الفصل الخامس عشر

الليلة الثانية عشرة

١

على الرغم من تفضيلي الشخصي لمسرحية كما تحب، وهو القائم على حبِّي المشبوب لروزالند، فأجِدُني مضطرًّا إلى الاعتراف بأن الليلة الثانية عشرة أعظمُ كوميديات شيكسبير قطعًا، رغم أنه لا توجد أيه شخصية في الليلة الثانية عشرة، ولا حتى فيولا، تُثير الإعجاب الكامل مثل روزالند. كُتِبت مسرحية الليلة الثانية عشرة، أو ما شئت، على الأرجح، في الفترة ما بين ١٦٠١-١٦٠٢م، فكانت الجسرَ فوق الثغرة ما بين هاملت النهائية وطرويلوس وكريسيدا. وتوجد عناصرُ محاكاة ذاتية ساخرة في الليلة الثانية عشرة وإن لم تكن على النطاقِ الواسع للتهكُّم الذاتي الذي نجدُه في سيمبلين، ولكنها تملأ المنطقة الوسطى بين توريات هاملت الساخرة اللاذعة، وبشاعة طرويلوس وكريسيدا، وأشد ما يُعبر عنها الْتِصاقًا بالذاكرة هو ثيرسيتيز.
وأظن ظنًّا أن شيكسبير نفسه لعب دورَ أنطونيو في تاجر البندقية وفي الليلة الثانية عشرة، حيث يُحاكي أنطونيو الثاني ذو الميول الجنسية المثلية أنطونيو الأولَ محاكاةً ساخرة. ولكن هذه المسرحية تستخدم في بنائها أحجارًا من معظم كوميديات شيكسبير السابقة، لا لأن طاقة التفكُّه المبتكَر قد تباطأَت عنده؛ بل لأن روح الخبل في عنوانه الفرعيِّ «ما شئت» قد غلبَت عليه، وإن لم تكُن غيرَ دفاعٍ ضدَّ مَرارة الكوميديات الثلاث التي تلَتها مباشرة، وهي العبرة بالخاتمة وطرويلوس وكريسيدا ودقة بدقة. وتوجد هوَّة سحيقة بعد الليلة الثانية عشرة، ومن تكاليف عدم السقوط فيها أن كلَّ مَن في هذه المسرحية، باستثناء المهرِّج رغم أنفه، واسمه فسته، مجنونٌ أساسًا دون أن يعرف. وعندما يحبس المسكين مالفوليو في غرفة المجانين المظلمة، كان المنطق يقضي بحبسِ آخَرين معه، من أورسينو إلى أوليفيا، وسير توبي بلش، وسير أندرو إجيوتشيك، وماريا، وسباستيان، وأنطونيو، وبل وفيولا نفسه، فالتسعة جميعًا يُعتبرون على حافَة الجنون في سلوكهم على الأقل، وأكبرُ خطأ في تقديم الليلة الثانية عشرة على المسرح، في كلِّ عرض رأيتُه، أن الإيقاع ليس سريعًا بما فيه الكفاية. إذ ينبغي تقديمُ المسرحية بالإيقاع اللاهث المناسِب لهذه المجموعة من المخابيل والمهابيل. ويؤسفُني بعضَ الشيء أن شيكسبير جعَل الليلة الثانية عشرة عُنوانَه الرئيسي؛ فإن ما شئت أفضل، فهي تعني أشياءَ كثيرة من بينِها «استعِدَّ للطعن!»
ولكن ذلك لا يعني أن الليلة الثانية عشرة هزليةٌ عالية النبرة؛ فهي مثل سائر مسرحيات شيكسبير القوية لا تنتمي إلى نوعٍ معين؛ إذ إنها لا تتميز بالنِّطاق الكوني الهائل مثل هاملت، ولكنها في حدود طبيعتها ذات الخصوصية الشديدة تُعتبر «قصيدة غير محدودة» أخرى، بمعنى أن المرء لا يستطيع الوصولَ إلى نهايتها؛ لأن سطورها، حتى التي تبدو عارضةً إلى حدٍّ بعيد، ذواتُ أصداء تتكرَّر بلا نهاية. وكان الدكتور جونسون يَضيق ذرعًا بالمسرحية قائلًا إنها «لا تُقدم صورةً منصِفة للحياة» لكنها إذا طبَّقنا عليها الاختبار الجونسوني الجليل وجدنا أنها بالقطعِ «تُقدم تمثيلًا منصفًا للطبيعة العامة».
وأنا أحبُّ جونسون حبًّا جمًّا، خصوصًا ما يقوله عن شيكسبير، وأظن أن اتِّزانه الشخصيَّ كان في خطر؛ أي ما يُشار إليه باعتباره الخوفَ من الجنون، وأن ذلك هو الذي جعله يُحاول العثور على تخطيطٍ منطقي في نصوص خالية منه:

يبدو أن فيولا قد وضَعت خُطة ذات عمق بالغ من دون الدراسة اللازمة؛ أولًا: إذا يُلقيها الموج نتيجةَ تحطُّم سفينتها على ساحلٍ مجهول، وتسمع أن أمير المنطقة عزَب، ومن ثَم تُقرر أن تحل محلَّ المرأة التي يتودَّد إليها.

لا ينطبقُ ذلك إطلاقًا على فيولا، على الرغم من أنها تقع في حبِّ المخبول أورسينو، بوضوح، من أول نظرة. ونحن ننزعج من معظم علاقات الحبِّ عند شيكسبير، وقد تكون هذه أشدَّها حُمقًا، وعدمَ جدارةٍ بفيولا، ذات التكامل والقلب الطيِّب، وإن كانت غريبةَ الأطوار إلى حدٍّ ما. ولكن الليلة الثانية عشرة ترفض أن تأخذ نفسها مأخذ الجِد، ونحن نجورُ على طبيعتها إذا افترَضْنا هذه التوقُّعات الواقعية، إلا أن ابتكار شيكسبير للشخصية الإنسانية يُظهِر بقوةٍ مُحاكاةً مدهشة في المسرحية. وأشدُّ الصور العبثية لشخوصها، بما فيها صورة أورسينو، تنفتحُ على داخلها، وهي ظاهرةٌ مقلقة في الهزلية، أو قُل إنها محاكاةٌ ذاتية ساخرة من الهزليات السابقة. والواضح أن مالفوليو لا يتمتَّع باللانهائية التي يتمتع بها فولسطاف أو هاملت، ولكنه يُفلت من قبضة شيكسبير وينطلق، ويتَّسم بحِدةِ طبعٍ رهيبة، على الرغم من قدرته الخبيثة على الإضحاك، ويعتبر صورةً ساخرة بديعة للشاعر بن جونسون المولَع بتقديم المواعظ الأخلاقية. ولا يزال شيكسبير هنا أقربَ إلى أسلوبِ هاملت منه إلى أسلوب دقة بدقة؛ فالذاتيَّة والفردية، وَجْهَا التميُّز اللذان ابتكَرهما، هما معيار الليلة الثانية عشرة. وأعتقدُ أن المسرحية أكثرُ مسرحياته إثارةً للضحك، أكثر من هنري الرابع الجزء الأول، حيث نجد فولسطاف، مثل هاملت بعده، يتَّسم بذكاءٍ يتجاوز الذكاء، ومن ثَم يأتي بأفكارٍ أعمق من أن تُعبر عنها الضحكات. و«فسته» هو الشخص الوحيد في الليلة الثانية عشرة الذي يمكن أن يتمتَّع بعقلٍ ما، ولكن كل شخصٍ في الدراما ينبضُ بالحيوية، وأهمُّهم سير توبي بلش، أشدُّهم بعدًا عن العقل، وأبعدُهم في الهرج والمرج عن فولسطاف.
ووَفْق تصنيف سي. ل. باربر، تُعتبر الليلة الثانية عشرة «كوميديا احتفالية»، ولكنه يُضيف مُحِقًّا عددًا كبيرًا من الخصائص التي تُلقي الكثير من الشكوك على صفةِ الاحتفالية. وتعبير «حفل للحمقى» [أو «وليمة للتهريج»] يمكن أن يرسم حدودها بيسر بالغ؛ فالليلة الثانية عشرة يمكن أن تتَّسع لأية قراءة جديدة، بل حتى لو كان العرضُ المسرحي غيرَ متألق. فالمسرحية تقوم على اللامركزية، ولا يوجد بها حدثٌ يُعتد به، ربما لأنَّ كل شخص فيها يتصرف بلا إرادة. ولو كان نيتشه يتمتع بقدرٍ أكبر من التفكُّه لكَتبها، ما دمنا نرى قُوًى تتجاوز الشخصيات إلى حدِّ ما تحيا، فيما يبدو، حياتَها لهم.
وأما القلب الخفيُّ لليلة الثانية عشرة فيَكمُن في المنافسة الجادة اللاهية معًا مع بن جونسون؛ إذ تسخر المسرحية في شتى جوانبها من كوميديا الطباع عنده. كان الطبُّ اليوناني القديم يفترض وجود أربعة «طباع» تُسمى أخلاط البدَن الأربعة، وهي الدم والسوداء والبلغم والصفراء، فإذا كان الشخص يتَّسم بالتوافق والتوازن، لم يظهر أيٌّ من هذه الأربعة، ولكن سيادة أحدها يُشير إلى اضطراباتٍ شديدة في الشخصية. وبحلول زمن شيكسبير وبن جونسون، سادت الفكرةُ البرجماتية البسيطة التي تحصر الطباع في طبعَين، السوداوي والدموي. وكان الطبع السوداوي يؤدِّي إلى الغضب، والطبع الدموي يُمارس ذاتَه في الشهوة، التي كثيرًا ما كانت منحرفة. ونشَر علم النفس «الشعبي» هذه الثنائيةَ بحيث تُقدم شروحًا ميسرة لكل ضربٍ من ضروب الدجل أو البلاهة أو التصنُّع، وهي التي يُهاجمها ويسخر منها جونسون في كوميدياته.
وتُشبه هذه النظريةُ المشوَّهة للطباع، من بعض زواياها، الصورَ السوقية الشائعة لما كان فرويد يُسميه اللاوعي؛ فالطبع السوداوي قريبُ الشبه بما كان فرويد يُسميه غريزة الموت أو ثاناتوس (Thanatos) والطبع الدموي يُشبه ما يسميه فرويد الغريزة الجنسية أو إيروس (Eros).
ويسخر شيكسبير بصفةٍ عامة من هذه العمليَّات الآلية للروح، وابتكاره العظيم للشخصية الإنسانية يَزدري أنواعَ الاختزال المذكورة. ومن ثَم فهو يستغلُّ عيد الغطاس الغربي؛ أي الليلة الثانية عشرة بعدَ عيد الميلاد المجيد، فيجعله مناسبةً لكوميديا غامضةٍ من الاحتفالات التي تتضمَّن «مقلبًا» فكاهيًّا يقعُ فيه مالفوليو ذو الطبع السوداوي، وهو شخصية جونسونية إلى الحدِّ الذي توحي فيه بجونسون السوداوي نفسِه. وهكذا فإن وليام ذا الطبع الدموي يقدِّم إلينا «ما نشاء»؛ أي روح اللهو الصاخب التي خلقَتها العادات الشعبية ممَّا كان في الأصل احتفالًا ورعًا بظهور المسيح الطفل للمجوس. والمسرحية ذاتُ البهجة الدنيوية، شأنها في ذلك شأنُ معظم أعمال شيكسبير، تصبح مسرحيةَ «ما شئت» وحسبُ ولا تشير أيةَ إشارة إلى الليلة الثانية عشرة. ولسنا في موسم عيد الميلاد المجيد، في دوقية إلليريا البالغة الغرابة، حيث نرى فيولا التي تحطَّمَت سفينتها، ولكنها بروحٍ سلبية مرحة تنجح في تحقيق السعادة لنا قطعًا، وربما لا تنال منها نصيبًا. ولكن المسرحية تُفتتَح لا بفيولا الساحرة، بل في بلاط الدوق أورسينو، حيث نرى ذلك العاشقَ الغريب الذي يعشق العشق، الدمويَّ إلى درجة الجنون، الذي يخلب آذانَنا بحديثٍ من أروعِ ما أبدع شيكسبير:
الدوق :
إن كانتِ الأنغامُ قوتًا لِلْغَرامِ فاعْزِفُوا ثم اعْزِفُوا؛
كي تُتْخِموا شَهِيَّتي فَرُبَّما تَعْتَلُّ من تُخَمَة،
وَرُبَّمَا تَمُوتْ! فَلْتُعِيدُوا ذَلِكَ اللَّحْنَ عَليَّ!
إِنَّهُ قَدْ ذابَ في آخِرِهِ رِقَّة!
وانْسَابَ في أُذْني … كأنَّه صوتٌ جميلٌ
مَرَّتِ الأنفاسُ فيهِ فَوْقَ أَزْهَارِ البَنَفْسَجْ،
فانْسَلَّ يَسْتَرِقُ الخُطَى ويَنْشُرُ الشَّذَا! كفَى! تَوَقَّفُوا!
فلم يَعُدْ عَذْبًا كما كانْ!
أُوَّاهُ يا رُوحَ الغرامِ مَا أَشَدَّ قُوَّتَكْ … ونَهَمَكْ!
وما أشَدَّ قُدْرَتَكْ … على ابْتِلاعِ كُلِّ شيءٍ
مثلَ لُجَّةِ المُحِيطْ! فَكُلُّ ما يَغُوصُ فيهْ
- مَهْمَا عَلَا قَدْرًا فَلَامَسَ الذُّرا —
يَنْحَطُّ فَوْرًا ثُمَّ يَغْدوُ سِعْرُهُ زهيدًا!
ما أكثرَ الصُّوَرَ التي يُوحِي بها ذاك الغرامْ؛
إذ لا يَمُوجُ غيرهُ بِمِثْلِ هذه الأَوْهَامْ.
(١ / ١ / ١–١٥)

