١
على الرغم من أن هذه المسرحية، في رأيي، تُنافس مسرحية سيدان من فيرونا باعتبارها أخفَّ كوميديات شيكسبير وزنًا، فلا يمكن
لأحد أن ينفر نفورًا كاملًا مما أصبح أساسًا لأوبرا فيردي فولسطاف. وعلى أية حال فأنا أبدأ بإعلان رأيي الوطيدِ الذي يقول إن
«الوغد البطل» في مسرحية زوجتان مرحتان من وندسور
دعيٌّ دجالٌ لا اسم له، يتنكَّر في هيئة الرجل العظيم السير جون فولسطاف. وبدلًا من
التسليم بهذا الاغتصاب سوف أُطلق عليه شبيهَ فولسطاف في هذه المناقشة الموجزة
كلها.
وتقول التقاليد إن شيكسبير كتب الزوجتان
المرحتان، ربما في الفترة ما بين كتابةِ جُزأَي هنري الرابع، استجابةً لطلب الملكة إليزابيث أن يُصور لها
السير جون عاشقًا. وفَنُّ الهزلية، الذي يتفق وطبْعَ شيكسبير، يتدهور حتى يُصبح
ضحالةً في الزوجتان المرحتان، وكان ذلك جهدًا
مرهقًا، أظن أن شيكسبير اعتمد فيه على تنقيح بعضِ ما كُتب من قبل، سواءٌ كان هو
كاتبَه أو كتبه مؤلفٌ غيره. وقد قدم لنا رسل فريزر أفكارًا حصيفةً تُفسر ما يُعتبر
ألغازًا في خلفية المسرحية المرتبطة بالسيرة الذاتية للمؤلف، وتقول إن شيكسبير ربما
كان يردُّ على بعض الإهانات القديمة التي وُجِّهت إليه، وربما بعض الأضرار أيضًا.
وقد أضيف أيضًا وجود لمسة هجاءٍ ساخرٍ من بن جونسون، وإن كان المقصود فن جونسون لا
جونسون نفسه. وأحد فوائد زوجتان مرحتان إطلاعُنا
على الجودة الفائقة لأوَّل هزليَّتَين يكتبهما شيكسبير، وهما كوميديا الأخطاء وترويض الشرسة،
بالمقارنة بالطاقة الزائفة التي بذَلها في إذلال شبيه فولسطاف المذكور. وتكثر في
المسرحية لمحاتٌ تُفيد أن شيكسبير لم يكن مستريحًا بما يفعل، ويودُّ الانتهاء منه
بأسرعِ ما يمكن.
فيما يلي أفضل ما يستطيع أن يُقدمه فولسطاف الزائف:
فولسطاف
:
لقد تَفَحَّصَتْ مظهري جزءًا جزءًا، بنظرةٍ تنمُّ عن جوعٍ شديد، حتى
أحسستُ كأنَّ شهوة عينها تلسعني مثل العدسة التي تشعل النار. هذا خطابٌ آخر
إليها؛ فهي تتحكَّم في أموال زوجها أيضًا، وهي مثل بلاد غيانا، عامرة
بالذهب والخير الوفير. وسوف أقوم بدورِ مُصادِرِ الأراضي للمرأتين، كما
تقومان بدور وزارةِ الخِزانة لي. ستكونان جزر الهند الشرقية والغربية،
ولسوف أتاجر مع هذه وتلك جميعًا. (إلى نيم) خُذ هذا الخطاب إلى زوجة بيدج.
(إلى بيستول) وأنت هذا الخِطاب إلى زوجة فورد. لسوف تزدهر أحوالُنا يا
رجال، سوف نزدهر.
هل هذا فولسطاف الخالد؟ أو هل هو هذا:
فولسطاف
:
هاتِني لترًا من النبيذ الإسباني، وضَعْ فيه شريحةً من الخبز
«التوست».
(يخرج باردولف.)
