الفصل السادس عشر

ريتشارد الثاني

١

هذه المسرحية التاريخية الغنائية هي الثالثةُ في الثالوث الذي يضمُّ روميو وجوليت التراجيديا الغنائية، وحلم ليلة صيف، أقرب الكوميديات إلى الطابع الغنائي. وعلى الرغم من أن حب الجمهور لها أقلُّ من حبه لهاتين المسرحيتين، فإن ريتشارد الثاني متفاوتةُ المستوى، ولكنها رائعة، وتعتبر أفضل مسرحيات شيكسبير التاريخية، باستثناء مسرحيتَي فولسطاف، هنري الرابع بجزأَيها، ويُطلق الدارسون صفة الهنريادية على الرباعيَّة التي تتكون من ريتشارد الثاني ومسرحيتي هنري الرابع، ومسرحية هنري الخامس، ولكن الأمير هال لا يَحظى في نهاية ريتشارد الثاني إلا بلَوم أبيه، الغاضب بولينبروك، باعتباره مهملًا، ويعتبر شخصية ثانوية في مسرحيتَي هنري الرابع بالقياس إلى العملاق فولسطاف. ولا تعتبر الهنريادية الحقيقية إلا هنري الخامس؛ لأن فولسطاف الذي لا يزال في قَيد الحياة لا يظهر على المسرح، على الرغم من أن أشدَّ الأحاديث مرارةً في المسرحية حديثُ السيدة كويكلي التي تَروي وفاة صاحب اللماحية العظيم. ولما كانت ريتشارد الثاني أيضًا تفتقر إلى وجود فولسطاف، فإن أعظم مسرحيات شيكسبير قوةً لا تتضمَّن ابتكار الشخصية الإنسانية الكوميدية. ولم يكن شيكسبير يتوقف عن التجريب، فكتب ريتشارد الثاني باعتبارها أنشودةً ميتافيزيقية مديدة، والمفترض أن ذلك مستحيل في أية مسرحية تاريخية، ولكن كلَّ شيء ممكنٌ عند شيكسبير.
ريتشارد الثالث ملك سيئ وشاعر ميتافيزيقي طريف، والدوران هنا متناقضان، وهو ما يجعل طابعه الملكيَّ يتضاءل في الوقت الذي يتحسَّن فيه شعره الميتافيزيقي. وفي النهاية نرى ملكًا ميتًا؛ إذ يُرغَم أولًا على التنازل عن العرش ثم يُقتل، ولكن الذي يبقى في آذانِنا هو غنائيته الوهمية الميتافيزيقية. فالحق أن ريتشارد ملكٌ أحمق ولا يصلح للمُلْك، وهو ضحيةٌ لنفسه ذاتِها ولُغتها الغريبة، وضحية لبولنبروك أيضًا، وهو لا يفوز بتعاطفنا بقدرِ ما يحظى بإعجابنا الجمالي الذي نُبديه على مضضٍ بالرقة التي تَذْوي بها موسيقاه المعرفية. وهو عييٌّ تمامًا بصفته سياسيًّا، وأستاذٌ عظيم في لغة المجاز. وإذا كانت ريتشارد الثاني غيرَ ناجحة باعتبارها تراجيديا (حكم الدكتور جونسون) فذلك لأنها تدرس تدهور شاعرٍ مرموق وسقوطَه، وهو ما يتصادف أنه أيضًا إنسان غير قدير وملك لا رجاء فيه. ومن الأفضل أن نعتبر ريتشارد الثاني تاريخًا لا تراجيديا، وألا ننظرَ إلى ريتشارد نفسه لا كبطل ولا كشرير، بل كضحية، وهو ضحيةٌ في المقام الأول لانغماسِه في ذاته وأيضًا لسلطان مخيلته.
ولا يوجد نثرٌ على الإطلاق في ريتشارد الثاني بسبب عدم وجود فولسطاف الذي يتحدَّث نثرًا، وعلى الرغم من وجود خطب رائعة يقولها جونت وغيره، فإن شيكسبير يُركز تركيزًا شبهَ كامل على ريتشارد. وأما بولينبروك الذي اغتصب عرشه فلا يكاد يتمتع بأيةِ حياة باطنة، بل ينطلق بلا هوادةٍ في طريق السياسة نحو السلطة، من دون أن يُثير اهتمامًا كبيرًا لدينا به. وأعود هنا إلى موافقتي المتحفِّظة إلى حدٍّ كبير على ما يؤكده جراهام برادشو، الذي يقول إن الشخصية الشيكسبيرية تعتمد على الروابط وألوانِ التضادِّ الداخلية التي يُقيمها داخل مسرحياتٍ معينة، وأما تحفُّظي فيقول إن تمثيل شيكسبير للشخصية يستطيع في أقوى حالاته أن يَنفُذ من خلال تلك الروابط ويُعتم جميعَ ألوان التضادِّ. وريتشارد لا يُعتبر تمثيلًا قويًّا ومن ثم فهو يخضع لما يمكن أن نسميه قانون برادشو، ويُعتبر بولينبروك هو الضد اللازم الذي لولاه لما أصبح ريتشارد الذي نعرفه؛ أي الشخص الذي يُدمر نفسه.
وسوف يؤكد ريتشارد هذه الفكرة بنفسه، من خلال استعاراتٍ قوية. وأما أفقُ التعاليَّة الذي لن ينجحَ قانونُ برادشو إذا تجاوزه فلا يوجد في ريتشارد الثاني، فالمسرحية، على عكس حلم ليلة صيف وروميو وجوليت، لا تتضمَّن عناصرَ تعالية، من نوع حلم بوطوم وسخاء جوليت. إذ إن خيال ريتشارد حبيس «الأنا وحدية» (solipsism) [ترجمة عزمي إسلام] بمعنى وجودِه في سجن ذاته النزقة، حتى حين يستشهد بقداسةِ المسح على رأسه بالزيت الملكي، وهو الملكُ المتمتع بذلك. وعلى الرغم من الحُجة التي يُقدمها لنا كثيرٌ من الدارسين، نقول إن شيكسبير لا يُلزم فنُّه بأيِّ احترام عميق للمَلَكيَّة باعتبارها قيمةً تعالية. والفكرة القائلة بوجود جسَدَين للملك، أحدهما طبيعي والآخَر شبه مقدس يتناولها ريتشارد أكثرَ من مرة في المسرحية، ولكن شهادة ريتشارد حمَّالةُ أوجُه، على الأقل. بل إن احتفالات الملَكِيَّة في هنري الخامس وفي هنري الثامن تتضمن تورياتٍ ساخرةً خفية. ولا يستطيع المرء أن يُحدد لشيكسبير موقفًا خاصًّا، سياسيًّا كان أو دينيًّا أو فلسفيًّا. ففي المسرحيات دائمًا شيءٌ يتنبأ بما يقوله نيتشه عن الدافع إلى لغة المجاز، وهو الرغبة في الاختلاف، أو الرغبة في أن يكون المرء في مكانٍ آخر.
ومن الظواهر الغريبة في ريتشارد الثاني، في عيون القراء ورواد المسرح على حدٍّ سواء الطابَع الشكلي لجانبٍ كبير من المسرحية. ومن المحتمل أن قيام المسرحية على حدثٍ أوحد؛ أي تأجيل تنازل الملك عن العرش، وما يعقب ذلك من قتل الملك، هو السبب في أن ريتشارد الثاني أكثرُ مسرحيات شيكسبير اعتمادًا على «الرسميات» قبل ختام هنري الثامن ومسرحية النبيلان القريبان. وأحيانًا ما تنجح الشكلية نجاحًا باهرًا، على نحوِ ما يحدث في مشهد التنازل الفعلي عن العرش، ولكننا من المحتمل أن نشعر بالحيرة في حالاتٍ أخرى، وانظر مثلًا تبادل الوداع الأخير بين ريتشارد وزوجته الملكة:
الملكة : ألا بدَّ أن نفترق؟ ألا بدَّ أن ننفصل؟
ريتشارد : ستفترق الأيادي يا حبيبتي، وتنفصل القلوب!
الملكة : لماذا لا نذهبُ للمَنفى معًا — فيأتي الملك معي؟
نورثمبرلاند :
قد يُظهر ذلك بعضَ الحب،
لكنه يفتقرُ إلى كِياسة السياسي!
الملكة : إذن دَعْني أذهَب معه حيث يذهب!
ريتشارد :
حتى يتضافرَ بُكائي وبكاؤك في جَديلةِ حزنٍ واحدة!
لا! ابكيني أنتِ في فرنسا، وسأبكيكِ هنا؛
فالبعاد خيرٌ لنا من القُرب دون التلاقي،
أما طول طريقك فيقاسُ بالآهات،
وسأعرف طول طريقي من عدد الأنَّات!
الملكة : وكلما طال الطريق ازداد عددُ الأنات!
ريتشارد :
ولكن طريقي قصير،
ولذلك سأتأوَّه مرتين في كلِّ خطوة،
وأُطيل الطريق بقلبي المثقل بالهم!
هيا بنا! نحن نخطب ودَّ الحزن والإيجاز واجب؛
فلسوف نعيش طويلًا معه بعد زِفافنا إليه!
يجب أن نغلق شفاهنا بقُبلة واحدة ثم نفترق صامتَين،
بهذه أعطيكِ قلبي وآخذ قلبَك!