ولا بد أن شيكسبير نفسَه كان مسرورًا بالاستعارة التي افتتَح الدوق أورسينو حديثَه بها، فهو يُكررها بعد خمس سنوات، عندما تشعر كليوباترا بالشوق الغامر إلى أنطوني قائلةً «أشتاق لبعض الموسيقى/فالموسيقى قُوت الأحزان لأهل الحب». إن أورسينو، الذي يُكِن حبًّا للُّغة وللموسيقى وللحب ولنفسه أكثرَ مما يحبُّ أوليفيا، أو فيولا، يقول لنفسه (ولنا) إنه الحبُّ به جوعٌ لا يُشبعه أيُّ شخص مهما يكن. ومع ذلك فإن الأسطُرَ الثمانية الأولى من هذه الأنشودة تتعلَّق بالموسيقى، ومن ثم بالشعر، أكثرَ مما تتعلق بالحب. إنَّ وصف اللحن بأنه «يذوب في آخِره رقَّة» وصفٌ تتردد أصداؤه في كل الشعر الإنجليزي اللاحق، وخصوصًا في التقاليد من كيتس إلى تنيسون. إن أورسينو العاليَ القدرِ يطلب المزيدَ من الموسيقى لا من الحب، ولكن استعارته المُكثَّفة توحي بأنه «لم يَعُد عذبًا كما كان» وهي التي تتعلَّق بالرغبة الجنسية أيضًا. وسوف يتجاوز حتى الكشف عن ذاتِه في حديثه إلى فيولا، بعد أن تتنكَّر في لباس غلامٍ يُدعى سيزاريو، ويستخدمه الدوق مِرسالًا ينقل منه العاطفةَ المشبوبة إلى أوليفيا. ولما كان الدوق ملكَ المبالغات، فإنه يمسُّ هنا ذروة الغرور السخيف عند الذكور:

مِنَ المُحَالِ أنْ تكونَ لامْرَأَة
جَوَانِحٌ قَادِرَةٌ على تَحَمُّلِ الذي يَدِفُّ في قَلْبي
من الخَفْقِ الشَّدِيدِ لِلْمَشَاعِرِ المَشْبُوبَة!
مِنَ المُحَالِ أنْ يكونَ لِامْرأَة … قَلْبٌ كبيرٌ قادرٌ على احتواءِ كُلِّ هذا!
فَقَلْبُهَا لا يَستطيعُ الاحتفاظَ بالمَشَاعِرْ!
ولِلأَسَفْ! فَحُبُّها قد لَا يَزِيدُ عَنْ شَهِيَّةٍ،
لا تَنْتَمِي لِلْكَبِدِ … بَلْ تَنْتَمِي لِلْفَمِ!
وذاكَ قد يُصَابُ بالْبَشَمْ … فإن أَتَتْهُ التُّخَمَة
أَتَى السَّأَمْ! أمَّا غَرَامِي فهو جَائِعٌ كالبَحْر،
ويَسْتَطيعُ هَضْمَ ما يَهْضِمُهُ البَحْر،
أَرْجُوكَ لا تُقَارِنْ حُبَّ أي امْرَأَةٍ لي
بِمَا أُكِنُّهُ مِنَ الهَوَى لأُولِيفيَا!
(٢ / ٤ / ٩٤–١٠٤)
إذا اقتطعنا هذه السطورَ من سياقها، بدَت أبدعَ حتى من الأنشودة الافتتاحية، ولكن ما دام هذا أورسينو وحسب، فإن النصَّ ذو بلاغة رفيعة فكاهية رائعة. وعلى الرغم من أنه شخصيةٌ صغرى، إن قورن بفيولا، وأوليفيا، ومالفوليو (وما أعجبَ اتفاقَ جرْسِ أسمائهم!) وبالمضحك البديع فسته، فإن جنون أورسينو الغرامي اللطيف يُحدد نغمة الليلة الثانية عشرة. وعلى الرغم من استغراق أورسينو في ذاته، وإلى حدٍّ عجيب، فإنه يؤثِّر في الجمهور فعلًا؛ وذلك لأن رومانسيته الرفيعة كيشوتية [أي مثل دون كيشوت] إلى حدٍّ بعيد، وأيضًا لأن نبرته العاطفية عالمية إلى الحد الذي يَحول دون رفضها:
تعالَ يا فَتَى … هَيَّا فَغَنِّنا إِذَنْ أُغْنِيَةَ البَارِحَة،
واسْمِعْ سيزاريو إنَّها قَدِيمَةٌ وساذَجَة؛
فَغَازِلَاتُ الصُّوفِ بل والنَّاسِجَاتُ الجَالِسَاتُ في شَمْسِ النَّهَارْ،
والخالياتُ البالِ ساعَةَ الْتِفَافِ الخَيْطِ حَوْلَ البَكَرَة؛
يُنْشِدْنَهَا جَمِيعًا! وإنَّها تُقَدِّمُ الحقيقةَ المُجَرَّدَة،
مَدَارُهَا بَراءَةُ الغَرَامِ في أَيَّامِنَا الخَوَالي.
(٢ / ٤ / ٤٢–٤٨)

أضف إلى ذلك التناقُضَ الرائع عند أورسينو، عندما يجد نفسه مضطرًّا لقولِ الحق:

فالواقعُ يا يافعُ أنَّا، مَهْمَا أَطْرَيْنا أَنْفُسَنَا،
لا نَتَمَّتعُ بِثَبَاتِ الأَشْوَاقِ وقُوَّتِها دَوْمًا؛
فَلَقَدْ تَزْدَادُ وتَتَذَبْذَبُ ثم تَضِيعُ وتَذْوِي
قبلَ ذبولِ الحُبِّ لدى المَرْأَةِ.
(٢ / ٤ / ٣٢–٣٥)
ويمكن أن تزدادَ سعادةُ مالفوليو المسكين في مسرحيةٍ أخرى، وأما فيولا وأوليفيا، وخصوصًا فسته، فربما وجَدوا سياقاتٍ أنسبَ لهم في مواقع أخرى من أعمال شيكسبير. إن أورسينو هو العفريت الذي يسكن هذا المكان؛ فهو الشخصيةُ الوحيدة التي يستطيع الجنونُ الدفَّاق في الليلة الثانية عشرة أن يحتويَها.

