صفاتٌ يستعيض بها إلى حدٍّ ما عن بلاهته، في أعيننا
أكثرَ مما هي في عينَي روزالند ما دامت لا تحتاج إليه. ويجعلنا شيكسبير نحتاج إلى
جاكويز بجعله يُقدم حديثَين عظيمين؛ الأول يحتفل فيه بمقابلته تتشستون:
جاكويز
:
مُهَرِّجٌ مُهَرِّجٌ! قَابَلْتُ وَسْطَ الغَابِ هَا هُنَا
مُهَرِّجًا!
وفَوقَهُ رِدَاؤُهُ المُبَرْقَشُ! ما أَتْعَسَ
الدُّنْيَا!
قَسمًا بِقُدْرَةِ الطَّعَامِ أنْ يُقِيمَ أَوْدِي،
قَابَلْتُ ذلكَ المُهَرِّجَ الذي اسْتَلْقى بِضَوْءِ الشَّمْسِ
يَسْتَدْفِئْ،
وقَادِحًا في رَبَّةِ الأقْدَارِ هَا هُنَا بأَلْفَاظٍ
دَقِيقَةٍ،
أوْ قُلْ بأَلْفَاظٍ دَقِيقَةٍ جَاهِزَةٍ! لكنه مُهَرِّجٌ
مُبَرْقَشُ الرِّدَاءْ!
فَقُلْتُ: «عِمْ صَبَاحًا يا مُهَرِّجْ!» فَرَدَّ «لا يا
سَيِّدِي»
«لا تَدْعُنِي مُهَرِّجًا أَحْمَقْ … حتَّى تَجِيءَ لي
السَّمَاءُ بالثَّرَاءْ»
وعِنْدَهَا مِنْ جَيْبِهِ أَخْرَجَ مِزْوَلَة،
أَلْقَى عَلَيْهَا نَظْرَةً مِنْ عَيْنِهِ التي خَلَتْ مِنَ
البَريقْ،
وقالَ في نَبْرَةِ الذي أَتَى بِمَوْعِظَة: «السَّاعَةُ
العَاشِرَةُ الآنْ»
«وهكذا نَرَى أُسْلُوبَ سَيْرِ هذه الدُّنْيَا:
لَمْ تَمْضِ غَيْرُ سَاعَةٍ مُذْ كَانَتِ التَّاسِعَة،
وَبَعْدَ سَاعَةٍ تكونُ إِحْدَى عَشْرَة،
وهكذَا مِنْ سَاعَةٍ لِسَاعَةٍ يَزْدَادُ نُضْجُنَا»
«وهكَذَا مِنْ سَاعَةٍ لِسَاعَةٍ يَدِبُّ فينا العَفَنُ!»
«وَهذِهِ حِكَايَةٌ لَهَا ذُيُول». وعِنْدَمَا سَمِعْتُ
ذلِكَ المُهَرِّجَ المُبَرْقَشَ العَجِيبَ يَسْتَقِي مِنَ
الزَّمَنِ العِبَرْ،
تَفَجَّرَت رِئَتَايَ بالضِّحْكَاتِ مِثْلَ دِيكِ
الصُّبْح؛
إذْ كَيْفَ يُصْبِحُ المُهَرِّجُونَ قَادِرِينَ هَكَذَا على
التَّأَمُّلِ العَمِيقْ!
إذ اسْتَمَرَّ ضِحْكي عِنْدَهَا دُونَ انْقِطَاعٍ سَاعَةً
وَفْقًا لمِزْوَلَتِهْ. فَيَا لَهُ أَقُولُ مِنْ مُهَرِّجٍ
نَبِيلْ!
ويا لَهُ أَقُولُ مِنْ مُهَرِّجٍ قَدِيرْ! وهكذا لا بُدَّ مِنْ
رِدَائِهِ المُبَرْقَشْ!
ويتَّضح أن تتشستون، مُهرج في البلاط ممن يرتدون «الحُلَل
المبرقَشة»؛ أي المتعدِّدة الألوان، لكنه يفرُّ من العمل، أو يُهمل واجباته، رافضًا
أن يُشار إليه باسم المهرج حتى تبتسمَ له ربة الحظ، ويستخدم تورية مريرة بين لفظ
«الساعة» و«الساءة» [المحرَّفة عن الإساءة] والتي كانت تُطلق على العاهرة. وأما
«الذيول» المتعلقة بهذه الحكاية العفنة التي ربما كانت تشير إلى الإصابة بمرض سري،
فلسنا واثقين من دلالتها، ولكن تأثير تتشستون في جاكويز يجمع بين العمق والغموض، ما
دام يجعل جاكويز يتخلَّى عن كآبته السوداء القهرية، ساعة واحدة على أية حال،
ويُراجع مفهومه لدوره باعتباره ساخرًا هَجَّاءً:
لا بُدَّ أنْ تكونَ لي حُرِّيَتِي الكَامِلَةُ
في أَنْ أَهُبَّ مِثْلَ الرِّيحِ أنَّى شِئْت،
وفَوْقَ وَجهِ مَنْ أَشَاءُ مِثْلَ سَائِرِ المُهَرِّجِينْ،
أمَّا الَّذِينَ أُصْلِيهِمْ بألْذَعِ التَّهْرِيجْ،
فَسَوْفَ تَعْلُو مِنْهُمُ الضِّحْكَاتُ فَوْقَ الكُلِّ! سَلْ
سَيِّدي،
وكيفَ يَغْدُو ذَاكَ لَازِمًا؟ إِجَابَتِي وَاضِحَةٌ كَأَنَّهَا
الطَّرِيقُ لِلْكَنِيسَة!
إذْ إنَّ مَنْ يُصْلِيه ذلِكَ المُهَرِّجُ الحَكِيمُ بالنَّقْدِ
المَرِيرْ،
لا بُدَّ أنْ يَبْدُو كَمَنْ نَجَا مِنَ الجِرَاحِ، رَغْمَ مَا
بِهِ
مِنْ لَذْعَةٍ يُحِسُّهَا، إنْ لَمْ يكُنْ شَدِيدَ الحُمْق!
