الفصل السابع عشر

هنري الرابع

١

لا تستطيع أن تختزل شيكسبير بحيث يقتصر على طاقةٍ واحدة، من بين مواهبه البالغة الكثرة، فتزعُمَ أنه يكتسب أعظمَ أهمية بسبب تلك الطاقة الرائعة الواحدة، ولكن كل مواهبه تنبع من ذكائه الفذ، الذي لا يُضارَع من حيث الشمول، وليس بين أعظم الكُتَّاب وحسب. والعشق الحقيقي لشيكسبير ينبع من إدراك هذه الخصيصة؛ فها نحن أخيرًا نُلاقي ذكاءً بلا حدود. ونحن أثناء قراءة شيكسبير دائمًا ما نحاول اللَّحاق به، ويفرحنا أن هذه المحاولة لا تنتهي أبدًا؛ فهو دائمًا يسبقنا، وأنا أعجب من النقاد، مهما تكن مذاهبهم، القديمة والجديدة، الذين يستبدلون معرفتَهم (knowingness) (بل استياءهم في الواقع) بالألم والدهشة عند شيكسبير، وهما من بين التجلِّيات الأولى لطاقته المعرفية.
سبق أن استشهدتُ بالتعليق الجميل الذي أبداه هيجيل، قائلًا إن شيكسبير يجعل مِن أفضل شخصياته «فنانين يُشكِّلون أنفسهم بحرية». وأشد الأحرار تحررًا هاملت وفولسطاف؛ لأنهما أذكى شخوصِ شيكسبير (أو أدواره التمثيلية، إذا كنت تفضل هذه الكلمة). ونادرًا ما يستكبر النقادُ في الحديث عن هاملت، وإن كان بعضهم، مثل أليستير فاولر، يعترض أخلاقيًّا عليه. وأما فولسطاف، فالحال مختلفةٌ للأسف؛ إذ لا يكتفي كثيرٌ من النقاد بإدانته أخلاقيًّا، بل يستكبرون في النظر إليه كأنما لا يُحيط السير جون بكل ما يحيطون به. فإذا كان المرء يحب فولسطاف (كما أحبه وكما ينبغي على الجميع أن يحبُّوه، حتى باعتباره دورًا مسرحيًّا) فمن المحتمل أن يصفه النقاد بأنه «عاطفي متطرف». وأذكر أن إحدى طالباتِ الدراسات العليا عندي منذ عدة سنوات، أثناء سيمينار عن شيكسبير، قالت لي بحدةٍ إن فولسطاف غيرُ جدير بالإعجاب، وإن تحول الأمير هال إلى الملك هنري الخامس تحولٌ مثالي. وكانت حُجتها تقول إن هال يمثل النظام وفولسطاف يُمثل الفوضى، ولم أستطع أن أُقنعها أن فولسطاف يتجاوز تقسيماتها مثلما يتجاوز جميعَ تصنيفاتنا للخطايا والأغلاط البشرية تقريبًا. فمن الواضح إلى حدٍّ ما أن شيكسبير كانت تربطه علاقةٌ شخصية عميقة بهاملت، وقد أَضْفَى كل طاقاته على الأمير، وأما فولسطاف فلم يُقلق بالَ شيكسبير سنواتٍ كثيرة مثل هاملت، بل ربما لم يدفع مبدعه إلى الحيرة على الإطلاق. ومع ذلك فأظن ظنًّا أن فولسطاف فاجأ شيكسبير وفرَّ فرارًا من الدور الذي كان مقصودًا له أصلًا، وربما لم يكن يزيد طوله عن حامل اللواء بيستول في هنري الخامس مثلًا. ومسرحية هنري الرابع بجُزأَيها لا تنتمي إلى هال بل إلى فولسطاف، بل إن هوتسبير في الجزء الأول تطمسه روعةُ فولسطاف. وقد يئستُ من مشاهدة فولسطاف على خشبةِ المسرح مرةً أخرى بالعظمة التي أدَّى الدور بها رالف ريتشاردسون، منذ نصف قرن؛ لأن ريتشاردسون لم يستكبر على فولسطاف أو ينتقص من مكانته، ففولسطاف الذي أدَّاه لم يكن جَبانًا أو مهرجًا، بل لماحية لا نهائية تستمتع بطاقتها على الابتكار وتتجاوز ما لديها من إشفاقٍ تزداد ظلاله المعتمة. والشجاعة عند فولسطاف تعبر عن نفسها في رفضها الاعترافَ بالنَّبْذ، على الرغم من أن السير جون [فولسطاف] يدرك، كما نرى في استهلالِ الجزء الأول من هنري الرابع، أن موقف هال الملتبس قد تحول إلى سلبيةٍ قتَّالة. والحب الأبوي لهال، الذي حلَّ في غير محله، هو الذي يُعرِّض فولسطاف للخطر، ويُمثل ضعفه الوحيد، وأصل دماره. والزمن هو الذي يقضي على الأبطال الشيكسبيريين الآخرين، لا على فولسطاف الذي يموت في سبيل الحب، ويُصرُّ بعض النقاد على أن هذا الحب جروتسك [غريب مضحك]، ولكنهم هم الذين يتَّصفون بأنهم جروتسك؛ إذ إن أعظم بديهة لماحة في الأدب الخيالي يموت ميتة والد بديل منبوذ، وميتة أستاذ مثلوم الشرف أيضًا.
وتتطلب معظمُ مسرحيات شيكسبير الناضجة، بصورة مضمرة، أن نهيئ لها مقدمة خاصة، ونحن نتوصَّل إليها بأسلوبٍ استنباطي من نوعٍ ما، على نحو ما أشار إليه الباحثون من موريس مورجان إلى أ. د. ناطول، وأما المقدمة لهنري الرابع/١ فتوفِّر جانبًا منها ريتشارد الثاني، فهي الدراما التي يغتصبُ فيها بولينبروك التاجَ ويُصبح الملك هنري الرابع، ونرى فيها في الفصل الخامس، المشهد الثالث، الملك الجديد مع بيرسي الذي سرعان ما يُعرف باسم هوتسبير، ونسمع حوارًا نبوئيًّا عن الأمير هال:
بولينبروك :
هَلْ يَحْمِلُ أَحَدٌ أَنْبَاءً عَنْ وَلَدِي المُسْرِفْ؟
لَمْ أَرَهُ مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَشْهُرْ.
لَوْ كانَ يُهَدِّدُنَا طَاعُونٌ مَا، فَهْوَ الطَّاعُونُ المَذْكُورْ.
أَدْعُو الله أيا لُورْدَاتُ بأنْ نَلْقَاهُ،
فَلْيَبْحَثْ أَحَدٌ مِنْكُمْ في لَنْدَنَ عَنْهُ في الحَانَاتْ؛
إذْ قِيلَ بأنَّ الغَائِبَ يَخْتَلِفُ إلَيْهَا يَوْمِيًّا،
مَعَ رُفَقَاءِ السُّوءِ المُنْحَلِّينْ
مَنْ يَتَرَبَّصُ بَعْضُهُمو في الحَارَاتِ الضَّيِّقَةِ، كمَا قِيلَ،
لِضَرْبِ العَسَسِ هُنَالِكَ والسَّطْوِ على المَارَّة،
ذلك شَابٌّ مُنْحَلٌّ ومُخَنَّثْ؛
إذْ يَجِدُ مِنَ الشَّرَفِ مُؤَازَرَةَ الرُّفَقَاءَ المُنْحَلِّينَ المُنَحرِفِينَ
وصُحْبَتَهُمْ.
بيرسي :
قَابَلْتُ يا مَوْلَاي ذلِكَ الأمِيرَ مِنْ يَوْمَيْن،
أَطْلَعْتُهُ علَى المُبَارَيَاتِ الرَّائِعَاتِ في أوكسفورد.
بولينبروك : وكيفَ كانَ رَدُّ ذلكَ الهُمَامْ؟
بيرسي :
أجَابَ إنَّهُ انْتَوَى زِيَارَةً لمَوْطِنِ الدَّعَارَة،
ثُمَّ التِقَاطُ قُفَّازِ لإحْدَى السَّاقِطَاتْ،
بلْ وارتِدَاؤُهُ تَفَاؤُلًا عِنْدَ النِّزَالْ،
وإنَّهُ بِفَضْلِهِ سَيُسْقِطُ الرَّجَالَ لا بَلْ أَشْجَعَ الفُرْسَانِ،
مِنْ فَوْقِ الجِيَادْ.
بولينبروك :
يُعادِلُ الفُسُوقُ فيه طَبْعَ الانْحِلَالْ!
لكنَّني أرَى بَوَارِقَ الأَمَلْ … بالرَّغْمِ مِنْ هذَا وذَاكْ،
إنْ يَبْلُغ الفَتَى أَشُدَّهُ ويَسْتَوِي.
(ريتشارد الثاني، ٥ / ٣ / ١–٢٢)

وزعيمُ هذه الصحبة المنحلَّة فولسطاف، وهو الذي لا يظهر في أيةِ أحداث سابقةٍ على شيكسبير؛ أي إنه فولسطاف الخالد (وهي الصفة التي أصاب برادلي وجودارد في وصفه بها)، بمعنى أن فولسطاف الخالد من ابتكار شيكسبير، فهو الرجلُ البدين الذي يُضرب به المثل والذي كافح وانتصر للخروج من وليم شيكسبير النحيف. ويشير كثيرٌ من النقاد إلى التلاعب اللفظي المتوازي في الاسمين: فول/صتاف [أي سقوط الهَراوة] وشيك/سبير [أي هز الرمح]، ووجد غيرهم في شاعر السونيتات شخصية فولسطافية يُعاني بالقياس إلى الشاب النبيل الأمير هال. ويبدو لي أن الصلة الشخصية أقوى ما تكون إذا انتبَه المرء إلى أن فولسطاف يمثل لماحية شيكسبير في أقصى حدودها، مثلما يُمثل هاملت أقصى مدًى للحِدَّة المعرفية عند شيكسبير. أما إذا كان في طوقنا أن نحدس الاستثمار الإنسانيَّ من جانب شيكسبير في فولسطاف بالدرجة التي نستطيع حدسها في هاملت فيُمثل لي لغزًا، وكنت ألقيتُ حديثًا حول القيمة في الشخصيتَين الإنسانيتين لهاملت وفولسطاف، فعلق ناقدٌ مرموق لشيكسبير من أتباع التاريخية الجديدة فأخبر الجمهور أن تعاملي مع هاتين الشخصيتين أو الدَّورين يمثل «سياسات الهوية». ولا أدري ما شأن السياسة الراهنة (أو السابقة) بذلك، لكنني يصعب عليَّ ألا أحدس تماهيَ شيكسبير مع ابنه هاملت ومع ذاته الأخرى فولسطاف. فأنت لا تكتب كتابةً تبتكر فيها هاملت وفولسطاف من دون الإحساس بشيءٍ يُشبه استجابة سيرفانيتس لدون كيخوته وسانشو بانزا، والقصص الخيالي ليس دراما خيالية، ومن ثَم فلا نستطيع أن نعثر عند شيكسبير على تعبيرات مثل تعبيرات سيرفانيتس عن الفخر والكرب الوهمي إزاء ما أبدعه. وقد حاول وليم إمبسون أولًا، ثم تلاه سي. ل. باربر وريتشارد ب. هويلر، أن يجدوا تعليق شيكسبير غير المباشر على فولسطاف في السونيتات، وأحرَزوا نتائجَ متباينةً ولكنها قيِّمة. وأنا أفضِّل أن أعثر على الروحِ الفولسطافية في المسرحيات، إن استطعت؛ إذ إن السونيتات، في أقوى تعابيرها أكثرُ الْتِباسًا في نظري من أيِّ شيءٍ آخر كتبه شيكسبير. ربما تستطيع أن تفتح لنا الطريق إلى المسرحيات، ولكن هاملت وفولسطاف يلقيان على السونيتات أضواءً تزيد في حالاتٍ كثيرة عمَّا تستطيع السونيتات أن تلقي الضوء على هذين العملاقين.

يظهر في كتب التاريخ الإنجليزي شخصٌ يُدعى السير جون فولسطولف (Falstolfe) في صورة قائدٍ جبان في الحروب مع فرنسا، وهو يدخل بهذه الصفة الجزء الأول من هنري السادس (الفصل الأول، المشهد الأول: ١٣٠–١٤٠)؛ حيث يؤدِّي فِرارُه إلى جُرح الشجاع طولبوت وأسْرِه. وأما الشخصية التي أصبحَت فولسطاف الخالد (وهو مَن يُصر مورجان وبرادلي على أنه ليس جبانًا، ضد الأمير هال) فقد كان يُسمى أصلًا سير جون أولدكاسل، ويُقال إن شيكسبير في نحوِ عام ١٥٨٧م، وكان في مرحلةِ اكتساب الصنعة، ربما ساعد في تأليف مسرحيةٍ ركيكة، عُنوانها الانتصارات الشهيرة للملك هنري الرابع، وهي نص وطني مثير عالي النبرة، يحتمل أن الممثل الكوميدي ديك تارلتون كتَب معظمها. وفي هذه المسرحية يُصبح الأمير هال صالحًا آخِرَ الأمر، ويأمر بنفْي رفيقه الشرير السير جون أولدكاسل. ولكن أولدكاسل التاريخي مات شهيدًا بروتستانتيًّا، ولم يَسعد أحفادُه برؤيته في صورة الخبيث الشرِه إلى الطعام وكأنه رذيلةٌ تمشي على قدمَين. واضطُرَّ شيكسبير إلى تغيير الاسم، وأن يأتيَ باسم فولسطاف بدلًا منه. وقد عوتب شيكسبير على سماحه للأمير هال بأن يدعوَ فولسطاف «صديقي «القديم» صاحب «القلعة»» [والكلمتان «قديم» و«القلعة» تشكِّلان اسم أولدكاسل]، لكنه أضاف إلى خاتمة هنري الرابع/٢ كلامًا يُنكر ذلك قائلًا: «إذ إن أولدكاسل مات شهيدًا، وليس هذا الرجلَ المقصود.» كم يكون غريبًا لو أن الأوبرا التي ألَّفها فيردي [عن فولسطاف] سُميت أولدكاسل! لا شك أن مقتضَيات الحال تتحكَّم في خيارات كاتب المسرح. ولقد ساهم أحفادُ أولدكاسل في مَنحِنا ما يبدو الآن اسمًا مُمكنًا للعبقرية الكوميدية: ألا وهو فولسطاف.
والسير جون أولدكاسل، في مسرحية الانتصارات الشهيرة شخصيةٌ ثانوية تُمثل العِرْبيد الصاخب وحسب، أما فولسطاف فقد وجَده شيكسبير عند شيكسبير! على الرغم من أن اللغة والشخصية الإنسانية عند بيرون، وفوكونبريدج النغل، ومركوشيو، وبوطوم لا تُمهدان الطريق تمهيدًا كافيًا لظهور فولسطاف الذي يُعتبر كلامه إلى الآن أفضلَ نثرٍ باللغة الإنجليزية وأكثرَه حيوية. وتمكُّن السير جون من اللغة يتجاوز الجميع حتى تمكُّن هاملت، ما دام فولسطاف يتمتَّع بالإيمان المطلَّق باللغةِ وبنفسه. وهو لا يفقد الثقةَ مطلقًا في نفسه ولا في اللغة، ومن ثَم فيبدو أنه يتدفَّق من شيكسبيرٍ أزليٍّ أكثرَ مما يتدفق هاملت. ويُصبح فولسطاف أعظمَ وأدقَّ انتصار على باراباس وغيرِه من المتطاولين عند مارلو؛ لأن الفارس البَدين يتفوَّق على المكيافيليِّين عند مارلو، باعتباره رجلَ بلاغة، ومع ذلك فهو لا يستخدم لُغته الباهرة في إقناع أيِّ أحد بأي شيء. وعلى الرغم من اضطرارِ فولسطاف، دائمًا، إلى الدفاع عن نفسه ضد عُدوانية هال اللانهائية وشبه القتَّالة، فإنه مع هال لا يسعى إلى الإقناع أو حتى لمجرد الدفاع. اللماحية رب فولسطاف، وما دمنا نفترض أن الرب لدَيه حسٌّ فكاهي، فنحن نستطيع أن نُلاحظ أن حديثه الذي يبثُّ الحيوية، وكلامه الضاحك الجميل (كما قال ييتس عن بليك) هو أسلوب العبادة الحقيقيُّ عند السير جون. وأما مشروع فولسطاف فهو زيادة لماحية الآخرين؛ إذ لا يقتصر على كونه ذا لماحية، بل يتسبَّب في أن يُصبح هال أيضًا ذا لماحية. إن السير جون سقراط كوميدي. فمعرفةُ شيكسبير بسقراط مستقاةٌ من مونتانْي الذي كان يُصور أفلاطون وسقراط في صور أصحاب الشك. وفولسطاف يتجاوز مذهبَ الشك، فإنَّ عمَله مُعلِّمًا (فالتعليم رسالتُه الحقيقية لا قطع الطرق) يمنعه من متابعة الشك إلى حدوده العدمية، على نحوِ ما يفعل هاملت. واللماحية القائمة على الشك تختلف عن التعبير عن الشك بلماحية، وليس السير جون أستاذًا للنفي مثل هاملت (أو ياجو)؛ فهو باعتباره سقراط حي «إيست تشيب» لا يحتاج إلى أن يَشغل نفسه بتعليم الفضيلة؛ لأن الصراع بين الغاصب هنري الرابع وبين المتمردين لا صلة له إطلاقًا بمبادئ الأخلاق أو السلوك الخلقي. ويسخر فولسطاف من المتمردين قائلًا: «إنهم لا يُغضِبون إلا الفضلاء» والواضح أنهم لم يكُ لهم وجودٌ في إنجلترا في عهد هنري الرابع (أو عهد هنري الخامس).
ما تعاليم فيلسوف «إيست تشيب» إذن؟ الطعام والشراب والجماع والملاذُّ الواضحة الأخرى لا تُمثل صُلب المذهب الفولسطافي، وإن كانت تَشغل بالقطع جانبًا كبيرًا من وقتِ فارسِنا. ذلك لا يهمُّ لأن فولسطاف، كما يقول هال أولًا لنا، لا يكترث بتحديد أوقاتِ اليوم. ما نحن عليه في الواقع هو الذي نستطيع تعليمه وحده، وفولسطاف حرٌّ ويُعلمنا الحرية، لا الحرية في داخل المجتمع بل التحرُّر من المجتمع. إن حكيم «إيست تشيب» يسكن مسرحيات شيكسبير التاريخية، لكنه يُعاملها معاملة الكوميديات. ويطلق الباحثون على الرباعية ريتشارد الثاني، وهنري الرابع/١، وهنري الرابع/٢، وهنري الخامس اسم «الهنريادية»، لكنني أُطلق على المسرحيتَين اللتين في الوسط اسم «الفولسطافية» (ولن أُضيف إليهما زوجتان مرحتان من وندسور؛ إذ إن فولسطاف فيها دجَّال أوبرالي). والفولسطافية مسرحية تراجيكوميدية، والهنريادية مسرحية تاريخية وطنية (تكسوها بعضُ الظلال) وأتمنى لو أن شيكسبير لم يُخبرنا بوفاة فولسطاف في هنري الخامس بل نقله إلى غابة آردن، حتى يُشارك في اللماحية الحوارية مع روزالند في كما تحب. وعلى الرغم من أن فولسطاف يُجسد الحرية، فإن حريته ليست مطلقة، مثل حرية روزالند. فالمؤلف لا يُعطينا، نحن الجمهور، منظورًا يَزيد تميزًا عن منظور روزالند، لكننا نستطيع أن نرى صفات الأمير هال المكيافيلية بوضوحٍ أكبر ممَّا يستطيع فولسطاف أن يتحمله، ونشعر برفضِ فولسطاف، اعتبارًا من حديث هال الافتتاحي، في هنري الرابع/١. ويحد من المرح الكوميدي للفولسطافية انحباسُها داخل الهنريادية بحيث يحقُّ لنا أن نسأل من زاويةٍ معيَّنة: هل هال إلا العِفريت الشرير لفولسطاف؟
يقارن أ. أ. ستول مقارنةً حصيفة بين تناول شيكسبير لشايلوك وتناوله لفولسطاف من حيث فنُّ الانعزال الكوميدي؛ فإن شايلوك لا يوجد وحده إطلاقًا على خشبة المسرح؛ إذ لا يسمح لنا إلا بمنظوراتٍ مجتمعية عنه. ولا نرى فولسطاف في صحبة هال إلا مرتين في الجزء الثاني من هذه التراجيكوميديا؛ إذ يراه الأمير في المرة الأولى في مشهد البهرجة التافهة والمشاعر الغرامية مع دول تيرشيت، ثم نراه وهو يتعرض للشتائم المقذِعة والنَّبْذ من جانب الملك الذي تُوِّج قبل قليل. إننا نود أن يتمتَّع فولسطاف بالحرية المطلقة، ويود شيءٌ في نفس شيكسبير ذلك أيضًا، ولكن المحاكاة الشيكسبيرية ذاتُ فن عظيم لا يتيح تحقيق هذا الوهم. فإن فولسطاف، بصفته سقراط الكوميدي، يمثل الحرية فقط باعتبارها جدلية تعليمية تؤدي إلى تغيير المواقف. فإذا قاربت فولسطاف وقد امتلأت سخطًا وحنقًا، سواءٌ ضده أو لا، فسوف يُحوِّل فولسطاف إحساسك الحالِكَ إلى لماحية وضحك. أما إذا قاربت فولسطاف، مثل هال، بموقفٍ ملتبس، يميل إلى الجانب السَّلبي، فسوف يتحاشاك فولسطاف، حيث لا يستطيع تغيير موقفك.