٢

واللغز الأكبر في فيولا الساحرة سلبيتها الفذة، وهو ما يُساعد بلا مراء على تفسير وقوعها في حبِّ أورسينو. وتُفيدنا آن بارتون في إيضاحها أن «التنكُّر في ملابس غلام يعمل لا على تحرير فيولا، بل باعتباره وسيلةً للتخفي في موقف صعب.» ويسود جوُّ الارتجال مسرحية الليلة الثانية عشرة، وتَنكُّر فيولا جزءٌ من هذا الجو، وإن كنتُ أشك في أن شيكسبير كان يمكن أن يرتجلَ هذه المسرحية الجميلة المركَّبة، ولكن فنه الدقيق يؤدي إلى خلق هذا التأثير الجماليِّ للارتجال. وتجمع الشخصية الإنسانية عند فيولا بين التلقي والدفاع؛ فهي تُقدِّم «درع التحية» (عبارة جون أشبري)؛ إذ تتَّسم ألفاظها بأكبرِ تنوعٍ في المسرحية، ما دامت تُغير لغتها لتتفقَ مع شطحات أحاديث الآخرين. وعلى الرغم من طَرافتها، بأسلوبها الخفي، مثل مالفوليو ذي الحظ السيِّئ، والمهرج رغم أنفه «فسته»، فإن شيكسبير يستمتع، فيما يبدو، بإبقائها لغزًا، محتفظًا بالكثير من باب الحيطة. وربما كانت منجذبةً إلى أورسينو ذي «الخيال العالي» باعتبارها نقيضًا له؛ فمُبالغاته تتكامل مع ميولها للصمت والاقتضاب. وإذا كان في هذه المسرحية صوتُ شعور حقيقي فإنه ينبغي أن ينتميَ إليها، ولكننا نادرًا ما نسمع ذلك الصوت. وعندما يظهر يبدو الإحساسُ فيه جياشًا غلَّابًا:
أَبْنِي كُوخًا مِنْ أَغْصَانِ الصَّفْصَافِ على بَابِكَ،
وأُنَادِي رُوحِي في المَنْزِلْ!
أكتُبُ بعضَ أغاني الإخْلاصِ فَأَبْكي الحُبَّ المَحْرُومَ وأُنْشِدُهَا،
وبِأَعْلَى صَوْتٍ حتى في هَدْأَةِ ساعَاتِ اللَّيْل،
وأُرَدِّدُ تَسْبِيحِيَ باسْمِكِ حتى تُرْجِعَهُ كُلُّ تِلَالِ الأَرْضْ،
وتُشَارِكَ رَبَّةُ أَصْدَاءِ الأَجْوَاءْ
تَرْدِيدَ نِدَائِي «أُوليفيا»! ما كُنْتُ أُتيحُ لَكِ الرَّاحَةَ
ما بَيْنَ هَوَاءٍ وتُرَابٍ حتى تُبْدِي الإشْفَاقَ عَليَّ!
(١ / ٥ / ٢٧٢–٢٨٠)

وتؤدِّي هذه الأسطرُ إلى مفارقة؛ إذ إنها تدفع أوليفيا إلى حبِّ «المدعو» سيزاريو [أي فيولا المتنكِّرة في زيِّ ذلك اليافع]. ولكن ما تَنْعاه فيولا ناجمٌ عن مفارقةٍ أخرى، ألا وهي مُعضلتها العبَثية؛ إذ إنها تُشجع حبَّ أورسينو لأوليفيا في حينِ أن رغباتها مضادةٌ تمامًا لتلك العلاقة. وأما ما يَنفُذ من خلال هذه المفارقات فهو أعمقُ العناصر وأقواها دَويًّا عند فيولا، وربما أيضًا معاناة شديدة، قديمة أو جديدة، عند شيكسبير نفسِه. فلنقُل إن فيولا ذاتُ حيوية مكبوتة، تنبض بأعماق روزالند، ولكنها مقيَّدةٌ لا تستطيع التعبير عن قوتها، ربما لأنها تمزجُ شخصيتها بشخصية أخيها التَّوءم سباستيان. والرثاء الذي يُستهلُّ بكوخ الصَّفصاف ينبض بهذه القوة الفطرية، ويغني أغانيَ غرامها المحروم «وبأعلى صوت حتى في هدأة ساعات الليل.» وعندما نصل إلى هذه المرحلة في المسرحية نكون قد اعتدنا سِحرَ فيولا، ولكن شخصيتها الإنسانية، المكبوتة على السطح، تُبدي الآن مَتانتها ومرونتها، وحيويتها الرائعة المثابرة. وتُجيبها أوليفيا قائلة «أي كنتَ تفعل الكثير» وتتكلم هنا بلسان الجمهور. وفي هذه المسرحية التي تُشبه «غرفة الأصداء» الماكرة، تتنبَّأ فيولا بأختها المتخيَّلة في حديثها الخاص نفسِه مع أورسينو في وقتٍ لاحق:

فَأَبِي أَنْجَبَ بِنْتًا عَشِقَتْ رَجُلًا عِشْقًا لا حَدَّ لَهُ،
قُلْ مِثْلَ غَرامي بِكَ لوْ كنتُ أنا بِنْتًا مَثَلًا.
الدوق : ماذا حَدَثَ لها؟
فيولا :
مجهولٌ يا مولاي! إذْ أَخْفَتْ عَاطِفَةَ الحُبِّ تَمَامًا،
حَتَّى أَخَذَ الكِتْمَانُ كَمِثْلِ الدُّودَةِ يَلْتَهِمُ الخَدَّ الوَرْدي،
وازدادَ الهَمُّ لديها فَذَوَتْ! وعَرَاهَا الحُزْنُ بِلَوْنٍ أَخْضَرَ أو أَصْفَرْ،
وغَدَتْ تجلسُ ذَاهِلَةَ العَيْنِ كتمثالِ الصَّبْرِ المَشْهورِ
البَاسِمِ للأَحْزَانْ. أَفَمَا كانتْ تلكَ العَاطِفَةُ غَرَامًا حَقًّا؟
(٢ / ٤ / ١٠٨–١١٦)
«مجهول» ترجمة لمعنى blank في الأصل، وهي استعارةٌ شيكسبيرية «سكَنَت» الشعر الإنجليزي من ميلتون حتى كولريدج ووردزورث، وحتى إميلي ديكنسون ووالاس ستيفنز. وتعني هنا، في المقام الأول، صفحةً غير مكتوبة، تاريخٌ لم يُسجَّل، وخارج هذا السياق تعني كلمةُ blank عند شيكسبير العلامةَ البيضاء في مركزِ المرمى. ولما كانت هذه الأخت التي ذوَتْ بديلةً مبكِّرة لفيولا، فربما يكون من ظلال المعنى وجودُ مرمًى لم يُصبه السهم، أو سهم طاش فلم يُصِب المرمى. وفي هذا الحديث بذورٌ لبعض الأشعار الغنائية القصيرة لوليم بليك، مثل «الوردة العليلة»، «حذار أن تبوح يومًا ما بحبِّك»، ورُؤًى ظلماء للكبت وعواقبه الغرامية. والحديثان النائحان اللذان توجِّههما فيولا إلى أورسينو، لهما قوةُ الإحالة الجانبية apotropaic؛ أي إن المقصود بهما تحاشي قدرٍ تطلبه بسلبيَّتها، ولا تستطيع فيما يبدو أن تستجمع قُواها لِتَفاديه. وهذا المصير يُقرِّب في الليلة الثانية عشرة أغربَ مشهد، وهو غير مناسب على الإطلاق للكوميديا، حين يُقسم أورسينو المحبَط أن يسوق فيولا — سيزاريو خارج المسرح ليقتله، من دون مقاوَمة على الإطلاق من جانب «الضحية» المعتزم:
الدوق : ما زِلْتِ على قَسْوَتِكِ البَالِغَةِ إذَنْ؟
أوليفيا : بل ثابتةٌ دومًا يا مَوْلاي!
الدوق :
ثَابتةٌ؟ أَعَلَى فَرْطِ صُدُودِكِ يا امرأةً وَحْشِيَّة؟
بَذَلَتْ رُوحِي كُلَّ قَرابِينِ الإخْلَاصِ إلى آخِرِ نَفَسٍ فيها،
في مَذْبَحِ مَعْبَدِكِ الجَاحِدِ والمُنْكِرِ لِلأَمَلِ —
أَصْدَقَ ما قَدَّمَهُ عَبْدٌ لِلْمَعْبُودِ على مَرِّ الزَّمَنِ! ماذا أَفْعَلُ؟
أوليفيا : ما يُرْضِي مَوْلَايَ وما يَجْدُرُ بِهْ.
الدوق :
ولماذا لا أَقْتُلُ مَنْ أَهْوَى، لَوْ طَاوَعَنِي قَلْبِي؟
فكَأنِّي لِصُّ المَقْبَرَةِ المِصْرِي … حينَ رأى ساعةَ أَجَلِهْ
أحيانًا ما تَبْدُو غَيْرَتُنَا الوَحْشِيَّةُ ذاتَ سُمُوٍّ وشَرَفْ!
لكنْ أَصْغِي الآنَ إلى قَوْلِي: إنَّكِ تُلْقِينَ بإخْلاصي في قاعِ صُدُودِكِ،
وأنا أَعْرِفُ، وإلى حَدٍّ ما، مَنْ يُبْعِدُني عَنْ مَقْعَدِي الحَقِّ بِقَلْبِكْ؛
ولذلكَ ما زِلْتِ أمامي طَاغِيةً مُتَحَجِّرَةَ القلْبِ،
لكنَّ حبيبَ القَلْبِ لدَيكِ — وأنا أثقُ بِحُبِّكِ لَهْ —
وكذلك واللهِ أُكِنُّ لَهُ أَعْظَمَ حُب —
لَنْ يَسْلَمَ منِّي! فلَسوفَ أُزِيحُ المَحْبُوبَ عن العَيْنِ القَاسِيَةِ بوَجْهِكِ!
إذْ يَجْلِسُ فيها مَلِكًا فَوْقَ العَرْشِ لَدَيْكِ،
وبِرَغْمِ إرادةِ سَيِّدِهِ! هيَّا يا وَلَدُ مَعِي!
إني قد صَدَقَ العَزْمُ لديَّ على الشَّرِّ،
وَلَسَوْفَ أُضَحِّي بالحَمَلِ وإنْ أَضْمَرْتُ غَرَامَهْ؛
كي أَقْهَرَ قَلْبَ غُرَابٍ في صَدْرِ يَمَامَة.
فيولا :
وإنني لمُسْتَعِدٌّ أنْ أَمُوتَ أَلْفَ مِيَتةٍ كي أُرْضِيَكْ،
بَلْ هَانِئًا وقَانِعًا ما دامَ مَوْتِي سَوْفَ يُسْعِدُكْ.
(٥ / ١ / ١٠٩–١٣١)
لو كان أورسينو يعني ما يقوله هنا، وإن لم يكن الجمهورُ قد أعلى قدْرَه من قبل، لأصبحَ مُجرمًا مجنونًا، ولأصبحَت فيولا، لو كانت جادَّة، بلهاءَ ماسوكية. لماذا يدفعُنا شيكسبير إلى الوقوع في هذه الحيرة؟ هل يَعبر الخبل الحاجز ويُصبح مَرضًا نفسيًّا لو لم يَظهر سباستيان فجأةً ويُسرع بوقوع مشهد التعرُّف على الحقيقة. وأنا لا أجدُ لديَّ تعليقًا مفيدًا على هذه اللحظة السيئة؛ فغضب أورسينو الفتَّاك مقلِق بما فيه الكفاية، وقبول فيولا المغشَى عليها للموت بسبب الحب يلقي الضوء على دورها كله ويأتي بنتائجَ تَعِسة، وهكذا فإن الليلة الثانية عشرة، على ما تضجُّ به من الضحك الطَّليق، تقترب في كلِّ حالة تقريبًا من حافَةِ العنف. ولا تتمتَّع إلليريا بالجو الصحي المثالي لمن ألقَت بهم العاصفةُ على الساحل، وهي تقع في خريطة الكون الشيكسبيرية بين إلسينور التي تكتنفُها الأبخرة العَفِنة في هاملت، وبين الحروب الطاحنة وضروب العشاق الخونة في طرويلوس وكريسيدا.