هذا وإلَّا أَفْصَحَتْ حَمَاقَةُ الحَكِيمِ عَنْ نَفْسِهَا،
وإِنْ يَكُنْ بمَا يُلْقِيهِ ذلِكَ المُهَرِّجُ الحَصِيفُ مِنْ
نَظَرَاتْ!
إليَّ يا هذَا بِثَوْبِي المُبَرْقَشْ! ولْتَسْمَحُوا لِي أنْ
أقُولَ آرَائِي صَرَاحَةً وسَوْفَ أَقْهَرُ الأَمْرَاضَ كُلَّها
في جِسْمِ دُنْيَانَا العَلِيلِ الفَاسِدِ،
لوْ وَافَقَ الجَميعُ أوْ صَبَرُوا على تَقَبُّلِ الدَّوَاءِ مِنْ
يَدِي!
ويبدو أن شيكسبير ينظر خِلسةً إلى صديقه بن جونسون، وربما يُقدم
بعض ثمار نظرته الثاقبة في الإمكانيات الدرامية لمهرج البلاط، وهي النظرة التي سوف
يُطورها في شخصية فسته في الليلة الثانية عشرة
وفي المهرج الذي لا يحمل اسمًا، على عظَمته، في الملك
لير. ولا يلبث الدوق سنيور أن يردَّ قائلًا إن جاكويز «الجونسوني»
نفسه كان قد تبدَّت فيه العيوبُ التي انبرى لانتقادها الآن:
الدوق
:
ذَمُّ الخَطَايَا أَقْبَحُ الذُّنُوبِ والخَطَايَا
البَشِعَة!
إذْ كُنْتَ أَنْتَ ذاتَ يَوْمِ فَاسِقًا ومُقْبِلًا
على مَلَاذِّ الحِسِّ إقْبَالَ البَهَائِمِ التي تَعِيشُ
للِشَّهْوَة!
وهذِهِ الشُّرُورُ السَّاطِعَاتُ والمَبَاذِلُ الذَّمِيمَةُ التي
اكْتَسَبْتَها
في غَيْرِ ما حَيَاءٍ أو تَوَرُّعٍ،
تُرِيدُ نَشْرَهَا وصَبَّهَا في أَنْفُسِ الجَمِيعِ
حَوْلَكْ!
ويُدافع جاكويز عن نفسِه دفاعًا «جونسونيًّا» عن الكاتب المسرحي
الساخر الذي يهجو أنماطَ البشر لا الأفراد، وهو الدفاع الذي يُمثل انتقالًا إلى
أشهر حديث في كما تحب حيث يُقدم جاكويز نسخته
الدرامية الخاصة «لمراحل العمر السبع» للإنسان:
جاكويز
:
ما هذِهِ الدُّنْيَا جَمِيعًا غَيْرُ مَسْرَحٍ،
وما الرِّجَالُ والنِّسَاءُ كُلُّهُمْ سِوَى مُمَثِّلينْ،
ولِلْجَميعِ أَوْقَاتُ الخُرُوجِ والدُّخُولِ
الثَّابِتَة،
وكُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمُو لَهُ أَدْوَارُهُ العَدِيدَة!
فِيهَا يَقُومُ بالتَّمْثيلِ في أَطْوَارِ عُمْرِهِ
السَّبْعَة!
أمَّا الرَّضِيعُ فإنَّهُ يَبْكي ويَصْرُخُ بَيْنَ أَيْدِي
المُرْضِعَة!
مِنْ بَعْدِهِ التِّلْمِيذُ يَجْأَرُ بالشَّكَاوَى حَامِلًا
حَقِيبَتَهْ،
ومُشْرِقَ المُحَيَّا في الصَّبَاحِ زَاحِفًا بِبُطْءٍ
كالمَحَارِ نَحْوَ المَدْرَسَة،
وذَاهِبًا إلى دُرُوسِهِ عَلَى مَضَضْ! وبَعْدَهُ نَرَاهُ
عَاشِقًا،
يُصَعِّدُ الزَّفَرَاتَ مِنْ صَدْرٍ كأنَّهُ أَتُونٌ،
مُنْشِدًا مَوَّالَهُ الحَزِينَ إنْ تَغَزَّلَ الغَدَاةَ في
جَمَالِ حَاجِبِ الحَبِيبَة!
وبَعْدَهُ يَأْتِي المُحَارِبُ الذي ما انْفَكَّ يَحْلِفُ
الغَرِيبَ مِنْ أَيْمانِهِ،
ومُطْلِقًا لِحْيَتَهُ كَأَنَّهُ نَمِرْ! يَثُورُ غَيْرَةً عَلَى
كَرَامَتِهْ
مُسَارِعًا إلى النِّزَالِ فَجْأَةً مِنْ أَجْلِ شُهْرَةٍ
جَوْفَاءَ كالفُقَّاعَة،
حَتَّى وإنْ أَلْقَى بِنَفْسِهِ أَمَامَ مِدْفَعٍ يَفْغَرُ
فَاهْ!
وبَعْدَهُ القَاضِي بِكِرْشِهِ الضَّخْمِ المُدَوَّرِ الذي فِيه
اسْتَوَى دِيكٌ سَمِينْ!