ولا أعتقد أن ذلك يجعل فولسطاف برجماتيًّا يُجيد التبادل الاقتصادي، كما يعتقد لارس إنجلز حين يزعم أن فولسطاف «شخص لا يُمثل التحرر من نظم القيمة بقدر ما يُمثل المشارَكة الممتعة في تطبيقها العارض والتلاعب المحتوم بها.» والواقع أن المرءَ يستطيع استغلالَ نظامٍ من نُظم القيم، مثلما يستفيد فولسطاف من الحرب الأهلية، وأنت تُدرك جوهره وما وراءه. فإن فولسطاف الخالد ليس منافقًا قط، ولا يقول كلامًا يحتمل التأويل، وهو بالقطع ليس زائفًا مثل هال، لكنه في جوهره ساخرٌ هَجَّاءٌ مُعادٍ لجميع صور السلطة، وهو ما يعني معارضة جميع المذاهب التاريخية — أي تفسيرات التاريخ — لا معارضة التاريخ. فهو مقاتل مخضرم يقف الآن في مواجهة شرعة الشرف والفروسية، وهو يعرف أن التاريخ فيض حُوَّلٌ قُلَّبٌ من المفارقات. ويرفض الأمير هال أن يتعلَّم هذا الدرس من فولسطاف؛ لأنه يتكون من مجموعةِ مواقفَ ملتبسة إزاء الجميع، بما في ذلك إزاء فولسطاف، ومن ثَم لا يملك أن يتعلمه.

وطاقات فولسطاف شخصية، وحريته النسبيَّة دينامية، ويمكن نقلُها إلى تلميذٍ ولكن مقابل ثمَن معيَّن وهو التشويه الخطِر لها. وعلى الرغم من نقاده «الماديين» يرفض فولسطاف حصاد عواطفه، ولكنه بالقطع يُعلِّم هال أن يحصد الجميع: هوتسبير، والملك والده، وفولسطاف نفسه. وهال أبدع ما ابتكر فولسطاف: تلميذ عبقري يتخذ موقفَ مُعلمه من الحرية ابتغاءَ استغلال التباسِ دلالات الألفاظ في ممارسة لماحية انتقائية. إذ إن موقف هال ملتبسٌ تمام الالتباس تجاه كلِّ فرد وكل شيء، ولماحيته انتقائية، ولماحية فولسطاف عالمية. ويقف هوتسبير والملك هنري الرابع في طريق هال، ولكنهما لا يُهددانه في الباطن. وما إن يُتوَّجْ هال حتى يصبح فولسطاف شخصًا يُخشى جانبه، ولا بد أن يُنفَى إلى مكانٍ يبعد عشرةَ أميال عن شخص الملك. وأثناء خطاب النبذ القاسي يتجشَّم هنري الخامس بعض العناء حتى يضمن ألا تُتاحَ فرصة الحوار لفولسطاف: «لا ترد عليَّ بفكاهة ولدها أحمق» (٥ / ٥ / ٥٥)، وباعتبار فولسطاف «مَن علَّمني الشَّغْب وغذَّاه» (٥ / ٥ / ٦٢) لا يُسمح له بأية مراوغة أخيرة، ويُحكم عليه أساسًا بالإعدام. ومثلما يُؤمر شايلوك أن يتحول فورًا إلى النصرانية، يُوصِي فولسطاف بأن يصبح «أكثر حكمة وتواضعًا» (هذا قول الأمير جون إلى قاضي القضاة) وأن يلتزم بنظام غدائي صارم، والمفترض أن يقترب من الله اقترابَ هنري الخامس منه الآن. وتُقدم كتائبُ من الباحثين، من الطرز القديمة والجديدة، دفاعًا من شتى الضروب عن هنري الخامس، مؤكدين لنا أن شيكسبير، من الزاوية الواقعية، لا يُشاركنا الإحساس بالغضب. فالنظام لا بأس به وهنري الخامس ملكٌ مثالي، أو قُل إنه أول ملك إنجليزي أصيل، ويمثل النموذج الحق للمثل الأعلى الخاص بشيكسبير.

واستنادًا إلى أساسٍ غير مستبعد، وهو أن شيكسبير نفسه كان أكثرَ اتصافًا بالفولسطافية من اتصافه بالهنريادية، ألتحقُ الآن برهطِ النقاد «الإنسانيين» الذين أصبحوا مثارًا للتهكم — ومن بينهم الدكتور جونسون، وهازليت، وسوينبيرن، وبرادلي، وجودارد — في رفضِ فكرة النظام باعتبارها هراءً لا صلة له بالقضية. فرفْضُ فولسطاف رفضٌ لشيكسبير. وإذا اقتصرنا على الحديث من الزاوية التاريخية، وجدنا أن الحرية التي يُمثلها شيكسبير تعتبر في المقام الأول تحررًا من كريستوفر مارلو، وهو ما يعني أن فولسطاف يمثل توقيعَ أصالة شيكسبير، وعلامة انطلاقه إلى فن ينتمي إليه انتماءً أكبر. ويقول إنجل (Engle) بلسانِ مُعظم معاصريه من أصحاب المذهب التاريخي، إن «عمل شيكسبير يصطبغ بالجوِّ الذي يعمل فيه.» لكنني أتساءل عن السبب الذي جعل اصطباغَ شيكسبير بالجو الذي عاش فيه، أي بتقاليد عصره، أقلَّ من اصطباغ غيرِه، مثل بن جونسون، ناهيك بالعشرات من كتَّاب المسرح الصغار الذين عملوا في أعقاب مارلو. أما فولسطاف فإنه لا يحمل سمات مارلو بل سمات تشوسر إلى حدٍّ بعيد؛ فهو ابنٌ «للزوجة ابنة مدينة باث»، ذات الطابع الحيوي، والواقع أن مارلو، بعد أن استلهمه شيكسبير وتأثر به في البداية، أصبح بلا شك عبئًا رازحًا، على عكس تشوسر؛ لأن عبقرية شيكسبير في الكوميديا كانت تلقائيةً أكثر من مواهبه التراجيدية الطبيعية.

٢

تأتي هنري الرابع/١، زمنيًّا، مباشرةً بعد تاجر البندقية ولكن المسرحية التاريخية والكوميديا لا تشتركان إلا في الالتباس الدلالي العميق، وقد ينتمي ذلك إلى شيكسبير نفسه، تجاه نفسه وتجاه اليافع والسمراء اللذَين يظهران في السونيتات. وأما التباس موقف هال من فولسطاف، فإنه، على نحوِ ما يرى النقاد جميعًا، يحل محلَّ الالتباس الذي يُثيره فيه والده، الملك هنري الرابع، الذي يفر منه ابنه فرارًا كاملًا في ختام ريتشارد الثاني. ويُعتبر شايلوك وفولسطاف نقيضَين؛ فالفصاحة المريرة عند اليهودي التي تعادي الحياةَ وتلتزم بالتطهر البيوريتاني، تختلف اختلافًا كُلِّيًّا عن توكيد فولسطاف للمذهب الحيوي الدينامي، ومع ذلك فإن شايلوك وفولسطاف يشتركان في الحيوية الفياضة، وهي سلبيةٌ عند شايلوك، وإيجابيةٌ إلى حدِّ التطرف عند فولسطاف. وكلاهما رمزان مضادَّان لمارلو، وقوتهما ذات أهمية حاسمة لابتكار شيكسبير الشخصية الإنسانية، وفتح نافذةٍ نُطل منها على الواقع.
ما أبعدَ فولسطاف عن شخصيات الشجو والشجن! فهو يستطيع أن يكون حاضرًا في الوعي حضورًا كاملًا لو أننا استطعنا أن نَجمع قدرًا من الوعي في أنفسنا يستطيع احتضانَ وَعْيِه. وشمولُ وعي فولسطاف هو الذي يجعله عسير المنال، لا بأسلوب التعاليَّة عند هاملت، بل بأسلوب الحلول عند فولسطاف، ولا يستطيع إلا القليلُ من الشخصيات في الأدب العالمي مجاراةَ الحضور الحقيقي لفولسطاف، فهو الذي يعتبر المنافِسَ العظيم لهاملت في هذا الصدد عند شيكسبير، وحضور فولسطاف أكبرُ من حضور الذهن الذي امتدحه هازليت عنده، فوهمُ كونِه شخصًا حقيقيًّا — إذا أردت أن تسميه «وهمًا» — يلازم فولسطاف مثلما يُلازم هاملت. ومع ذلك فإن شيكسبير يستطيع بطريقةٍ ما أن يقنعنا أن هاتين الشخصيتَين الساحرتين موجودتان داخل مسرحيتيهما، ولا تنتميان إليهما، بمعنى أن هاملت شخصٌ حقيقي، ولكن كلوديوس وأوفيليا من الشخصيات الخياليَّة، أو أن فولسطاف شخصٌ حقيقي ولكن هال وهوتسبير شخصيتان خياليتان.
ومفهوم شيكسبير للشخصية «الكارزمية» لا يكاد يشترك في شيءٍ مع مفهوم «الكارزما» السوشيولوجية عند ماكس فيبر، ولكنه يستبق إلى حدٍّ أكبر رأي أوسكار وايلد الذي يقول إن صفة الشمول في الوعي هي القيمة الأسمى، عندما يكون تمثيل الشخصية الإنسانية في مركز شَواغل المرء. ولشيكسبير انتصاراتٌ رائعة أخرى — من بينها روزالند وياجو وكليوباترا — ولكنه لم يُقدم منافسًا لفولسطاف وهاملت من حيث اتساعُ دائرة الوعي، وهو ما لا أكفُّ عن توكيده. ربما يكون إدموند في الملك لير في ذكاء فولسطاف وهاملت، لكنه لا يتمتَّع بأية مشاعر حتى يُصاب بجُرحه القاتل، ومن ثَم فلا بد أن نحكم بأنه ذو «كارزما» سلبية، بالمقارنة بالسير جون وأمير الدنمارك. ومفهوم فيبر للكارزما، على الرغم من أنه مستمدٌّ من الدين، يتمتَّع بصِلات واضحة مع ما يقول به كارلايل وإمرسون من إعلاءٍ لشأن العبقرية البطولية، ويرى فيبر أن المؤسسات والعادة سرعان ما تمتصُّ تأثير الفرد ذي الكاريزما في أتباعه. ولكن القيصرية والكالفينية ليستا من الحركات الجماليَّة، ومن المحال إخضاعُ هاملت وفولسطاف للمؤسسات أو العادات. فإن فولسطاف يزدري التكليف بأية مُهمة أو بعثة، ولا يُطيق هاملت أن يُصبح بطلًا لإحدى تراجيديات الانتقام؛ فعند هذا وذاك ترجع الكاريزما فتتجاوز نموذجَ يسوع — عليه السلام — إلى جَدِّه النبي داود — عليه السلام — الذي كان ينفرد بحملِ بركة يَهْوه. وعلى الرغم من سخرية الفضلاء من فولسطاف، ورفض الملك (حديث التتويج) هنري الخامس له، فإنه يحتفظ بالبركة المذكورة بأصدَقِ معنًى لها، ألا وهو المزيد من الحياة والحيوية.

إن الشخصية الإنسانية، حتى على فراش الموت، تحتفظ بقيمتها الفريدة. إنني أعرف عددًا من الفلاسفة الأذكياء وحشدًا هائلًا من الشعراء، والروائيين، والقصاصين وكتَّاب المسرح، ولا يتوقع أحدٌ منهم أن يُجيدوا الكلام إجادتهم للكتابة، حتى أفضلهم، وفي أفضل أوقاتهم، أي إنهم لا يستطيعون مُجاراة هذين الرجلين المصنوعين من الألفاظ: فولسطاف وهاملت. والمرء يَعجب: كيف يختلف تمثيلُ المعرفة عند شيكسبير عن المعرفة نفسِها؟ هل نستطيع من الزاوية البرجماتية معرفةَ الفرق؟ ويتساءل المرء من جديد: كيف يختلفُ تمثيل الكاريزما عند شيكسبير عن الكاريزما نفسها؟ ليست الكاريزما — تعريفًا — طاقةً اجتماعية؛ فأصولها تنبع من خارج المجتمع، ولنا أن نصفَ تفرد شيكسبير، أو أعظمَ جانبٍ من جوانب أصالته، إما بأنه معرفة كارزمية، وهي التي تأتي من الفرد قبل أن تدخل التفكير الجماعي [أي لمجموعةٍ من الأفراد]، وإما بأنه كارزما معرفية من المحال أن تُصبح عادةً ذات رَتابة. وترجع خبرتي المسرحية الحاسمة إلى ما حدث لي منذ نصف قرن؛ أي في عام ١٩٤٦م، عندما كنتُ في السادسة عشرة من عمري وشاهدتُ رالف ريتشاردسون يلعب دور فولسطاف. ولم تنجح روعةُ لورنس أوليفييه الذي كان يؤدي دور هوتسبير في الجزء الأول، وشالو في الجزء الثاني، من قهرِ انبهاري بفولسطاف الذي جسَّده ريتشاردسون، فحينما كان يترك خشبة المسرح كان النظَّارة جميعًا يشعرون بغيبة معينة عن الواقع، وكنا ننتظر، بنفاد صبر، إعادةَ شيكسبير السير جون إلى المسرح، وفسر الشاعر و. ﻫ. أودن هذه الظاهرة تفسيرًا غريبًا، قائلًا إن فولسطاف «رمز كوميدي للنظام الخارق للخير والإحسان». وعلى الرغم من إعجابي بما كتبه أودن عن شيكسبير، فإن صورة فولسطاف المسيحيَّة أوقعَتني في حيرة؛ فالسير جون الفائق ليس المسيحَ أو إبليس، ولا هو محاكاةً لأيِّهما.

ولكن تمثيل الحلول العلمانيِّ على خشبة المسرح، وهو أكثر أنواع التمثيل إقناعًا إلى الآن، من شأنه أن يُغوِيَ النقاد، حتى أكثرهم حِكمة، بتقديم تفسيراتٍ شاردة. ولا أعتقد أن شيكسبير كان يريد أن يرسم صورةً لفولسطاف تُمثل أعلى درجات الحلول، ولا لهاملت باعتباره يُمثل التعاليَّة البارزة. كان بن جونسون يرسم صورًا فكرية ويُسميها شخصيات، في أحسنِ أحوالها، مثل فولبوني والسير أبيقور مامون، وهي مُفعمة بالحياة ولكنها ليست صورًا لأشخاص من بَني البشر. وعلى الرغم من أن معظم باحثي شيكسبير الآن في الجامعات الناطقة بالإنجليزية يرفضون مواجهةَ ما يفعله شيكسبير من تقديمِ عالمٍ عامر بالناس، فإنَّ هذه الخصيصة لا تزال تُمثل سرَّ جاذبيته لمعظم مَن يشاهدون مسرحياته أو يواصلون قراءتها. وإذا كان صحيحًا أنَّ شخصيات شيكسبير لا تزيد عن صورٍ أو استعارات مركَّبة، فإن استمتاعنا بشيكسبير مصدرُه الأول الوهم المُقْنع بأنَّ هذه الظلال تُلقيها كِياناتٌ مادية مثلُنا. وتنبع كلُّ قدرة عند شيكسبير على إقناعنا بصدق هذا الوهم الرائع من قدرته المدهِشة على تمثيل التغيير، وهي قدرةٌ لا مثيلَ لها في أدب العالم. ربما أمكَن اختزالُ شخصياتِنا الإنسانية في فيضٍ من الأحاسيس، ولكن هذا الحشد من الانطباعات يتطلَّب تمثيله بحيويَّة تفصيلية حتى يمكن تمييزُ أيِّ فرد منا عن غيره. ولو صنع بن جونسون نسخةً من فولسطاف فلن تَزيد عن «مجموعة من الطباع»، وهو الوصف الذي يُطلقه هال غاضبًا على السير جون عندما يقوم الأمير بتمثيل دور والده في الأملوحة الساخرة في الفصل الثاني، المشهد الأول، من هنري الرابع/١. إن فولبوني نفسه، أعظم شخصية عند بن جونسون لا يتغيَّر تغيرًا يذكر، ولكن فولسطاف، مثل هاملت، دائمًا ما يُغيِّر من نفسه، ودائمًا ما يُفكر، ويتكلم، ويسترق السمع لنفسه، في تحولاتٍ زئبقية، وهو دائمًا يرغب في التغيير، ويُكابد التغيير الذي يعتبر تقديرًا من شيكسبير لواقع حياتنا الحق.
وكان ألجرنون تشارلز سوينبيرن، الذي غالبًا ما يُنسى هذه الأيامَ باعتباره شاعرًا وناقدًا، وإن كان كثيرًا ما يتفوَّق في الشعر والنقد، موفقًا في تشبيه فولسطاف بصاحِبَيه الحقيقيَّين، سانشوبانزا عند سرفانبس، وبانيرج عند رابيليه. وكان يمنح قصبَ السَّبْق لفولسطاف، لا بسبب ذهنه الجبار وحسب بل أيضًا بسبب النطاق الواسع لمشاعره، بل حتى «لرِفعته الأخلاقية المرجحة». وكان سوينبيرن يعني أخلاق القلب، وأخلاق المخيلة، لا الأخلاق الاجتماعية التي تُعتبر اللعنةَ الدائمة للبحوث الشيكسبيرية والنقد الشيكسبيري؛ فهي تُصيب أصحاب المذهب التاريخي، القديم والجديد والبيوريتانيِّين، الدينيِّين والعلمانيين. وفي ذلك يستبقُ سوينبيرن ما قاله أ. سي برادلي، وكان على حقٍّ، من أن جميع الأحكام الأخلاقية المعادية لفولسطاف مناقِضةٌ لطبيعة الكوميديا الشيكسبيرية. ولنا أن نُضيف حكاية «الزوجة من مدينة باث» عند تشوسر حتى تكتمل لنا رباعيةٌ من أرباب المذهب الحيوي، وكلهم يتمتع بالبركة — أي «المزيد من الحياة» — وكلهم يُبهرنا باعتباره كوميديًّا فائقًا. وما دام شيكسبير يترك لجمهوره الحكم، فإنه يسمح لفولسطاف بأن يتمتَّع بالمزيد من الحرية وعدم الرقابة بالقياس إلى سانشو، وبانيرج والزوجة من باث. فإن إرادة الحياة، الهائلة عند هؤلاء الأربعة، تتَّسم بحِدة خاصة عند السير جون، فهو مقاتلٌ محترف، ثم تحول من فترة طويلة إلى نبذ الهراء الذي يُسمى «المجد» الحربي، و«الشرف» الحربي. وليس لدينا ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن شيكسبير كان يُعْلي من شأن أي خير مجتمعي مفترض على خير الأفراد، بل إن لدينا من الأسباب — القائمة على المسرحيات والسونيتات — ما يجعلنا نعتقد بشيءٍ يقترب من عكس ذلك. وبعد أن قضيتُ عمري محاطًا بأساتذة آخرين، أجدني أتشكَّك في خبرتهم التي تؤهِّلهم لفهم فولسطاف الخالد، ناهيك بإصدار الأحكام عليه. وكان المرحوم أنطوني بيرجيس قد قدَّم لنا صورةً جميلة لفولسطاف بأسلوب جيمز جويس إلى حدٍّ ما، من خلال الشاعر المِهْدار الذي ابتكَره وأسماه «إندريي»، كما قدم لنا حكمةً نقدية عن فولسطاف:

الروح الفولسطافية تُمِد الحضارة بأسباب البقاء. وهي تختفي عندما تزداد سلطةُ الدولة عن الحدِّ المفترض ويُساور الناسَ قلقٌ أشد ممَّا ينبغي على أرواحهم … وقد قلَّ كثيرًا جوهرُ الشخصية الفولسطافية في عالم اليوم، وإزاء اتِّساع نطاقِ سلطة الدولة، فإنَّ ما بقي من هذا الجوهر سيكون مآلُه التصفية.