٣

تستطيع أوليفيا، إذا قامت ممثلةٌ بدورها على المسرح كما ينبغي، أن تُبهرنا بسلطانها، وبغرامها الذي لا منطقَ له، ولكنك لن تجدَ جمهورًا يُكِنُّ لها من الحب ما يكنُّه لفيولا، على الرغم من القلق الذي تُثيره فينا فيولا فيما بعد. والجمع بين البطلتَين غريب، ولا بد أن شيكسبير قد استمتع بالجهد التخيليِّ الذي يمنحنا إياه حين نُحاول أن نَفهم سببَ وقوع أوليفيا في حُب سيزاريو المفترض، ولا يكاد يوجد توافقٌ بين حب فيولا لأورسينو الفظيع وبين حُب أوليفيا للمرسال اللمَّاح المتحفِّظ الذي يخدم أورسينو. والعاطفة المشبوبة عند أوليفيا تعتبر كشفًا هزليًّا عن الطابع التعسُّفي للهُوية الجنسية أكثرَ مما تعتبر كشفًا عن أن العاطفة الأنثوية الناضجة مثليةٌ جنسية أساسًا. أخبرني بعض المعارف عن إخراج مسرحي جمَع في الحب بين سباستيان وأورسينو، وجمَع في الحبِّ بين أوليفيا وفيولا. ولا أريد أن أرى ذلك وشيكسبير لم يكتب ذلك. ولكن الواقع هنا، وفي غيرِ هذا الموقف، من قبله ومن بعده، أن شيكسبير يضع شروطًا معقدة لكل ما نتيقَّن منه بيُسرٍ بخصوص الهوية الجنسية. ففي رقصة الزواج الختامية، لا ينفرد مالفوليو بكونِه الطامِحَ الذي خاب أمَلُه، ولا يتكلم أنطونيو مرةً أخرى في المسرحية بعد أن يهتفَ «من منهما سباستيان؟» فهذا الأنطونيو الثاني، مثل أنطونيو في تاجر البندقية، يذهب حبُّه أدراجَ الرياح.
عندما نُقابل أوليفيا أولَ مرة نجد أنها تَنْعى وفاةَ أخٍ لها، ولا شك أن ذلك صادق، ولكنه يُعتبر أيضًا دفاعًا عن اضطراب أورسينو. ويختفي حُزنها عندما تقابل سيزاريو وتُحبه من أول نظرة. وما دامت أوليفيا مخبولةً مثل أورسينو، فربما كان أيُّ شاب وسيم لا يفرض أية عاطفة قادرًا على أن يخلب لُبَّها مثل سيزاريو. ونحن نجد أن إدراك شيكسبير الحادَّ بأن الحب الجنسي بشتى أشكاله تعسفيٌّ في أصوله، ولكنه متعددُ العوامل في غائيَّته، يَشغل قلب الليلة الثانية عشرة. كان فرويد يرى أن جميع خيارات الصاحب (أي الوقوع في الحب) إمَّا نرجسية وإما ارتكانية (propping-agaist) [أي إن المحبَّ يرتكن نفسيًّا على من يحبه]. وفهم شيكسبير شبيهٌ بنظرية الصندوق الأسود، باستثناءٍ واحد، وهو أنه بعد حالات الوقوع في الحب، على عكس حالات وقوع الطائرة، من المحال استعادةُ الصندوق الأسود. والسؤال الإنكاري الذي تسأله أوليفيا بعد أن يخرجَ سيزاريو أولَ مرة هو «هل يُعقل أن تسريَ عَدْوى المرض إلى الإنسان بتلك السرعة؟» وتُجيب عليه قائلة: «أظهر يا قدرُ إذن جبروتَك؛ إذ إنَّا لا نملك أنفسَنا»، و«نملك» هنا تعني «نتحكَّم في أنفسنا». وأما مقابلتها الثانية لسيزاريو المفترَض فتُقدم لنا أوسعَ معنًى لدينا للطبيعة، وهو الذي يَزيد من اهتمامنا وانجذابنا؛ لأنَّ الاستغراق في الذات يصلُ إلى ذروة الرفعة.

فالتمتُّع بسُلطة أوليفيا ثم اشتباكها في هذا الحوار الذي يَشي بالضعف واستسلام «ذاتها» يؤدِّي إلى إثارة تعاطُف الجمهور بل وحُبه المؤقَّت لها:

أوليفيا : اصْبِرْ! أَرْجُو أنْ تُخْبِرَني ما ظَنُّكَ بِي.
فيولا : ظَنِّي أنَّكِ تَعْتَقِدينَ بأَنَّكِ ما لَسْتِ عَلَيْه.
أوليفيا : إنْ كانَ الأَمْرُ كذلكَ فَأَنَا أعتقدُ بأنَّكَ ما لَسْتَ عَلَيْه.
فيولا : في هذا أنتِ على حَقٍّ فأنَا حَقًّا ما لَسْتُ عَلَيْه.
أوليفيا : يا ليتَ أَنَّكَ الذي أَرْجُوهُ أنْ يكُونْ!
فيولا :
وهل يكونُ ذاكَ خيرًا مِنْ كِيَاني الآنَ يا مَوْلاتي؟
يا لَيْتَه يكونْ؛ فإنَّني أُحِسُّ أنني أُضْحُوكَةٌ لدَيكِ الآنْ!
أوليفيا (جانبًا) :
آهٍ كمْ يزدادُ جَمَالًا في إعْرَاضِهْ!
حتَّى في ذاكَ الصَّدِّ وزَمِّ الشَّفَتَيْن!
ما أَسْرَعَ ما انْكَشَفَ الحبُّ وإن كان خَفِيًّا فانْفَضَحا!
أَسْرَعَ مِنْ إفْصَاحِ القَاتِلِ عن ذَنْبٍ نَصَحَا!
يا سيزاريو! قسَمًا بربيعِ الوَرْدِ وبالعِفَّةِ والشَّرَفِ وبالحَقِّ الصَّادِقْ،
بل قسمًا بالدُّنْيا إنِّي أهواكَ هَوًى فائقْ!
لا يَقْدِرُ أنْ يُخْفِي، رَغْمَ صُدُودِكَ، حُبِّي المَشْبُوبَ الآنْ؛
عَقْلٌ أوْ أي ذَكَاءٍ وَقَّادٍ في طَوْقِ الإنْسَانْ،
لا تُقِمِ الحُجَّةَ في هَذِي الحالِ على أنِّي
ما دُمْتُ أنا أَطْلُبُكَ عَلَيْكَ بأن تُنْكِرَنِي؛
فالحُجَّةُ تَنْقُضُها حُجَّتِي الصَّائِبَةُ المَرْمَى،
الحبُّ المنشودُ جَمِيلٌ لكنَّ المَمْنوحَ لنا أَسْمَى.
فيولا :
إنِّي لَأُقْسِمُ بالبَرَاءَةِ والشَّبَابِ بأنَّ قَلْبِي وَاحِدٌ،
وبأنَّ صَدْرِي واحدٌ وبأنَّ ما أحكيهِ حَقٌّ أَوْحَدْ،
وبأنَّ ذلكَ لَيْسَ تَمْلِكُهُ امْرَأَة … مَهْمَا تَكُنْ،
ولنْ يكونَ إلَّا لي أنَا … على مَرِّ الزَّمَنْ!
هذا إذَنْ وقتُ الوَدَاعِ حانَ الآنَ يا مَوْلَاتِيَ الأمِينَة،
ولنْ أعودَ كي أُشِيرَ للدُّموعِ في عُيونِ مَوْلَايَ الحَزِينَة.
أوليفيا :
لكن عُدْ فَلَقَدْ تنجحُ في إحْلَالِ الحُبِّ
بِمَحَلِّ نُفُورِكَ يَوْمًا مَا دَاخِلَ ذاكَ القَلْبِ.
(٣ / ١ / ١٣٩–١٦٦)
إنها قطعةٌ نمَطية تتطلَّب ممثلتَين بارعتين في أداء الكوميديا الرومانسية، وخصوصًا التطارح في الأسطر الأربعة (١٤١–١٤٤) التي تتكون من كلماتٍ ذَوات مقطع واحد، وتسمح بعدة معان. [الترجمة تنقل ذلك في بحرَين: الخَبَب في السطر ١٤١ من عشر كلمات وتِسع تفعيلات، وكذلك تقريبًا السطر التالي، ثم يتغيَّر البحر إلى الرجَز في ثلاث تفعيلات يَتْلوها خمسُ تفعيلات؛ للمحافظة على إيقاع الأصل] ومن المحتمل أن يُقدِّر الجمهور الدَّورَين تقديرًا عاليًا هنا؛ فهو يُقدر فيولا لبراعتها في موقفٍ عبثي ممتع، ويُقدر جَسارة أوليفيا. وشيكسبير نفسه ذو جُرأة شديدة، هنا وفي غيرِ هذا المكان في الليلة الثانية عشرة. والمحاكاة الساخرة الذاتية المومِئة إلى المستقبَل في قول فيولا «أنا حقًّا ما لست عليه» ذاتُ نشازٍ خاص، ويستولي على العبارة منها ياجو، أبعد الشخصيات شبهًا بشخصية فيولا. وفيولا وياجو يُحاكيان، ساخِرَين، قولَ القديس بولس: «بنعمةٍ من الله، أنا ما أنا عليه.» وفي الحبكة الجنونية التي وضعها شيكسبير، نجد أنَّ أوليفيا تسير في الطريق الصحيح، ما دام شقيق فيولا التوءم سوف يستسلم للكونتيسة مُعلنًا قَبولها بصورةٍ تُفاجئنا حتى في هذه المسرحية — والتطارحُ بالألفاظ وحيدةِ المقطع يدور حول قضية المرتبة والإخفاء؛ إذ إن فيولا تُذكر أوليفيا بمكانتها الرفيعة، وتُلمح أوليفيا إلماحًا إلى أن فيولا تُخفي كرَم مَحتدِها. فإن عبارة «أنا حقًّا ما لستُ عليه» تُقدم هذا المعنى وتشير أيضًا إلى هُوية فيولا الجنسية، وهو يجعل عبارة أوليفيا التالية تتضمَّن توريةً ساخرة بالغةَ القوة؛ إذ تقول: «يا ليت أنك الذي أرجوه أن يكون!» وهذا هو الذي يجعل ردَّ فيولا بالِغَ الغموض؛ فهو نفادُ صبرٍ وجزَعٌ نتيجة الإرهاق الذي أصابها من الكذب طول المسرحية. ويقع تلخيصُ هذا الحوار الرائع في الذروة التي نراها في مَقولة أوليفيا لنفسها: «فالحبُّ وَلَوْ في جُنْحِ اللَّيْلِ ضِيَاءُ ضُحًى وَضَحَا»، وتعني به أن الحب لا يمكن إخفاؤه، ولكن هذا السطر يجعلنا نتساءل: وما شأن «نهار الحب» إذن؟

٤

والصاخبون الماجنون أصحاب «المقالب» — ماريا، وسير توبي بلش، وسير أندرو إجيوتشيك — أقلُّ الممثلين جاذبيةً في الليلة الثانية عشرة؛ إذ إنَّ خداعهم لمالفوليو ينتمي لمجال الصادية [لذة التعذيب]. وماريا هي الوحيدة التي تمتلك عقلًا بين هؤلاء الثلاثة، وهي متسلقةٌ اجتماعية ذاتُ حيوية وطموح، وتعمل وصيفةً لدى أوليفيا. وماريا ذاتُ بأس، عاليةُ النبرة، واسعة الحِيَل إلى حدٍّ مذهل، وذاتُ نشاط لا ينضب مَعينُه. وسير توبي بلش ينطبق عليه اسمُه [فلفظ بلش (belch) يعني التجشُّؤ] ولن يُقْدم إلا أبلَه [وما أكثرَهم!] على مقارنةِ هذا الوغد من الدرجة الخامسة بعبقريِّ شيكسبير الأعظم السير جون فولسطاف. وأما السير أندرو الأشدُّ إثارةً للريبة فهو مسروقٌ جسديًّا من مسرحية زوجتان مرحتان من وندسور حيث يُسمى سلندر-وبلش وإجيوتشيك صورتان كاريكاتيريتان، أما ماريا، الفكاهية بطبعها، فتتمتَّع بحياةٍ باطنة خطرة، وهي الشخصية الخبيثة الحقَّة الوحيدة في الليلة الثانية عشرة. وهي تتأمَّل بهدوءٍ ما سوف تؤدي إليه مكائدُها؛ إذ تعمل على أن تدفع مالفوليو إلى الجنون قائلةً «سوف يصبح المنزل أشدَّ هدوءًا.»
يعتبر مالفوليو، وفسته، أعظمَ ما أبدع شيكسبير في الليلة الثانية عشرة؛ إذ أصبحَت المسرحية مسرحية مالفوليو، وهو ما يشبه إلى حدٍّ ما اغتصابَ شايلوك تدريجيًّا لتاجر البندقية، وكان تشارلز لام يرى بحَصافته أن مالفوليو شخصيةٌ تراجيدية، كأنه ديون كيخوته الذي أُصيب بجنون الحب (erotomania). ويوحي ذلك بحقيقةٍ كبرى عن مالفوليو؛ فهو يُعاني كونَه في المسرحية التي لا تُلائمه. لو كان مالفوليو في مسرحية فولبوني أو الخيميائي لِبن جونسون، لكان في دياره، لولا أنه كان سيُصبح صورةً لفكرةٍ من أفكار جونسون؛ أي كاريكاتير لا شخصية. ومالفوليو عند شيكسبير ضحيةٌ لميوله النفسية أكثرَ من كونه ضحيةَ خدعةِ ماريا. وحُلمه بالعظَمة الاجتماعية الغرامية — «أن يُصبح الكونت مالفوليو!» — أحد الابتكارات الكُبرى عند شيكسبير، وهي فكرةٌ مزعجة على الدوام باعتبارها دراسةً في الخداع الذاتي وفي مرَض الروح. ومالفوليو، باعتباره هِجاءً ساخرًا من بن جونسون نفسه، لا يستمدُّ من الكاتب المسرحي العظيم للكوميديا والشاعر الساخر إلا روح المشاكسة الخُلقية. وانحطاط الإرادة عند مالفوليو عَوارٌ في المخيلة، أو «ما تشاء». والنقد الماركسي يُفسر مالفوليو باعتباره دراسةً في الأيديولوجية الطبقية، ولكن هذا اختزالٌ للشخص وللمسرحية. أما أهم ما يَعنينا في مالفوليو فليس أنه مدير منزل أوليفيا، ولكن أنه يستغرق في الأحلام حتى يُشوه إحساسه بالواقع، ومن ثَم يقع ضحيةً للنظرات الحصيفة من جانب ماريا في طبيعتِه.

والمتشدِّد الأخلاقي مالفوليو، أو قُل إنه البيوريتاني الزائف، ليس سوى صورةٍ حاجبة تُخفي رغبته في إلقاء العظَمة عليه. واللعنة التي يُعاني مالفوليو منها أساسًا مصدرُها السيادة الخطرة لمخيلته، لا الأبنية الطبَقية الجامدة لعالم شيكسبير؛ فهو وماريا يتَبادلان الكراهيةَ ولكنهما يمكن أن يُصبحا ثنائيًّا متوافقًا من الطاقات السلبية. وبدلًا من هذا لن تفوز ماريا إلا بالسير توبي، المدمِن الرهيب للخمر، ولن يَحظى مالفوليو إلا بالغُربة والمرارة. ولن نُبالغ مهما نَقُلْ في تقديرِ أصالة مالفوليو بصفته شخصيةً كوميدية؛ فمَن ذا الذي يُشبهه عند شيكسبير أو عند غيره؟ إننا نجد عند شيكسبير شخصيات جروتسك [غريبة مضحكة] أخرى، ولكنها لا تبدأ باعتبارها محترمةً «مِعيارية» ثم تتعرَّض لتحوُّلاتٍ جذرية.