في وَجْهِهِ عَيْنَانِ صَارِمَتَانِ فَوْق لِحْيَةٍ
مُشَذَّبَة،
أمَّا كَلَامُهُ فَحَافِلٌ بِطَارِفِ الأَمْثَالِ والحِكَمِ
التَّلِيدَة،
وهكَذَا يَقُومُ بالدَّوْرِ المَنُوطِ بِهْ. لكنَّهُ في طَوْرِهِ
السَّادِسْ،
نَرَاهُ يَسْتَحيلُ شَيْخًا نَاحِلًا ومُضْحِكًا وَيرْتَدِي
خُفًّا،
وفَوْقَ أَنْفِهِ نَظَّارَةٌ وحَامِلًا في جَنْبِهِ
مِحْفَظَتَهْ،
أمَّا سَرَاوِيلُ الشَّبَابِ فَأَصْبَحَتْ مِنْ بَعْدِ أنْ
يَصُونَها فَضْفَاضَةً،
ولا تُلَائِمُ الهُزَالَ في سَاقَيْهِ. وصَوْتُهُ الجَهِيرُ
والفَيَّاضُ بالرُّجُولَةِ
يَعُودُ مِنْ جَدِيدٍ صَوْتَ طِفْلٍ زَاعِقٍ وفي النَّبَرات
حِدَّةٌ،
وجَرْسُهُ فيه صَفِيرْ! وآخِرُ المَشَاهِدِ التي نَرَاها
مَشْهَدٌ،
يُنْهي لَنَا الرِّوَايَةَ الغَرِيبَةَ التي تَمُوجُ
بالأَحْدَاثِ،
قُلْ إنَّها الطُّفُولَةُ الثانيةُ … تِلْكَ التي تُصَاحِبُ
انْعِدَامَ الذَّاكِرَة،
فَيَفْقِدُ الأَسْنَانَ والعُيُونَ والمَذَاقْ … بلْ كُلَّ مَا
كانَ لَدَيْه.
على الرغم مما يتمتع به هذا الحديث من قوة خارج سياقه؛ فإن له
أصداءً بالغة الدقة داخل المسرحية؛ لأنه يؤكد إحساسنا بالمذهب «الاختزالي» عند
جاكويز، فهو يعرف مثلَنا أن الرُّضَّع لا يبكون جميعًا ويصرخون طولَ الوقت، وأن
التلاميذ لا يَجأرون جميعًا بالشكوى. ولكن فصاحة جاكويز أنجحُ في وصف العاشق
والجندي، ونستطيع أن نتخيَّل أن فولسطاف يضحك من الذين يسعَون إلى شهرة «جوفاء
كالفقاعة» حتى في فوَّهة المدفع. ويستثمر شيكسبير، ذو الخبرة الواسعة في التقاضي،
قدرًا كبيرًا من الحيوية في وصف عادة شهيرة وهي تقديم الديوك المسمنة إلى القضاة،
ولم يكن شيكسبير آنذاك إلا في منتصف الرحلة، في الخامسة والثلاثين من عمره (وربما
كان يحدس أنه قد قضى فعلًا ثلثي عمره) فيتصور شخصية «بانطالون» الهرم الأبله في
عروض الكوميديا ديلارتي [أي مسرحيات الحِرَف
اليدوية في إيطاليا] باعتباره مصيرًا عالميًّا؛ إذ «يفقد الأسنان والعيون والمذاق،
لا بل كل ما لديه». وهذا السطر الأخير يُمثل
انتصارًا لجاكويز؛ فهو مذهب الاختزالية الطبيعي الذي لا يستطيع أحد أن يُماريَ فيه،
حتى السير جون فولسطاف، ومع ذلك فإن شيكسبير يُجادل فيه بتقديم شخصية آدم الهرم
(وهو دور كان يلعبه شيكسبير نفسه). إذ يتعثر أورلاندو أثناء دخوله إلى المسرح
حاملًا مربيه الطيب الهرم، الذي ضحَّى بكل شيء في سبيله، والذي لا يمكن أن يوصَف
بأنه، على وجه الدقة، قد «فقد كلَّ شيء». وهكذا نرى هذه الصورة المقنعة لفساد مذهب
جاكويز الاختزالي، ويزداد إقناع الصورة إن تأمَّلْنا حُب آدم شبه الأبوي لأورلاندو
وإخلاصه له.
ويكمن التعقيدُ الجميل الذي تتميز به شخصية جاكويز في جوانب ما يُنكره، فهو
إنكارٌ ساحر وذو طاقة خاصة. وحين نتوقع أن تسحقه لماحية روزالند التي يستحيل
التصدِّي لها، إذا به ينتفض منقضًّا عليه بدفقة سخرية نحبها وإن حيَّرتْنا:
جاكويز
:
أرجوك أيها الشاب الجذاب، زدني معرفةً بك.
روزالند
:
يقولون إنك رجلٌ مكتئب حزين.
جاكويز
:
هذا صحيح. وأنا أحب ذلك خيرًا من الضحِك.
روزالند
:
إن التطرف في هذا أو ذاك ذميم، والمتطرِّف يُعرِّض نفسه للانتقاد من
الجميع أكثر مما يتعرَّض السكارى.
جاكويز
:
من الخير أن يحزن الإنسانُ ولا ينطق.
روزالند
:
إذن فمِن الخير أن يصبح عمودًا من الخشب!
جاكويز
:
ليس اكتئابي مما يُصيب العلماء، من حسدٍ وتنافس، ولا الموسيقيين، من
تهويماتهم وأوهامهم، ولا رجال البلاط، من التفاخُر والزهو، ولا الجنود من
الطُّموح، ولا المحامين من اغتنام الفرص، ولا النساء من التزيُّن المتحذلق،
ولا العاشق من هذا كلِّه، ولكن اكتئابي من نوع فريد خاص بي، يتركَّب من
عناصر كثيرة مستخرَجة من أشياء كثيرة، بل مما اكتسبته من خبرات منوَّعة من
رحلاتي، وعندما أتفكر فيها، أجد أن تأملي يَغشاني بغلالة من حزن بالغ
التقلُّب في طبعه.
وجملة «من الخير أن يصبح عمودًا من الخشب» يمكن أن يعتبرَها صحيحة
أو يتفادى الردَّ عليها، مُصرًّا على أن حزنه أصيلٌ وفردي. ولكن روزالند تطلق عليه
قذيفةً تُبدد توكيده لذاته:
روزالند
:
أنت رحَّالة إذن! أقسم أن مُبررات حزنك قوية. لكنني أخشى أن تكون قد بِعت
أراضيَك لتُشاهد أراضيَ الآخرين. فإذا شاهدت الكثير ولم تملك شيئًا أغنيتَ
عينيك وأفقرتَ يديك!