 [يُقبِّلها.]

الملكة :
أعِدْ إليَّ قلبي بقُبلةٍ ثانية! ليس من الخير
أن تحرمَني قلبي وأن تقتلَ قلبَك!
أما الآن بعد استردادِه منك، فلَكَ أن ترحل،
حتى أحاول أن أقتله بأنَّاتي!
ريتشارد :
إننا نُتيح للحزن أن يلهوَ ويُعربد بهذا التأخير الأحمق،
فلْنقُل الوداع من جديد، وليُكمِل الأسى روايتَنا!
(٥ / ١ / ٨١–١٠٢)
يتميَّز الحوار بالرشاقة الشكلية، ويمكن أن تُقرأ هذه العباراتُ الرسمية باعتبارها لغةَ التحفُّظ والوقار الرفيع، التي يشترك فيها الملكُ والملكة، كما يوجد اتساقٌ في اللياقة التي يُحافظ عليها شيكسبير دائمًا، ويستغلها في إحداث ثغراتٍ تنفذ منها نغمةٌ مهمة مختلفة حيثما تدعو الضرورةُ في لحظات التورية الساخرة المؤثِّرة. ويختلف الأمر هنا عن روميو وجوليت حيث يمكن أن يكون التأثير عاصفًا؛ إذ إنَّ ريتشارد الثاني تُحاول أن تُبعدنا عن التعاطف قدْرَ الطاقة. إننا نَعْجَبُ لريتشارد ونُعْجَب بلغتِه، لكننا لا نُشاركه المعاناة، حتى عندما يُعزَل ثم يُقتل. وتعتبر هذه المسرحية أكثر المسرحيات التاريخية انضباطًا وتنميطًا للأسلوب. وهي مسرحيةٌ تجريبيَّة بصفةٍ أساسية، تنشد حدود الغنائية الميتافيزيقية، وتنجح نجاحًا باهرًا إذا قَبِلنا شروطها الصارمة إلى حدٍّ ما.

٢

ويتلطَّف وولتر باتر (Pater) فيتجاهل ريتشارد الذي يظهر في الفصلَين الأول والثاني، ويمتدح الملك لماسوكيته [أي تلذُّذه بالعذاب والألم] في الفصول الثلاثة الأخيرة، باعتباره «شاعرًا رائعًا». وينبغي ألا نستهين بسخرية باتر؛ فهو الناقد الجمالي العظيم الذي لم يكن يهتم بالدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، وكان يعلم حقَّ العلم أن ريتشارد كان رجلًا أجوف، ومع ذلك فكان يريد أن يحكم على شاعرٍ باعتباره شاعرًا وحَسْب. وكما قال باتر بحيوية دافقة مدهشة (بالنسبة إليه) «كلا! ليس ملوك شيكسبير، بل وليس المقصود أن يكونوا، رجالًا عظماء.» ويُصرُّ بضعة نقاد من ذَوي الحصافة على أن ريتشارد الثانيَ ليس، بل وليس المقصود أن يكون عظيمًا ولا حتى شاعرًا مُجيدًا. ويعتقد أ. ب. روسيتر أن ريتشارد «بالقطع شاعرٌ بالغ الركاكة» ويوحي ستيفن بوث بأن ريتشارد لم يكن يستطيع التمييزَ بين التلاعب بالألفاظ وبين التلاعب بالأشياء. فالتوريات الساخرة في أبْنِية الجُمَل وفي اللغة المجازية كثيرةٌ في ريتشارد الثاني، ويبدو أن شيكسبير يتعمَّد أن يجعلنا نشعر بالضيق من كل شيء يقوله كل فرد، بلا مبالغة، في المسرحية. وفي هذا الصدد على الأقل تعتبر ريتشارد الثاني «افتتاحية» لمسرحية هاملت. فإن هاملت نادرًا ما يعني ما يقول، أو يقول ما يعنيه، وكما أشرتُ آنفًا، فهو يستبقُ مقولة نيتشه الشهيرة بأننا نجد الألفاظ لِما مات من قبلُ في قلوبنا، بحيث يوجد دائمًا ازدراءٌ من نوعٍ ما في فعل التكلم. وعندما يبدأ ريتشارد في الفصل الخامس كلامَه بنبراتٍ توحي بأنه يُحاكي إلى حدٍّ ما، ما سوف يكون عليه هاملت، فإن فقداننا للشفقة في الملك يظلُّ بالغًا، كما نتبيَّن أنه قد دأب على إبهارنا منذ الفصل الثالث، المشهد الثاني، وإن كان ذلك بالتألُّق اللفظيِّ المحض. فالواقع أن استعاراته بالغة التركيب من تلك اللحظة حتى النهاية، إلى الحدِّ الذي يجعلني أتساءل أحيانًا إن كان شيكسبير قد قرأ بعضَ قصائد جون دَن المبكرة التي لم تنشر إلا عندما ظهر كتابُه أغانٍ وسونيتات عام ١٦٣٣م؛ أي بعد وفاة دَنْ بعامَين. ولكن هذا للأسف، غير محتمل، فقد كُتبت ريتشارد الثاني عام ١٥٩٥م، وإذا كان شيكسبير بلا شك قد قرأ بعض أشعار دَن التي كان مخطوطها مُتاحًا لعموم القراء، فالأرجح أنها كانت المراثي الأوفيدية لا القصائد التي نُشرت في أغانٍ وسونيتات. وذلك غيرُ مهم، ما دام شيكسبير يبتكر شعرًا ميتافيزيقيًّا في قصائد النعي والمونولوجات التي يُلقيها ريتشارد، وربما شاهد دَنْ أحدَ عروض ريتشارد الثاني على المسرح، بحيث يمكن أن يكون التأثر (أو تكون المحاكاة) من جانبِ دن لا شيكسبير، وعلى أية حال، فالأسلوبان يشتركان في الكثير، وإن كان شعر دَنْ هو الشعرَ الحقيقي، وما كلام ريتشارد إلا التغنِّي الباكي — المُتْعِبُ والمشكل — على استشهاد الملَكِيَّة. ومقارنات ذاته بيسوع — عليه السلام — مزعجة، ولو أنها، من الناحية التقنية، لا تُعتبر تجديفًا في الدين، ما دام ريتشارد لا يرى أنه يشترك في أيِّ جانب من جوانب يسوع — عليه السلام — باستثناء أنه مسح على رأسه بالزَّيت المقدس.

ولما لم يكن شيكسبير يقصد أن يجعلنا نُحب ريتشارد، ولم يكن أحدٌ يستطيع أن يحبَّ الغاصب بولينبروك، لم يجد المؤلف صعوبةً تُذكر في إقامة مسافةٍ تفصل بيننا وبين الحدَثَين الوحيدين في المسرحية: التنازل عن العرش والقتل. ومهما يكن الحكمُ الذي يُصدره أيُّ ناقد فردٍ على شعر ريتشارد، فإن الفصول الثلاثة الأخيرة تعتمد اعتمادًا كليًّا تقريبًا على أصالةِ لغة ريتشارد وقوتها. وربما استطعنا أن نقول إن ريتشارد يتمتع بلغةِ شاعرٍ كبير، ولكنه يفتقر إلى اتساع النطاق، ما دام موضوعه الوحيد هو ضروبَ معاناته، خصوصًا الإهانات التي يتلقاها ما دام الملك الشرعي. والدليل على أدائه باعتباره ملكًا يُصادفنا في وقتٍ مبكر عندما نشهد رد فعله في نهاية الفصل الأول إزاءَ المرض الأخير لعمِّه جون جونت، والد بولينبروك الذي ذهب لِتَوِّه إلى المنفى، وقُدِّر له أن يعودَ من الخارج لعزل ريتشارد. ولم يكن جونت إلا بارونًا لصًّا زاد سوءُه عن معظمِ البارونات، ولكن شيكسبير الذي يحتاج إلى نبوءة في هذه المسرحية يُرَقِّي جونت فيجعله نبيًّا وطنيًّا. وجمود مشاعر ريتشارد تختتم الفصل الأول:

ريتشارد :
فلْيُلهم الله الطبيب أن يُسرع به إلى القبر!
فإن بطانة خزائنه تكفي لصناعة ثيابِ جنودنا
الذاهبين إلى القتال في أيرلندا.
هيا أيها السادة جميعًا حتى نعودَه في مرضه،
وأدعو الله أن نُسرع ثم نصل رغم ذلك
بعد فوات الأوان!
(١ / ٤ / ٥٩–٦٤)

وهذه مقدمةٌ رائعة تُناقض نبوءةَ جونت الشهيرة وهو على فِراش الموت، وبشاعتها الواضحة تتناقضُ مع روح جونت غير الدنيوية:

جونت :
إخالُ أن أنفاسي وحيٌ جديد جعلَتْني نبيًّا،
وهاكم نبوءةُ آخِر أنفاسي عنه:
إن نار رعونتِه الملتهبة لن يُكتب لها الدوام؛
فسرعان ما يخبو الضِّرام إذا استَعر!
والرَّذاذ الذي يتساقط في بطءٍ يستمر طويلًا،
والوابل المباغت قصير الأجل،
وسرعان ما يصيب التعب الراكب السريع،
الذي يبادر إلى الركوب في البكور،
والطاعم النهم الشرِه يغَصُّ بطعامه!
والخُيَلاء الجوفاء مثل غراب الماء الذي لا يَشبع أبدًا؛
إذ تستهلك المال وسرعان ما تُهلك صاحبها!
انظروا إلى هذه الجزيرة ذات الصَّولجان،
عرش الملوك وسلطانهم! وإلى هذه الأرض الجليلة،
حيث يقيم رب الحرب، وحيث تمتد جنة عَدْن الثانية
قرينة الفِردوس!
وإلى هذه القلعة التي بنَتها الطبيعة لنفسها؛
لِتَحميَها من وباء الحرب وأيادي الأعداء!
وإلى هذه السُّلالة من الهانئين بهذا العالم الصغير،
وهذه الجوهرة الكريمة التي رُصِّع بها البحر الفِضِّي،
الذي يقوم مقام السور الذي يُحيط بها،
أو الخندق المتْرَع بالماء حول منزل من المنازل،
يصدُّ عنه طمع الأشقياء التعساء!
وإلى هذه البُقعة المباركة من الأرض، هذه المملكة،
إلى إنجلترا التي حمَلَت ثم أرضعَت الملوك الذين
خشيهم الناس لنسَبِهم وحسَبِهم،
واشتهروا بكرم أرُومتهم،
وطار صيتهم في الآفاق لبطولاتهم خارج الوطن
وإخلاصهم للمسيحيَّة، وفروسيتهم الصادقة
التي تجلَّت في إنقاذ ضريح المسيح
من أيدي اليهود الألدَّاء،
وهو الذي أنجبَته العذراءُ البتول ليُخلص العالم!
انظروا ما حدث لهذه الأراضي،
التي يقطنها أحباؤنا الأعزاء،
تلك الأراضي الحبيبة الغالية،
التي ذاعت شهرتها في العالم كلِّه،
بل التي لا تُقدر بمال!
لقد أصبحَت رهينةً في أيدي المستأجرين،
أقولها وأنا على شفا الموت — مثل الأكواخ المستأجرة،
والمزارع الصغيرة!
انظروا إلى إنجلترا التي يحيط بها بحرُ النصر،
وحيث تصد صخور شاطئها،
حصار ربِّ البحر الحَقود الحسود!
كانت تلك حدودها! أما الآن فالعار يرسم حدودها:
بقعٌ من الحبر على عقود إيجار من الرَّقِّ البالي!
انظروا كيف تحولت إنجلترا،
من دولةٍ درَجَت على قهر الآخرين،
إلى دولةٍ قهرَت نفسها قهرًا فاضحًا!
(٢ / ١ / ٣١–٦٦)

كانت لهذه الجعجعةِ الوطنية الأخاذة، والطنطنة المماثلة من هنري الخامس، حفيد جونت في هذه المسرحية، أروعُ أصداءٍ في لندن في الفترة ١٩٤٠-١٩٤١م عندما كانت إنجلترا تقف وحدها ضد هتلر. ولا يزال الإعجاب بهذين الضربين من الترانيم ممكنًا باعتبارهما بلاغةً وحسب، ولكن تحليلهما يأتي بالمتاعب. ويجعلنا شيكسبير نعجبُ من أن هذا الفردوس الآخَر مقر إقامة مارس، ربِّ الحرب، فإنه ليس من الأرباب الذين نقرنُهم عادةً بجنات عدن. ويتضمن الحديث أيضًا نبوءة ساخرة — بالحملات الملكية الصليبيَّة «في خدمة الدين المسيحي والشهامة الحقيقية» — وذلك غير مقصود من جانب جونت، ما دام ابنه بولينبروك، الذي تأكد جلوسه على العرش باسم هنري الرابع بسببِ قتله ريتشارد الثاني، سوف يُقسم في ختام المسرحية على أن يُكفِّر عن الجريمة بقيادة حملةٍ صليبية:

لكنَّنِي لا بُدَّ أنْ أقُومَ بالتَّرْحَالِ لِلْأَرْضِ المُقَدَّسَة؛
حَتَّى أُزِيلَ هذِهِ الدِّمَاءَ مِنْ يَدِي المُدَنَّسَة!

ولم يكن لدى «اليهود الألِدَّاء» الذين كان بعضُ الملوك الإنجليز قد قتَلوهم في مدينة يورك وفي القدس، ما يخشَونه من هنري الرابع، الذي اختزلَت حملتُه الصليبية في الوفاة في غرفةِ أورشليم في قصره، وانتقل حماس الصليبيين إلى هنري الخامس، الذي صَبَّ جامَ غضبِه على الفرنسيين لا على اليهود، كما كان جميعُ أفراد الجمهور يعرفون. ويقلُّ حبُّنا لجونت باعتباره نبيًّا عن حبنا له وهو يستهزئ بريتشارد استهزاءً مباشرًا بسبب شراهته التِّجارية؛ إذ يقول له «لقد أصبحت مالكًا لأرض إنجلترا لا ملكًا عليها» وعندما يموت جونت يصادر ريتشارد فرحًا «أدوات طعامه وبضائعه وأمواله وعقاراته».

ويصل الانتقام مع بولينبروك، الذي يصل إلى إنجلترا قائدًا لقوةٍ مسلحة، فيلقى الترحيب من سائر زملائه النبلاء. وبختام الفصل الثاني نبدأ في فهم لغة السياسة في هذه المسرحية. فإن بولينبروك وأنصاره يُصرُّون على أنه لم يعد إلا للحصول على ميراثه؛ أي حتى يُصبح دوق لانكاستر، كما كان والده جون جونت. ولكن الجميع يعرفون أنَّ الرجل الذي سيُصبح هنري الرابع قد وصل للحصول على تاج المُلْك، وسوف يستغل شيكسبير هذا النفاقَ بمهارةٍ رائعة حتى لحظة إرغام الملك على التنازل عن العرش. وهكذا، فأثناء انشغال ريتشارد بالحربِ في أيرلندا، يقوم بولينبروك — باسم ريتشارد — بقتل كلِّ مَن يستطيع القبضَ عليه من أقرب أنصار ريتشارد، ويُرسل في حرصٍ رسائلَ ودٍّ إلى الملكة زوجةِ ريتشارد، وهو ما يعني أنها في عداد السجناء. وقد أعدَّنا شيكسبير لمشهدٍ من أعظمِ المشاهد تأثيرًا، وهو مشهد وصول ريتشارد إلى ساحل ويلز عائدًا من أيرلندا، في جهلٍ تام بأنه، من الزاوية البرجماتية، قد عُزِل عن العرش.

٣

والتدمير الذاتيُّ الذي يقوم به ريتشارد الثاني، الذي كان قد قطع شوطًا كبيرًا قبلَ عودته، يتأكَّد في الخُطَب والإيماءات التي تتسم بها عودته إلى الوطن. فتحيَّتُه إلى أرض ويلز تُهيب بها أن تهبَّ لقتال بولينبروك، ودفاعه عن هذه المبالغة يُرثى له:

لا تسخَروا أيها اللوردات من مُخاطبتي للجماد!
فسوف ترون أن هذه الأرض تحسُّ وتشعر،
وأن هذه الأحجار قد أصبحَت جنودًا مسلَّحة،
قبل أن يسقط مليكها الأصيل
تحت ضربات أسلحة المتمرِّدين الآثمة!