ونجد نبوءةً بسقوط مالفوليو عندما نراه أولَ مرة، في حوارٍ جَهْم الطَّلعة مع غريمه، المهرج الحكيم فسته:

أوليفيا : ما رأيُك في هذا المهرج يا مالفوليو؟ ألم يتحسَّن مستواه؟
مالفوليو :
نعم. وسوف يزداد تهريجًا حتى ينتفضَ جسمُه في سكراتِ الموت.
فالضعفُ الذي يجعل الحكماءَ يَذْوون، يَزيد المهرِّجين تهريجًا.
المهرج : فلْيُصِبْك الله يا سيِّدي بضعفٍ عاجلٍ حتى تزدادَ تهريجًا وحُمقًا!
(١ / ٥ / ٧١–٧٧)

والضعف قائمٌ بالفعل كما تحدسُ ماريا:

ماريا : ما أبعَدَه عَنِ الاستمساك بالأخلاق أو البيوريتانية أو بأيِّ شيء على الدوام، فليس سِوى انتهازيٍّ مُداهِنٍ، وحِمَارٍ يتصنَّعُ الحكمةَ، ويُردِّدُ ما يحفظُه من كلامِ الكُبَراء، بل ويُكرر مقتطفاتٍ طويلةً منه! وهو مغرورٌ يزهو بذاته زهوًا لا يُدانَى؛ إذ إنَّه (في ظنِّه) مُفعمٌ بالمناقب، إلى الحدِّ الذي يؤمن معه أن كل مَن ينظر إليه لا بد أن يُحبه. وهذه النقيصةُ فيه هي التي تدفعُني إلى الثأر منه وخيرُ ما يُعينُني على الثأر!
(٢ / ٣ / ١٤٦–٥٣)
هذه الصورة الدقيقة للانتهازي المتصنِّع من أقسى ما رسمَه شيكسبير، ولكن ما يحدث لمالفوليو لا يتناسبُ إطلاقًا مع خلاله، مهما تكُن، إلى الحد الذي تُعتبر فيه محنةُ إذلاله أحدَ الألغاز الشيكسبيرية الرئيسية. وحتى لو كانت حربُ الشاعر مع بن جونسون هي المناسبةَ التي خُلِق من أجلها مالفوليو، فإن الصلب الاجتماعي للمدبِّر الفاضل للمنزل يتجاوز جميعَ الحدود الممكنة للتلاعب بالأحقاد الأدبية. وتوجد في الليلة الثانيةَ عشرة عدةُ أدوار أخرى تُعتبر من الزاوية التقنية أكبرَ من مالفوليو، فهو لا يتكلم إلا نحوَ عُشر عدد سطور المسرحية. وهو يُشبه شايلوك في أنه يستولي على الدراما بالكثافة الشديدة لموقفه الكوميدي وبالظلمة الحالكة لقدره. ولكن مالفوليو لا يمكن أن يوصَف بأنه شريرٌ كوميدي، وهو ما كان شيكسبير يقصده، بوضوح، في تصويره لشايلوك. وليست الليلة الثانية عشرة في المقام الأول هجومًا ساخرًا على بن جونسون، بل إن الواضح فيما يبدو، أن مالفوليو، مثل شايلوك أيضًا، فر ببراعة رائعة من قبضة شيكسبير. فالمسرحية لا تحتاج مالفوليو، ولكنه لا خيار له؛ إذ إن شيكسبير قد وضعه في سياق لا بد أن يعاني فيه.
وما دام اسم مالفوليو نفسه يشير إلى أنه لا يتمنَّى الخير لأحدٍ إلا لنفسه، فإن تعاطفنا معه لا بد أن يكون محدودًا، خصوصًا بسبب السرور الضاحك الذي تُثيره فينا معاناتُه. فإن رؤية التدمير الذاتي لشخصٍ لا يستطيع الضحك، ويكره أن يضحكَ الآخَرون، تُصبح فرصة فرح فيَّاض للجمهور الذي لا يسمح له بالوقت اللازم لتأمُّل صاديته الخاصة المثارة. ويُبدي هاري ليفين اختلافَه مع تشارلز لام؛ إذ يرى أنه من الضعف أن يأسَف المرءُ لمالفوليو:

إنه منافقٌ متزلِّف متحذلق متسلِّق اجتماعيًّا، ويستحقُّ أن يُعاد إلى مكانه الحقيقِ به أو، بتعبيرِ جونسون، أن يتوافقَ مع طبعِه؛ إذ يبدو لي أن مالفوليو يتَّسم بطبع جونسوني لا شيكسبيري.

هذا حكمٌ لا يمكن أن يُنْقَض، ومع ذلك فإن مالفوليو موجودٌ في كوميديا شيكسبير الرائعة.

وتقول حُجة ليفين إن تعذيب مالفوليو ليس صاديًّا بل تطهيري، فالتعذيب يُعيد تفعيل النبذ الطقسي لكبش الفداء. ونحن نُوافق على ذلك ونعترض عليه؛ فربما كانت روحُ الكوميديا تتطلَّب تضحياتٍ معيَّنة، ولكن هل يلزم إطالة أمدِ هذه التضحيات؟

وترجع أهمية مالفوليو، من زاويةٍ معينة، إلى أنه مضحكٌ إلى أقصى حد، وذلك في تضادٍّ مخيفٍ للغياب الكامل لما نُسميه نحن، من غير أتباع جونسون، «الطبع». ولكن دَوره يتضمَّن تطرفًا، وهو ما يُمثل صعوبة كبرى للممثلين، الذين نادرًا ما ينجحون في تناوُل جوانبه الملغِزة، وهي التي تبلغ أقصى تعقيدٍ لها بعد قراءةِ الرسالة المزوَّرة التي وضعَتها ماريا في طريقه. فها هو ذا يبلغ لحظةَ انتشائه بعد قراءة ما يُفترض أنه تلميحٌ بالغرام الذي تُكنُّه أوليفيا له، فإذا هو ينطلق ليُقدم أنغامًا منثورة من أبدعِ ما يتجاوز به شيكسبير حدود «اللياقة»:

لا يَرى المرءُ في ضوء الشمس وفي الخلاء الفسيح بوضوح أكبر! هذا كلامٌ صريح! سوف أتكبر، وأقرأ كتابات أهل السياسة، وأُصَعِّرُ خَدِّي للسير توبي، وأتخلصُ من معارفي البسطاء؛ حتى أُصْبِحَ تمامًا الرجلَ الموصوفَ في الخِطاب. لا أخادعُ الآن نفسي حتى يُلْقِينَي حِصَانُ الخَيَالِ عن ظَهْرِهْ! لا! فكلُّ الدلائلِ تقطعُ بذلك؛ أي بأنَّ مولاتي تُحِبُّني. لقد سَبَقَ أنِ امْتَدَحَتْ جوربي الأصفرَ منذ عهد قريب، وامْتَدَحَتْ رباطَ الساقِ الصليبي، وبذلك كشَفَت عن حبها لي، وتكادُ تأمرني بأنْ أرتديَ الملابسَ التي تحبها. أشكرُ حُسْنَ طالعي على هذه السَّعَادَة. سأكونُ مُتَرَفِّعًا عَزُوفًا مَزْهُوًّا، بجوربي الأصفر، ورِبَاطِ السَّاقِ الصَّليبي، والأَفْضَلُ أن أُبَادِرَ بارْتَداءِ هذا وذاك. أشكرُ الربَّ جوف وطوالعي! — لِلْخِطَابِ تذييل. ماذا يقول؟ (يقرأ) لا خِيرَةَ لك في أنْ تَعْرِف من أنا. فإذا قَبِلْتَ غرامي فَعَبِّرْ عن حبِّك. وتذكَّرْ من امتدَحَتْ جَوْرَبَكَ الأَصْفَرَ وتَمَنَّتْ أن تَرَاكَ وأَنْتَ تَلْبَسُ رِباطَ السَّاقِ الصَّلِيبي على الدَّوَامْ. أقولُ لك: تذكَّرْ! دَعْني أؤكد لك أنك بلغتَ العُلَا إنْ كنتَ تريدُ بلوغ العُلا! وإلَّا فلتظلَّ حاجبًا في عَيْني، ورَفيقًا للخَدَمْ، وغيرَ جديرٍ بأنْ تَلْمَسَ أصابِعَ ربةِ الحَظِّ. الوداع. مِنْ تلك التي تودُّ أن تتبادلَ مكانتها معك.