هل عِشْتُ حتى يحملَني الرجالُ في سَلَّةٍ مثل عربةِ الجزار التي تحملُ
أحشاءَ الحيوانِ، ويُلْقوني في نهر التيمز؟ لو تكرَّر معي ذلك لنزعتُ
مُخِّي من رأسي ودَهَنْتُه بالزبد وقدمتُه لأحدِ الكلاب هديةً في عيد رأس
السنة! أُقسمُ بالله لقد ألقاني الأوغادُ في النهر دونَ أدنى شفقةٍ كأنهم
يُغْرِقُون جِرَاءَ الكلبةِ العمياء، خمسة عشر معًا! وتعلمون من حجمي أنِّي
سريعُ الغَوْص، ولو كان قاعُ النهر في عمق جهنم لَغَطَسْتُ وغُصْت. وكان من
المحتمل أن أَغْرَقَ لولا أن ضَفَّةَ النهر منحدرةٌ ضحلة — وتلك ميتةٌ
أُبغِضُها؛ فالجسم ينتفخُ ويتورَّم بالماء — وتصوروا ما كان يمكن أن أصبح
عليه لو تورَّمت! جثةٌ منحطةٌ كالجبل!
لم يَعُد ذا لماحيةٍ ولا مُلهمًا للماحية عند الآخرين، وكان يمكن لفولسطاف هذا أن
يجعلَني أنعى مجدًا غاربًا لولا أنِّي أعرف أنه دَعيٌّ دجال. وأجملُ ما يبهرنا فيه
أن شيكسبير لا يُهدر فيه أية طاقة؛ فمسرحية زوجتان مرحتان من
وندسور هي المسرحيةُ الشيكسبيرية الوحيدة التي يبدو أنه يحتقرها حتى
أثناء كتابتها. وأدى ازدراؤه لمهمتِه إلى أنْ صوَّر شخصًا سماه «فولسطاف» لا يصلح
إلا لأن يُحمل في سلةٍ ويُلقى به في نهر التيمز. ومثلُ هذا التحقير يُماثل تصوير
كليوباترا في صورةِ امرأةٍ سَليطة اللسان (في عرضٍ بريطاني قُدِّم أخيرًا في مدينة
نيويورك) أو تصوير جوليت في أحد الأفلام باعتبارها عضوًا في عصابة. تستطيع أن تُدخل
أي رجل بدين في سلةٍ فتُضحك الجمهور، وليس من اللازم أن يكون فولسطاف، ولا أن يكون
الكاتبُ شيكسبير. وبحلول اللحظة التي يتعرض فيها فولسطاف، المتنكِّر في زيِّ امرأةٍ
سمينة عجوز، للضرب المبرح، يبدأ المرءُ باستنتاج أن شيكسبير كان يكره لا تلك
المناسبة وحَسْب، بل نفسه بسبب استسلامه لها. والإهانة الأخيرة تقديمُ شبيه فولسطاف
مغلولًا وعلى رأسه قرنان، ضحيةً لهزليةٍ صادية ماسوكية، وربما ضحيةَ انفجارٍ سريع
لكراهية شيكسبير لنفسه. والدجال التَّعِس الذي يتعرض للقرص واللسع على أيدي جنِّيات
وهمية، يسمح له أخيرًا بردٍّ يُشبه ردودَ فولسطاف الحقيقي على شخصٍ من ويلز.
فولسطاف
:
«الذُّبْدُ» و«الكُبْنُ» تقول؟ هل جاء اليوم الذي يهزأ بي فيه رجل
يُقطِّع اللغة ويَقْليها في الزُّبد؟ كفي بهذا قاتلًا للشهوة واصطياد
النساء ليلًا!