ويزداد رثاؤنا له عندما يُشَبِّهُ نفسه بالشمس المشرقة، فهي صورة أبعد ما تكون ملاءمةً لرجل غربَت شمسُه:

وهكذا فإن هذا اللِّص، هذا الخائن بولينبروك،
ظل يرتع طول الليل الذي غِبنا فيه
في النصف الآخر من العالم، وسوف يرانا
نُشرق على عرشنا في الأفق الشرقي،
فيحمرُّ وجهه خجلًا من خيانته،
ولن يستطيع الصمود لمرأى النهار،
لكنه سيرتعد لمرأى ذاته بسبب خطيئته!
ولن تستطيع مياه البحار المائجة الهائجة كلها
أن تُزيل الزيتَ المقدس الذي مُسح به على رأس الملك!
ولا تستطيع إرادةُ الرجال من أبناء هذه الدنيا
أن تخلع الملك الذي اختاره الله خليفةً فيها،
وفي مقابل كل رجل أجبره بولينبروك
على رفع الفولاذ الصارم على تاجِنا الذهبي
أعد الله ملاكًا عظيمًا، في السماء رزقه،
لحراسة خليفته ريتشارد وحمايته منه.
فإذا حاربت الملائكة
فلا بدَّ أن يسقط أبناء البشر الضعفاء؛
فالله ينصر الحقَّ على الدوام.
(٣ / ٢ / ٤٧–٦٢)

وهذه الرؤيا لحشودٍ من الملائك المسلحة تؤدِّي إلى تساؤل ريتشارد في قلقٍ عن مكانِ جيشه الويلزي؛ إذ كان هذا الجيش قد انفرط عِقدُه في اليوم السابق بعد أن ترددَت شائعات عن وفاته. وعندما يتبين أن الجميع قد تخلوا عنه، يسلم نفسه إلى يأسٍ حافل، ويُعبر عنه بقوة بالغة تتجاوز كل فصاحة سابقة عند شيكسبير:

ريتشارد :
لا يعنينا أين يكون، ولتكفوا عن التسرية
وحديث الأمل،
وليكن حديثُنا الآن عن المدافن والدود وشواهد القبور،
ولنجعل التراب أوراقنا ثم نذرف العَبَرات مدادًا،
نكتب به كلماتِ الأسى على صدر الأرض!
علينا أن نختار مَن نعهد إليه بالوصية،
ونتحدث عن تفاصيلها، ولو أن ذلك عسير!
فماذا عسانا أن نُوصي به في التركة
سوى أجسادِنا المنبوذة التي ترثُها الأرض؟
لقد أصبحت أراضينا وأرواحنا وكلُّ ما كان لنا
في أيدي بولينبروك، ولا نستطيع ادِّعاء مِلكيَّة شيء
سوى الموتِ وذلك القالبِ الصغير من الأرض العقيم
الذي يُشبه الفطيرةَ التي تضمُّ عظامَنا وتسترها!
أحلف باسم الله لأَجْلِسَنَّ على هذه الأرض،
ولْنَجلسْ جميعًا،
حتى نقصَّ قصصَنا الجادة، عن موت الملوك،
كيف خُلع بعضُهم عن العرش،
وكيف قُتل بعضهم في الحرب،
وكيف طاردَتْ بعضَهم أشباحُ مَن قتلوهم،
وكيف مات بعضهم بالسُّمِّ الذي دسَّتْه زوجاتهم،
وكيف قُتل البعض وهم نائمون —
فالقتل مصيرُ الجميع!
ففي داخل التاج الأجوف الذي يُحيط برأس الملك،
ويصل ما بين فودَيه الفانيَين،
يعقد الموت مجلسَ البلاط له،
وفيه يجلس ذلك المهرِّج ساخرًا من مكانته،
ضاحكًا من أُبَّهتِه،
ولو أنه يسمح له بهُنَيْهةٍ ومشهدٍ قصير يؤدي فيه
دورَ الملك؛ إذ يخشاه الناس،
ويقتل مَن يشاء بنظرةٍ واحدة،
ويُفعِم ذاته بالغرور الخادع، والزَّهو الكاذب،
والأمان الزائف، فكأنَّ ما يضمُّ روحَنا من لحمٍ ودَم
درعٌ نحاسيٌّ حصينٌ منيع. وبعد أن يُسايره الموت فترةً
يعود في النهاية وبيده دبوسٌ صغير
يخرق به سور القلعة. وهكذا نودِّع الملك!
أعيدوا قبَّعاتكم إلى رءوسكم،
ولا تَسخروا بهذا الاحترام المرسوم
ممَّن لا يَزيد عن كِيانٍ من اللحم والدم! انبذوا التبجيل
والتقاليد والشكلياتِ والواجبات الرسمية؛
فلقد أخطأتم فَهْم مَن أكون طيلةَ هذه المدة؛
فلست إلا بشرًا مثلكم آكل الخبز، وأحسُّ بالحاجة،
وأذوق طعم الأحزان، وأحتاجُ إلى الأصدقاء.
وما دمتُ أخضع لذلك مثل الرَّعية فكيف تقولون لي
إنني مَلِك؟
(٣ / ٢ / ١٤٤–١٧٧)

حتى تُدرك ما يُعتبر ضدَّ هذا الموقف؛ تأمَّلْ قولَ الملك لير «هذا دواؤكم يا أغنياء! يا مَن لبستم حُلة الخيلاء!» أي إنَّ في إدراك المَلِكِ العظيم للفناء الذي هو مصير الجميع، بابًا مفتوحًا أمام الجميع، أمام الفقراء البائسين الذين لا يجدون ما يسترهم، أينما يكونوا، والذين يُعانون العاصفة القاسية مع لير. أما ريتشارد فلا ينفتح إلا لريتشارد، وللملوك الذين قُتلوا من قبله. ولكنه منفتحٌ أيضًا على الشعر الأعظم، وبعمقٍ مستمد من اللغة الدارجة يدهش السامع:

باللهِ عَلَيْكُمْ فَلْنَجْلِسْ فَوْقَ التُّرْبَةِ،
وَنَقُصَّ حِكَايَاتٍ مِنْ شَجْوٍ عَنْ مَوْتِ مُلُوكْ.

وأجملُ مِن هذه الصورة صورةُ المهرج الذي يعود «وبيده أصغر دبوس» يخرقُ به حِصنَ الملك؛ فهذه لمسةٌ شعرية عظيمة جديدة. والطابع الماسوكي لهذه الصور الحافلة يبرز لنا بوضوحٍ عندما يقال لريتشارد إن دوق يورك، نائب الملك في الحكم أثناء غياب الملك، قد تخلَّى عنه أيضًا وانضم إلى بولينبروك، بحيث انخفض عدد أنصار ريتشارد إلى ما لا يَزيد عن حفنة:

تَعَسًا لَكَ يا ابنَ العَمِّ! يا مَنْ ضَلَّلْتَ خُطَاي،
فَتَنَكَّبْتُ الدَّرْبَ الأَحْلَى المُفْضِي لِلْيَأْسِ [إلى أوميرل].
(٣ / ٢ / ٢٠٤–٢٠٥)
وبعد ذلك ينطلق يأس ريتشارد واثبًا وثبةً تتجاوز ذاته، وربما كان بهذا يبتكرُ خصيصةً أخرى من خصائصِ الشخصية الإنسانية، ألا وهي مَيلُنا إلى أن نتكلم كأنَّ الأحوال وصلَت إلى أسوأِ ما يمكن، وإذا بنا نُصغي إلى كلامنا هذا فنَزيد الحال سوءًا على سوء. وهكذا يُصبح ريتشارد مضادًّا لإدجار، نقيض ريتشارد في الملك لير الذي يؤثِّر فينا بخطابه العظيم الذي يستهل به الفصل الرابع:
هذا أَفَضَلْ! أنْ تُدْرِكَ أَنَّكَ مُحْتَقَرٌ،
خَيْرٌ منْ أَنْ يَمْدَحَكَ النَّاسُ وهُمْ يَحْتَقِروُنَكْ.
مَنْ يَبْلُغْ أَسْوأَ حَالٍ، أو يَهْبِطْ لِلدَّركِ الأَسْفَل،
وأَحَطِّ مَنَازِلِ فَلَكِ الحَظِّ الدَّوَّارْ،
لَنْ يَعْدِمَ رُوحَ الأَمَلِ ولَنْ يَحْيَا في خَوْفْ!
إذْ لا يَخْشَى التَّغْييرَ سِوَى مَنْ بَلَغَ الذِّرْوَة،
أَمَّا عِنْد القَاعِ فَإنَّ التَّغْييرَ يَصيرُ إلى فَرَحٍ وسُرُورْ!
وإذنْ مَرْحَى بِهَوَاءٍ كالعَدمِ يُعَانِقُ جَسَدًا مُعْدِمْ!
نَسَماتُكَ أَلْقَتْ بالبَائِسِ في أَسْوأ حَالٍ ولِذَا
لا أَحْمِلُ دَيْنًا لِلنَّسَماتْ!
(الملك لير ٤ / ١ / ١–٩)
ونحن نتساءل، هنا وفي أماكنَ أخرى، إن لم تكن أوجهُ التناقض بين ريتشارد الثاني وبين الملك لير متعمدة. وريتشارد يعجز عن ترديد قول الملك لير «الأسوأ يرجع للضحك» — بمعنى استنكار الواقع — مثلما يعجز عن الإحساس بالدهشة التي أصابت الملك لير عند إدراكه غيريَّةَ الغير. ويتجاوز إدجار [في الملك لير] موقفَ ريتشارد تجاوُزًا كبيرًا عندما يُشاهد والده الذي سُمِلَت عيناه: «مَن يستطيع أن يقول إنه في أسوأ الأحوال حقًّا؟/ما دام يستطيع أن يقول الآن زادَ حالي سوءًا!» ولكن ريتشارد لا يتوقَّف عن القيام بعمل بولينبروك بدلًا منه، فيتنازل عن مملكته وهو يبني ترانيمَ ميتافيزيقية:
ماذا على الملك أن يفعلَ الآن؟ هل يخضع؟
سيفعل الملكُ ذلك! ألا بدَّ مِن خلعِه؟
سيرضى الملكُ بذلك! هل سيفقد اسم الملك؟
فليذهَبْ عني باسم الله!
سأحمل مِسبحةً بدلًا من الجواهر،
وأستعيض بالدير عن قصري الفاخر،
وبثوبِ شحاذٍ عن ملابسي،
وبصَحْفةٍ خشبية عن الكئوس المزيَّنة بالتصاوير،
وبعَصا الحجَّاج عن صولجاني،
وببعض أيقونات القديسين عن الرعايا،
وبقبرٍ صغير عن مملكتي الشاسعة،
بقبرٍ صغير صغير، بقبر لا تَلْحظه العين،
أو أدفن في الطريق العام، في طريقٍ تغشاه السابلة؛
حيث تطأ أقدامُ الرعايا رأسَ ملكهم في كل ساعة!
فما داموا يطَئون قلبي الآن في حياتي،
فلماذا لا يطَئون رأسي بعد مماتي؟
إنك تبكي يا أوميرل!
أنت تبكي يا ابنَ عمي يا رقيق القلب!
سأبكي معك حتى تملأَ دموعُ الذل جوَّ السماء فيكفهرَّ،
وتهبَّ أنفاسُنا وآهاتنا عاتية مع وابلِ العَبَرات،
حتى تقتلع قمح الصيف وتَذْروه هباءً،
فتحل المجاعة في أرض التمرُّد والعصيان!
أم ترانا نتنافس مثل الصِّبيان في لعبة البكاء؛
كيما نسخر من أحزاننا ونلهو، فيذرف كلٌّ منا دموعه،
فوق بقعة بعينها حتى نحفر في الأرض قبرين،
ثم نُدفن فيهما؟ وسيكتب على شاهد القبر:
«هنا يرقد اثنان من الأقارِب،
حفرا قبريهما بدموع العين!»
هل يجدي هذا اللهو الخبيث؟ لا لا! هذا هذر وهراء
وأنتم تضحكون مني!
قل أيها الأميرُ العظيم يا نورثمبرلاند:
ماذا يقول الملك بولينبروك؟ هل يسمح جلالته
بأن يعيش ريتشارد حتى يوافيه الأجل؟
إنك تنحني أمامي لتُعلن موافقة بولينبروك!
(٣ / ٣ / ١٤٣–١٧٥)

وحين يبدأ ريتشارد كلامه لا يستطيع التوقُّف، كما في عبارة «بقبرٍ صغير … بقبرٍ صغير صغير، بقبر لا تَلْحظُه العين.» وهذا التأسِّي على حاله يُغضب النقاد «الأخلاقيِّين»، ولكنه أسعدَ ييتس الشاعرَ الأيرلندي العظيم سعادةً كبيرة؛ إذ كان يرى أن ريتشارد يتمتَّع بخيالٍ ذي رُؤًى أُخروية. فالتخيُّلات المتألقة التي تستدرُّ العَبرات من عينَيه تتضمَّن توريةً رُؤَويَّةً جديدة عند شيكسبير وتستبقُ شعر جون دَنْ. فالحوار المبدئيُّ بين الملك الذي تسبب في هزيمة نفسه وبين بولينبروك المنتصر تنقله قوة التورية الساخرة إلى موقف ذي تعقيد مسرحي يعتبر جديدًا أيضًا عن شيكسبير.

بولينبروك :
أفسِحوا الطريق واصطفوا لأداء واجب التحية لجلالته.
(يركع.)
مولايَ العظيم!
ريتشارد :
قم يا ابن عمي الكريم!
إنك تحط من شأن ركبتِك النبيلة،
حين تجعل الأرض الوضيعة تزهو بتَقبيلها!
كم كنت أفضِّل أن يشعرَ قلبي بمحبَّتك،
على هذه المجاملة التي لا تسرُّ عيني!
انهض يا ابن عمي انهض! فقلبُك ناهضٌ للعُلا،
وأنا واثق من ذلك! [مشيرًا إلى التاج]
إلى هذا المستوى على الأقل،
وإن كانت ركبتك تمسُّ الأرض!
بولينبروك : مولاي الكريم! لم أحضر إلا من أجلِ أملاكي!
ريتشارد : أملاكك لك، وأنا لك، والجميع لك!
بولينبروك :
لم أمتلك شيئًا يا مولايَ المهيب المعظَّم،
إلا بحقِّ إخلاصي في الخدمة وجدارتي بحبكم!
ريتشارد :
بل أنت جديرٌ به كلَّ الجدارة! لا يستحق أن يملك
إلا من يعرف سُبل الامتلاك القوية والمؤكدة!
أعطني يدَك يا عمي! لا! جفِّف دموع عينَيك!
فالدموع تظهر الحب، مثلما تظهر العجز
عن علاج أسباب البكاء!
أما أنت يا ابن عمي، فإنني أصغرُ من أن أكون والدًا لك،
وإن كانت سنُّك تسمح لك أن تكون وريثي،
وسوف أعطيك كلَّ ما تريد، وعن رضًا أيضًا،
فلا بد أن نفعل راضِين ما لا مفر من فعله مرغَمين!
هل تريدنا أن نتَّجه إلى لندن يا ابن عمي؟
بولينبروك : نعم يا مولايَ الكريم.
ريتشارد : إذن فلا اعتراضَ عندي.

(تُدوِّي الأبواق ويخرج الجميع.)

(٣ / ٣ / ١٨٧–٢٠٩)

وقد يتساءل المرء: «وما عسى أن يفعل ريتشارد سوى ذلك؟» والإجابةُ هي «أيُّ شيء مهما يكُن، إلا تسهيلَ مهمة بولينبروك هذا التسهيل الكبير.» وريتشارد يستمتعُ بتورياته الساخرة هنا، ولكنها سوف تقضي عليه، على الرغم من متعتها الجمالية البالغة لشيكسبير ولنا. ومشهدُ الحديقة التالي، الذي يعتبر فاصلًا داخل الحدث (٣/٤) يسمح للملكة زوجةِ ريتشارد بأن تتحدث عن كارثة زوجها باعتبارها «سقوطًا ثانيًا للإنسانِ وخروجه ملعونًا من الجنة»، ولكن ذلك لا يَزيد إقناعَه لنا عن محاولات ريتشارد بإقامةِ التوازي بين مِحنته وما حدث للمسيح — عليه السلام. وأما ما يُثير القلق فهو النبوءة الجسورة التي يقدمها أسقف كارلايل بشأن بولينبروك:

إن اللورد هيرفورد الذي تَدْعونه ملكًا
خائن أثيم للملك ذي العزَّة والسلطان على هيرفورد!
وإذا وضعتم التاج على رأسه، فإني أتنبَّأ بما يلي:
ستسيل دماءُ الإنجليز حتى تخصبَ الأرض،
وتكابد الأجيالُ المقبلة الأمرَّينِ من هذه الفعلة الشنعاء!
سيخلد السلمُ للرُّقاد عند الأتراك والكفار،
وتندلع الحروب المضطرمة في بلادنا مقرَّ السِّلم،
فيقتل الأقاربُ والأقران بعضُهم بعضًا،
وتنشب الفوضى ويشيع الرعب والفزع وتقيم الثورة
بين ظهرانينا، حتى يُطلق الناسُ اسم ميدان جُلْجُثَة،
وجماجم الموتى على هذه الأرض!
فإذا وقع الشقاق في هذا المجلس،
وثار بعضُه على بعض،
فسوف يُثير الانقسام من الأحزان
ما لم تشهده هذه الأرض الملعونة يومًا ما،
فتحاشَوا ذلك وقاوِموه وامنعوا وقوعه
حتى لا يقول أطفالُكم وأطفالُ أطفالِكم «ويلٌ لكم!»
(٤ / ١ / ١٣٤–١٤٩)
وسوف يتعرَّض الأُسقفُّ للمعاناة نتيجةَ قوله الحقَّ هنا، ولكن شيكسبير لا يقف إلى جانبِ أحد الأطراف ولا إلى جانب الأطراف جميعًا؛ فإن بولينبروك وأنصاره أوغاد وبلطجية، وأما ريتشارد، فبعيدُ الشبه بالملك لير، وليست فيه ذرةٌ ملَكية واحدة. وساعَد لورد ساوثامتون في وضع الترتيبات اللازمة لتقوم فرقة شيكسبير المسرحية بتقديم عرضٍ لريتشارد الثاني، باعتبارها مقدمةً لتمرُّد اللورد إيسيكس ضد الملكة إليزابيث في عام ١٦٠١م؛ أي بعد ستِّ سنوات من أول عرض للمسرحية. ولم يكن شيكسبير ليشعرَ بالسعادة لذلك، ولكن الواضح أنه لم يكن يستطيع أن يرفض، وقد ابتسم الحظُّ له حين لم يؤد العرض إلا إلى التعليق الساخر الذي قالته الملكة إليزابيث وهو «إنني ريتشارد الثاني، ألا تعرفون ذلك؟» ولكن لورد إيسيكس لم يكن بولينبروك، ولم تكن إليزابيث على الإطلاق ريتشارد، ولم يكن شيكسبير يرضى أن يزجَّ به إلى موطن خطر عليه، فلم ينسَ قط ما فعلَته الدولة بكريستوفر مارلو وتوماس كيد.

وتزداد فصاحةُ ريتشارد المدمِّرة لذاته، مشهدًا بعد مشهد، وبناءً على دعوة بولينبروك للتنازل عن التاج، يصلُ ريتشارد ويُشبِّه نفسه بالمسيح مرة أخرى. ويُحيل الحفلَ الرسميَّ إلى رقصةٍ ميتافيزيقية للاستعارات المركَّبة والتوريات الساخرة:

ريتشارد :
هاتِ التاج. هاكَ يا ابن عمي! أمسِك التاج!
سأُمسكه بيدي من هذا الجانب، وتناوَلْه أنت من الجانب الآخَر،
إن هذا التاج الذهبي يشبه البئر العميقة،
يتدلى فيها دلوان، يملأ أحدهما الآخر،
أما الفارغ فيرقص دائمًا في الهواء،
وأما المليء بالماء فلا نراه في غيابة الجُب،
أما الدلو السفلي المترع بالدموع فهو أنا،
أجرع أحزاني بينا تصعدُ أنت إلى أعلى!
بولينبروك : ظننتُ أنك تريد النزولَ عن المُلْك!
ريتشارد :
بل عن التاج فحَسْب! لكنني لن أنزل عن أحزاني!
في طوقك أن تخلعَ عني أمجادي ومُلكي،
لكنك لن تخلع أحزاني. فما زلتُ ملكًا لها!
بولينبروك : إنك تُعطيني بعضَ همومك مع تاجك.
ريتشارد :
ما يهمُّك من هموم لن ينتقصَ من همومي،
فهمِّي فقدان الهم، ضيَّعه همِّي السابق،
وهمُّك اكتسابُ الهم، يأتي به همٌّ جديد،
والهموم التي أنزل عنها لم تبارحني وإن فارقتها،
صحيحٌ أنها تكتنفُ التاج ولكنها ما تزال في نفسي!
بولينبروك : هل رضيتَ بالنزول عن التاج إذن؟
ريتشارد : نعم — لا، لا! — نعم! فلا بد أن أُصبح عدمًا.
(٤ / ١ / ١٨١–٢٠١)

ويمكن للمرء أن يشعرَ بالحزن للتجاور الذي يقيمه شيكسبير بين رجلِ الكلام والسياسيِّ الوحشي، إذا كانت الدراسةُ النقدية للشعر هي القضية، ولكنها بطبيعةِ الحال ليست القضيَّة، وتلاعب ريتشارد بالألفاظ تلاعبًا طريفًا يصرفه عن بذْلِ أية مقاومةٍ فعالة. وهو لا يستطيع إيقاف تيار فصاحته الخاصة:

و «لا لا» تعني نفي النفي، واستسلامي لك!
انظر الآن كيف أنفي وجودي وأخلع ذاتي
إني أقدمُ لك ما أخلعه من حملٍ ثقيل عن رأسي،
ومن صولجانٍ جشيمٍ عن يدي،
ومن كبرياء السلطان الملكي من قلبي!
وبعبراتي أغسل الزيت المقدَّس الذي مُسح به عليَّ
وبيدَيَّ هاتين أتخلى عن تاجي،
وبلساني هذا أنكر مُلْكي المقدَّس،
وأُحِلُّ الجميعَ من يمين الواجب التي حلَفوها،
وأَنبِذُ كلَّ مظاهر الأبَّهة والجلال،
وأنزل عن أملاكي وإيجاراتي ودخولي،
وألغي كل أوامري ومراسيمي وقوانيني،
وليغفر الله لكلِّ مَن حنث بيمينٍ حلفها لي
وليساعِد الله كلَّ من أقسم لك على أن يبرَّ بقسَمِه،
لقد أصبحتُ صِفرَ اليدَين، فلْيجعَلْني صِفْرًا من الحَزَنْ!
وليمتعْكَ بكل شيء، بعد أن أتاك كلُّ شيء!
أدعو الله أن يُطيل عمرك جالسًا على عرش ريتشارد،
وأن يُعجِّل بنزول ريتشارد إلى الحفرة الأرضية،
«فليحفظ الله الملك هنري» هو ما يقوله ريتشارد،
الذي نزع منه الملك، ويدعو له بسنواتٍ كثيرة مشرقة!
هل بقي شيءٌ آخر؟
(٤ / ١ / ٢٠٢–٢٢٢)
إن ريتشارد هنا ممثلٌ وشاعر غنائي، وهو أقدرُ على الالتحاق بفرقةِ شيكسبير المسرحيَّة من احتمال استشهاده بصفته ملكًا قد مُسِحَ على رأسه بالزيت القدسيِّ ما دام لم يستطع الإبقاءَ على هذه الصفة وتبريرها بسلوكٍ ملكي. والتمسرُح (theatricalism) الرفيع يصل إلى درجةِ التأليه عندما يُصدر آخِرَ أوامره بصفتِه الملكية، ألا وهو طلب إحضارِ مِرآةٍ حتى يُبصر ذاتَه فيها ويرى إن كانت الذاتَ نفسَها التي يعهدُها. وشيكسبير يستغلُّ هذه النزوةَ الأخيرة وينتقدُها من خلال استعراضه «المتبهرج» لتحرره من مارلو، الذي ظلت مسرحيته إدوارد الثاني تُحوِّمُ فوق هذه المسرحية، وعلى مسافةٍ قريبة، في شتى أرجائها. وهل يمكن لشيكسبير أن يرسل إشارةً أوضح على استقلاله إلى الجمهور من هذه المحاكاة الساخرة المذهلة لإحدى الفقرات ذاتِ البلاغة التي ساء صيتُها، ألا وهي مناجاة الدكتور فاوستوس لهيلين الطروادية، والتي يستهلُّها مارلو بالأسطر الشهيرة:
هَلْ كانَ إِذَنْ هذَا وَجْهَ امْرَأَةٍ،
دَفَعَتْ ألْفَ سَفِينٍ للإبْحَار؟
هَلْ أَحْرَقَ هذَا الوَجْهُ الأَبْرَاجَ الشَّمَّاءَ بِقَلْعَةِ «إلْيُومْ»؟