وسلطة الدولة سوف تتجسَّد في الملك هنري الخامس، الذي لا يختلف موقفُه من فولسطاف ذرةً واحدة عن موقف البيوريتانيين الأكاديميين، وشواذ سُلطة الأستاذية. فانعدام التوقير عند فولسطاف يُعلي من شأن الحياة ولكنه يدمر الدولة، ومن العسير برجماتيًّا أن يعتقد المرءُ أن شيكسبير كان يشارك هنري موقفَه تجاه فولسطاف. ومن غير المهمِّ أن يزعم المرء أن شيكسبير يُمثل أيضًا هوتسبير، أو الأمير هال، أو الملك هنري الرابع، فإنه يُمكن كذلك أن يكون روميو وجوليت ومركوشيو والمربية، ومئات كثيرة من الآخَرين. وفولسطاف يُشبه هاملت ولا يُشبهه في أنَّ له علاقةً من نوعٍ آخر مع كاتبه المسرحي. فلقد كان الإقبال الجماهيري الفوري على سير جون دافعًا لشيكسبير على كتابة زوجتان مرحتان من وندسور، ثم الجزء الثاني من هنري الرابع. ويُعتبر مشهد موت فولسطاف، الذي تتألَّق في سرده «المضيفة» في هنري الخامس، شهادةً على أن شيكسبير لم يكن يستطيع أن يترك قصةَ رب اللماحية الأعظم دون استكمال، وأيضًا على وعي الكاتب الحصيف بأن مظاهر ادِّعاء البطولة في أجينكور لا يمكن أن تحتمل تعليق فولسطاف، فإن مثل ذلك التعليق يمكن أن يُمثل جوقةً مضادَّة تؤدي إلى سقوط المسرحية، مهما يكن من روعته.
عندما خلب فولسطاف لُبَّ الملكة إليزابيث، وألبابَ كلِّ أفراد جمهور شيكسبير؛ كان لا بد من تغيير العلاقة، مهما تكن، بين الكاتب المسرحي وهذه الشخصية الكوميدية المبالَغ فيها. ويُساورني قلقٌ معين إزاء زوجتان مرحتان من وندسور حيث نرى محاكاةً مجحفة بفولسطاف، وأرى صراعًا في هنري الرابع/٢ حيث يبدو أن شيكسبير يُغالب الحيرة، أحيانًا، بين التوسُّع في إبهار فولسطاف وبين طمسِ تألُّقه. للباحثين أن يكتبوا ما يشاءون، ولكن تحجيم فولسطاف من صُنعهم، لا من صنع شيكسبير، فإن احتفال شيكسبير باللغة لا يمكن التهوينُ من شأنه أو صهرُه. إن الذهن بأوسعِ معانيه، وهو ما يَزيد حتى على اللماحية، يُمثل قوةَ فولسطاف العظمى، فمَن ذا الذي يستطيع أن يبتَّ في مسألةِ صاحب الوعي الأذكى: هاملت أم فولسطاف؟ إن الدراما الشيكسبيرية، على الرغم من شمولها، تُعتبر في النهاية مسرحًا للذهن، وأهم ما يُهمنا في فولسطاف هو الحيوية الدفَّاقة لذهنه، التي تتضادُّ مباشرةً مع المحادثةِ الدائرة في نفس هاملت بين الذهن وبين رؤية العدم. ولقد عانيتُ أثناء بعض العُروض الحديثة لمسرحيتي هنري الرابع التي حقَّرَت صورةَ فولسطاف فجعلَت منه متفاخرًا رِعديدًا، ومُحفِّزًا خبيثًا على الرذيلة، ومتملِّقًا للأمير يطلب فضله، ووغدًا هرمًا أبله، وما يَزيد كثيرًا في هذا الباب الذي يُدنس النصَّ الحقيقي لشيكسبير. والرد الطبيعي هو تقديمُ مجموعةٍ موجزة من أقوالِ السير جون نفسه.١

إيه يا أخي؟ ماذا أدخل الكتابَ المقدَّس هنا؟ أنت تُفسد القديس، والله أنت أفسدتَني تمامًا يا هال، سامحك الله، قبل أن أعرفَك كنتُ بريئًا يا ابني، أما الآن فأقول لك الحقَّ أصبحتُ في عداد الشريرين.

ولكني لا أعرف عنه شرًّا أكثرَ مما أعرف عن نفسي إنه عجوزٌ حقًّا، ويا للأسف فشعره الأبيض شاهدٌ على ذلك، ولكني أنكر — بعد إذن جلالتك — أنه قوَّاد أو عاهر، إذا كان كِبَر السن مع المرح خطيئةً فكم من مضيف عجوز مآلُه إلى النار، وإذا كانت البدانة تدعو إلى الكراهية فلعلنا نُحبُّ بقَراتِ فرعون العجاف. لا يا مولاي، مُر بالنفي على بيتو وباردولف واطرُد بوينز، أما جاك فولسطاف الحبيب، جاك فولسطاف الطيِّب الأمين، جاك فولسطاف الشجاع، وأنا أقدِّر شجاعته خاصةً لكبر سنه، فلا تحرِمْني صُحبة جاك فولسطاف، لا تحرم ابنَك هاري صحبته. إن نفيت جاك البدين فكأنَّك تنفي العالم أجمع.

إذا كان برسي حيًّا فسأنفذ فيه سلاحي، هذا لو جاء في طريقي هكذا، أما إذا لم يتعرَّض لي فلو تعرَّضت له أنا برغبتي فلْيَذبحني ويَشوِني أيضًا. إنِّي لا أحبُّ هذا الشرف. فاغِرُ الفم الذي حلَّ بسير والتر. أنا مع الحياة أحافظُ عليها إذا أمكنَني، أما إذا تعذَّر فالشرف يأتيني بدون أن أبحث عنه — وهذه هي النهاية.

تنزع أحشائي؟ إذا نزعتَ أحشائي اليوم فسآذَنُ لك أن تسحقَني وتأكلني كذلك غدًا. يا للمصيبة! كان لا بد من التظاهر بالموت وإلا كان ذلك الاسكتلندي المتعجِّل المشاكس قد قضى عليَّ تمامًا! تظاهر؟ تزييف؟ كذب كلُّ ذلك! لست صورةً مزيفة، لو كنتُ مت لأصبحت صورةً مزيفة فليس الإنسان بدون حياة إلا صورةً مزيفة للإنسان، إنما تزييف الموت من أجل الحياة ليس تزييفًا، بل هو نفسه الحياة وصورتها الحقيقية.

أطلق على هذه المقتطفات الأربعة: أقوال السير جون فولسطاف عن ورَع العامة، وعن الشرِّ الشخصي، والشرف الحربي، وبركة الحياة نفسها. إنني أسمع لماحية عظيمة، ولكن أيضًا حكمة صادقة، وتدميرًا للوهم. إنني لا أسمع مجردَ معرفة، وهي المرض المهني للكهَّان الأكاديميِّين المستائين، الذين يرَون أن فولسطاف، مثلهم، يطلب مكانًا على القمة. وليس السير جون إطلاقًا هرمًا لطيفًا محبوبًا، فهو شخصيًّا غيرُ صالح، على شاكلة بعض كبار الشعراء الذين لم يكونوا على وجه الدقة مواطنين صالحين منتِجين، مثل فرانسوا فيون، ومارلو، ورامبو. فأنت تَعافُ تناول الطعام معهم، أو تسرق من جيوب الأشخاص مثل فيون، أو تتجسس مع مارلو، أو تعمل بتهريب الأسلحة النارية مع رامبو، أو تقطع الطريقَ للسطو على المارة مع فولسطاف. ولكن السير جون، مثل هؤلاء الشعراء الفاسدين يتمتَّع بالعبقرية، أي بقدر وافٍ من عبقرية شيكسبير نفسه يَزيد على أيِّ شخصية أخرى باستثناء هاملت. وأما ممارسة الرفض الأخلاقي لفولسطاف، فلماذا؟ أي شخصيةٍ أخرى باستثناء هاملت. وأما مُمارسة الرفض الأخلاقي لفولسطاف، فلماذا؟ أي شخصيةٍ في مجموعة الهنريادية يمكن أن نُفضلها على جاك البدين؟ أما هنري الرابع، المنافق والمغتصب، فليس خيارًا، لا ولا هال/هنري الخامس، المنافق والجندي الغاشم، من يذبح الأسرى، ويذبح رفيقه القديم باردولف. ترانا نُفضل قول هوتسبير «موتوا جميعًا، موتوا مراحًا» على قول فولسطاف «هَبْني الحياة»؟ هل فولسطاف أدنى أخلاقيًّا من الأمير جون الخَئون؟ ويوجد بطبيعة الحال قاضي القضاة، إن كانت ذائقتك تَميل إلى إنفاذ القانون بمعناه المعروف. الواقع أن شيكسبير وجمهور عصرِه فهموا فولسطاف حقَّ الفهم، وأن جانبًا كبيرًا من التقاليد البحثيَّة قد أساء فهمه. و«الزوجة من مدينة باث» [عند تشوسر] تُعتبر الوالدة الأدبية لفولسطاف، وهي تقسم النقاد بأسلوبِ تقسيم فولسطاف لهم تقريبًا. وليس من المحتمل أن يودَّ المرء الزواج من «الزوجة» المذكورة، ولا أن يُعربد مع فولسطاف، ولكنك إن كنتَ تشتاق إلى مذهب الحيوية، وتنشد الحياة النابضة فاقصد الزوجة المذكورة، أو بانيرج (عند رابيليه) أو سانشو بانزا (عند سيرفانتيس) ولكن، قبل هؤلاء جميعًا، عليك بالسير جون فولسطاف؛ فهو الصورة الصادقة والكاملة للحياة نفسِها.

ويُقدم جراهام برادشو صورةً محدودة إلى درجةٍ كبيرة لفولسطاف، تستندُ إلى أساسٍ عجيب هو أنَّ فولسطاف لا يتكلم إلا نثرًا، مثل ثيرستيز في طرويلوس وكريسيدا، ولكن شيكسبير لا يُؤلِّف أوبرا، ولا أعتقد أننا استطعنا، وَفْق المعلومات المتوافرة إلى الآن، أن نقطع فيما إذا كانت لدى شيكسبير نوايا حاسمةٌ تصحب الاختيارَ ما بين النظم والنثر. وهاك ما يقوله برادشو:

يتفاخر فولسطاف، مثل ياجو، بأنَّه يقول الحق، لكنه يتكلم لغةً لا تُتيح إلا قولَ بعض أنواع الحق. فلُغته تُعبر عنه، ونطاق دلالاتها المحدود يقع وسط عددٍ بالغ الضخامة من النطاقات الدلالية داخل المسرحية بصفتها كِيانًا كلِّيًّا (أو كيانَين كُليَّين وهي مسألةٌ ينبغي ألا تُشتت انتباهَنا هنا). وإدراكنا القائم على هذه الحقيقة بوجود شتى الإمكانيات والطموحات الإنسانية التي تتجاوز نِطاق فولسطاف تمامًا له عواقبُ مهمة؛ فمن شأنه أن يضمنَ أن ما يُطربنا به فولسطاف من تساؤلاتٍ وإجابات عن الشرف لا يُلزمنا إلا بما يُلزمنا به ردُّ جلوستر على مقولة إدجار «وعلينا أن نتأهب للوقت المعلوم»؛ إذ يقول جلوستر «وذاك لا شكَّ صحيح.»

إننا نعجب من مقارنة فولسطاف بياجو من جانب برادشو الحصيف؛ إذ إنه يستغرقُ مؤقتًا في الفرضيَّة التي يستثمرها عن التمييز بين النثر والشعر إلى الحدِّ الذي يُنسيه أن فولسطاف لا يخون أحدًا ولا يضرُّ أحدًا، وأنه لا يعبث بحياة الشخصيات الأخرى كدأبِ ياجو. والواقع أن التضادَّ بين اللماحية الإنسانية عند جاك البدين والتوريات الساخرة الفتَّاكة عند ياجو أوضحُ من أن يذكر. ولكن الخطيئة الحقيقية التي يرتكبُها برادشو تقع في مكانٍ آخَر، ألا وهو سعيه للعثور على طريقٍ وسط بين المحتفين بفولسطاف والأخلاقيِّين السياسيين. ومن يكون برادشو (أو غيره من بيننا) حتى يحكمَ «بوجود شتَّى الإمكانيات والطموحات الإنسانية التي تتجاوز نطاق فولسطاف تمامًا» لأنه يتكلم نثرًا، بل وأفضل نثرٍ فعلًا في أية لغةٍ حديثة؟ وما تلك الطموحات والإمكانيات؟

يتضح أنها ما يتحدث عنه ويفعله هال/هنري الخامس، والملك هنري الرابع، والأمير جون، وهوتسبير وأصحابهم: ألا وهي السلطة، والاغتصاب، والحكم، والابتزاز الهائل، والخيانة، والعنف، والنفاق، والورع الزائف، وقتل السجناء والأسرى الذين استسلَموا بموجبِ الهدنة. إن برادشو يرى أن هؤلاء جميعًا تضمُّهم مقولةُ الشرف، ويردُّ فولسطاف/شيكسبير عليها قائلًا «أنا لا أحبُّ الشرف الذي يَفغر فاه [لابتلاعك] كما حدَث للسير وولتر [رالي]. هَبْني الحياةَ التي إن استطعتُ الحفاظ عليها فبها: وإن لم أستطع فالشرفُ يأتي من دون أن أطلبه، وذاك فصلُ الخطاب» تُرى هل نسمع عن نطاقاتٍ أوسعَ للطموحات والإمكانيات الإنسانية في هذا الكلام، أو في تهديد هال لهوتسبير:

سَأَقْطِفُ الذي يَلُوحُ مِنْ بَرَاعِمِ الشَّرَفْ
مِنْ فَوْقِ نَاصِيَتِكْ،
فَأَجْعَلُ الزُّهُورَ إكْلِيلًا لهَامَتِي أَنَا.
هذا نظمٌ ملَكي (وطنطنةٌ ملكية) ولكن هل يمكن لأي فردٍ ذي حساسية أن يُفضله على قول فولسطاف «هبني الحياة»؟ إن هال يفوز؛ فهو يقتل هوتسبير ويُصبح هنري الخامس، وينبذ فولسطاف، ويهزم فرنسا، ويموت في شبابه (في التاريخ، لا على خشبة مسرح شيكسبير) في حينِ أن فولسطاف ينكسر، ويموت حزينًا (ولكن بصحبة الموسيقى المدهِشة للنَّثر الذي تَصوغه السيدة كويكلي)، ثم يُبعَث على الدوام في نثره الخالد، ويعيش في وِجداننا منذ تلك اللحظة، باعتباره «أحد الأشكال التي تَزيد حقيقتها على حقيقة الإنسان الحي» كما يقول الشاعر شلي. ولا ينتمي شيكسبير إلى اللماحين العظماء ولا إلى الكتائب الضخمة، لكننا لا نستطيع أن ننسى أنه كان نفسه ذا لماحيةٍ فائقة، وكاتبًا لَوذعيًّا مُسالمًا، وربما كان يجلس ذاتَ يوم في هدوءٍ في الحان، ويُصغي إلى ما يتَفاخر به بن جونسون، صادقًا، من أنه، أي مؤلف فولبوني، قد قتَل غريمه في مبارزةٍ فردية بين جيشَين متحاربين وعلى مرأًى منهما. وأما السير جون، المحارب المخضرم الذي تلقَّى الطِّعان، فهو يتجوَّل في ساحة القتال في شروزبري، حاملًا زجاجةً من النبيذ في غِمْدها في حزامه، وقد اعتزم ألا يقتل أحدًا أو يسمح لأحدٍ بقتله، على الرغم من جُرأته على مُلاقاة ما كُتب له مع المجنَّدين من أتباعه في أسمالهم البالية (فهو القائل: «قُدت أتباعي مِن لابسي الأسمال إلى حيث أُمطِروا بالرصاص») وشيكسبير نفسه ليس ربًّا للنظام ولا للفوضى، وأنا لا أعرف لماذا يتكلَّم شايلوك بالنَّظْم أحيانًا وبالنثر أحيانًا أخرى، لكنني لا أريد للسير جون أن يتكلم نظمًا. فنثرُ فولسطاف أشدُّ ليونةً واتساعًا من نَظْم الأمير هال، كما يضمُّ نطاقًا شاسعًا من الإمكانيات الإنسانية التي تزيد كثيرًا عن قوالبِ هال المنظومة.