جاكويز
:
لا بل إنني كسبتُ خبرتي!
روزالند
:
وخبرتك تدفعك إلى الحزن. إنِّي لَأوثر أن يكون لي مهرج يثير فرحي من
خبرةٍ تثير حزني، فما بالك بمشقة السفر لاكتسابها؟!
وردُّ جاكويز بأنه اكتسب خبرة ردٌّ هزيل يدل على هزيمته، ولكن
شيكسبير يُهيئ لهذه الشخصية المكتبئة نهاية وقورة، فالمسرحية تنتهي إما بالزواج أو
بالعودة من المنفى الرعوي لجميع مَن على المسرح، ولكن جاكويز يرحل ببيتٍ شعري طنان:
«فاطْلُبْ أنْتَ مَلَذَّاتِكَ مِنْ دُونِي/أَلْحَانُ الرَّقْصِ هُنَا لَيْسَتْ
أَلْحَاني!» أي: إنه سيمضي بعد أن حكم بأن الزواج «تزجية للوقت»، ونتساءل نحن مِن
جديد إن لم يكن ينطق برأي شيكسبير المنحاز، وربما رأي الرجل لا رأي كاتب المسرح.
وقد يكون جاكويز، وَفْق وصف أورلاندو إياه، «مهرج مأفون أو لا شيء»، ولكن قوالبه
اللُّغوية ذوات الأساليب الثابتة تنجح إلى حدٍّ ما من إنقاذه من نفسه.
٦
على الرغم مما يقوله كثيرٌ من النقاد، وتقاليد الأداء المعروفة، فإن شخصية
تتشستون لا بد أن توصف بعفونةٍ حقة، على عكس جاكويز، وتستخدم هذه العفونة محكًّا
لإثباتِ نقاء الذهب الخالص الذي تُمثله روح روزالند. وعلى الرغم من ضآلة حبي
لتتشستون، فمن المحال أن أقاوم مقاومة كليةً شخصًا يستطيع تأكيدَ ماضيه (ومستقبله)
كرجل من رجال البلاط على النحو التالي:
لقد رقصت من قبل رقص القصور، وضاجعتُ الفتيات، وأبديت الكياسة مع أصدقائي
والسلوك المهذب مع أعدائي، ودفعت بثلاثة خيَّاطين إلى حافة الإفلاس
…
ويجتذبنا تتشستون (ويُنفرنا
منه) بسبب معرفته الواسعة، فهو واعٍ بكلِّ مخاتلة، مقصودة أو غير مقصودة، وسواء
مارسها هو أو مارسها غيره. وينطبق عليه القولُ الذي يؤكِّده فولسطاف بفخر (وبدقة)
قائلًا إنه يتَّصف بما لا يتصف به الفارس السمين أي الخداع. وعلى الرغم من أن
روزالند تثير اليوم بِحارًا من الخلافات حول ارتداء ملابسِ الجنس الآخر، فإنها
تتجاوزها دون أن يمسها ضرر، وذلك على وجه الدقة لأنها ليست امرأةً مخادعة. صحيح
أنها تتغير بلا نهاية، ولكنها لا تفقد وحدة كيانها، أي المثل الكامل لما يُسميه
الشاعر ييتس وحدة الوجود. وربما تكون أبعدَ شخصية عن العدمية في كل ما كتبه
شيكسبير، وإن كان بوطوم النساج أقربَ منافسٍ لها، مثل كبار الضحايا: جوليت وأوفيليا
ودزدمونة وكورديليا، وإدجار الذي كاد أن يُصبح ضحيةً وإن كتبت النجاة له على الرغم
مما كابَده من متاعب. ونحن لا نستطيع أن نتصور وجود روزالند (أو بوطوم) في
تراجيديا؛ لأنها، كما ذكرت آنفًا، لا تخضع فيما يبدو، للتورية الساخرة؛ إذ إن
تحكُّمها في منظورها مطلق تمامًا. وتتشستون مولَعٌ بالمفارقات ولع جاكويز بالسخرية،
ولكن روزالند تتفوَّق على تتشستون لا بفضلِ تفوق لماحيتها؛ ولكن لأنها ترى ما يزيد
كثيرًا على ما يراه أيضًا. كان جاكويز قد أشار إلى تتشستون بعبارة «مُهرج في
الغابة»، باعتبارها تصفُ أهمَّ خصائصه، مستشهدًا بما يقوله: «من ساعةٍ لساعة يزداد
نضجنا/وهكذا من ساعة لساعة يدبُّ فينا العفن» وبعد أن ينشد تتشستون شعرًا ركيكًا
ردًّا على الشعر الغراميِّ السخيف الذي أنشدَه أورلاندو، يُخاطب روزالند
قائلًا:
تتشستون
:
هذا البحر الشعري يَخُبُّ خَبَبًا خادعًا، فلماذا أصبتِ نَفْسَكِ بعَدْوى
الخبَب؟
روزالند
:
يا أَيَّها المُهَرِّجُ السَّخِيفُ اسْكُتْ! لقد وَجَدْتُ هذِه
الأَبْيَاتَ فَوْقَ شَجَرَة!
تتشستون
:
لا شك أن الشجرة ثمرها فاسد!
روزالند
:
سأقوم بتطعيمها بِغُصْنٍ منك، ثم بِغُصنٍ من شجرة مَشْمَلَةٍ. وإذن تكون
أُولى الثمار الباكرة في البلد؛ إذ يصيبك العفن قبل اكتمال النضج، وهي
الصفة الحقَّة للمشملة!
تتشستون
:
هذا قولك! أما إن كان حكيمًا أم لا فَلْنَدَعِ الغابةَ تحكم!
ويعرف تتشستون أن الغابة سوف تحكم كما نحكم: لقد أفحمَته روزالند.