(٢ / ٥ / ١٦٠–١٧٩)

هل نرتجفُ قليلًا حتى ونحن نضحك؟ إن التخيلات الغرامية أكثرُ عنصر نشترك فيه جميعًا وأشدُّ ما نستحي منه؛ وذلك لأنها لا بد أن تدورَ حول التطرُّف في تقدير قيمة الذات باعتبارها «العاشق». وأغرب طاقة يُمارسها شيكسبير هو الضغط المستمر على «العصب» الذي يُمثل عنصر «الغرام» المشترك بين البشر. هل نستطيع أن نسمع هذا الكلام أو نقرَأه من دون أن نُصبح إلى حدٍّ ما مالفوليو نفسه؟ بالقطع لسنا هُزَأَةً إلى هذا الحد، وهو ما نؤكده، ولكننا نُواجه خطرَ ذلك (أو ما هو أسوأ) إذا صدَّقنا تخيُّلاتنا الغرامية، على نحوِ ما يحدث لمالفوليو نتيجة خدعةٍ معينة. وتأتي كارثته الكبرى في الفصل الثالث، المشهد الرابع حين يصل إلى حيث توجد أوليفيا:

أوليفيا : كيف حالُك يا مالفوليو؟
مالفوليو : مَرْحَى مولاتي الحُلوةُ مَرْحَى!
أوليفيا : هل تبتسم؟ إنِّي أرسلتُ أستدعيك في أمرٍ جاد.
مالفوليو : جادٌّ يا مولاتي؟ يمكنني أن أتجهَّم قطعًا؛ فرِباط الساق الصليبي يعوق الدورة الدموية بعضَ الشيء. ولكن ذلك غيرُ مهم، ما دام ذلك يحلو في عين شخص معيَّن. وينطبق عليَّ ما تقوله السونيتة الصادقة «إنْ سَرَّ ذاك شخصًا واحدًا فإنه يَسُرُّ كُلَّ الناس.»
أوليفيا : عجبًا … ما حالك يا رجل؟ ماذا أصابك؟
مالفوليو : لم تُصب السوداءُ عقلي، وإن اكتسي ساقايَ باللون الأصفر! لقد وقع الخطاب في يدي، ولا بد من تنفيذ الأوامر. وأعتقد أننا نعرف الخطَّ المائل الجميل حقَّ المعرفة.
أوليفيا : الأفضل أن تأوي إلى الفراش يا مالفوليو!
مالفوليو : إلى الفِرَاش؟ حَقًّا يا حَبِيبَتِي وسَوْفَ آتي إِلَيْكِ.
أوليفيا : فَلْيَرْحَمْكَ الله! لِمَ تبتسمُ هذه البسماتِ وتُقَبِّلُ يَدَك بهذا الأسلوب؟
مالفوليو : إلى الفِرَاش؟ حَقًّا يا حَبِيبَتِي وسَوْفَ آتي إِلَيْكِ.
ماريا : كيف حالُك يا مالفوليو؟
مالفوليو : هل تسألينني؟ نعم! أصبَحَتِ البلابلُ تُجيبُ الغِربان!
ماريا : لماذا تظهر بهذه الجُرأة المزرية أمام مولاتي؟
مالفوليو : «لا تَخَفِ العَظَمة»، تعبير رائع.
أوليفيا : ماذا تعني بذاك يا مالفوليو؟
مالفوليو : «البعضُ يولَدون عُظماء» —
أوليفيا : ماذا؟
مالفوليو : و«البعض يكتسبون العظَمة» …
أوليفيا : ماذا تقول؟
مالفوليو : «والبعض تُفرَض العظمة عليهم فرضًا»!
أوليفيا : رَدَّ اللهُ لك عقلك!
مالفوليو : «وتذكَّر من امْتَدَحَتْ جوربَك الأصفر» —
أوليفيا : جوربك الأصفر؟
مالفوليو : «وتمنَّت أن تراك وأنت تلبس رباط الساق الصليبي.»
أوليفيا : رباط الساق الصليبي؟
مالفوليو : «دَعْني أؤكد لك أنك بلغتَ العلا إن كنت تريد بلوغ العلا» —
أوليفيا : هل بلغتُ أنا العلا؟
مالفوليو : وإلا فلْتظلَّ في عيني حاجبًا.
أوليفيا : لا لا! هذا خَبلُ الصيف إذا انتصَف بعينه!
(٣ / ٢ / ١٦–٥٥)
إنه حوارٌ بين اثنين من أعظم الشخصيات الكوميدية؛ فمالفوليو يُسيطر الهَوسُ عليه، وأوليفيا لا تُصدق ما تسمع. وبعد أن ترحل أوليفيا، طالبةً «النظر في حال، مالفوليو»، نسمعه يتكلَّم بلسان انتصارِ الإرادة المنحطَّة:

حقًّا! إن كلَّ هذه الدلائل تبدو متَّسقة، بحيث لا أجدُ عائقًا خلقيًّا واحدًا، لا بل ولا خردلة من أيِّ عائق خُلقي، ولا عقبة، ولا أدنى ظاهرة تُثير الشك أو تنذر بالخطر — ماذا عسايَ أن أقول؟ — لا شيء يُمكنه أن يحول بيني وبين الآفاق الكاملة لآمالي. والحقُّ أن جوف، لا أنا، هو الذي فعَل هذا، وله الحمد والشكر!

(٣ / ٤ / ٧٨–٨٤)

ويحرص شيكسبير على أن يجعل مالفوليو وثَنيًّا «سياسيًّا» هنا، بالإضافة إلى كونه مجنونًا بحبِّ ذاته إلى درجة الخبل؛ إذ يعجز عن التمييزِ بين «المستقبل الكامل لآماله» وبين الواقع، ويحمله المتآمرون حتى يُحبَسَ في غرفةٍ مظلمة، علاجًا له من الجنون، حيث يزوره المهرجُ فسته، متنكرًا في دور كاهن من طراز الكهَنة في عهد تشوسر، ويقول إن اسمه السير توباس، الصالح، والحوار بينهما يُشكل موسيقى معرفيةً غريبة:

مالفوليو : مَن يُنادي؟
المهرج : السير توباس، الكاهن، وقد أتى لزيارة مالفوليو المجنون.
مالفوليو : يا سير توباس! يا سير توباس! يا سير توباس الكريم! اذهب إلى مولاتي!
المهرج : اخْرُجْ من جسمِه أيها العِفريت المريع! ما أَشَدَّ تضليلَكَ لهذا الرجل! أفلا تتحدث إلا عن النِّساء؟
سير توبى (جانبًا) : أحسَنتم يا أستاذ!
مالفوليو : يا سير توباس! لم يَذُقْ رجلٌ ما ذُقْتُه مِن ظُلْم! يا سير توباس الكريم، لا تظنَّ أنِّي مجنون. لقد حبَسوني هنا في ظلامٍ رهيب.
المهرج : تبًّا لك يا إبليس الخبيث! (إني أدعوك بألطفِ الألفاظ؛ فأنا من السادة المهذَّبين الذين يُجاملون الكل حتى الشيطان). تقول إن المنزل مُظلم؟
مالفوليو : حالِكٌ كالجحيم يا سير توباس!
المهرج : عجبًا! إنَّ به نوافذَ مقوَّسةً في شفافيةِ المتاريس المُصْمَتة، والنوافذ العُليا في جهة الجنوب الشمالي وَضَّاءةٌ مثل الأبنوس، ومع ذلك تشكو من حجب الضوءِ عنك؟
مالفوليو : لستُ مجنونًا يا سير توباس. أؤكد لك أن هذا المنزل مُظلم!
المهرج : أخطأتَ أيها المجنون! فلا ظلامَ إلا الجهل، وأنت أشدُّ تِيهًا فيه من قومِ فرعون في غَياهب ضبابهم!
مالفوليو : أقولُ لك إن هذا المنزل مظلمٌ كالجهل، ولو كان الجهل في ظلام جهنم. وأؤكد لك أنه ما من شخصٍ أسيءَ إليه قدْرَ هذه الإساءة. وأنا عاقلٌ مثلك، ولكن أن تختبر عقلي بأسئلةٍ منطقية.
المهرج : ما رأيُ فيثاغورث في الطيور البرِّية؟
مالفوليو : يقول إن روحَ جَدَّتنا رُبَّمَا حَلَّتْ في جسد طائر.
المهرج : وما رأيك في هذا القول؟
مالفوليو : أرى أنَّ الروح ساميةٌ ولا أوافق على قوله إطلاقًا!
المهرج : وداعًا! وابْقَ دائمًا في الظلام. لا بد أن تقبلَ رأي فيثاغورث قبل أن أقبلَ أنَّك عاقل؛ فأنت تخشى أن تَذبحَ ديكَ الغابةِ حتى لا تفقدَ روحَ جدَّتك! وداعًا!
مالفوليو : سير توباس! سير توباس!
(٤ / ٢ / ٢١–٦٢)
هذه القطعة تُمثل أشدَّ حوار مثير للضحك ومحبط للهمم في آنٍ واحد في الليلة الثانية عشرة، وهي لا تُصور مالفوليو في صورة شخصٍ مهزوم، فهو يحتفظ بوقاره رغم المحنة القاسية التي يمرُّ بها، ويعبر بفخرٍ عن مبدئه الرِّواقي ورفضِه التسليمَ بفكرة تناسخ الأرواح عند فيثاغورث. ومع ذلك فإن فسته يفوز بشرفِ اللماحية، فيحذر بحكمته مالفوليو من الجهل بطابَع المشاكسة الأخلاقية الجونسونية. ويُمثل هذا الحوارُ العجيب تنبؤًا بالحوارات الغريبة بين الملك لير وبين المهرج وجلوستر. أما حكمة فسته، وهي التي يرفض مالفوليو أن يتعلَّمها، فتقول إن الهُوية صفةٌ قلقة على الدوام، وإنها كذلك في الليلة الثانية عشرة كلها. ومالفوليو المسكين، الهدف الكبير للتفكُّه، فلا يتمتع إلا بأقلِّ القليل من لماحية جونسون وجميع ما يتمتَّع هذا الشاعر من وقاحة وضعف يُعرضه للسخرية والتهكم. وكان جونسون كذلك قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره، ولكن ذلك الشاعر والكاتب المسرحي العظيم تجاوزَ مرحلة مالفوليو في مُقتبل عمره، فالواقع أن مالفوليو عند شيكسبير محصورٌ على الدوام في بيته المظلم الذي يُشكِّله ما يُسيطر عليه من حبِّ الذات والتشدُّد الأخلاقي، ولا يوفر له شيكسبير أيَّ مَهْرب من هذا الحبس. وهذا ظلم فادح، ولكن هل يهمُّ ذلك في إطار جنون الليلة الثانية عشرة؟ لا نستطيع الإجابةَ عندما يشكو مالفوليو إلى أوليفيا من أنه «غدَوت هُزَأةً أفوق كلَّ من غدا ضحية/لحيلة مدبَّرة» ثم يسأل «قولي لماذا؟»