٣

يقول صمويل بطلر، الروائي والمفكِّر المستقل ابن العصر الفيكتوري، في بعض الملاحظات التي كتبَها في كرَّاسةٍ لديه، إن «الشخصيات العظمى تعيش بحقٍّ مثل ذكرى الأموات. وليس من الضروري أن يكون الرجل أو المرأة قد عاش فعلًا حتى تُكتب له الحياةُ بعد الموت.» وفولسطاف — مثل هاملت، ودون كيخوته، ومستر بيكويك — لا يزال حيًّا لأن شيكسبير كان يعرف ما يُشبه السرَّ الغُنُوصِي للبعث، ألا وهو أن يسوع بُعث أولًا ثم مات. وشيكسبير يُصور بعث فولسطاف من الموت، ولا يحدث إلا بعد ردحٍ طويل أن تقصَّ علينا السيدة كويكلي قصةَ موت السير جون. وللناقد جون بيلي ملاحظةٌ حَصيفة تقول «إن الشخصية هي ما لدى الآخَرين، وأما «الوعي» فإنه نحن»، ولكن ملاحظته تنتمي إلى الحياة أكثرَ مما تنتمي إلى الأدب؛ إذ إن معجزة هاملت وفولسطاف أن الوعي الذي يتجلَّى فيهما يتماهى معنا ولا يتماهى في آنٍ واحد. وهكذا فلا يلزم أن يبدأ فهم فولسطاف بحبه، بل لا بد أن يبدأ بالإدراك العميق لطبيعةِ وعيه ونطاقه. فإن وعي فولسطاف يُمثل الحلول، ووعي هاملت يُمثل التعاليَّة، والحلول والتعاليَّة أكبرُ تمثيلَين للوعي عند شيكسبير، بل في الأدب كلِّه. فالوعي لا بد أن يكون وعيًا بشيء، وهو عند هاملت الوعيُ بكل ما في السماء وما في الأرض. والأخلاقيُّون والتاريخيون (وهما صفتان تُطلَقان على الشخص نفسه) يرون أن وعي فولسطاف مقصورٌ إلى حدٍّ ما: على الطعام والشراب والجنس والسلطة والمال. ولا نستطيع أن نعرف إن كان شيكسبير أقربَ إلى فولسطاف أو إلى هاملت، على الرغم من أن أ. ج. هونيجمان، الكاتب الجبَّار، يُرجح هاملت، وهو ما يهزُّني نفسيًّا. ولكن إذا كانت التورية الدرامية أحيانًا ما تنال من هاملت بحيث نستطيع أن نراه بالصورة التي لا يستطيع أن يراها لنفسِه، فإن فولسطاف، مثل روزالند، ينظر في جميع الاتجاهات ويرى نفسَه بقَبولٍ ذاتي جادٍّ وهازل معًا، وهو ما لا يُسمَح لهاملت به. ويُحذرنا هونيجمان قائلًا إن العلاقة بين فولسطاف وهال لا تقبل التحليل النفسي: ربما لا تقبل التحليل النفسي الكامل، ولكنها تقبله إلى حدٍّ معقول؛ فنموذجها عند شيكسبير، باتفاق الآراء، علاقةُ شيكسبير بالنبيل الشاب التي يخاطبه في السونيتات، سواءٌ كان ساوثامتون أو بمبروك. وأما القول بأن شيكسبير هو فولسطاف، فالواضح أنه زعمٌ سخيف؛ فلم يكن ذلك دورًا يستطيع أن يلعبَه، حتى على خشبة المسرح. لك أن تتصوَّر أن شيكسبير هو أنطونيو في تاجر البندقية، إذا أردت، فمن المحتمل أنه قام بتمثيل ذلك الدور، واعيًا وعيًا تامًّا بالدلالات المترتِّبة عليه. ومع ذلك، فإن حيوية فولسطاف وردودَ فعله الغامضة على أقوالِ هال ذات الدلالات المتضادَّة ترتبط ببعض الروابط بالسونيتات. ولن نُخطئ مهما بالَغْنا في توكيد أبرزِ صفتَين عند فولسطاف: الذهن المدهش والحيوية الدفَّاقة، وربما لم تكُن الصفة الثانية موهبةً شخصية بارزة عند الرجل وليم شيكسبير.
وشيكسبير يجعل هال يقتل هوتسبير في ختام هنري الرابع/١، ولكن دَجْلاس يفشل في قتلِ فولسطاف. تخيَّل ما يكون عليه فِعلُنا إن كان الاسكتلندي المشاكس قد نجح في قتل السير جون! لا بد أن يبدوَ الألمُ على وجوهنا، لا لأننا نريد الاحتفاظ بالجزء الثاني (هنري الرابع/٢) وحَسْب. والخاتمة للجزء الثاني تتضمَّن الوعدَ بظهور فولسطاف في هنري الخامس، وهو تعهُّدٌ رفض شيكسبير أن يفيَ به، وإن كان لنا أن نسأل: هل في تلك المسرحية شيءٌ أجمل من وصف السيدة كويكلي لمشهد موت فولسطاف؟ ماذا كان يمكن أن يحدث للسير جون لو ظهر في هنري الخامس؟ تراه يُشنَق، مثل المسكين باردولف، أم يُضرب ضربًا مبرحًا مثل البائس بستول؟ سواءٌ كانت لمسرحية هنري الخامس مزايا جمالية أو لم تكن، فإنها لا تُمثل نفسها في مسرح الذهن، مثل هنري الرابع بجُزأَيها. إذا كنتَ ذا اهتمامٍ شديد بتاريخ الملكية في عصر النهضة ونظريتها، فسوف تكون لمسرحية هنري الخامس أهمية معرفية. ولكن عموم القراء وروَّاد المسرح نادرًا ما يُحفزهم إلى التفكير العميق مشهدُ معركةِ أجينكور، ومقدِّماتها وتوابعها. ويستغرق الملك هنري الخامس في تأمُّل الأعباء الملكية، والتزامات الرعايا، ولكن مُعظمنا لا يُشاركونه تأمُّلاتِه. إن معظم الباحثين يرون أن فولسطاف رمزٌ للاستغراق في الملذات، ولكن معظم رواد المسرح وقُرَّائه يرَونه ممثلًا للحرية الخيالية؛ أي لحريةِ التصدِّي للموت وللزمن وللدولة، وذلك موقفٌ ننحتُه لأنفسِنا نحتًا. فإذا أضفتَ حريةً رابعة إلى اللازمنية، ألا وهي بركة «زيادة الحياة»، وتحاشي الدولة، كان لك أن تُسمِّيَها التحرُّر من اللوم، من الأنا العليا، من الإحساس بالذنب. وأنا أتردَّد في اختيار قوةٍ واحدة من بينِ قُوى شيكسبير التي لا تُحصى، ممتنعًا عن تحديد ما أعتبرُه الأوَّل أو الأعلى، لكنني أحيانًا أقول إن أعلاها ثقتُه في جمهوره. وأنت تُحدد مَن أنت باستجابتك لفولسطاف، أو لأخته الصغيرة كليوباترا، بل مثلما رأى تشوسر أنك تستطيعُ أن تُحدد مَن أنت بالحكم الذي تُصدره (أو ترفض أن تصدره) على «الزوجة مِن مدينة باث». وأما الذين لا يأبَهون لفولسطاف فهم يُحبون الزمن، والموت، والدولة، والرقيب. وهم ينالون جائزتهم. وأنا أفضِّل أن أحب فولسطاف، صورة لماحية الحرية، ولغة حرية اللماحية. وتوجد طريقٌ وُسطى؛ أي الامتناع عن الارتباط العاطفيِّ بفولسطاف، ولكنها تختفي إذا شاهدتَ عرضًا حسَنًا لمسرحيتَي هنري الرابع. وقد سجَّل الشاعر و. ﻫ. أودن ذلك بحيويةٍ شديدة:

ردُّ فعلي المباشر أثناء العرض أن أتساءل عمَّا يفعله فولسطاف في هذه المسرحية إن كان يفعل أي شيء على الإطلاق … وعندما تتتابعُ أحداث المسرحية، يحل محلَّ دهشتنا نوعٌ جديد من الألغاز؛ فكلما ازدادت معرفتُنا بفولسطاف اتضَح لنا أن عالم الواقع التاريخي الذي تزعم المسرحيةُ التاريخية أنها تُحاكيه ليس عالمًا يستطيع فولسطاف أن يسكنه.

للمرء أن يتفقَ مع هذا، ولكنه يختلف مع أودن حين يُصر على أن العالم الوحيد المناسب لفولسطاف هو أوبرا فيردي. ومن الغريب أيضًا أن يُطلق أودن على فولسطاف اسم «ترول» (troll)؛ أي الجني العملاق في مسرحية بيرجينت للكاتب إبسن، ولكن هذا خطأ؛ فالترولات شيطانية، لكنها أقربُ إلى الحيوان منها إلى الإنسان، وفولسطاف يموت شهيدًا لحبٍّ بشري؛ أي لحبِّه غير المتبادَل «لولده» النازح الأمير هال. وأقول من جديد: إنك إن كنت تنفر من فولسطاف، فلك أن تتجاهل حبَّه باعتباره جروتسك أو يرمي إلى مصلحة ذاتية، ولكن لك أيضًا أن تنبذ مسرحيتي هنري الرابع. لستُ أعتزم تبرير موقف فولسطاف على الإطلاق، أما بالنسبة لشيكسبير، فالواضح أن حبَّ الشاعر نفسه للنبيل الشاب في السونيتات لم يكن جروتسك أو يطلب منفعةً شخصية، ويبدو أنه بالحق نموذجُ العلاقة بين فولسطاف وهال — ولا تزال الشخصية الإنسانية لشيكسبير لغزًا؛ فبعض المعاصرين له يقولون إنه بَشوش صريح، وإن كان يتَّسم بالشدة في معاملاته المالية. ولكنَّ عددًا آخَر من مُعاصريه يقولون إنه كان يميل إلى العزلة، بل وبلمسةِ جفاء. ومن المحتمل أنه تحوَّل من شخصيةٍ إلى شخصية أخرى أثناء حياته العمَلية على امتداد رُبع قرن. ومن المُؤكَّد أن شيكسبير لم يلعب دور فولسطاف على المسرح قط، مثلما لم يلعب دور هاملت، وربما لعب دور الملك هنري الرابع، أو أحد المتمرِّدين من كبار السن. ولكن دَفْقة الحياة الكاملة في لغته، أي نفسه الاحتفالية، حاضرةٌ في نثرِ فولسطاف حُضورَها في نَظْم هاملت. فإن كنتَ تحب اللغة فأنت تحبُّ فولسطاف، وحُب شيكسبير للُّغة مؤكدٌ ملموس. وسَعة الحيلة عند فولسطاف تجمع وفرة الازدهار اللغوي في خاب سعي العشاق، بالطاقات اللفظية العدوانية عند النَّغْل فوكونبريدج، وبالتدفق السلبي للُّغة عند شايلوك. وبعد نثر فولسطاف، أصبح شيكسبير مستعدًّا لنثر هاملت، الذي يُنافس نظم أمير الدنمارك.
يقلُّ عند شيكسبير عددُ الشخصيات التي تدعو بحقٍّ إلى التأمُّل اللانهائي عن عشر شخصيات (على الأكثر)؛ من بينِها: فولسطاف، وروزالند، وهاملت، وياجو، ولير، وإدجار، وإدموند، ومكبث وكليوباترا. فإذا وضعنا صورَ الشخصيات الكثيرة في معرضٍ كبير لم نجد أنها تتمتَّع بالعمق نفسِه والإشكاليةِ نفسِها، مثل النَّغْل فوكونبريدج، وريتشارد الثاني، وجوليت، وبوطوم، وبورشيا، وشايلوك، والأمير هال/هنري الخامس، وبروتوس، ومالفوليو، وهيلينا، وبارول، وإيزابيلا، وعطيل، وديزدمونا، والمهرج في الملك لير، وليدي مكبث، وأنطوني، وكوريولانوس، وتايمون، وإيموجين، وليونتيس، وبروسبرو، وكالبيان. هذه إذن قائمةٌ بأربعٍ وعشرين شخصية، وتُعتبر أدوارًا مسرحيةً عظيمة، لكنك لا تستطيع أن تقول عنها ما يقوله إبليسُ عن نفسه عند ميلتون؛ أي «في كل عمقٍ من أعماقه ينفتح لنا عمقٌ أعمق.» أما الأوغاد العِظام — ياجو وإدموند ومكبث — فهم يبتكرون العدمية الغربية، وكل واحدٍ منهم هُوةٌ بالغة العمق في ذاته. وأما لير وربيبه إدجار فهما دراستان بالِغتا العمق للعذاب والتحمُّل عند البشر إلى الحدِّ الذي يجعلهما يحملان أصداءَ الكتاب المقدَّس في مسرحيةٍ وثنية سابقة للمسيحية، وأما فولسطاف وروزالند وهاملت وكليوباترا، فهم شيءٌ مستقل منفصلٌ في أدب العالم؛ فمِن خلالهم أساسًا ابتكر شيكسبير الشخصيةَ الإنسانية، على نحوِ ما لا نزال نعرفه ونُقدر قيمتَه فيها. ويتمتَّع فولسطاف بالأولوية في هذا الابتكار، فإذا عجَزنا عن تقديرِ ضخامة شخصيته التي تتجاوز حتى ضخامةَ كرشه، كنا نعجزُ عن إدراك أعظم الصفات الشيكسبيرية الأصيلة أو ما نُسميه ابتكارَ الشخصية الإنسانية.
إلى أيِّ مرحلة في الماضي يمكننا أن نرجع في فَهمنا لفولسطاف؟ أما الاستنباط، على نحوِ ما مارسه أولَ مرة موريس مورجان في القرن الثامن عشر، ثم شذَّبه وهذَّبه أ. د. ناطول في عصرنا؛ فهو المدخل الذي يُقدمه شيكسبير نفسُه. ومن الجوانب المتجاهَلة في الجزء الثاني من هنري الرابع أن المسرحية ترجع بنا بأسلوبٍ لطيف إلى سنوات فولسطاف المبكِّرة. ولا يمكننا أن نقول إن شيكسبير يُقدم لنا جميع المعلومات التي قد نرجوها بصدد حياة السير جون فولسطاف وموته، ولكنه يُقدم إلينا قطعًا أكبرَ ممَّا يكفي لمساعدتنا على تقدير الشخصية الإنسانية الهائلة لفولسطاف. وليس شيكسبير أنثروبولوجيا ميدانيًّا إلا في حدود اتصاف الأمير هال الذي رسمه بذلك: وترتبط «الفولسطافية» ارتباطًا وثيقًا «بالهنريادية»؛ فكلٌّ منهما منسوجٌ من مادةٍ أسطورية: وشيكسبير يتحدَّانا أن نتخيَّل بعض الأشياء ثم لا يُقدم لنا مفاتيحَ تخيُّلها: كيف بدأ هال وفولسطاف صداقتَهما أصلًا؟
أُدرك أن أنصار ما يفترض أنه المنطق السليم سوف يجدون سؤالي على الأرجح مزعجًا. لكنني لا أواجه خطر الاعتقاد بأن السير جون كان مخلوقًا من لحمٍ ودم، له وجودٌ حقيقي وحسبُ مثلك ومثلي. ولم يكن لفولسطاف أن يكتسب أية أهمية لولا أنه يَزيد عنا جميعًا في الحيوية، والتألُّق واللماحية. وهذا هو السبب الذي يجعل ناطول، في خلافه اللطيف مع موريس مورجان، يُعبر عن اختلافه بدقةٍ شديدة:

لا يقوم اعتراضي على تخمينات مورجان على أن فولسطاف لم تكن له حياةٌ سابقة، بل على أن شيكسبير لم يُقدم لنا المفاتيح الكافية لترجيح صحةِ ما يستنبطه مورجان بتفصيلاته الكثيرة.

والقضية الصحيحة إذن أن نقول كم عدد المفاتيح المقدمة، وما مدى تطبيقِها، ونحن نَقبل (مثلما يقبل ناطول بحصافته) فكرةَ مورجان التي تقول بوجودِ معنًى كامن في مسرحيات شيكسبير، أو قُل إنه لحنٌ خَفيض النبرات:
إذا كانت شخصيات شيكسبير كياناتٍ كاملة، وأصيلةً إن صحَّ هذا التعبير، في حينِ أن شخصيات جميع الكتَّاب الآخرين مجردُ محاكاة؛ فربما كان من المناسب أن نعتبرَها كائناتٍ تاريخيةً لا درامية، وإذا سنَحَت الفرصة، أن نُفسر سلوكها استنادًا إلى الشخصية الكاملة، لا إلى مبادئ عامة، ودوافع كامنة، وسياسات غيرِ مصرَّح بها.
أي إن مورجان يدعو إلى نقد خبراتي لشكيسبير، وهو مع الأسف يبتعد بمسافةِ سنواتٍ ضوئية عن جميع التفسيرات الجارية لشيكسبير تقريبًا. وهكذا نرى أن ليو سالينجر، الذي التحَق بناطول والقلة القليلة من المدافعين المحْدَثين عن مورجان، يُتابع ما يلمح إليه شيكسبير حتى يكتشفَ صورةً أكثر إظلامًا لفولسطاف من الصور التي رسَمها مورجان وهازليت، وأ. سي برادلي. وعلى الرغم من قول سالينجر باستحالة الاتفاق النقدي حول فولسطاف (وحول نبذِ هال إياه) فأودُّ أن أرسم بخطوطٍ عريضة صورةً شاملة للعلاقة بين فولسطاف وهال بقدرِ ما يسمح لنا شيكسبير باستنباطه، استنادًا إلى أصول نشأة هذه الصداقة الغريبة، ثم أعرض لنبذ فولسطاف من معيَّة «الحضرة الملكية» التي ساءها سلوكُه بما كانت تزعم مِن صلاح وورع. ويُعيدني ذلك إلى سؤالي: كيف نُقدم وصفًا شيكسبيريًّا لاختيار الأمير هال المبدئي لفولسطاف. باعتباره أستاذًا شاردًا، وكيف كان ذلك بديلًا عن مجرد تَكرار هال لما فعَله والده الغاصب؟
حين يُشير شيكسبير أولَ مرة إلى نفور هال من هنري الرابع، في الفصل الخامس، المشهد الثالث، في مسرحية ريتشارد الثاني، لا نجد أيَّ ذكرٍ لفولسطاف — ونحن نفترض أنه كان من بين «الرفقاء المنحلِّين المنحرِفين»، قطَّاع الطرق وروَّاد الحانات. ولما كان الملك ريتشارد الثاني لم يُقتَل بعد، فإن فرار هال من والده لا بد أن يُشير إلى تحاشي إثمِ الاغتصاب، لا الإثم الأكبر الذي يتمثَّل في قتل الملك. ومع ذلك فإن ما يفرُّ هال منه لا بد أن يكون حَدْب أبيه على السلطة، وهو دافعٌ يشاركه الأمير فيه، بحيث يعمد هال إلى كبْتِ طموحاته — أم تراه يؤجِّلها وحسب، وهي خطوةٌ تتَّسم بوعيٍ أكبر؟ ويُقدم لنا شيكسبير أدلةً تكفي وتَزيد على أن هذا الجانب من هال يتَّسم بنفاقٍ أشدَّ برودًا مما يتَّسم به والدُه بولينبروك في الحاضر والماضي. ولكنَّ جانبًا آخر منه كان (أو أصبح) فولسطافيًّا، بأعمقِ معنًى من معاني الفولسطافية: عبقرية اللغة والقدرة البلاغية على التحكُّم في الآخرين من خلالِ البصيرة السيكولوجية.
إن فولسطاف صورةٌ مزعجة مثيرة من سقراط، ولكن سقراط أزعج معاصريه وأثارهم حتى حكموا عليه بالإعدام. وتوجد صلةٌ بين فولسطاف عند شيكسبير وسقراط عند مونتاني، وهي صلةٌ قد تكون تأثيرًا مباشرًا، ما دام من المحتمل أن شيكسبير قد اطَّلع على ترجمة فلوريو لمونتانيْ وهي بعدُ مخطوطة. وقد أدرك الباحثون أن وصف السيدة كويكلي لموت فولسطاف، في مسرحية هنري الخامس يشير بوضوحٍ إلى قصة أفلاطون عن موت سقراط في فايدو. وسقراط عند مونتاني يُشبه فولسطاف في جوانبَ أخرى غير موته، وربما كان الأمير هال يتصف بسمةٍ من سمات ألكيبياديس، وهو الذي يختلف عن ألسيبياديس عند شيكسبير، الذي يظهر في تايمون الأثيني. وللمرء أن يعترض قائلًا إن فولسطاف يعلم اللماحية لا الحكمة، كما كان سقراط يفعل، ولكن لماحية فولسطاف تتَّسم بالحكمة الماجنة، كما أن سقراط كان ذا لماحيةٍ في حالاتٍ كثيرة.

وعلى الرغم من إصرار الأمير هال على اتهام فولسطاف بالجُبن؛ فسوف أبرِّر دفاع موريس مورجان عن شجاعة فولسطاف، فهي شجاعةٌ برجماتية تحتقر ادِّعاء «الشرف» المنتسِب إلى تقاليد الفروسية من النوع الخاص بهوتسبير. فإن شجاعة فولسطاف العاقلة تُشبه شجاعة سقراط الذي كان يعرف كيف يتراجع بلا أدنى خوف. وفولسطاف يُشبه سقراط في الامتناع عن الحرب إلا حين يرى لها سببًا منطقيًّا، وهو ما يعترف به بوينز في حديثه مع هال.

وأصدقُ تشابهٍ بين فولسطاف وسقراط عند مونتني هو التضادُّ الذي يشتركان فيه بين سوء المظهر الخارجيِّ والعبقرية الباطنة. ويتَّخذ مونتاني من سقراط بطلًا له في كثيرٍ من المقالات، ويمتدحه بصفة خاصة في المقالَين الأخيرين وهما «عن شكل الجسم» و«عن الخبرة». ونحن واثقون إلى حدٍّ معقول من أن شيكسبير قرأ المقالة الخاصة «بشكل الجسم» لأن هاملت يردِّد أصداءها، وهو ما يُقارب اليقين عندنا، وأما «عن الخبرة» فهي رائعة مونتاني وتتَّسم بروحٍ شيكسبيرية عميقة. وقبحُ وجه سقراط هو الوعاء الذي يتضمَّن الحكمة والمعرفة، حتى ولو كان فولسطاف الجروتسك [ذو الشكل الغريب المضحِك] يتجاوز ذهنيًّا جميعَ شخصيات شيكسبير ما عدا هاملت.