فلقد تعفَّن قبل أن يصل إلى نصفِ النضج، وهو يحاول أن يخطب ودَّ أودري حبيبته، فهي
بلهاءُ طيبةُ القلب تعبر عن حالها أرفع تعبير قائلةً «لستُ عاهرة وإن كنت أشكرُ
الأرباب على دمامتي»، ويُشبه تتشستون نفسَه بالشاعر أوفيد المنفي وسط القوط، فينطق
على لسان شيكسبير بما يعتبر التخلُّص النهائي من عفريت كريستوفر مارلو الذي يسكن
مسرحية غريبة كل الغرابة عن عبقريته الوحشية:
تتشستون
:
عندما يتعذَّر فهمُ شِعْرِ إنسان، أو لا يَهِبُ اللهُ ذكَاءَ الإنسانِ
ابنًا سابقًا لِسِنِّه، ألا وهو الفهم، فالشِّعْرُ يقتل السامع قتلًا أشدَّ
إيلامًا من القتل في غرفةٍ ضيقة لعدم سداد ما عليه! بالحق، لكَم أود لو أن
الأرباب قد خلقتكِ شاعرية تفهمين الشعر!
أودري
:
لا أدري ما الشاعرية. أهي الصدق في الفعل والقول؟ وهل الشعر صادق.
تتشستون
:
لا! حقًّا؛ إذ إن أصدق الشعر أكذبُه، لإغراقه في الوهم! فالعشاق مُغرَمون
بالشعر، ويمكننا أنْ نقول إنَّ الأيمان التي يحلفونها في الشعر أيمانٌ
واهمة من حيث غرامُهم.
ولا بد أن عددًا كبيرًا من أفراد الجمهور الأصلي قد أبْدَوا
تقديرهم لجرأة شيكسبير على الإشارة إلى الضَّربة التي تلقاها مارلو فقضت عليه،
والمفترض أن «الحساب العسير في غرفة ضيقة» يشير إلى حانةٍ في مدينة دبتفورد، حيث
تلقى الشاعرُ والكاتب المسرحي طعنة (في عينه) سدَّدها إليه شخص يدعى إنجرام فرايزر،
وكان مثل مارلو عضوًا في هيئة الاستخبارات السرية الملكية بمقاطعة وولسينجهام، وهو
جهاز المباحث الشبيه بوكالة الاستخبارات الأمريكية
CIA في إنجلترا في العصر الإليزابيثي، وكان
الحساب العسير سداد فاتورة باهظة مقابل الشراب والطعام، وكان مارلو يدين بها في
نزاعٍ بينه وبين فرايزر وغيره من بلطجية وولسينجهام. ويلمح شيكسبير إلماحًا قويًّا
إلى أن القتل كان حكمًا بالإعدام أمرت به الحكومة، وأنه كان يتميَّز بالتحيز
الشديد، كما يلمح إلى أن الحملة التي شنَّتها الحكومة فيما بعد على مارلو بتهمة
«الإلحاد» أدت إلى سوءِ فهم للشعر، و«اللماحية الحسنة» من جانب الشاعر مؤلف
يهودي مالطا، وعبارته «ثروات لا نهائية في
غرفة صغيرة» وهي التي يُردد تتشستون صداها ساخرًا. وتتشستون يستشهد في أماكن أخرى
من مسرحية كما تحب بمارلو، مشيرًا إليه باسم
«الراعي الميت»، مرددًا البيتَ الأخير من قصيدته «من الراعي العاشق إلى حبيبته» وهو
الذي يقول «لم يأتِ الحب إلى أحد إلا من أول نظرة». وهكذا فإن تتشستون الذي كلفه
شيكسبير خفيةً بالدفاع عن مارلو، يردد المبدأ الجمالي الذي آمن به شيكسبير وهو
«أصدق الشعر أكذبه». والدلالة هنا أن مارلو الشاعر الحق كان يكذب وأساء الناس فهمه.
وهكذا فإن شيكسبير بعد أن تحرر أخيرًا من ظل مارلو، يُقدم لنا كما تحب باعتبارها أصدق الشعر لأنها أشدُّ ما كتب
ابتكارًا. وكلمات تتشستون الأخيرة في المسرحية تمتدح حرف «لو» المستعمل في الكذب
الشعري. وعندما يسأله جاكويز أي يُحدد «درجات الكذب» بالترتيب، أو التكذيب الذي
يؤدي إلى التحدي بخوض مبارزة، يُجيب تتشستون أروع إجابة في
لحظة متألقة:
تتشستون
:
يا سيدي! إننا نتشاجر وفقًا للقواعد المنصوص عليها! وكما يقول الكتاب،
فلديكم كتبٌ خاصة بآداب السلوك. وسأحدد لك هذه الدرجات: أولها الرد
المهذَّب، وثانيها التهكُّم المؤدب، وثالثها الرد الجارح، ورابعها الردُّ
الجسور، وخامسها الهجوم المضاد المشاكس، وسادسها الكذبة العارضة، وسابعها
الكذبة المباشرة. وفي كل هذه الحالات تستطيع تجنب المبارزة إلا في حالة
الكذبة المباشرة، بل إنك تستطيع تجنبها أيضًا إذا استخدمت الحرف «لو»! سمعت
أن سبعة قضاة لم يستطيعوا إثناء خَصمَين عن المبارزة، وحين التقيا خطر
لأحدهما أن يبدأ العبارة بحرف «لو»، أي «لو قلت أنت كذا، لقلت أنا كذا».
وعندها تصافَحا وأقسَما على الوداد. إن الحرف «لو» وسيلة الصُّلح الوحيدة،
فما أشدَّ قوةَ «لو»!
«ما أشدَّ قوةَ «لو»!» تُمثل
وداعًا جميلًا من جانب تتشستون، وتُعلمنا أن نتحمَّل بذاءته للرعاة، واستغلاله
الحقير لأودري التي تُبدي الرضا بأكثرَ مما ينبغي. أما جاكويز فإنه يفقد الوقارَ
الساخر، في حضور روزالند؛ وأما تتشستون، عندما يُواجهها، فإنه يفقد هيبة التورية
الساخرة. فالمسرحية تنتمي إلى روزالند. ومن يستطيع أن يرى «أسلوب» عظمتها
و«أسبابه»، أي من يُدرك سبب اعتبارها أروع تمثيل للمرأة وأشد صورها إقناعًا في
الأدب الغربي كله، يستطيع أيضًا أن يفهم عدم إنصاف روزالند في كلِّ عرض مسرحي
تقريبًا.