إن شيكسبير يتفوَّق على فِقْرةِ مارلو بتصوير النرجسية الصارخة المستميتة، وذلك عندما يُصبح مجدُ الملك الضائع بديلًا عن هيلين الطروادية:

أعطِني تلك المرآة وسوف أقرأ ما فيها!
ألم تبرز الغُضون الغائرةَ بعد؟ هل لطمَني الحزنُ
كلَّ هذه اللطمات على وجهي دون جروحٍ غائرة!
يا لكِ مِن مرآة مُداهنة! لكَم تُشبهين أتباعي
الذين كانوا يخدعونني في أيام العِز!
هل هذا هو الوجهُ الذي كان يرعى
عشرةَ آلافِ رجل كلَّ يوم تحت سقف منزله؟
هل هذا هو الوجهُ الذي كان يسطع وهَّاجًا كالشمس
فتجفل العيونُ من التطلُّع إليه؟
هل هذا هو الوجه الذي واجهَ الحماقات الكثيرة،
ثم أصابه الخسوف أمام وجهِ بولينبروك؟
ما يزال يبرق بريقًا هشًّا بمجدٍ غابر،
والوجه هشٌّ مثل بريق المجد!
 [يُحطِّم المرآة.]
وها هو ذا قد انكسَر وتفتَّت مائةَ شظية!
إنَّ في هذه اللعبةِ أيُّها الملك الصامت درسًا مفيدًا؛
إذ ما أسرعَ ما دمَّر الحزنُ وجهي!
بولينبروك : بل إن ظل حزنِك قد دمَّر ظل وجهك!
ريتشارد :
قُل ذلك ثانيًا: ظل حزني؟ فلننظر في الأمر
أصبتَ حقًّا! فحُزني يكمن في نفسي،
وليست مظاهرُ البكاء على حالي
إلا ظلالًا للحزنِ العميق الخفيِّ
الذي يُنمِّيه الصمتُ في النفس المعذَّبة،
ذاك هو الجوهر لا الظل! وأنا أشكرك
أيها الملك العظيم على نعمائك؛ إذ لم تقتصر
على فعل ما يدفعُني إلى أن أندب حظي،
بل تُعلِّمني أسلوب البكاء عليه!
(٤ / ١ / ٢٧٦–٣٠٢)

إن أكاليل الغار «الشعرية-النقدية» معًا، تنتمي أكثرَ ممَّا انتمَت في أيِّ وقت سابق، إلى ريتشارد، والواقعية السياسية التي تتهدَّد الموقف تنتمي كلُّها إلى بولينبروك. ولكن ريتشارد كان ينبغي أن يكتب الشعر والمسرح ويمارس التمثيل والنقد فهو رائعٌ في هذه الفنون جميعًا! فإن كسر المرآة، والحجة التي يقيمها حول الظل (فهو الحزن وهو الصورة المسرحية التمثيلية في آنٍ واحد) وذروة التورية الساخرة في شكر بولينبروك على تعليم ريتشارد، كل هذه تمثل انتصارًا مسرحيًّا جديدًا لشيكسبير. ويُرْسِل ريتشارد إلى بومفريت، حتى يُقتل فيخلو الجو لخصومه، وهو يمضي في صورةِ الممثل العظيم الذي أصبح عليه:

يورك :
عندما يُغادر ممثلٌ بارع خشبةَ المسرح
تتحول عيون النظارة دون اكتراثٍ
إلى من يدخل بعده، ويصبح كلُّ ما قاله
ثرثرةً مُملة. فهكذا كان شأن عيون الناس
التي تجهَّمَت لرؤية ريتشارد، وحدَجَته بازدراءٍ أكبر!
لم يهتف أحدٌ «حفظه الله!»
ولم يُهلِّل لسانٌ واحد فرحًا وترحيبًا بعودته لوطنه،
بل كان التراب يُلقى على رأسه المقدس.
(٥ / ٢ / ٢٣–٣٠)

ولا يتبقى إلا المشهد الختامي، حيث يقتل ريتشارد، ولكنه يُلقي أولًا مونولوجًا فذًّا، يُمثل ذروةَ انتصار شيكسبير في هذا الفن الصعب قبل أن يصل هاملت به إلى الكمال:

ريتشارد :
كنتُ أنظر في الموازَنة بين هذا السجن
الذي أعيشُ فيه وبين العالم،
فلم أستطع؛ لأن العالم حافلٌ بالبشَر،
ولا يعيش سِوايَ بين هذه الجدران!
ولكن لا بأس من المحاولة.
سأقول إن عقلي قد تزوَّج من روحي،
وإن زواجهما أنجبَ أجيالًا ما فتِئَت تتكاثرُ من الأفكار،
وإن هذه الأفكار تعمر هذا العالم الصغير،
بأمشاجٍ مختلطة تُماثل سكان العالم الكبير؛
إذ لا يرضى الفكرُ ولا يهنأ أبدًا،
أما الفكر السامي، مثل التفكير في المسائل الإلهية،
فهو دائمًا ما يصطدم ببواعثِ الشك والتردد،
وهو يُقيم التناقض بين الكلمة والكلمة —
والمثالُ على ذلك قوله «دَعُوا الأولاد يَأْتُون»
المتبوعة بقوله «إنَّ مرور جَملٍ من ثَقْبِ إبرة
أيسرُ من دخول غنيٍّ إلى ملكوت الله»
والأفكار الطامحة إلى مَغانم الدنيا
ترسم أوهامًا مُحالة؛ فقد تدفعني إلى أن أتصوَّر
أن أظفاري الضعيفة الهزيلة تستطيع أن تشقَّ لي طريقًا
في الضلوع الصخرية لهذا العالم القاسي؛
أي في الجُدران الصُّلبة لهذا السجن،
ولكنها تعجزُ فتموت من الإحباط.
وأفكار القناعة والرِّضا تقول لصاحبها وعزاءً
وسلوى، إنه ليس أولَ مَن استعبدَته ربة الحظ،
ولن يكون الأخير، فهو مثل الشحاذ الغبيِّ
الذي قُيدت قدَماه في الحباسة الخشبية،
فأخذ يُعلِّل نفسه ويُبرر عاره قائلًا إن الكثيرين
قد سبقوه إليها، وسوف يُعاقبون هذا العقاب!
فكأنَّ في ذلك تسريةً وراحة؛ إذ يُلقي بأحمال تعاسته
على كَواهلِ مَن سبقوه في احتمالها
وهكذا يجتمع في ذاتي عدة أشخاص
ليس بينهم قانعٌ بحاله! فأنا ملكٌ أحيانًا
ولكن ضروب الخيانة تجعلني أتمنى أن أُصبح شحاذًا،
فأغدُوَ شحَّاذًا على الفور! ثم يُقنعني الفقرُ المدقع
أنَّ حال الملك أفضل، فأتحوَّل إليه،
ولكنني لا ألبثُ أن أرى أن بولينبروك
قد سلَبني الملك، وسرعان ما أستحيل إلى عدم!
لكنني مهما أكن، ومهما يكن أيُّ إنسان
من بني البشر، فلن يسرَّه شيءٌ أو يُرضيَه،
حتى تأتيه راحةُ العدم!
 [تُعزَف الموسيقى.]
هل أسمع موسيقى؟ اضبِطوا الإيقاعَ وحافظوا
على التناسب الزمني! لا يُفسِد الموسيقى العذبةَ
مِثلُ كسرِ النمط الزمني وتجاهُلِ التناسب!
وهو ما ينطبقُ على موسيقى حياةِ الإنسان!
إنَّ أذُني الآن رهيفةٌ تُدرك النشاز،
أو كسر النمَط الزمني في الوتَر الناشز!
لكنها عجزَت عن إدراك الزمَن الحقيقي الذي انكسر
وكان لازمًا للتوافق بين دَولتي وزماني!
إني أهدرت زماني، وها هو ذا يهدرني!
بل أحالني إلى ساعةٍ رقمية له،
الدقائقُ فيها هي أفكاري!
وتَكُّ الثَّواني فيها أنَّاتي،
ووجهها عيني الساهرة، وأصبعي هو عقرب الساعة
الذي يدور فيها دائمًا ليمسح الدموع
وهي ساعةٌ دقاقة يا سيدي! تدق كل ساعة،
ودقاتها العالية هي آهاتي الصاخبة الهادرة،
التي تقرع قلبي وهو ناقوس الساعة
فأعرف الوقت! وهكذا فالأنات والدموعُ والآهات
تُبيِّن الدقائقَ والأوقاتَ والساعات!
ولكن بولينبروك هو الذي يشهد في فرحٍ وزهو
سرعةَ انقضاءِ زمني، بينما أقبع عاطلًا هنا
كالدمية التي تظهر لتدقَّ الساعة من أجله!
هذه الموسيقى تدفعني إلى الجنون!
يجب أن تتوقَّف فورًا؛
فإذا كانت الموسيقى قد أعادت للمخبولين صوابهم
فيبدو أنها ستُحيل العقلاءَ إلى مجانينَ في حالتي!
ولكن فليبارك الله قلب مَن يقدمها لي؛
فهي دليلٌ على الحب، وتقديم الحب إلى ريتشارد
جوهرةٌ نادرة في زمن يكرهه فيه العالم كله!
(٥ / ٥ / ١–٦٦)