ويتَّسم سقراط عند مونتاني بالشكِّ والإيجابية؛ فهو يتشكك في كلِّ شيء ويظلُّ ثابتًا على قيمه، وفولسطاف ساخرٌ فائق، مثل هاملت، ومؤمن بالمذهب الحيوي إيمانًا عميقًا، كما كان يمكن لهاملت أن يُصبح، فهو ربُّ المواقف السلبية، لولا تدخُّلُ شبح أبيه. ويقول مونتاني في «عن الخبرة»، إنَّ لديه مفرداتٍ خاصةً به، وهو ما يتسم سقراط وفولسطاف به إلى حدٍّ مذهل. فالثلاثة جميعًا — مونتاني وسقراط وفولسطاف — من رجال التربية والتعليم الكبار، على الرغم مما يُنكره الباحثون على فولسطاف في هذا الصدد. وأما الدرس الذي يُعلمه لنا الثلاثة فهو درس الخبرة الأعظم؛ أي الكمال وشبه الربانية المتمثِّلَين في معرفة كيف نستمتع بوجودنا حقَّ استمتاع.

وللمرء أن يحدسَ إذن أن هال جاء إلى فولسطاف أولًا مثلما جاء ألكيبياديس وكثيرٌ غيره من الشبَّان (ومن بينهم أفلاطون) أولًا إلى سقراط: وكان الحكيم السيِّئ السمعة هو المعلِّم الحقيقي للحكمة. وأما عن المرحلة السابقة، أو المراحل السابقة التي قضاها هال في صحبة فولسطاف فلا نكاد نعرف عنها أيَّ شيء، وعندما نرى الاثنين على خشبةِ المسرح للمرة الأولى معًا، نجد هال مهاجمًا، ونُدرك أن التباس موقفه تجاه فولسطاف يُسود كلَّ كلام يُوجهه إليه، وينجح السير جون في صدِّ الهجوم برشاقةٍ وخفة، لكنه لا بد قد بدأ يتبيَّن، كما يتبين الجمهور، أن التباسَ معاني الأمير أصبح سلاحًا فتاكًا. ولكن هذا التحول يدلُّ دلالةً مضمَرة على وجودِ علاقةٍ سابقة وثيقةِ العُرى وبالغة الأهمية بين الأمير والفارس البَدين. وقد حافظ فولسطاف وحده على العاطفة الإيجابية في العلاقة السابقة، ومع ذلك فلماذا يُواصل السعي للقاء فولسطاف؟ الواضح أن الأمير يريد شيئَين؛ أولهما إدانةُ فولسطاف بتُهمة الجبن، وثانيهما إثباتُ قدرته البلاغية لا على الصمود فقط لمَن علَّمه اللماحية، بل أن يتفوق على فولسطاف أيضًا، متجاوزًا ما تعلَّمه منه.

ولقد تألَّق وليم إمبسون فيما كتبه عن صورةٍ لفولسطاف لا تختلف كثيرًا عن الصورة التي أتَّبعُ فيها رأي مورجان وهازليت وبرادلي. فإن فولسطاف في نظر إمبسون «سيدٌ فاضح» هبَط إلى الطبقات الدنيا من المجتمع:

يعتبر فولسطاف أولَ فكاهةٍ كبرى يُطلقها الإنجليز ضد نظامهم الطبقي؛ فهو يُريك كيف يسوء سلوكك، بمَنجاةٍ من اللوم، إذا كنت من السادة؛ أي إن قيام وغدٍ عادي بذلك لن يُثير الضحك.

ويبدو لي هذا الرأي اختزاليًّا إلى حدٍّ ما، ومع ذلك فمِن خلفه ترى اقتناعَ إمبسون المعقول بأن علاقة فولسطاف بالأمير هال من الأرجح أنها تأثرَت بلعب شيكسبير دور سقراط أمام لورد ساوثامتون (أو أي نبيلٍ آخر) يقوم بدور ألكيبياديس، على الأقلِّ في القصة التي ترسمها السونيتات. ونحن نعلم كم كان شيكسبير يتمنى استعادةَ مكانة أسرته باعتبارهم من طبقة السادة، وكيف سخر منه بن جونسون سخريةً لاذعة عندما حصل على درعِ نبالةٍ نُقِش عليه الشعار «ليس بدون حق» وهو الذي أصبح «ليس بدون توابل الخردل» في مسرحية بن جونسون كل إنسان على عكس طبعه (١٥٩٩م). ولكن التركيز على فولسطاف باعتباره ممثلًا للوعي الطبقي عند شيكسبير، والواضح أنه ليس خطأً، تركيزٌ ناقص في آخرِ المطاف. إذ إن صورة فولسطاف التي يرسمها إمبسون تجعله مكيافيليًّا وطنيًّا، ومن ثَم فهو المعلم المناسب لمن سيُصبح الملك هنري الخامس في المستقبل. ويخطو إمبسون خطوةً طريفة أخرى؛ إذ يرى أن فولسطاف يمكنه أن يقود عصابةً ما، فلديه الكاريزما اللازمة، ولا يأبَهُ لأية عقَبات أخلاقية ويستطيع التحكُّم فيمن يقلُّون عنه اجتماعيًّا. أفلا يؤدي ذلك إلى الزحزحة الكاملة لفولسطاف الرائع عن مركز الصورة؟
دأب النقَّاد على وصف فولسطاف بأنه أحدُ سادة اللغة، وهو وصفٌ يَبخسه حقَّه؛ إذ إنه الملك الحقُّ للُّغة، ولا نظيرَ له في أي كتابة أخرى عند شيكسبير أو الأدب الغربي برمَّته. فإنَّ نثره الليِّن والثري جذَّاب إلى درجةٍ مدهشة؛ فالدكتور صمويل جونسون وليدي براكنيل التي يُصورها أوسكار وايلد (في مسرحيته أهمية أن تكون إرنست) يُعتبران معًا من ورَثةِ اللغة الحافلة العجيبة عند فولسطاف. ماذا يمكن أن يتمتع به مُعلم عظيم إلا الذكاء الحاد واللغة المناسبة له؟ إن فلولين في هنري الخامس موفَّق في تشبيه المليك البطل بالإسكندر الأكبر، مشيرًا إلى أن مَن كان الأمير هال يومًا ما «قد طرد ذلك الفارس البدين، لابس الصِّدار الفخم فوق كَرِشه، الذي كان يُكثر من التفكُّه والتندر، ومن البذاءة والتهكُّم»، مثلما قتل الإسكندر صديقَه الصدوق كلايتوس. ويشعر المرء أن فلولين لم يُصِب في هذا التشبيه، فلم يكن فولسطاف يَشغل موقعًا مماثلًا لكلايتوس، بل كان بالقياس إلى الأمير هال ما كان أرسطو بالقياس إلى الإسكندر. والتشبيه المضمَر بأرسطو غريبٌ لكنني لم أضَعْه بل وضعَه شيكسبير. ما الفرق بين هنري الرابع وهنري الخامس؟ إنه فولسطاف؛ لأن الفارس البدين الذي كان «يكثر من التفكُّه والتندر، ومن البذاءة والتهكم» قد علَّم الابنَ كيف يتجاوز والده الغاصب الذي لا يعرف الفرح من دون أن يرفضه. وللمرء أن يؤكِّد توكيدًا مقبولًا أن ذلك ما لم يُحاول فولسطاف أن يُعلمه للأمير هال، ولكن هال (على كراهيتي الشديدة له) يكاد يكون تلميذًا للعبقرية مثلما كان فولسطاف مُعلِّمًا لها. فإن هنري الخامس ذو كاريزما حقيقية، وقد تعلَّم وجوه الانتفاع بالكاريزما من مُعلِّمه ذي السمعة السيئة والمواهب اللانهائية. إننا نواجه مفارقةً من أقسى المفارقات الدرامية حين نرى أن فولسطاف يُمهد لتدمير نفسه لا بإجادة التعليم وحسب، بل بالتطرُّف في الحب أيضًا. إن هنري الخامس ليس مُعلِّمًا لأحد ولا يحب أحدًا، بل قائدٌ عظيم، ويُجيد استغلال السلطة، ولا يشعر بذرَّةٍ واحدة من الأسف على تدمير فولسطاف.
وقد يُمثل نبذُ فولسطاف صدًى عميقًا لإحساس شيكسبير الشخصي بخيانة النبيل الشاب في السونيتات، وإن كان شيكسبير يُبدي موقفًا ملتبسًا إلى حدٍّ بالغِ الغرابة تجاه ذاته في السونيتات، على عكس حبِّ الذات الذي يكاد يكون بريئًا عند فولسطاف، ويُمثل جانبًا من سرِّ عبقرية الفارس البدين. كان السير جون، مثل أوسكار وايلد الذي كان يُبدي إعجابه به، على حقٍّ دائمًا، إلا في التعامي عن نفاق هال، تمامًا كما أخطأ أوسكار العظيمُ في حكمِه فقط على لورد ألفريد دجلاس، الشعرور النرجسي. وقبيل معركة شروزبري، كان فولسطاف على الأرجح أكبرَ المقاتلين سِنًّا وأسمنَ مَن يُخاطر بالموت، وهو يقول بنبرةٍ معقولة ومؤثرة: «ليتها كانت ساعة الهجوع في الفراش يا هال، وليت كل شيء على ما يُرام» ويردُّ عليه الأمير ردًّا جهمًا قائلًا: «إنك تحمل دَيْن الموت لله» ويخرج، وتظل التورية بين «الدَّيْن» (debt) و«الموت» (death) (اللتين كانتا تتشابهان في النطق في العصر الإليزابيثى) تتردَّد أصداؤها على المسرح، ولا أزال أذكر صوت رالف ريتشاردسون في دور فولسطاف، وهو يردُّ على التورية البشعة [في الجناس بين اللفظَين] على لسانِ المحارب هال، قائلًا:
لم يَحِن موعدُ سداد الدَّيْن بعد. وأكره أن أُسدد الدَّيْن قبل الموعد. وما حاجتي إلى أن أُبادر بالدفع لمن لا يُطالبني به؟ ذاك غير مهم على أية حال؛ فإنما يُحفزني الشرف على التقدُّم. أجل، ولكن ما العمل إذا حفَّزني الشرف فوقعتُ أثناء التقدم؟ ما العمل إذن؟ هل يجبر الشرفُ رِجلي إذا كُسِرَت؟ أو ذراعي؟ كلا! هل يستطيع إزالةَ ألمِ الجرح؟ كلا! أليست للشرف مهارةُ الجراح؟ كلا! ما الشرف؟ لفظٌ منطوق. ماذا في ذلك الشرف الملفوظ؟ ما ذلك الشرف؟ هواء! ذاك حسابٌ دقيق! من يتمتع بالشرف؟ ذاك الذي مات يوم الأربعاء. هل يشعر به؟ كلا! هل يسمع ذلك اللفظ؟ كلَّا! إنه غير محسوس إذن؟ أجل لا يحسُّ به الأموات. ولكن ألَا يحيا مع الأحياء؟ كلا! لماذا؟ لأنَّ غيابه لا يؤدي للمعاناة. وإذن فلن أطلبَه. فالشرف مجردُ تكريم مثل درع النبالة. وهكذا ينتهي درسي بالسؤال والجواب.٢
(٥ / ١ / ١٢٧–١٤١)
هل يمكن أن نجد جمهورًا لا يتعلَّم شيئًا من هذا، في مجتمعٍ لا يزال يعشق التخيُّلات الحربية؟ وهل توجد أية مجتمعات لا تعشقها، في الماضي أو في الحاضر؟ إن فولسطاف، مثل الدكتور جونسون الذي يُبدي إعجابه، على مضَض، مسحورًا بفولسطاف، يحثُّنا على تطهيرِ أذهاننا من لغة السوقة، وفولسطاف أشدُّ تحررًا من الأوهام المجتمعية الخادعة من البطل الأكبر جونسون. ونستطيع أن نحدس أن شيكسبير، استنادًا إلى حياته وعمله، كان يكرهُ العنف كراهيةَ التحريم، بما في ذلك العنف المنظِّم للحرب. وهنري الخامس لا تُعلي من شأن المعارك؛ فمُفارَقاتها دقيقةٌ ولكنها ملموسة. «الشرف» مجالُ هوتسبير، ومجال هال الذي يقتل هوتسبير، ومن ثَم يغتصب عرش هذا «الهواء». إنه «حساب دقيق!» فأثناء الذَّهاب إلى القتال يهتف هوتسبير قائلًا «اقترب يوم الحساب، موتوا جميعًا، موتوا بفرحة!» ولكن فولسطاف، على صعيد المعركة، يهتف: «هَبْني الحياة!»
وقد وهب شيكسبير السير جون حياةً حافلة إلى الحدِّ الذي جعل شيكسبير نفسَه يواجه صعوبةً (ومقاومة) شديدة في وضعِ نهايةٍ له، ولم يكن فولسطاف يَدين يومًا ما ﺑ «موتٍ» لشيكسبير. فالدَّيْن (كما كان شيكسبير يعرف) كان من حق فولسطاف، وذلك في مقابل تحرير المؤلف أخيرًا من مارلو، وتمكينه من أن يُصبح أنجح مؤلِّفي المسرح في العصر الإليزابيثي، حتى تضاءل أمامه مارلو، وكيد، وجميع المنافسين الآخرين، حتى بن جونسون نفسه. كان رالف ريتشاردسون يُدرك، منذ نصف قرن على وجه الدقة، أن فولسطاف كان يتمتَّع بحضور الذهن حضورًا مطلقًا، ويستطيع التغلب على كلِّ من يتحدَّاه، حتى رفضه هال رفضًا رهيبًا. وما زلتُ أذكر بكل حيوية، وقد بلغتُ السابعة والستين، ردودَ أفعالي وأنا بعدُ صبيٌّ في السادسة عشرة، يتعلَّم من فولسطاف الذي يُمثله ريتشاردسون كيف يفهم شيكسبير أولَ مرة. كان لعب ريتشاردسون جوهر اللعب، بكلِّ معنًى من معاني اللعب، وتمثيله لفولسطاف (سواءٌ كان يعرف ذلك أم لا) يُمثل صورة فولسطاف عند أ. سي برادلي، الذي يتعرَّض من الآن للتقليل السخيف من قيمة نقده، وإن كان أفضل ناقدٍ إنجليزي لشيكسبير إلى الآن منذ وليم هازليت. يقول برادلي:
إنَّ نعيم الحرية الذي يُكتسَب بالتفكُّه يُمثل جوهر فولسطاف. وتَفكُّهُه ليس مُوجَّهًا فقط أو أساسًا ضد السخافات الواضحة؛ فهو يُعادي كلَّ ما يمكن أن يُعكر صفو راحته، ومن ثم ضد كل شيء جاد، وخصوصًا كل شيء «محترم» أو أخلاقي. فهذه الأشياء تفرض حدودًا والتزامات، وتُخضعنا لذلك الكائن العجيب الهرم؛ أي القانون، وللأوامر المحتومة، ومكانتنا وما تفرضه من واجبات، وللضمير وللسمعة، وآراء الآخرين فينا، وللمضايقات بشتى أنواعها. وهكذا أقول إنه يُناصبها العداء، لكنني بذلك أظلمه، فقَولي إنه يُعاديها يوحي بأنه يراها جادةً ويعترف بسُلطتها، والواقع أنه يرفض الاعتراف بها على الإطلاق؛ فهو يراها عبثية، واختزال أي شيء، بوصفه بالعبثية، يعني تحويله إلى عدم، والانطلاق في حريةٍ ومراح. وهذا ما يفعله فولسطاف بكلِّ ما يبتغي اتخاذ صورةٍ جادَّة في الحياة، وهو يتوسل بألفاظه فقط أحيانًا، وأحيانًا بأفعاله أيضًا. إن لديه القدرةَ على أن يجعل الحقيقة تبدو عبثيةً بأقوالٍ تتَّسم بالوَقار وينطقها بأقصى قدرٍ من الرصانة، من دون أن يتوقع أن يُصدقها أحد؛ والشرف كذلك، بإثبات أنه لا يستطيع جبْرَ رِجلٍ مكسورة، قائلًا إن الشرف يستعصي التحلِّي به على الأحياء والأموات جميعًا؛ والقانون أيضًا، بتحاشي هجماتِ أرفع ممثلٍ له، بل وإرغامه تقريبًا على أن يضحك من هزيمته؛ والوطنية أيضًا، بملءِ جيوبه بالرُّشا التي يُقدمها الجنود الأصحَّاء الذين يريدون تجنُّب القتال، وهو يُمسك بدلًا منهم بالزمام، وبالمصابين والسجناء؛ وبالواجب كذلك، بتِبيان كيف يجتهد في مهنته اجتهادًا شديدًا؛ أي بالسرقة، وبالشجاعة، وذلك بالتهكُّم على أسرةِ كولفيل (Colevile)، والزعم بوقارٍ أنه قتل هوتسبير؛ وبالحرب، بتقديم قِنِّينة خمره إلى الأمير الذي كان قد طلب منه سيفًا؛ وبالدين؛ إذ يُسلي نفسه بالتوبة في أوقات متفرقة، عندما يفرغ ولا يجدُ ما يفعله، وبالخوف من الموت، بأن يظل دائمًا بريئًا تمامًا من الطِّعَان، حتى عند مواجهة الأخطار الوشيكة وحتى حين يشعر بالخوف من الموت، فإن طاقة تذويبه نفسها بالمزاح تُنقذه، وهي الطاقة التي يُبديها عندما يجلس مستريحًا في الحان. هذه هي المنجزات الرائعة التي يُحققها، وهو يحققها لا بمرارةِ الساخر الذي لا يأبَهُ بل بفرحةِ غلام صغير. ومن ثم فنحن نُقرظه، ونُثني عليه، إذ إنه لا يُسيء إلا إلى الفضلاء، وينكر أن الحياة حقيقية أو أن الحياة شيء جاد، وهو يُخلصنا من قهرِ أمثال هذه الكوابيس، ويرفعنا إلى حيث جوُّ الحرية الكاملة.
أذكر أنني قرأت هذه الفقرة الجميلة التي كتبها برادلي، أول مرة، بعد بضعة أشهرٍ من مشاهدة ريتشاردسون يُمثل دور فولسطاف، كما أذكر السرور الذي فاجأني عندما تبيَّنتُ كيف الْتقى تفسيرَا هذا الناقد وهذا الممثل فدعَم كلٌّ منهما الآخر. إن برادلي لا يُضفي عاطفية متطرفة على فولسطاف؛ فالناقد يعلم حقَّ العلم أنه لن يَسْلم، دون مبالغة، إن كان في صحبة فولسطاف. ولكنه يعرف أيضًا أن فولسطاف يعلمنا ألا نُقدم نصائح أخلاقية. واعتناق هال الذي تأخَّر للشجاعة والشرف نوعٌ من أنواع الإرشاد الأخلاقي، واعتناق قاضي القضاة لهما يُمثل نوعًا آخر. وفولسطاف يريد لعبًا طفوليًّا (لا أبله) وهو الذي ينتمي إلى نظامٍ أخلاقي مختلف. فكما يقود برادلي نجد أن فولسطاف يرفض وحسب الاعترافَ بالمؤسسات الاجتماعية للواقع، فهو لا يرفض الأخلاق ولا يقف على الحياد منها، بل إنه ينتمي إلى مجالٍ آخر، وهو «نظام اللعب». ودخل هال هذا النظامَ تلميذًا لفولسطاف، وأقام داخله مدةً أطول قليلًا مما كان ينتوي. وعلى الرغم من التباس موقف هال الذي طال فيما يبدو تجاه فولسطاف، فإن هال يُكافح طيلة أحداث هنري الرابع/١ ضد السحر الذي يُمثله اللمَّاح العظيم. ومن الإنصاف، فيما يبدو، أن فولسطاف يُمارس سحره على الأمير الشديدِ البأس الذي يُقاومه؛ للأسباب نفسِها التي تجعل فولسطاف، إذا قام بدوره ممثِّلٌ صادق، يُسيطر على الجمهور.