٧
كما تحب عنوانٌ موجَّه إلى جمهور شيكسبير، ولكن
المسرحية يمكن أن يكون لها عنوانٌ آخر هو كما تحب
روزالند؛ لأنها تُحقق جميعَ أغراضها، وهي التي لا ترتبط بطموحاتِ
عصابات «المرأة والسلطة»؛ إذ تتوالى المقالاتُ التي تنعى تخلِّيَها عن سيليا
وارتباطها بأورلاندو، أو تُبدي الأسفَ لسيطرتها على «حيويتها الأنثوية»، بل والتي
تصرُّ على أن جاذبيتَها للذكور من أفراد الجمهور يقوم على ميولٍ جنسية مِثلية، لا
على العلاقة بين الجنسَين. لم أقرأ بعدُ مقالًا يؤنِّب روزالند على تجاهلِ فيبي
الراعية، وإن كنت أحيا آمِلًا ذلك. ليس أورلاندو، كما نعرف، مُكافئًا لروزالند،
ولكن بطلات شيكسبير بصفةٍ عامة يتزوَّجن مَن هم أقلُّ منهن، وأورلاندو هرقل شابٌّ
لطيف، يُسعد روزالند أن تعلمه، أثناء تنكُّرِها الظاهري في صورةِ ابن الغابة الصغير
جانيميد. وعندما يلعب جانيميد دورَ روزالند ابتغاءَ تدريب أورلاندو تمثيليًّا على
الحياة والحب، هل لنا أن نفترض أن حبيبها لا يتعرف عليها؟ وبغضِّ النظر عن صعوبة
تصديق ذلك، فإن المسرحية تتعرض لخسارة جمالية لو لم يكن أورلاندو على وعي كامل
بجاذبية الموقف الساحرة. ليس أورلاندو ذا ذكاءٍ وقَّاد، ولم يتلقَّ تعليمًا راقيًا،
ولكن لماحيته الطبيعية تمنحه قوةً معقولة، ويُعتبر رجلًا طبيعيًّا ذا حيوية تجاه
روزالند أفضل من صداقة هوراشيو لهاملت.
روزالند
:
هيا! اخطُبْ ودِّي وبُثَّني غرامَك! فمِزاجي الآن مزاجُ العطلة الهانئة
ومن المحتمل أن أستجيبَ لك. ماذا عساك أن تقول لي الآن لو كنتُ أنا
حبيبتَكَ روزالند حقًّا وصدقًا؟
أورلاندو
:
كنتُ أُقبِّلُها قبل أن أتكلَّم.
روزالند
:
لا! الأفضلُ أن تتكلَّم أولًا، فإذا تعثَّرتَ ولم تجد ما تقوله، أمكنَك
أن تنتهزَ الفرصة لتقبيلي. والخطيبُ المصقِع عندما تَنفدُ كلماته يبصق،
والعاشق عندما تنفدُ أفكاره (وقانا الله ذلك) لن يجد بديلًا خيرًا من
التقبيل.
أورلاندو
:
وكيف إن أَنْكَرَتْ عليه القُبلة؟
روزالند
:
إذن تُجبرك على التوسُّل إليها فيبدأ موضوعٌ جديد.
أورلاندو
:
مَن ذا الذي تَنفَدُ أفكاره أمام فتاتِه المحبوبة؟
روزالند
:
ذلك أنت وأُقسم! أعني لو كنتُ فتاتَكَ وإلا ظننتُ أن عِفَّتي أعظمُ من
ذكائي ومهارتي!
أورلاندو
:
تعنين أخرج عن خطبتي وُدَّك؟
روزالند
:
لم تخرج مما ترتديه وإن خرجتَ عن طلب الود. ألستُ أنا حبيبتَك
روزالند؟
أورلاندو
:
يسرُّني بعضَ السرور أن أقول إنكَ هي؛ لأنني سوف أتحدث عنها.
روزالند
:
إذن، ما دمتُ تقمصتُ شخصيتها، أقول إنني أرفضك.
أورلاندو
:
وإذن، أقول بشخصي الحقيقي، إنني أموت!
روزالند
:
كلَّا بالحق! وكِّلْ مَن يموت نيابةً عنك. هذه الدنيا المسكينة عمرها
يقرب من ستةِ آلاف عام، وعلى امتداد هذا الزمن الطويل، لم يمُت أحدٌ بشخصه
في سبيل الحب! أما طرويلوس فقد هشَّمَت رأسَه هِرَاوَةٌ في يدِ إغريقي،
ولكنه فعل كلَّ ما في طَوقه حتى يموت قبل ذلك، وهو نموذجٌ من نماذج الحب
الصادق. وأما لياندر فكان يمكن أن يعيش سنواتٍ كثيرةً هنيئة، ولو اعتزلَت
حبيبتُه هيرو الدنيا وترَهْبنَتْ، لولا أنه ذهب في ليلةِ صيفٍ دافئة
ليستحمَّ في مياه الدردنيل، ذلك الشابُّ الصالح، فأصابه تقلُّصٌ عضَلي،
وغَرِق! والمؤرِّخون الأغبياء في العصر انتهَوا إلى أن هيرو بنتُ مدينة
سيستوس كانت السبب! ولكن هذه كلها أكاذيب! لقد مات الرجال على مر التاريخ
وأكَلَهم الدُّود ولكن ليس في سبيل الحب!