ولكن شيكسبير، حتى هنا، يجعلنا نحافظ على المسافة التي تفصلُنا عن ريتشارد، فهو وإن ازداد طَرافةً وجاذبية، لا يزال عاجزًا عن إشعارنا بالمرارة، ولا يُفاجئنا بظهور عظمةٍ خبيئة في داخله، وعلى الرغم من كونه ملكًا مُسِحَ على رأسه بالزيت القدسي، فإنه محدودُ الذهن والروح، ومع ذلك نجح في تشكيل أجملِ قصائده. أمَّا الذي يبتكره شيكسبير هنا فجانبٌ آخرُ من الشخصية الإنسانية، ومن الممكن أن يكون حافزُه شخصيةَ مارلو نفسِه لا شخصيةَ إدوارد الثاني. وأثناء إصغائه لحلم اليقظة الذي يرويه، يتغيَّر ريتشارد تغيرًا مُعيَّنًا، لكنه لا يكتسب أيَّ وقار أو كرامة إنشائية، بل يبدأ في تجسيد ما يمكن أن نُطلق عليه صفةَ الوقار الجمالي. ويعتبر ريتشارد أولَ شخص عند شيكسبير يتجلَّى فيه هذا الصَّدْع بين الكِيان الإنساني والكيان الجمالي، ولكننا سوف نُلاقي شخوصًا أعظم فيما بعد، مثل ياجو، وإدموند، ومكبث وغيرهم. فإنهم فنانون يتمتعون بحريةِ تشكيل أنفسهم.

ولكن ريتشارد لا يستطيع أن يُجاريَهم؛ فإنه مقيدٌ داخل ذاته مثل انحباس جسده داخل قلعة بومفريت. ومع ذلك فإنَّ عند ريتشارد دافعًا جماليًّا أو حافزًا جماليًّا، وهو شيءٌ جديد عند شيكسبير، وهو ما يبرر انبهار باتر وييتس بريتشارد الثاني. ويوجد عند شيكسبير فنانون أعظمُ منه، يتمتعون بحريةِ تشكيل ذواتهم، بحيث يحافظون على الكرامة الإنسانية والوقار الفني معًا، مثل هاملت، ولير، وإدجار، وبروسبرو. وربما كان شيكسبير يتأمَّل سقوط بعضِ العظماء في إنجلترا المعاصرة له — ومن بينهم لورد إيسيكس ورالي — ويدرك أن الكرامة الإنسانية والوقار الجمالي يرحلان معًا. ولا أعتقد أنَّ هذا الصَّدع كان موجودًا في الأدب قبل شيكسبير.

لم يبتكر شيكسبير كرامةَ الرجال والنساء؛ فإن هذه الرؤية قد نشأَت وتطوَّرَت على امتدادِ آلاف السنين، وإن كانت قد تدعَّمَت بعدة صور في عصر النهضة الأوروبية، وكانت إحدى هذه الصور هِرْمِسيَّة [أي: مرتبطةً بأسرار روح الإنسان] وأما الوقار الجمالي فشيءٌ آخر [أي القوة المستقلَّة للفن]، فعلى الرغم من عدمِ صَوْغ شيكسبير للتعبيرِ المذكور، فإنه بالقطع قد ابتكَر الوقار الجمالي وابتكر طبيعته المزدوجة، فهو إما يرتبط بالكرامة الإنسانية وإما ينجو ويُكْتَبُ له البقاءُ حين تُهْدَرُ الكرامة الأعظم. وإلى هذا، في رأيي، ترجع أهميةُ المونولوج الطويل الذي يُلقيه ريتشارد في السجن في بداية الفصل الخامس. إن شيئًا مدهشًا لشيكسبير نفسِه يولَد هنا، ولسوف يُغير فن شيكسبير وفنُّ كثير من الناس وحياتهم في أزمنة لاحقة؛ إذ سوف يسيرون في أعقاب ريتشارد الثاني وهاملت.

لقد وثب ذهنُ هاملت وثبةً أدرك بها أن الدنمارك والعالم سجنان لروحه، ولكن ريتشارد يجتهد ويُرهق نفسه في إدراك ذلك؛ لأنه يتسم بالبطء الشديد في التفكير، وعالمه الصغير؛ أي ذاته المسكينة، لا إيمان لديها بالخلاص، ولا يستطيع يأسُه أن يجد مهربًا، ومن ثَم فإنه يُلقي أولَ ترنيمة عن العدمية عند شيكسبير، وهي التي تسبق ضجة فارغة وتتنبَّأ بهاملت وياجو وليونتيس:
سرعان ما أستحيلُ إلى عدم. لكنَّني مهما أكن،
ومهما يكن أي إنسان من بني البشَر،
فلن يسرَّه شيءٌ أو يُرضيَه،
حتى تأتيه راحةُ العدم.
(٥ / ٥ / ٣٨–٤١)

والمعنى الملتبسُ للراحة التي يأتي بها الموتُ معنى «أفزعته» الموسيقى، وهي التي تدفع ريتشارد إلى التأمُّل الميتافيزيقي للزمن:

إني أَهْدَرْتُ الزَّمَنَا، والآنَ إذَا هُوَ يُهْدِرُنِي.
(٥ / ٥ / ٤٩)

والصورة الشعرية المركَّبة للملك المعزول الذي تحول إلى ساعةٍ دقَّاقة آخر الأمر أبدع صورةً ميتافيزيقية يصوغها ريتشارد عن نفسه، ربما لأنها أشدُّ الصور تدميرًا؛ إذ تُحفزه إلى عددٍ من سورات الغضب التي تضع حدًّا لحياته. وسبابه الغريب المضحِك لجواده بسببِ مُوافقته على اغتصاب بولينبروك له، تتلوه سَوْرةُ غضب مفاجئة ضدَّ السجان، ثم يأتي الموت، بمزدوجٍ شعري ركيك إلى حدٍّ ما:

فَلْتَصْعَدِي ولْتَصْعَدِي رُوحي لمَقْعَدٍ بِذلِكَ العَلَاءْ،
بَيْنَا يَغُوصُ لَحْمِي الغِلِيظُ هَابِطًا إلَى الحِمَامِ والفَنَاءْ.
(٥ / ٥ / ١١١-١١٢)

وكان ينبغي أن يكتب شيكسبير شعرًا أحسنَ من هذا باعتباره آخِرَ كلمات ريتشارد، ولكنْ من المحتمل أن يكون قصدُه إظهارَ نُكوص ريتشارد إلى ذاته في مرحلةٍ مبكِّرة. وعلى الرغم من أن ريتشارد يموت بلا تبجيلٍ يذكر فإن ألفاظه أفضل من النفاق العبَثي من جانب بولينبروك، الذي يختتم به المسرحية:

أعلن لكم أيها اللوردات أن روحي يغشاها الأسى؛
لأن أرضي ارْتوَت بالدم حتى ينموَ فرعي!
تعالوا معي لنعِي ما أنْعَى، ولنلبَسْ معًا
ثياب الحداد والحزنِ السوداء!
لسوف أقوم برحلةٍ إلى الأرض المقدَّسة؛
حتى أغسل يدي الآثمةَ وأطهِّرها من هذا الدم!
امشوا معي في جنازته، ولنُشيِّعْه إلى مثواه الأخير
بالبكاء الصادق خلف هذا النعش،
ومَن يرقد فيه ميتًا قبل أوانه.
(٥ / ٦ / ٤٥–٥٢)
وتعتبر هذه السطور في جانب من جوانبها مقدمة لمسرحيتي هنري الرابع حيث لا يتمتع الغاصب لحظةً واحدة بالصفاء أو الهناء، ولكن المذاق البهم الذي يُخلفه ذلك في حاجةٍ ماسة إلى لماحيةٍ تمنحه طعمًا حلوًا. وبعد عامٍ وصل أكثرُ من هذا مُمثَّلًا في عبقرية السير جون فولسطاف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