٤

ويبدو أن بعض القُوى المتناقضة تدفع تصويرَ شيكسبير لشخصية فولسطاف في الجزء الثاني من هنري الرابع، وإن لم يكن الهدفُ إلا تهيئتَنا لرفضِ هال إياه في لحظةِ الذروة. وكان فولسطاف لا يزال منتصرًا على قاضي القُضاة والأمير جون، وعلى القانون والدولة، حين أبدى نشاطَه الباهر في الانصراف عن عالم «الشرف». ويُعتبر هال الناطق بلسان التهمة التي يُوجهها الشرف المزعوم إلى فولسطاف، وهو يطبق القاعدة بكلِّ التدفق الحيوي الذي تعلَّمَه من أستاذه، ولكن جميع اتهاماته تسقط. فإن فولسطاف العظيم ليس جبانًا، وليس مهرجًا في البلاط أو مضحكًا في القصر، وليس مخادعًا ولا فاسقًا، ولا سياسيًّا آخَر، ولا مِن رجال البلاط الانتهازيين، ولا معاقرًا للخمر مُغويًا للصغار. بل إن فولسطاف، كما ذكرتُ آنفًا، سقراطٌ إليزابيثي، وعندما يشتبك مع هال في نِزالٍ للماحية، يبدو هال مجردَ سوفسطائي، هزيمته مؤكدة. وفولسطاف، مثل سقراط، هو الحكمة، واللماحية، ومعرفة الذات، والتمكُّن من الواقع. وكان سقراط أيضًا يبدو سيئَ السمعة لتجار السلطة في أثينا، فهُم الذين حكَموا عليه آخرَ الأمر بالإعدام. والواقع أن هال، الذي يلعب بإمكانية شنق فولسطاف، كان من المؤكد أن يُنفذ الإعدام في أستاذه في أجينكور لو أن الحركات المخبولة التي شهدتها شروزبري قد أعيدت هناك. ولكن باردولف هو الذي يتدلَّى من حبل المشنقة بديلًا عن سيده، وأما السير جون، الذي انفطر قلبه بقبول الشيخوخة، فإنه يموت خارج المسرح، وتَرثيه السيدة كويكلي بقصيدة حبٍّ بلهجة أهل لندن العامية.
أتمنى لو أن شيكسبير وضع سقراط على خشبة المسرح في تايمون الأثيني بصحبة ألسيبياديس حتى يُقدم لنا الصورة اللاحقة لعلاقة هال بفولسطاف. ربما كان شيكسبير يرى أن فولسطاف أصبح يُغنينا عن سقراط عند مونتاني. فولسطاف أو سقراط؟ هذه عبارةٌ لا تبدو منطقية لأنَّ الرجُلَين العظيمين اللذَين يتحدَّيَان القيم الأخلاقية كانا يمارسان أسلوبَين مختلفين إلى حدٍّ بعيد؛ فسقراط يستخدم الأسلوب الجدلي، وفولسطاف يلجأ إلى إعادة اختراع اللغة بصفةٍ مستمرة. وسقراط يَغيظك حتى ترى الحقيقة، وفولسطاف المحاكي الساخر يغمرك بطوفانٍ من التلاعب بالألفاظ. وأما الذين يمقتون فولسطاف، داخل المسرحيَّات وخارجها، فيُصرون على أن الفارس البدين يُغرق نفسه في موجةٍ عارمة من اللغة. ويقول همتي دَمْتي لأليس: «السؤال هو مَن يسود؟» بعد المحاكاة التي يتفاخر فيها فولسطاف قائلًا: «عندما أستعمل كلمةً فإنها تعني على وجه الدقة المعنى الذي أختاره لها.» وينتهي فولسطاف على رأسِ طبقة همتي دمتي. فالسير جون هو السيد، مثلما يسود هاملت وتسود روزالند. والفارس ذو اللماحية لا يحبس نفسه في مقاطع ألفاظ. وهكذا فإن شيكسبير يمنح فولسطاف موهبةً من مواهبه العظيمة الخاصة: ألا وهي الثراء الحافل للُّغة في شباب شيكسبير، لا أسلوب شيخوخته.

ويرسم هال لفولسطاف صورةً تتضمن مفارقةً عميقة؛ إذ يدعوه «الربيع الأخير … والعيد في آخر الصيف» بمعنى أن حيويَّته الدافقة تجعله يقهر الزمن. وعندما ينقضُّ باعتباره من قطَّاع الطرق على المسافرين صائحًا «يا للديدان الحقيرة، يا من يتغذَّون على اللحم السَّمين، إنهم أوغادٌ يكرهوننا!» ثم يُضيف هاتفًا: «ما شأنكم أيها الأوغاد؟ لا بد أن يعيش الشباب!» إنها عباراتٌ قائمة على مُحاكاةٍ فظة؛ فإن فولسطاف يسخر من تقدُّمِه في السن، ويُواصل مُقتنعًا ومُقْنِعًا عملَه في الجيش (حين يُضطرُّ إلى القتال) وهو عملٌ يحتقره وينغمس فيه معًا، أساسًا باعتباره في المقام الأول مادةً شعرية للمزيد من التهكُّم من جانب الآخَرين ومن جانبه أيضًا. ويقول هال للصاخبين من أتباعه، من أبناء منطقة إيست تشيب «يجب أن ننزل جميعًا إلى الحرب»، ويُدبر المزيد من المعارك لفولسطاف قائلًا: «سوف أُعيِّن هذا الوغد البدين قائدًا على سَريةٍ من المشاة، وأعلم أنه لن يظلَّ في قيد الحياة إن سار رُبع ميل.» ولما سمع الأنباء من الأمير، لم يتوقَّف فولسطاف عن التفكُّه قائلًا: «نحمد الله على وجود هؤلاء المتمردين؛ فإنهم لن يؤذوا إلا الفضلاء. إنني أقرظهم، وأثني عليهم.» ورؤيته للحرب الأهلية تقول «إن التمرد كان قائمًا في طريقه، وعثر عليه.» ولما كانت مملكة هال (وحياته) في خطر فإن هتاف الأمير «السلام! نرجو السلام» ليس مَطلبًا مُبالغًا فيه. ولقد تجاوز فولسطاف نفعه لأمير يقصد أن يقهر «الشرف»، وإنجلترا، وفرنسا، بهذا الترتيب.

ومع ذلك فإن فولسطاف قصيدةٌ تُجسِّد مناخَ شيكسبير، لا فكرة عن الفوضى، بل جوهر الفن الدرامي لشيكسبير؛ أي مبدأ اللعب. وإذا كانت طبيعة فولسطاف قد خضَعَت على الإطلاق، فإنها خضعَت لعُنصر اللعب، ومن دونه يموت. هذه هي أوثقُ صلةٍ بين كاتب المسرح والعبقريَّة الكوميدية؛ أي إن التَّمسرُح العاليَ لفولسطاف نبوءةٌ تُبشر بهاملت، وبالدوق فينشنتيو في دقة بدقة، وبظلام حالك بياجو، وببهاء رائع بكليوباترا، أصدق ابنةٍ لفولسطاف. والواقع أن فولسطاف الذي لا يبتعد عن ذاته قط، يتفوق على نفسه في المسرحية، داخل، المسرحيَّة المرتجلة والمعقَّدة التي تُقدم ظلالًا للمواجهة المقبلة بين الملك هنري الرابع والأمير. فإن فولسطاف أولًا يُصور الملك، وهال يُمثل نفسه. وفولسطاف يُحاكي مسرحية يوفيوس (Euphues) التي كتبها جون لايلي (Lyly) قبل عشرين عامًا، فلا يكاد يترك شيئًا للوالد أو للابن، ويتمتَّع هو برؤيةٍ لعظَمة فولسطاف:
فولسطاف :
هاري! إن عجبي لا يقتصر على الأماكن التي تُضيع فيها وقتك، ولكنِّي أعجب للصُّحبة التي تتخذها حقًّا إن نبات البابونج٣ كلما داسَته الأقدام زاد نموُّه، أما الشباب فكلما ضيَّعته أسرع [في الزوال].
أعرف أنَّك ابني؛ أولًا: لأن أمك قالت لي ذلك، وثانيًا: لأنك تُشبهني بهذا الحوَلِ في عينك، والتهدُّل في شَفتِك السفلى كالأغبياء. فإذا كنتَ ابني فلماذا تُثير كلَّ هذه الأقاويل؟ ويشير إليك الناس في كل مكان؟ هل تهرب الشمس بجلالتها من واجباتها؟ سؤال لا يخطر ببال: هل يُصبح ابنُ عاهل إنجلترا لصًّا يغتصب مَحافظ النقود؟ سؤال يسأله الجميع. هناك شيءٌ سمعتُ عنه كثيرًا يا هاري، عرَفه كثيرون في بلادنا باسمِ الزفت، وهذا الزفت كما ورَد في كتابات القدماء يُلطخ من يقترب منه، مثله في ذلك مثل الصُّحبة التي تتَّخذها — اسمع يا هاري أنا لا أحدِّثك وأنا سعيد، ولكن وأنا غاضب، لا بالكلمات وحدها ولكن بالدمع والأحزان، ولكن اسمع، هناك رجلٌ فاضل، لاحظتُه كثيرًا في صحبتك ولكني لا أعرفُ اسمه.
الأمير : ما شكلُه يا مولاي؟
فولسطاف : رجلٌ متين بدين في الواقع، بدين جدًّا ضاحكُ الثغر لامع العينين مَهيب الطلعة ويُخيَّل لي أن سنَّه حوالي الخمسين، لا بحق مريم، هو أقربُ إلى الستين، آه تذكرتُ الآن، إن اسمه فولسطاف، ولا أظن أن ذلك الرجل يُضمِر شرًّا أو فحشًا؛ لأني يا هاري أرى الفضيلة تُطل من عينَيه، وإذا كانت الشجرة تُعرف بثمرتها كما تُعرف الثمرة بالشجرة فأنا أؤكِّد لك أن فولسطاف رجلٌ فاضل، فاحتفظ به في معيَّتك واطرُد الباقين.
(٢ / ٤ / ٣٩٣–٤٢٥)

وهكذا نرى أن فولسطاف الذي كان قد استوعب شتائمَ جَمَّة من هال، ينتصر برفع مستوى التهكُّم، وإن كان ذلك بنبرةٍ ألطف كثيرًا من العدوانية الفتاكة للأمير. كما نرى تصوير الوالد الملك وابنه المستمتع بالعطلة في صورة الحمقى، وهي صورة ساحرة، في حين أن فولسطاف الذي يُمثله فولسطاف نفسه يظهر في ضوءِ ما يُسميه سوينبيرن «الرِّفعة الخلقية الممكنة». وكل هذا لعبٌ بأحلى المعاني وأصفاها، فهو عرضٌ يَشفي ويستعيد العافية. وتختلف نسخةُ هال اختلافًا تامًّا عندما يُرعِد ويُبْرق آمِرًا بأن يلعب دورَ والده وأن يُمثل فولسطاف دورَ الأمير:

الأمير : والآن يا هاري، مِن أين جئت؟
فولسطاف : من إيست تشيب يا مولاي.
الأمير : إن الشكاوى التي أسمعُها ضدَّك خطيرة.
فولسطاف : عليهم اللعنة! كذَّابون والله يا مولاي — خذوا بالكم كيف أمثِّل دور الأمير الشاب.
الأمير : ترمي بالأيمان وتسبُّ يا ولد يا وقح! لا تُرِني وجهك من الآن، لقد فسدتَ ولا أملَ فيك! إن الشيطان يُلازمك في شكل عجوزٍ بدين، ذلك البرميل صاحبك. لماذا تُصاحب ذلك البدن من العصارات والأمزجة؟ ذلك الكَرِش المنتفخ بالاستسقاء! إنه قبةٌ مليئة بالخمر، جوال محشوٌّ بالأمعاء والطعام، ثور مشوي من أضخم الأصناف، بالحشو في بطنه. إنه خير من يُمثل الشر إذا وخَطَ رأسَه المشيبُ والخطيئة والأنانية والخيلاءُ في خريف العمر. إنه ذوَّاقة الخمر وشاربها! بارعٌ نظيف في تقطيع الديوك المحمرة وأكلها، ماكرٌ في حيله، محتال في نذالته، نذلٌ في كل شيء ولا قيمة له ولا فائدة في أي شيء.
فولسطاف : لو أن مولاي يُفهِّمني مقصده، فأنا لا أعرف من يعني.
الأمير : ذلك الوغد الذي يُغوي الشباب، فولسطاف الشيطان أبيض اللحية.
فولسطاف : مولاي هذا الرجل أعرفه.
الأمير : أعرف ذلك.
فولسطاف : ولكني لا أعرف عنه شرًّا أكثرَ مما أعرفُ عن نفسي؛ إنه عجوز حقًّا، ويا للأسف! فشعره الأبيض شاهدٌ على ذلك، ولكني أنكر — بعد إذن جلالتك أنه قوادٌ أو عاهر، إذا كان كِبرُ السن مع المرح خطيئةً فكم من مضيف عجوز مآلُه إلى النار! وإذا كانت البدانة تدعو إلى الكراهية فلعلنا نحبُّ بقَراتِ فرعون العجاف. لا يا مولاي، احكم بالنفي على بينو وباردولف واطرد بوينز، أما جاك فولسطاف الحبيب، جاك فولسطاف الطيب الأمين، جاك فولسطاف الشجاع — وأنا أقدِّر شجاعته خاصةً لكبر سنه، فلا تحرِمْني صحبة جاك فولسطاف! لا تحرم ابنَك هاري صُحبتَه. إن نفيتَ جاك البدين فكأنك تنفي العالم أجمع.
الأمير : نعم هذا ما سأفعله.
(٢ / ٤ / ٤٣٤–٤٧٥)
هذا هو القلب المتوهج لمسرحية هنري الرابع/١؛ إذ تتَّسم الفقرة بالتكثيف للماحيةِ فولسطاف اللاذعة والغضب البارد لهال. ويتفجَّر التباسُ المعنى المزدوج للتعبير عن الكراهية في تلخيص هال الأخير: «ذلك الوغد البغيض الذي يُضلل الشبَّان … فولسطاف … إبليس الهرم ذو اللحية البيضاء.» وليس الأمير ممثلًا هنا، بل يتكلَّم كلامًا صادرًا من عقله وقلبه. كيف نُفسر هذا الخبث غير المبرر، أو قل محاولة صَرْف عِفريت لا مجرد نبْذِه؟ مَن ينبغي أن نُصدقه: هال الذي يصف فولسطاف بأنه «إبليس الهرم ذو اللحية البيضاء» أم وصفُ فولسطاف نفسه بأنه «جاك فولسطاف اللطيف، والشَّفوق جاك فولسطاف، والمخلِّص جاك فولسطاف، والشجاع جاك فولسطاف، ومن ثم فقد ازداد شجاعةً لكونه جاك فولسطاف الهرم»؟ إن التطرف الشديد من جانب هال لا يُقدم لنا خيارًا. وما دام هال تلميذًا باستمرار لفولسطاف، فإنه يتَّسم بنقيصةٍ واحدة جديرةٍ بالأستاذ الهرم؛ «ذلك الثور السمين المشوي وفي بطنه الحشو»، ولكن هذه الصورة لا تصل إلى مرتبةِ قول فولسطاف: «إن كانت السمنة تدعو إلى الكراهية، فعلينا أن نُحب بقرات فرعون العجاف.» ولا يبلغ أيُّ باحث علمي في انتقاصه لفولسطاف، بالأسلوب القديم أو الأسلوب الحديث، ما يكشف عنه هال من اشمئزازٍ من فولسطاف. ذكرتُ من قبل توكيد هونيجمان أن شيكسبير لا يسمح لنا بتفكيكِ مظاهر التعقيد السيكولوجي في العلاقة بين فولسطاف وهال، وهي علاقةٌ تُثير الحيرة فعلًا، لكنها لا تستعصي على الحدس استعصاءً تامًّا. لقد خلا قلبُ هال من الحب. وتقول الروائية أيريس ميردوك إن ذلك يُعتبر من أعظم الخبرات الإنسانية؛ إذ ترى فيها الدنيا بعيونٍ تفتحَت لتوها. ويؤكد لنا هنري الخامس الذي تُوِّج لتوه، بنبرة الفضيلة السامية «لكنني بعد أن استيقظت غدوت أحتقر الحلم.» وللأسف لم يغمض له جَفنٌ إطلاقًا منذ أن عرَفناه؛ أي منذ بداية هنري الرابع/١؛ إذ كان يتجلَّى في موقفه الطُّموحُ إلى ثلاثة أشياء، تتساوى في ضخامتها: الأول الانتظار حتى يموت هنري الرابع (وبأسرعِ ما يمكن)، والثاني قتل هوتسبير والاستيلاءُ على «شرفه»، والثالث شنقُ فولسطاف. وقد كاد فعلًا يضع فولسطاف في أيدي الجلاد، لكنه قرر الصبر؛ إذ رأى من الأنسب أن يقتلَ الفاسقَ الهرم بإرغامه على المشي مسافةً طويلة، أو أن يقتل (بشرف) في إحدى المعارك. ولنا أن نقول إنه كان يُكِنُّ حتى هذه اللحظة بعضًا من حبِّه القديم لفولسطاف، وإن كنتُ أشك في صحة ذلك. لقد أتم السير جون مُهمته التربوية والتعليمية، ولكننا نشعر بالضيق لأنه يستعصي على القتل، على نحوِ ما أثبتَته المعركة الرائعة في شروزبري؛ إذ كانت أشدَّ حيويةً من معركة أجينكور التي لم يشترك فيها فولسطاف.

والازدراء الساحر من جانب شيكسبير لإراقة الدماء يُمثل نغمةً باطنة في جميع المسرحيات، لكنه لا يبدو لاذعًا مثلما يتجلَّى في الاحتقار الجَسور له من جانب فولسطاف في شروزبري:

الأمير : كيف تقفُ هكذا بلا عمل؟ أعطِني سيفك، لقد سقط كثيرٌ من النبلاء وأجسادُهم هناك عارية متيبِّسة تحت سَنابكِ العدوِّ المتطاول ولم نثأر لهم بعد، أرجوك أعطِني سيفك!
فولسطاف : أرجوك يا هال، ائذَن لي أن ألتقطَ أنفاسي قليلًا. إن جريجوري الجبَّار نفسه لم يقم بأعمالٍ حربية كالتي أنجزتُها اليوم، لقد قتلت برسي وتأكدتُ من ذلك يقينًا.
الأمير : إنه أكيدٌ حقًّا وحيٌّ يُرزق ليقتلك. أرجوك أعطِني سيفك.
فولسطاف : لا، أمام الله يا هال، إذا كان برسي حيًّا فلن تأخذَ مني السيف. خذ مسدَّسي إذا كنتَ تريد.
الأمير : أعطِني إياه، ماذا؟ أما زال في جِرابه؟
فولسطاف : نعم يا هال؛ فهو ساخن، ساخنٌ جدًّا، فيه من الرصاص ما يكفي لتدميرِ مدينة.

(يُخرج الأمير المسدسَ من الجراب، ويجد أنه زجاجة خمر.)

الأمير : هل هذا وقت الهزل والرقاعة؟

(يُلقي إليه بالزجاجة ويخرج.)

فولسطاف : إذا كان برسي حيًّا فسأُنفِذُ فيه سلاحي، هذا لو جاء في طريقي هكذا، أما إذا لم يتعرَّض لي. فلو تعرَّضتُ له أنا برغبتي فليذبحني ويشْوِني أيضًا. إنِّي لا أحبُّ هذا الشرف فاغِرَ الفم الذي حلَّ بسير وولتر. أنا مع الحياة أحافظُ عليها إذا أمكنَني، أما إذا تعذَّر فالشرف يأتيني بدون أن أبحث عنه — وهذه هي النهاية.

(يخرج.)