سبق لي الاستشهاد بالجملة الأخيرة في هذا المقتطَف من قبل، وأتمنى
لو وجدتُ فرصةً سانحة لإعادة استخدامها؛ إذ إنها أفضلُ ما قالته روزالند، ومن ثم
فهي بالغةُ الجودة حقًّا. والإشارة إلى قصيدة هيرو ولياندر التي كتب مارلو جانبًا
كبيرًا منها وأكملَها تشابمان بعد وفاته، يدعم إطار التورية الساخرة التي تحتفل
بغياب تأثير مارلو في كما تحب، حيث يسير تطارُح
الهوى من روعةٍ إلى روعة، حيث تقوم روزالند بمزج الحبِّ الصادق بأعلى درجات
اللماحية، وبأسلوب يكاد يكون فريدًا (حتى عند شيكسبير):
روزالند
:
والآن قل لي كم يطول احتفاظُك بها بعد أن ملَكْتَها؟
أورلاندو
:
إلى الأبد، ويوم واحد.
روزالند
:
قل يومًا واحدًا واحذف الأبد. لا لا يا أورلاندو! الرجل فَصْلُ ربيعٍ
عندما يخطب الودَّ، وفَصْلُ شتاءٍ عندما يتزوج. والفتاة ذِرْوَةُ الربيعِ
وهي عذراء، ولكن جَوَّ سمائها يتغير عندما تتزوج. سأكون أشدَّ غَيرةً عليه
من ذكَر الحمام الجبَلي على وليفته، وأشدَّ صخبًا من البَبغاء عند المطر،
وأشدَّ ولعًا من القرد بكل جديد، وأشدَّ تقلبًا في رغباتي من النسناس!
ولسوف أبكي دونما سببٍ مثل ديانا في ماء النبع حين تكون ميَّالًا إلى
المرح، ولسوف أضحك مثل الضَّبع حين تكون ميالًا إلى النعاس.
أورلاندو
:
ولكن هل تفعلُ حبيبتي روزالند ذلك؟
روزالند
:
أقسِمُ بحياتي أنْ ستَفعلُه.
أورلاندو
:
عجبًا! ولكنها حَصيفة.
روزالند
:
طبعًا، وإلا ما كان لها من الحصافة ما يمكنها من ذلك — فكلَّما ازدادت
حَصافة المرأة ازداد دهاؤها في التمرُّد! أغلق الباب على دهاء المرأة يخرج
من النافذة! أغلق النافذة يخرج من ثقب مفتاح الباب. أغلق الثقب ينطلق
الدَّهاء مع الدخان في المدخنة.
أورلاندو
:
لو رُزق الرجل بامرأة لها هذا الدهاء لتساءل «أيَّان تمضي يا
دهاء؟»
روزالند
:
لا! ربما استطعت التحكمَ فيه حتى تشهد دهاءَ زوجتك وقد ذهب بها إلى فراش
جارِك.
أورلاندو
:
وأي تحايُّل يُهيِّئه الدهاءُ يمكنه تبريرُ ذلك؟
روزالند
:
أقسم إنها ستقول إنها ذهبَت تطلبك هناك. ولن يتسنَّى لك ألَّا تُصغي إلى
إجابتها إلا لو تزوَّجتَها من دون لسانها. إن لم تستطع المرأةُ تحويل خطئها
إلى خطأٍ من جانب زوجها، فأنا أدعو الله ألَّا يجعلها تُرضع طفلًا أنجبتَه
أبدًا؛ إذ سوف تُنشئه نشأة الحمقى!
إنها رائعةٌ هنا، ولكنه (على الرغم من كثير من النقاد) ليس غبيًّا:
إنه يسألها «ولكن هل تفعل حبيبتي روزالند ذلك؟» إنَّ تطارح الغرام هنا يفوق كلَّ
نظير له في شيكسبير حكمةً ولماحية، بل يتجاوز (بمراحل) «تكسيرَ العِظام» الوهميَّ
بين بياتريس وبينديك؛ فإن أورلاندو وروزالند وحدهما هما اللذان يستطيعان الحفاظَ
على مستوى حِوارهما الجميل، في ختام مسرحيتهما التي تقتصرُ عليهما:
روزالند
:
ألَا أستطيع غدًا إذن تعويضَك عن روزالند؟
أورلاندو
:
لم أعُد قادرًا أن أعيش على الوهم.
وأقول مرةً أخرى إننا، على الرغم من النقاد، نجد أن نغمة أورلاندو
تتميَّز بالخِفة لا بالاستماتة، لكنه يُجيد التعبيرَ عن العجلة الجنسيَّة، وكلامه
يتضمَّن علاماتٍ على أنه جاهزٌ للتخرج في مدرسة روزالند. هل نحن جاهزون أيضًا؟ إن
روزالي كولي تقول إن «الحب القائم في مركز المسرحية ليس حُبًّا رعويًّا بصفةٍ
خاصة»، وهو ما يساعد على إنقاذ
كما تحب من الحكم
بموت التقاليد الرعويَّة. ويعود وليم إمبسون، في كتابه العظيم
بعض صور الشعر الرعوي إلى طبعة الفوليو الأولى حيث
يتوقَّف عند مُخاطبة تتشستون لأودري والتي تتضمن توريةً ساخرة مهمة، وفيما يلي نصُّ
تلك الطبعة الأولى [بهجائها المختلِف]:
[No trulie: for the truest poetrie is the
most faining, and Lovers are given to Poetry: and What they Sweare
in Poetrie, may be Said as Lovers, they do
feigne.]
[كلَّا حقًّا! إذ إنَّ أصدق الشعر أشدُّه رغبةً، والعشَّاق ينظمون
الشعر، وأما ما يخلفونه من أيمان في الشعر، فيمكن القول بأنها كاذبةٌ ما
داموا عُشاقًا.]