٥

فسته «عبقري» الليلة الثانية عشرة؛ فهو أشدُّ المهرجين جاذبيةً في كل ما كتب شيكسبير، والعاقل الوحيد في مسرحيةٍ بالغة الغرابة. وكانت أوليفيا قد ورثَت مُضحك البلاط المذكورَ من والدها، ونحن نُحس على امتداد المسرحية أن فسته، المحترف القدير، أنه قد بدأ يشعر بالضجر من دوره، وهو يتحمَّل ما يشعر به من الإرهاق بهمةٍ ولماحية، ودائمًا بمظهر الذي يعرف كلَّ ما يحتاج إلى معرفة، لا بما يوحي بالتعالي بل بنبرةِ شجن رقيقة. وغيابه عن العمل تَصفح عنه أوليفيا، وفي مقابل ذلك يُحاول التسريةَ عنها حتى تُقلِع عن الحِداد الذي طال على أخيها، وفسته كريمُ النفس على امتداد المسرحية، وهو لا يشارك في الإيقاع بمالفوليو حتى يدخل الغرفةَ المظلمة متنكرًا في دور الكاهن السير توباس، بل إنه حتى حين يقوم بذلك فإنه يُسهِم في العمل على إخراج مالفوليو من المحبس. وهو بارعٌ في الغناء (إذ كتب شيكسبير دوره لروبرت آرمين، صاحبِ الصوت الممتاز) ولكن فسته يختار المقاماتِ الصغيرة: (الضِّحْكُ الحَاضِرُ مِنْ وَحْي الفَرْحِ الحَاضِرْ/لا نَعْرِفُ ما يُخْفِيهِ هذَا الزَّمَنُ الغَادِرْ) وعلى الرغم من أنه ينتمي إلى حاشيةِ قصر أوليفيا، فإنه يَلقى الترحيب في بلاط أورسينو المحبِّ للموسيقى ويفوز بثقة أورسينو بضربةٍ واحدة:

فليحفَظْك إذن رَبُّ الكآبة، وليصنعْ لك الحائكُ صِدَارًا من القَطيفة المتقلِّبة الألوان، ما دامَ مِزَاجُكَ مُتقلبَ الألوانِ مثلَ بعضِ الأحجار الكريمة، وإذا كان الأمر بيَدي لجَعلتُ كلَّ ذي مِزاج متقلبٍ يركبُ البحر، حتى تَشغَلَه تِجارتُه عن كل شيء، وتذهب به إلى كلِّ مكان، فذلك هو الذي دائمًا ما يَكفُل الجودةَ للرحلة وإن ضاعت هباءً! إلى اللقاء!

(٢ / ٤ / ٧٣–٧٨)
وأكثرُ المشاهد إفصاحًا عن طبيعة المهرج يستهلُّ الفصل الثالث، وتشاركه فيها فيولا الساحرة وهي تدفعه برقةٍ إلى تقديم تأملات حول صَنعتِه، فيقول لها إن «العبارة مثل القفَّاز اللين في يد القريحة اللماحة، ما أسرع ما تقلبه فتظهر باطنه الخشن!» وقد يكون ذلك بمثابة نصيحةٍ يُقدمها شيكسبير لنفسه من خلال تلاعبه بالألفاظ؛ فإن فسته اللطيف واحدٌ من نوابه النادرين، ويحذرنا فسته من محاولةِ العثور على اتساقٍ أخلاقي في الليلة الثانية عشرة. فعندما يشاهد أورسينو التوءم سباستيان مع أخته فيولا [المتنكِّرة في صورة سيزاريو] يحار ويقول الكلمات التالية تعبيرًا عن الحيرة:
الدوق :
الوَجْهُ واحدٌ والصَّوْتُ واحدٌ بل الرِّدَاءُ واحدٌ … لكنَّه شَخْصَانْ!
كَأنني أمامَ مِرْآةٍ مُزَاوِجَة … لكنَّها مِنَ الطَّبِيعة …
تَضُمُّ صِدْقًا وخِدَاعًا!
(٥ / ١ / ٢١٤-٢١٥)
وتضيف آن بارتون شرحًا مفيدًا يقول: ليس المقصود المرآةَ المزاوجة فعلًا؛ أي التي تُبدي صورتين معًا، ولكن المقصود هو الخداع البصري الطبيعي. واللعبة المركزيَّة في المسرحية تنتمي إلى فسته؛ إذ إنه يُلخص محنة مالفوليو قائلًا: «وهكذا تدور دوَّارة الزمن لتأتي بألوان انتقامه». ويقول الدكتور جونسون عن المرآة المزاوجة: «إنها لعبةٌ طبيعية» تستخدمها الطبيعة حتى تقدم «منظورًا تبدو الظلالُ فيه ذاتَ وجود حقيقي، بمعنى أن ما ليس موجودًا يبدو كأنه موجود». ويبدو هذا في ذاته متناقضًا، إلا إذا اندمج الزمن والطبيعة في هُوية شيكسبيرية واحدة، بحيث تصبح دوارةُ الزمن اللعبةَ نفْسَها التي نُسميها المرآة المزاوجة. إذا تصوَّرنا مرآةً متفاوتة السطح وهي تدور في دورات مثل لعبة النحلة، فسوف نرى اللعبة المركبة التي أنشأها شيكسبير في الليلة الثانية عشرة. وجميع شخصيات المسرحية، باستثناء المظلومين مالفوليو وفسته، لهم صورُهم التي تمثلهم في تلك المرآة الدوارة.

في آخر المسرحية يخرج مالفوليو من المسرح هاتفًا: «بل أنتقم أنا يومًا من عُصبتكم جَمعاء!» ويخرج جميع الأشخاص من المسرح حتى يتزوَّجوا، باستثناء فسته، الذي يظلُّ وحده ليُنشِد أكثرَ أغنية كتبها شيكسبير شجوًا وحنينًا:

في فَجْرِ صِبَايَ وكُنْتُ غُلَامًا لا يُدْرِكْ،
كانتْ تلكَ الرِّيحُ تُدَوِّي قَبْلَ سُقُوطِ الأَمْطَارْ،
أَلْعَابُ طُفُولِتَنَا كانَتْ لَهْوًا أَحْمَقْ،
لكنْ لم تَتَوَّقفْ يَوْمًا هذِي الأَمْطَارْ.

•••

أما عِنْدَ بُلُوغِي مَبْلَغَ كُلِّ رَجُلْ،
والرِّيحُ تُدَوِّي قَبْلَ سُقُوطِ الأَمْطَارْ،
والبَابُ المُغْلَقُ يَحْمي مِنْ لِصٍّ يَدْخُلْ،
لكنْ لَمْ تَتَوَقَّفْ يَوْمًا هذي الأَمْطَارْ!

•••

لكنْ حينَ تَزَوَّجْتُ … فَوَا أَسَفَا!
فالرِّيحُ تُدَوِّي قَبْلَ سُقُوطِ الأمْطَارْ،
لَمْ أَقْدِرْ أنْ أَتَفَاخَرَ أَوْ أَتَهَادَى،
لكنْ لَمْ تَتَوَقَّفْ يَوْمًا هذي الأَمْطَارْ!

•••

وأَنَا حينَ أَعُودُ إلى غُرْفَةِ نَوْمِي،
والرِّيحُ تُدَوِّي قَبْل سُقُوطِ الأَمْطَار،
أَجِدُ رُءُوسَ السَّكْرَى ما زَالَتْ سَكْرَى،
إذْ لَمْ تَتَوقَّفْ يَوْمًا هذي الأَمْطَارْ!

•••

قَدْ بَدَأَ العَالَمُ منذُ زَمَانٍ لا يُحْصَى،
والرِّيحُ تُدَوِّي قبلَ سُقُوطِ الأَمْطَارْ،
لكنْ ذلكَ لا جَدْوَى مِنْهُ … إذْ فَرَغَ العَرْضُ التَّمْثِيلِي،
وَلَسَوْفَ نُحَاوِلُ يَوْمِيًّا أنْ نُسْعِدَكُمْ يا شُطَّارْ!
(٥ / ١ / ٣٨٩–٤٠٨)

وسواءٌ كان شيكسبير ينقح أغنية شعبية أم لا، فإن هذا بوضوح يُمثل الوداع الغنائي الذي يقدمه فسته، وخاتمةً لعرضٍ متمردٍ يعيدنا إلى الريح والأمطار في كل يوم. إننا نسمع قصةَ حياة فسته (وحياة شيكسبير) مرويَّة من زاويتَي الحب والحياة المنزلية. ربما يقول الرجل «هذا شيء أحمق»، وساخرًا أيضًا إنه «مجرد لعبة» في «حالة الرجل» من خُبث الفعال، والزواج، والتبختر الذي لا نفع فيه، والتدهور المخمور، والشيخوخة. ولكن فسته يقول «كل شيء يتساوى في النهاية»، معبرًا عن حزنه الجميل في قَبول ذلك كله، وسوف يقدم العرض المسرحي مرة أخرى في مساء الغد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