(٥ / ٣ / ٤٠–٦١)

إن فولسطاف هنا يردُّ على هال ردًّا يُفنِّد فيه اتهاماتِ هال له بالجُبن المزعوم، ومع ذلك فإن هذه لحظةٌ فولسطافية جميلة تتجاوز ذُبولَ علاقتهما. فبعد أن «قاد» فولسطاف سَريتَه التي تضمُّ مائةً وخمسين فردًا إلى ما يكاد يكون فَناءً تامًّا، نجد أن الهدف الأكبر فولسطاف لا يزال سليمًا مُعافًى، بل يحفل بأرفعِ سخرية من تلك المذبحة العبَثية. فإنَّ ازدراءه الشديد «للشرف» بمفهومِ هوتسبير يسمح له بالمخاطَرة بتقديم قنِّينةِ نبيذ بدلًا من المسدس الذي تقتضيه منزلتُه العالية. وبعد نصفِ قرن ما زالت ذاكرتي تحتفظ بصورة رالف ريتشاردسون وهو يتفادى، بمرحٍ وخفَّة، القنينةَ المقذوفة، وبحركة تعبر عن ظنه أن تلك اللحظة كانت تمثل أفضل وقت للتفكه واللهو! هل يوجد في كلِّ ما كتبه شيكسبير عبارةٌ أكثرُ فائدةً من قوله «أنا لا أحب الشرف فاغر الفم الذي حلَّ بالسير وولتر. أعطني الحياة»؟ إذ يرى فولسطاف أن مَوقعة شروزبري لا تَزيد عن مباراةٍ جنونية يشهدها الجمهور، والدليل تحيةُ السير جون الساخرة للأمير تشجيعًا له على مُنازَلة هوتسبير. وتصل دَفْقة الحيوية عند شيكسبير إلى ذروتها عندما ينقضُّ دجلاس بضراوةٍ على فولسطاف أمامَنا على خشبة المسرح مُرغمًا إياه على القتال. ويقعُ الداهية فولسطاف ويتظاهر بأنه مات، في اللحظة التي يُسدد فيها هال طعنةً قاتلة إلى هوتسبير. وأثناء تأمُّلِنا لما «يستطيع التنبُّؤ به» هوتسبير المحتضَر («الشرف» الباطل؟) يمنح شيكسبير هال لحظة باهرة حين يظن الأمير أنه يشهد جثمان فولسطاف:

عَجَبًا يا خِدْنِي الأَوَّلْ! أفَلَمْ يَقْدِرْ هذَا الشَّحْمُ جَمِيعًا
أنْ يَسْتَبْقِي بَعْضَ حَيَاةٍ فِيكْ؟
يا جاكُ المِسْكِينُ وَدَاعًا!
لَوْ كانَ بِطَوْقِي أنْ أَفْدِيكْ،
كُنْتُ دَفَعْتُ بمَنْ هُوَ أَفْضَلْ!
كمْ كانَ سَيُثْقِلُ فُقْدَانُكَ قَلْبي!
لَوْ أنِّي أَهْوَى البَاطِلَ وغُرُورَ الحُبِّ
لَمْ يُصِبِ المَوْتُ غَزَالًا أَسْمَنَ مِنْ هذَا بِبَلِيَّة،
حَتَّى إنْ صَرَعَ كَثِيرًا مِنْ أَحْبَابِي في هذِي المَعْرَكَةِ الدَّمَوِيَّة،
سَنُحَنِّطُ جُثْمَانَكَ بإزَالَةِ أَحْشَائِكَ بَعْدَ هُنَيْهَة،
فَارْقُدْ في الدَّمِ بِجِوَارِ الأَشْرَفِ برْسِي رَقْدَتَكَ الأَبَدِيَّة!٤
(٥ / ٤ / ١٠١–١٠٩)

هذه هي الأسطر ذواتُ الدلالات المتشابكة التي لا تُقدم الْتِباسًا في المعنى بقدرِ ما تكشف عن شخصيةِ هنري الخامس الذي يتشكَّل جلوسُه على العرش في شروزبري. «يا جاك المسكين وداعًا!» صيحةٌ تُعبر عن المقدار المحدود من الحزن الصادق الذي استطاع المقاتلُ هاري أن يحشده لرِثاء رسول «الباطل والغرور»، الذي بلغ به طبعُ اللهو أنْ أخذ يتواثبُ ويتفكَّه على صعيد المعركة الملكية. وباعتبار هذه الأبيات رثاءً لفولسطاف، نجد أنها لا تُحقق حتى مرتبة العبَثية، ويأتي الردُّ المفحِم عليها من جانبِ «الصورة الحقَّة والكاملة للحياة»؛ أي الروح الخالدة التي تعول ألفًا من أمثال هال. هاك أصدق مجدٍ حقَّقه شيكسبير في ابتكار الشخصية الإنسانية:

فولسطاف :
تنزع أحشائي؟ إذا نزعت أحشائي اليوم فسآذَنُ لك أن تَسحقَني وتأكلني كذلك غدًا. يا للمصيبة! كان لا بد من التظاهر بالموت وإلا كان ذلك الاسكتلندي المتعجِّل المشاكس قد قضى عليَّ تمامًا! تظاهر؟ تزييف؟ كذبٌ كلُّ ذلك! لست صورةً مزيفة، لو مت كنت أصبحتُ صورةً مزيفة؛ فليس الإنسان بدون حياة إلا صورةً مزيفة للإنسان. إنما تزييف الموت من أجل الحياة ليس تزييفًا، بل هو نفسُه الحياة وصورتها الحقيقية.
إن الحرص أحسنُ مظهر للشجاعة، وقد أنقذت حياتي بالحرص؛ أي بالشجاعة. يا إلهي، إنِّي خائفٌ من برسي المتفجر هذا، ولو أنه ميت. ربما يكون مزيفًا هو الآخر ويقوم، وحقِّ إيماني، إنني أخشى أن يكون أكثرَ تزييفًا مني! ولذلك سأخلص عليه، نعم وأحلف أنِّي قتلتُه. لماذا لا يقوم كما قمتُ أنا، لن يُكَذِّبَني إلا شاهد عيان، وما من أحدٍ يراني الآن، وعلى ذلك خُذ يا ولد (يطعنه) ويجرح جديد في فخذك، تعال معي!
(٥ / ٤ / ١١٠–١٢٨)
ومَن شاهد الممثل ريتشاردسون يثِبُ واقفًا فقد شاهد أبهجَ تمثيلٍ للبعث العلماني على المسرح. وتعبيرُ يقظة فولسطاف يمكن أن يُصبح عنوانًا لمسرحية هنري الرابع/١ وهو عُنوان مناسب؛ فإن فولسطاف المفترى عليه، المهدَّد بالشنق، الذي أصبح مكروهًا (من الأمير) بعد أن كان محبوبًا، ينهض أمامنا. إننا نشهد هذا المنبوذَ العظيم، وقد عاد إلى الحياةِ بلحمه ودمه، بعد تقديمه صورةَ الموت الزائفة. وباعتبارها صورةً صادقة كاملة، كان الناقد المسيحي أودن يراها نمطًا للمسيح، ولكن يَكفينا (ويَزيد) أن الرجل يصمد باسم فولسطاف، الساخر من «الشرف» المنافق، والمتهكم في محاكاتِه لسفك الدماء بأيدي النُّبلاء، والمتحدِّي للزمن، وللقانون والنظام والدولة. وهو يظلُّ مستعصيًا على القهر، ودقيقًا في التعبير، كما ذكر جودارد، في توكيده أنه قتَل روح هوتسبير. ليس سيف هال الصارم هو الذي يُعلي مكانة هوتسبير، فإن هوتسبير قادرٌ على أن يبهرَنا لو وضعتَه في أية مسرحية تخلو من فولسطاف، ولكن صورته تخبو في الموقِد المعرفي الذي أشعله التدفق الحيوي لفولسطاف، وإذا به ينفضحُ أمامنا باعتباره صورةً مزيفة وحَسْب. وعلى عشاق شيكسبير العلمانيين أن يُعبروا عن حبِّهم له بالاحتفال «ببعث السير جون فولسطاف». ويجب أن يتحوَّل ذلك الاحتفال بصورةٍ غير رسمية وإن تكن شاملة، إلى عيد دولي، أو قل كرنفال للَّماحية، تُعرض فيه مسرحية هنري الرابع/١ عدةَ مرات، وليكن عيدًا يُحتفل فيه بكراهية الطموح السياسي، والنفاق الديني، والصداقة الكاذبة، ولنجعل شعارَه وضْع زجاجات النبيذ في حمالات المسدسات.

٥

ما الفولسطافيون، الذين يسخر منهم الباحثون باعتبارهم «ذوي عاطفيَّة مسرفة»، في الواقع سوى «باتافيزيقيين» (pataphysicians)؛ أي من المؤمنين بأن «علم» فولسطاف علمٌ بالحلول الخيالية للمشكلات، وأنه يُمثل العلم الصادق المذكور. وكان ألفريد جاري، مؤلف أوبو روا (Ubu Roi) يصف العاطفة المشبوبة بأنها سِباقُ دراجات صاعد في الجبل. وتعتبر هنري الرابع، الجزء الثاني [هنري الرابع/٢] العاطفة المشبوبة للسير جون فولسطاف؛ فهو ينطلق بدفقةِ حياةٍ عارمة قاصدًا إذلالَ المنافق الغاشم وتدميره؛ أي الملك هنري الخامس الذي لبس التاج لتوه. وإذا فسَّرتَ المسرحية تفسيرًا مختلفًا، فسوف تجد مكافأةً لك، بلا مِراء، ما دمت سوف تنحاز إلى قاضي القضاة الذي ينتقص من قدر فولسطاف ويُقدم له النصيحة، فيرد عليه فولسطاف بتقديم ما هو أفضل، ومع ذلك يُنقل آخِرَ الأمر إلى القوات البحرية، حيث ينظر قاضي القضاة القضية، ولا بد أن تكون له الكلمةُ الأخيرة. ويُشفق علينا شيكسبير فلا يجعلنا نشهد المحاكمة المؤسِّيَة، وربما كان لنا أن نقول إنه يُشفق على نفسه أيضًا؛ إذ لم يعد أمام فولسطاف خبرةٌ مناسبة يكتسبها، فيما عدا مشهدَ موتِه الجميل الذي ترويه السيدة كويكلي والناجون الآخرون في هنري الخامس.
ولا يزال فولسطاف متألقًا باهرًا عندما نراه أول مرة في هنري الرابع/٢؛ إذ يُجادل قاضيَ القضاة حول تحديد سنِّه:
فولسطاف : أنتم أيها الشيوخ لا تنظرون في قدراتنا، نحن الشباب؛ إذ تقيسون حرارةَ أكبادنا بمرارة الصفراء لديكم، ولا بد أن أعترفَ أننا، ما دمنا في شَرْخ الشباب، فإننا نلهو أيضًا.
قاضي القضاة : هل تُدرج اسمك في سجلِّ الشباب، وقد كتب اسمك شيخًا بجميع حروف التقدُّم في العمر؟ أمَا تدمع عينُك وتجفُّ راحة يدك، وقد اصفرَّ خدك، وابيضَّت لحيتك، وأبطأَت قدمك، وتكوَّر بطنك؟ أفلم يتحشرج صوتك، وتنقطع أنفاسك، وأصبح لك لُغْدٌ تحتَ ذقنك، وفترَت لماحيتك، وهدَّ الهرم كلَّ شيء فيك؟ أفبعد هذا كله تحسب نفسَك شابًّا؟ تبًّا لك! تبًّا تبًّا يا سير جون!
فولسطاف : مولاي، إنني وُلدت في نحو الثالثة عصرًا، برأسٍ أبيض، وشيءٍ يُشبه البطن المتكور. وأما صوتي فقد فقدتُه في النداء على كلاب الصيد وغناء الأناشيد. ولن أقولَ المزيد لإثبات شبابي. فأنا شيخٌ فقط في أحكامي وقدرتي على الفَهم، وأمَّا من يُنازلني في مهارة الوثب للفوز بألف درهم، فلْيُقرضني المال أولًا وسوف أهزمه!
(١ / ٢ / ١٧٢–١٩٣)

للمرء أن يستهلَّ يومه في الصباح بالرفض الأخلاقي لفولسطاف (وهو أمرٌ بالغ الحزن إن كان المرء بدينًا) ويقول، على الرغم من ذلك، إن مَن له حساسيةٌ كالحجر فقط هو الذي لن ينبهرَ بسَماع فولسطاف يقول «وُلدت في نحو الثالثة عصرًا، برأسٍ أبيض، وشيءٍ يُشبه البطن المتكور.» ولكن شيكسبير سوف يُصور الزمن الذي اكفهرَّ على فولسطاف، في المشهد المؤثر الذي يُصور اشتهاءه للسيدة دول تيرشيت:

فولسطاف : إنك تُقبِّلينني قُبلاتِ مجاملة.
دول : أقسم أنني أقبِّلك بقلبٍ بالغ الإخلاص.
فولسطاف : إنِّي هرم، إنِّي هرم.
دول : حبي لك أكبرُ من حبي لأي شاب دنيء من هؤلاء جميعًا.
فولسطاف : ما نوعُ القماش اللازم لصنع مئزرٍ لك؟ ستأتيني بعض النقود يوم الخميس، وسوف أشتري قبعةً غدًا. هذه أغنية مرحة! هيَّا! لقد تأخر الوقت، فلْنأوِ إلى الفراش. سوف تَنسَينني عندما أذهب.
(٢ / ٤ / ٢٦٦–٢٧٤)
إن التلاعب بفكرة الشباب الدائم تُفضي إلى «إنِّي هرم، إنِّي هرم»، في هذه المفارقة الكبرى لمؤمنٍ بمذهب الحيوية بلغ به الإرهاق مبلغَه، ويوشك أن يُساق عائدًا إلى الحرب الأهلية، من جانبِ عددٍ من القادة المنهكين. ونحن نلمح من وراء حوار هال الوحشيِّ والردود الجسورة من جانب فولسطاف، قوةً خارقة كامنة لمحاربٍ عريق لا يزال يتَّسم بالجبروت الكافي للقتال الفعال، وإن كان مُساقًا إليه رغم أنفه. وعندما يمرُّ فولسطاف على المتمرد كولفيل، يلاحظ فولسطاف سلوكه العام القائم على التلاعُب في إطار البرجماتية فيسأله «هل تستسلم أم أجتهد لقهرك؟» ويستسلم كولفيل، ولكن الواضح أن فولسطاف كان على استعدادٍ للاجتهاد حتى يهزم كولفيل أو يقتله، إذا اقتضى الأمر ذلك. ومع ذلك فإن فولسطاف يتهكَّم على ما أنجزه بعد أسرَّ كولفيل قائلًا: «لكنك مثل الكرماء وهبتني نفسَك بلا مقابل، وأنا أشكر ذاتك على ذاتك.» وهذه هي الروح نفسها التي تتجلَّى في إصرار فولسطاف أنه هو الذي أحدث الجرح القاتل، لا هال، وذلك روحيًّا لا جسديًّا؛ فإن هوتسبير، ذا الشجاعة الهوجاء الساعيَ لفنائه، أحدُ الذين يمثلون نقيض فولسطاف، والآخَر هو جون لانكاستر، الأخ الأصغر للمحارب هال، وهو، مثل هال وقاضي القضاة، يهدد بشنقِ السير جون. ولانكاستر الذي يوصف بأنه «غلام ذو دم عاقل»، يستفزُّ فولسطاف فيدفعه إلى التغنِّي بأنشودته العظمى حول فضائل شرب خمر الفاكهة، ولكنه يدفعنا — باستثناء ذلك — إلى القول بأن فولسطاف العظيمَ بدأ اشتباكه بالأسرة المالكة في ساعةِ نحس. وعندما تتجمع ظلال نبذ هال لفولسطاف على الأفق، فتسود جوَّ هنري الرابع/٢، يصرف شيكسبير انتباهَنا (وانتباهه) عنها بتقديم المشاهد التي تجمع بين فولسطاف واثنين من القضاة المحليِّين، وهما شالو وسايلانس (الفصل الثالث، المشهد الثاني، والفصل الخامس، المشهد الأول والمشهد الثالث). ويقول المخرج كينيث تاينان، مُحِقًّا، إن «شيكسبير لم يكتب أفضلَ من هذين المشهدين في إطار المذهب الطبيعي الخالص»؛ فغباء شالو يُقدم تناقضًا لذيذًا مع لمَّاحية فولسطاف، خصوصًا عندما يحاول شالو — أي الضحل — وهو اسمٌ على مسمًّى، إحياءَ ذكريات مشتركة عمرها خمسون سنة:
شالو : إيه يا ابنَ العم سايلانس! لو أنك شاهدتَ ما شاهدتُه أنا وهذا الفارس!
فولسطاف : لقد سمعنا دقَّات الساعة في منتصف الليل يا أستاذ شالو.
(٣ / ٢ / ٢٠٦–٢١٠)

وردُّ فولسطاف الجافُّ يُخفي اعتزامه العودةَ حتى يسلخ هذا المغفَّل الريفي، وهو ما سوف يفعله على نطاقٍ كبير. ويعتبر شالو الصورة المقلوبة لهوتسبير، وهو ما صوَّره لورانس أوليفييه تصويرًا جميلًا عندما قام بدور هوتسبير في العرض الماتينيه (عصرًا) وبدور شالو في العرض السواريه (مساءً) في مسرح الأولد فيك عام ١٩٤٦م. فكان رجلُ السيف ذو الفصاحة يتحول إلى الهرم الأحمق، في حينِ ظلَّ ريتشاردسون محافظًا على حيويةِ لماحيته الدافقة على امتدادِ يومٍ طويل يتحدى فيه الموت، من قبل أن يتعرض لخيانة هال المحتومة، والحكم بالإعدام برجماتيًّا.

٦

سير جون فولسطاف أعظمُ مؤمن بالمذهب الحيوي عند شيكسبير، لكنه إن لم يكن بالقطع أشدَّ العدميِّين عمقًا عند شيكسبير فإن نمط عدميته خبيثٌ بصورة فذة. والواقع أن عدمية فولسطاف تبدو لي نسختَه الخاصة من المسيحية، وتساعد على تفسيرِ أشدِّ العناصر حُلْكةً في لماحيته؛ أي وسواسه الواقعي المهيمِن عليه بأنه سوف ينبذ، وهو الذي يتحقَّق على نطاقٍ هائل في آخرِ مسرحية هنري الرابع/٢.
وصورة النَّبذ، لا اللعن [أي عذاب الجحيم] هي التي تُفسر إشارات فولسطاف المتكرِّرة إلى المثَل المخيف للغنيِّ الشره الذي يلبس الملابس الأرجوانية، واسمه دايفز (Dives) [في الكتاب المُقَدَّس، نسخة جنيف] والفقير لعازر، الشحاذ، وهو المثل الذي يقصُّه يسوع في إنجيل لوقا، ١٦: ٩–٢٦:

كان هنالك إنسانٌ غني، يلبس الأرجوان وناعمَ الثياب، ويُقيم الولائم المترَفة متنعمًا كلَّ يوم.

وكان إنسانٌ مسكين اسمه لعازر، مطروحًا عند بابه وهو مصابٌ بالقروح،

يشتهي أن يَشبع من الفتات المتساقط من مائدة الغني. حتى الكلاب كانت تأتي وتلحس قروحَه!

ومات المسكين وحمَلَتْه الملائكةُ إلى حضن إبراهيم، ثم مات الغنيُّ أيضًا ودُفن.

وإذا رفع عينَيه وهو في الهاوية يتعذَّب، رأى إبراهيم من بعيدٍ ولعازر في حضنه.

فنادى قائلًا: يا أبي إبراهيم! ارحمني، وأرسل لعازر ليغمس طرفَ أصبعه في الماء ويبرد لساني: فإني معذَّب في هذا اللهيب.

ولكن إبراهيم قال: يا بُني، تذكر أنك نلتَ خيراتك كاملةً في أثناء حياتك، ولعازر نال البلايا، ولكنه الآن يتعزى هنا، وأنت هناك تتعذَّب،

وفضلًا عن هذا كله، فإن بيننا وبينكم هوةً عظيمة قد أثبتت، حتى إن الذين يريدون العبور لا يقدرون، ولا الذين مِن هناك يستطيعون العبور إلينا!