التورية في كلمتَي faining؛ أي ذَوو الرغبة
وfeign؛ أي يتظاهر أو يكذب، مناسبة إلى أقصى
حدٍّ لتتشستون وأودري، ولكنها لا تنجح إذا طبَّقناها على روزالند وأورلاندو، ما
دامت الرغبةُ عندهما لا تنفصل عن التمثيل الذي يقومان به، حتى حين يهتف أورلاندو
بأنه لا يستطيع أن يعيش «بعد الآن» على الأوهام. وأشدُّ اللمسات دقةً في هذه
المسرحية الرائعة من بين كوميديات شيكسبير، تأتي في الخاتمة؛ أي «الإبيلوج»، حيث
يتقدَّم الغلام الذي يُمثل دور روزالند، فيخطو أمام الستار، ولا يزال مُرتديًا
ملابسه التنكرية، ليُقدم لنا انتصارها الأخير باللماحية العاطفية، حيث نرى الرغبة
والكذب في توافق:
روزالند
:
لَيْسَ مِنَ المُعْتادِ مُشَاهَدَةُ امرأةٍ في دَوْرِ الإبيلوج لإلْقَاءِ
الخَاتِمَةِ هُنَا! حتى إنْ لَمْ يَزْدَدْ ذلك في عَدَمِ لِيَاقَتِهِ عن
رُؤْيَةِ رَجُلٍ يَلْعَبُ دَوْرَ برولوجٍ لاسْتِهْلَالِ العَرْض. وإذا كانَ
صَحِيحًا أنَّ الخَمْرَ المُمْتَازَةَ لَا تَحتاجُ إلى رَمْزِ اللَّبْلَابِ
علَى الدَّنِّ، كان صَحِيحًا أنَّ العَرْضَ المُمْتَازَ على المَسْرَحِ لا
يحتاجُ إلى إبيلوجٍ يَخْتَتمُهُ. لكنَّ اللَّبْلَابَ المْمْتَازَ يُصَوَّرُ
فَوْقَ دِنَانِ الخَمْرِ المُمْتَازَة. وعلى هذا تَتَحَسَّنُ صورةُ
مَسْرَحِنَا بالإبيلوجِ الجَيِّدْ. لكنِّي أشعرُ أنِّي في وَرْطَة. فأنا
لَسْتُ الإبيلوجَ الممتازَ ولا أَقْدِرُ أنْ أُوحِيَ لكُمو بِجَمَالِ
العَرْضِ التَّمْثِيلي. وأَنا لمْ أَلْبَسْ زِي السَّائِلِ في الطُّرُقَاتِ
ولَيْسَ يَلِيقُ إذَنْ بي أنْ أَسْأَلَكُمْ شَيْئًا. أَمَّا أُسْلُوبِي
فيماثلُ حَثَّ الهِمَمِ أو اسْتِحْضَارَ الأَرْوَاحِ وأَبْدأُ بالنِّسْوَة:
أَطْلُبُ مِنْ كُلِّ امْرأَةٍ تُضْمِرُ حُبًّا لِرَجُلْ … أنْ تُبْدِيَ ما
يُرْضِيهَا مِنْ إعْجَابٍ بالعَرْض. وأُطَالِبُ كُلَّ رَجُلْ … إنْ كانَ
يُحِبُّ امْرأَةً ما (وأنا أَسْتَنْبِطُ مِنْ هذِي البَسَمَاتِ عَلى
اسْتِحْيَاءٍ أنَّ الحُبَّ بِقَلْبِ الكُلّ) أنْ يُرْضِي هذَا العَرْضُ
عَلاقَتَهُ بِحَبِيبَتِهِ! لوْ كنتُ امْرَأَةً في الواقعِ كنتُ أُقَبِّلُ
كلَّ فَتًى لِحْيَتُهُ تُعْجبُني، أوْ تُرْضِينِي قَسَمَاتُ الوَجْهِ أوِ
الأَنْفَاسُ العَطِرَة! كُلِّي ثِقَةٌ يا صَحْبُ بِمَنْ لحْيَتُهُ
تُعْجِبُني أَوْ مَنْ يَأْسِرِني سِحْرُ مُحَيَّاهُ أو عَبَقُ الأَنْفَاسِ
لَدَيْهِ! كُلِّي ثِقَةٌ أنْ سَيُقَدِّرُ كُلٌّ منهمْ عَرْضِي الطَّيِّبَ
ويُوَدِّعُنِي خَيْرَ وَدَاعٍ حين أُغَادِرُ هذا المَسْرَحَ مُنْحَنِيًا
لأُحَيِّيهِمْ.
يُثير هذا الإبيلوج، في هذه الأيام الغريبة التي يمرُّ بها النقد الأدبي، بعضَ
الانتشاءات المتوقَّعة بشأن ارتداء ملابس الجنس الآخَر، وتخطي حدودِ جنس الفرد،
ولكن أمثال هذه الحالات من الطرب والنشوة ليست لها علاقةٌ تُذكر بروزالند التي
صورَها شيكسبير وكلماتها الختامية، وأنا أفضِّل ما يقوله إدوارد أ. بِرِي، الذي
يُصيب المرمى تمامًا:
باعتبار روزالند «مخرِجةً» و«ممثِّلة عاملة» في «مسرحيتها» الخاصة،
وبصفتها الإبيلوج أيضًا في مسرحية شيكسبير؛ تُصبح من زاويةٍ معينة شخصًا
يُمثل الكاتبَ المسرحي نفسه؛ فهي شخصية يتَّسع وعيُها بطرائقَ دقيقةٍ خفية
ليتجاوز حدود الدراما.
وهكذا فإن روزالند تصبح الشخصيةَ الثالثة إلى جانب فولسطاف وهاملت، اللذَين
يُمثلان أيضًا شيكسبير نفسَه. إن فولسطاف يهتف بالأمير هال قائلًا: «مثل المسرحية!
عندي كلام كثير أودُّ أن أقوله باسم مَن يُسمى فولسطاف». وينصح هاملت الممثِّل الذي
يلعب دور الملك قائلًا «اجعَل الحركة تتَّفق مع اللفظ، واللفظ مع الحركة». وتقول
روزالند بمهارةٍ «إني أناشدُكم أيها الرجال، بحق الحب الذي تُكنُّونه للنساء، أن
تجدوا في هذا العرض إرضاءً للعلاقة بينكم وبين نسائكم.» إن صوت هؤلاء الثلاثة
جميعًا، في تلك اللحظة تحديدًا، يقترب إلى أقصى حدٍّ من تمكين شيكسبير بأن
يُسمِعَنا صوتَ وليم شيكسبير نفسه.