(إنجيل لوقا، ١٦: ١٩–٢٦ من الترجمة العربية المنشورة في كتاب الحياة طبعة ٢٠٠٣م)
ويُشير فولسطاف ثلاثَ مرات إلى هذا المثَل القاسي، وأتصوَّر وجودَ مرة رابعة، وهي إحالةٌ خفيَّة نراها حين يركع فولسطاف وينبذه الملك هنري الخامس، في ثيابه الملكية الأرجوانية الجديدة، والواضح وجودُ إشارة خامسة، وذلك عندما تصف المضيفةُ موت فولسطاف في المسرحية؛ إذ لا يُسمح له بالدخول في هنري الخامس، وتؤكِّد لنا المضيفة أن فولسطاف «في حضن آرثر»؛ إذ يُستبدل آرثر البريطاني بإبراهيم — عليه السلام. والمؤكد أن الملك هنري الخامس يسمح بإطعام فولسطاف فُتاتَ المائدة الملكية، ولكن الإطعام المبدئيَّ يجري في السجن، تنفيذًا للأمر الذي أصدره قاضي القضاة. وإذا صدَّقنا السونيتات فإن شيكسبير ذاق طعم الصدود أو النَّبْذ، وإن كنتُ قطعًا لا أودُّ القول بوجودِ صلةٍ تربط بين خالقِ فولسطاف وفولسطاف نفسه. ومع ذلك فإنني أعجب لما أحسُّه من صِلاتٍ بين الأمير هال ولورد ساوثامتون، وليس أيٌّ منهما مرشحًا لحضن إبراهيم — عليه السلام. ما التفسير المضمَر الذي يقدِّمه السير جون للمثل الخاص بالغني والشحاذ؟
أول إشارة من فولسطاف إلى هذا المثَل تعتبر أثرى الإشارات وأشدَّها جسارة؛ إذ يبدأ السياقُ بتأمُّلات في أنف باردولف، وهو الذي يجعله يكتسب اسم «فارس المصباح الموقد». ويشتكي باردولف من هذه الإساءة، قائلًا: «عجبًا يا سير جون، إن أنفي لم يسئ إليك.» ويردُّ عليه فولسطاف ردًّا هائلًا:
كلَّا وأُقسِم! بل سوف أنتفع به مثلما ينتفع كثيرٌ من الناس بجمجمةٍ أو بتَذْكار من أحد الموتى. لا أشهد وجهك إلا خطرَت لي نار جهنم، والغنيُّ المدعوُّ دايفز الذي يرتدي الملابسَ الأرجوانية، فها هو ذا في أثوابه يحترق ويحترق. ولو كنتَ ترتبطُ بالفضيلة أدنى ارتباطٍ لكنتُ حلفتُ بوجهك، ولَأقسمتُ يمينًا يقول: «قسَمًا بهذه النار إنه مَلَكٌ من عند الله!» ولكنك في الواقع ضائعٌ تمامًا، ودأبتَ على الضياع حقًّا، فأنت، باستثناء الضوء الظاهر في وجهك، ابن الظلام الدامس. وعندما عدَوْتَ صاعدًا تلَّ جاد ليلًا لتأتيَني بجوادي، ظننتُ أنك وهج المستنقعات، أو كرةٌ من النار الشاردة، قسمًا بقدرة النقود على الشراء! إنك ابتهاجٌ خالد، ضوءٌ من كوة نار موقدة أبدًا، فلقد سِرْتُ معك في الليل من حانةٍ إلى حانة، من دون أن أشتريَ مصابيحَ أو مشاعل كانت ستُكلفني ألف درهم. ولكن الخمر التي سقيتُك إياها كان يمكن أن أشتريَ بثمنها شموعًا رائعة رخيصة تُضارع أغلى الشموع في أوروبا. لقد ظللت أُزوِّدُ هذا الأنف البارد كالسمندل بالنار طيلةَ اثنتين وثلاثين سنة. وأجْرِي على الله!٥
(هنري الرابع/١، ٣ / ٣ / ٢٨–٤٧)
«فها هو ذا في أثوابه يحترق ويحترق»: ونحن نُلاحظ بطبيعة الحال أن فولسطاف نفسَه شَرِهٌ ونَهِمٌ آخَر، لكنني لا أظن أن علينا أن نأخذ مأخذَ الجِدِّ خوف فولسطاف من نار جهنم، مثلما لا ينبغي أن نجد تَماهيًا بين باردولف والشجرة الملتهبة [العُلَّيْقة التي فيها نارٌ لا تحرقها في الكتاب المُقَدَّس].٦ والسير جون يجتهد لتخريبِ دلالات الكتب المقدسة مثلما يُخرِّبُ كلَّ شيء يُمثل قيدًا على حريته: الزمن، والدولة، ومفهوم الفرسان «للشرف»، وجميع الأفكار الخاصة بالنظام مهما تكُن. والتخيُّلات البديعة حول أنف باردولف لا تسمَح لنا برواسبَ رهبة فيما يتعلَّق بالمثل الذي ضربه المسيح — عليه السلام — وإن لم يكن يتفق مع ما يُميزه من الأمثال. ما فرصةُ الفوز المتاحة للتهديد البلاغيِّ بنار جهنم أمام الصور الخياليَّة لتحوُّلات أنف باردولف، الذي يتحول من تَذْكارٍ للميت، إلى الشجرة الملتهبة، إلى وهج المستنقَعات، إلى الصواريخ، إلى المسيرة على ضوء المشاعل، إلى كوة النار الموقَدة، إلى السمندل الناري، وهي سبعةُ بدائلَ لطيفة يفوق سطوعُها الاحتراقَ الذي يُشير إليه مثل يسوع — عليه السلام. وفولسطاف، أعظم شعراء النثر عند شيكسبير، يقفز من تعبيرٍ مجازي إلى سِواه حتى يُذكِّرنا خفيةً أن عبارة «يحترق يحترق» في المثل مَجازيةٌ أيضًا، حتى ولو كانت استعارةً لا يتوقف فولسطاف عن إفراغها من مضمونها. وهو يعود إليها حين يقودُ جنوده التُّعساء سيرًا على الأقدام إلى نار جهنم في موقعة شروزبري «مساكين في أسمالٍ بالية مثل لعازر في الخيمة الملوَّنة وكلاب الغنيِّ الشره تلحس قرح جسمه.»
لماذا تتكرَّر هذه الإحالة في هذا السياق؟ إن هال يتطلع إلى جنود فولسطاف ويقول: «لم أرَ في حياتي أوغادًا يُرْثَى لهم مثل هؤلاء!» فيردُّ عليه فولسطاف ردًّا هائلًا قائلًا: «ويحك! إنهم يُجيدون الارتماء، وهم طعامٌ للبارود، طعام للبارود! كما يستطيعون ملءَ الحُفَر مثل من يفضلهم؛ أي إنهم بشر، بشرٌ فانون بشر فانون!» هل يزيد الشرفُ إذا رميتَ على الأسنة رجالًا يتناولون أغذيةً أفضل ويرتدون ملابسَ أفخر وذوي رفعة؟ كيف يمكن للمرء أن يُعبِّر عن هذه الفكرة بأسلوبٍ أكثرَ دلالة: إن المجندين تحت قيادة فولسطاف يتمتَّعون بجميع الصفات اللازمة: فهم طعام للبارود، وجثثٌ تملأ حفرة، وهم بشرٌ فانون، وقد حضَروا حتى يُقتلوا، مثل من يفضلهم، و«شرفهم الذي يفغر فاه» سوف يعبده الأمير هال. فإن فولسطاف قد جنَّد أفقرَ الفقراء، مثل الشحاذ لعازر، على عكس الشَّرِه الذي يلبسُ الأرجوان وسبق أن سمَّاه دايفز، وهو اسم لا يوجد في نسخة جنيف للكتاب المقدس ولا في النسخة التالية، نسخة الملك جيمز [يعقوب]. وليس من المحتمل أن يكونَ شيكسبير أو فولسطاف قد قرأ إنجيل لوقا في النسخة الشعبية (Vulgate) حيث نجد إشارةً إلى دايفز بدلًا من عبارة «رجل غني معيَّن»، ولفظ دايفز Dives باللاتينية المتأخِّرة يعني «الغني» [وينطق ديفيز] ولكنه كان قد أصبح، بحلول عصر شيكسبير، اسمًا مقتبَسًا من تشوسر والعامية الدارجة. والذي حدث أن السير جون، بعد أن جمع الرُّشا من الأغنياء حتى يعفيَهم من التجنيد، جمع مجموعةً لا بأس بها من الفقراء، مثل لعازر، حتى يُطعَنوا وتنفجر فيهم القنابل في خدمة هنري الأب وهنري الابن. ولكنه، مصداقًا لشخصيته الكارزمية، يزحف على الأعداء وفي غمدِ مسدَّسه قنينةُ خمر، ويقول: «لقد قُدتُ رجالي بأسمالهم البالية حيث انهمر الرصاصُ عليهم، حتى لم يبقَ في قيد الحياة إلا ثلاثةٌ من المائة والخمسين مجنَّدًا، وقد انطلق الثلاثة إلى أطراف المدينة، حيث يتسولون لإمساك رمَقِهم.» لقد فعل فولسطاف كلَّ ما نطلبه منه، فهو بشرٌ فانٍ، قاد رجاله، وكلٌّ يشبه لعازر، إلى حيث انهالت الطلقات وابلًا عليهم؛ إذ خاطر بهم حيث بلَغ لظَى الحربِ ذروتَه. والاحتقار المعرفي عند السير جون للمشروع برُمَّته يُمثل إساءته الحقيقية للزمن وللدولة، وليس الأمير هال أقلَّ نفاقًا عندما يُرعِد هاتفًا: «عجبًا! أهذا وقتُ التفكُّه واللهو؟» عندما يقذف قنينة الخمر إلى السير جون، بعد أن التقطها الأمير لتوِّه من غمد المسدس، محاولًا اقتراضَ مسدس.

وآخرُ إشارةٍ صريحة من فولسطاف إلى دايفز لا تتضمَّن أية إشارة إلى لعازر، ما دامت موجَّهةً إلى الخياط الذي رفض التعامل معه نسيئة، قائلًا: «فلْتحلَّ عليه اللعنةُ من الشرَه النهم! وأدعو الله أن يَزيد حرارة لسانه!» ولما كان فولسطاف في حاجةٍ دائمًا إلى المال، فلا يستطيع ولا نستطيع أن نربط بين الفارس البدين وبين دايفز. ومن المفارَقات الرهيبة أن يكون على السير جون أن ينتهيَ مثل لعازر، منبوذًا من الملك الذي تُوِّج لتوِّه حتى يفوزَ بالدخول إلى «حضن آرثر»، ولكنْ من الواضح أن شيكسبير لم يكن يتَّفق اتفاقًا كاملًا مع معظم نقَّاده المحْدَثين الذين غالبًا ما يتوحَّدون في الدفاع عن نبذ فولسطاف، الذي يعتبر روحَ سوءِ الحكم؛ أي إنهم يُخطئون في إدراك هذا التمثيل العظيم للشخصية الإنسانية خطأً كاملًا، من دون مبالغة، وسوف أعود مرةً أخيرة إلى المثل الذي ضربه يسوع — عليه السلام. إن تفسير فولسطاف المضمر للنص تفسيرٌ عدمي: فعلى المرء إما أن يُلعن مع دايفز وإما أن يُنقَذ مع لعازر، وهذا تناقضٌ يؤدي إلى أن يخسرَ المرء إما هذه الدنيا وإما الآخرة. ومما يؤثَر عن إمرسون قوله «الآخرة؟ لا توجد آخِرة. فالحقيقة الكاملة توجد هنا أو لا توجد في أي مكان.» وفولسطاف لديه من البرجماتية ما يكفي ويَزيد للاتفاق مع إمرسون. ولا أجد عند شيكسبير ما يشير إلى أنه شخصيًّا كان يأمُل في الالتحاق بفولسطاف في حضن آرثر، أو الالتحاق بلعازر في حضن إبراهيم — عليه السلام. إن فولسطاف هو شاعر النثر الذي يقدم «الحقيقة الكاملة»، وأجازف بقولي إن السير جون صاحب «الحقيقة الكاملة» هو الذي نُسميه «الشخصية الإنسانية» تمييزًا لها عن «الشخصية الأدبية».

يصعبُ عليَّ بل يؤلمني أن أختتمَ حديثي عن فولسطاف؛ إذ لا يبدو لي وجودُ شخصية أدبية أخرى — ولا حتى دون كيخوته أو سانشو بانزا، لا ولا حتى هاملت — تتمتَّع بطاقةٍ لا نهائيَّة على حفز الفِكْر وإثارة المشاعر. ويعتبر فولسطاف معجزةً من حيث خلقُ الشخصية الإنسانية، وألغازه تُنافس ألغاز هاملت. فكلٌّ منهما أولًا وقبل كل شيء صوت فردي بصورةٍ مطلقة. ونثرُ فولسطاف ونَظْم هاملت يُقدمان إلينا موسيقى معرفية تغشانا حتى حين نوسعَ أذهاننا إلى آخر حدود الفكر. وهما يتجاوزان آخر فكرنا، ولهما طابع مباشر يشكل، وَفْق الاختبار البرجماتي، حضورًا حقيقيًّا، وهو حضور يؤكد جميعُ أصحاب النظريات والأيديولوجيات المعاصرين أن الأدب لا يمكن أن يوحي به، ناهيك بالحفاظ عليه. ولكن فولسطاف لا يزال يحيا، بعد أربعة قرون، وسوف يسود بعد قرون يتحول فيها «العارفون» و«المستاءون» من ذوي الطراز الشائع إلى صدقات للنسيان. كان الدكتور جونسون، أفضلَ النقاد وأشدَّهم حَدْبًا على الأخلاق، يحب فولسطاف، وأكاد أقول على الرغم منه، لسببٍ يرجع في جانبٍ منه إلى أن السير جون قد حرر ذهنه من التصنع ولغة السوقة، ولكن السبب الأول هو أن بهجة الفارس البدين كانت ذات تأثيرٍ قوي نجح ولو بصورةٍ مؤقتة في إزالة الكآبة الوخيمة التي كان جونسون يُكابدها. وأما شليجل فإنه على الرغم من سمات الجدِّ الألمانية العالية عنده، كان يدرك إدراكًا ثاقبًا تحرر فولسطاف من الخبث، وكان ينبغي للناقد أن يقول المزيدَ فيؤكد أن السير جون قد تحرر أيضًا من رقابة اللوام [الأخلاقية]، ومما أصبح فرويد يسميه Überich؛ أي الأنا العليا. إننا جميعًا نلوم أنفسنا، وأما فولسطاف العاقل والمقدس فلا يفعل، بل يحثُّنا على أن نُجاريَه ونتفوَّق عليه. ولا يتصف فولسطاف بشيءٍ من وحشية هاملت، ولا وحشيةِ الأمير هال.
والذي يحمله فولسطاف هو البركة، بالمعنى العبراني الأصلي وهو المزيدُ من الحياة. فجميع التناقضات الذاتية في طبيعته المركَّبة تشتبك وتمتزج في التدفُّق الثريِّ لكِيانه، وعاطفته المشبوبة لأنْ يكون حيًّا. إن كثيرًا منا يُصبحون آلات لأداء مسئولياتٍ معيَّنة، وفولسطاف أكبرُ وأفضلُ تأنيبٍ لنا على ذلك. وأنا أدرك أنني أرتكب الخطيئة الأصلية التي يستنكرها جميعُ دعاة المذهب التاريخي — من جميع الأجيال — والذين يلتحق بهم جميعُ أصحاب المذهب الشكلي أيضًا؛ إذ إنني أُعْلِي من قدر فولسطاف فأجعله فوق المسرحيات، وهي الجزءان من هنري الرابع ووصف السيدة كويكلي لاحتضار فولسطاف في هنري الخامس. وتبدو لي هذه الخطيئة، مثل تقديس شيكسبير، في صوره الخلاص. ومهما تكرَّرَت قراءتي لشيكسبير أو تدريسي لنصوصه، أو تحملي ما يعتبر اليوم إخراجًا لمسرحياته، فإنني أشارك الجميع في الذكريات التي أحملها من لغته ومن صورة، أو قل من صورةٍ معيَّنة. وأثناء كتابتي هذه الصفحات يرتفع ريتشاردسون في دور فولسطاف أمامي، رؤية للكمال في تحقيق دور شيكسبيري مركزي. ولكن فولسطاف، مثل هاملت، أكثر من دور، فقد أصبح هاملت وفولسطاف يُمثلان ثقافتنا.

ما الذي نستطيع أن نفعله بالشخصيات الدرامية والأدبية التي تعتبر عبقرياتٍ مستقلَّة؟ فنحن لا نكاد نعرف شيئًا من زاوية معينة عن شيكسبير شخصيًّا، ولكننا نفهم من زاوية أخرى أنه استثمَر نفسه استثمارًا بالغ العمق في هاملت وفولسطاف. إذ إنهما معًا يجمعان بين الإلغاز والكشف عن النفس، ونحن لا نستطيع مطلقًا أن نعرف على وجه الدقة مكانَ إفصاح الخبيءِ لنا عن وجوده. أما هاملت فهو يبدو أحيانًا، كما سبق أن ذكرتُ، شخصًا حقيقيًّا، مُحاطًا بممثلين، فلديه أعماقٌ لا يوحي بها أيُّ فرد حوله. وأما فولسطاف فهو، على العكس من ذلك، يمكن أن يبدوَ ممثلًا عظيمًا، مثل رالف ريتشاردسون، محاطًا بمجردِ أشخاص «حقيقيين»؛ إذ إن الآخرين، حتى هوتسبير وهال، يبدون تافهين حين يقف معهم فولسطاف على خشبة المسرح. إنهم يتبارزون، ويصرفون انتباهنا، لأننا نريد أن نسمع ما سوف يقوله فولسطاف بعد ذلك. وعندما يدخل دجلاس مسرعًا وينقضُّ على فولسطاف، نتمنى أن ينتهيَ الاسكتلندي ذو الدم الفائر من عمله ويتركنا، حتى نستمتع بأسلوبِ بعث فولسطاف.

وأكبرُ تكريم قدَّمه شيكسبير إلى فولسطاف أنه، على عكس ما وعد به الجمهور، لم يجرُؤ أن يسمح للسير جون بالظهور على المسرح في هنري الخامس. كان كاتب المسرح يفهم ضخامةَ الشخصية التي أبدعَها. ولكن النقاد يغلب عليهم عدم الفهم، وهو السبب الذي جعل لدينا ذلك الهراءَ الذي يواصلون تسميته (ولا يسميه شيكسبير) «الهنريادية». إننا لا نحتاج إلى هنري الخامس، ولا يحتاج هو إلينا. وفولسطاف يحتاج إلى جمهور، ولا يعجز قطُّ عن العثور عليه. ونحن نحتاج إلى فولسطاف لأن لدينا صورًا بالغة القلة للمذهب الحيوي الأصيل، بل ولدينا صورٌ مقنعة أقل منها للحرية الإنسانية.
١  ترجمة نصوص هنري الرابع/١ من النصِّ المنشور الذي ترجمَته الدكتورة فاطمة موسى في سلسلة من المسرح العالمي رقم ٢٠٠، التي تُصدرها الكويت، عام ١٩٨٦م.
٢  هذه ترجمةٌ جديدة بسبب كَثرة الأغلاط المطبعيَّة في النصِّ المنشور المشار إليه آنفًا.
٣  المقصود الزنجبيل.
٤  هذه ترجمة جديدة منظومة وفق الأصل، والنصُّ المنشور منثور.
٥  هذه ترجمةٌ جديدة اضطُرِرتُ إليها بسبب كثرة الأخطاء المطبعيَّة في النصِّ المنشور.
٦  انظر الخروج ٣: ٢-٣، و«النار» وحسب في سورة طه (١٠) التي ظهرَت لموسى — عليه السلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