إنَّ في العبارة مجردَ لمسةٍ من شيكسبير الحقيقي، لكنها كلُّ ما
نحصل عليه. فالذي نتلقَّاه كرنفال صادوماسوكي مناسبٌ لحكاية الليلة التي قضاها في
الملاهي الليلة في المدينة بطل رواية أوليسيس للكاتب جيمز جويس، لكنها لا تُناسب
التلاعب اللُّغوي الرفيع عند جويس (بمعنى أرفع من
زوجتان
مرحتان من وندسور وحسب). فالواقع أنَّ فولسطاف الخالدَ الذي رسمه
شيكسبير يتعرض للإذلال الرهيب الأخير المتمثل في رفض الناس له، لكنه لا يزال يحتفظ
بالتعاطفِ والوقار، بل والنبالة الخاصة أثناء سقوطه، كأنه لعازر في مواجهة دايفز ذي
الأرديَة الأرجوانيَّة الذي يُمثله هنري الخامس. وكل ما يخرج به فولسطاف الزائف
عجيزه تؤلمه؛ ولا أستطيع أن أتفوَّق على تعبير أ. سي برادلي عن استهجانه الذي
أشاركه إياه:
[إن فولسطاف] يتعرَّض للتمويه والخداع والمعاملة معاملةَ الملابس
القذِرة، وللضرب والتحريق، والشك، والتهكُّم، والسباب، وأسوأ ما في ذلك
كلِّه أنه يُبدي التوبة ويُقدم لنا بعضَ الدروس. ذلك فظيع!
للتجارة متطلباتها، ولكن لماذا يُذيق هذا التعذيبَ شخصيةً تُمثل لماحيته الخاصة
في أبدع حالاتها؟ ولقد شاهدتُ يومًا هذه الخلطة الطقسية في عرضٍ يقول إنه يلتزم
بنطق الإنجليزية كما كانت تُنطق في عصر شيكسبير، ووجدتُ مكسبًا واضحًا في عدم فهم
ما يُقال في كل حالة. وقد اقترحَت بعضُ الناقدات النسويات أن شيكسبير كان يخاف، وإن
لم يكن تجاوزَ الثالثة والثلاثين من عمره، فقد الذكر حيويته الجنسية حين يتقدَّم به
العمر، وهكذا عاقب فولسطاف الزائف باعتباره بديلًا عن نفسه. وتقول هذه الناقدات إن
زوجتان مرحتان من وندسور تصويرٌ مسرحي
للإخصاء، وإن الزوجتين المرحتين تستمتعان أيَّما استمتاعٍ بجهودهما في الإخصاء.
وأمتنع هنا عن التعليق.
ويتبقَّى اللغز المتمثل في سبب تعريض شبيه فولسطاف المذكور إلى هذا الضرب
المبرِّح الذي دبَّره شيكسبير فيما يُشبه محاصرة الكلاب للدبِّ ونبحه وعضه، حيث
يعتبر «سير جون العاشق» الدبَّ المحاصر. لقد كان شيكسبير الذي مارس الكتابة
المسرحية طول عمره سريعَ الخضوع للرعاة غيرِ المعلن عنهم، وللرقباء التابعين
للدولة، ومقتضيات العُروض المسرحية في القصر الملكي. وهكذا كانت تُساوره في أعمق
أعماق سريرته ضروبُ قلقٍ واستياءٍ نادرًا ما عبَّر عنها. كان يعرف أن جهاز
الاستخبارات الذي يرأسه والسينجهام قد اغتال كريستوفر مارلو، وتولَّى تعذيب توماس
كيد حتى مات قبل الأوان. وهاملت يموت مرفوعَ الرأس، إنْ صح هذا التعبير، فيُحقق
تعاليةً غير متاحة لشيكسبير، وقطعًا ليست متاحةً لشيكسبير الإنسان، وفولسطاف يموت
في فراشه، وهو يلهو بالزهر ويبتسم لأناملِه، ويُغني بوضوحٍ لمائدةٍ أُعدت له وسَط
أعدائه. ونحن لا نعرف كيف وبأيِّ طريقة مات شيكسبير، ولكن ربما كان في سريرته شيءٌ
يتماهى في نظره مع فولسطاف الحقيقي، الذي تعرَّض للنبذ من حيث كان يُضمر أقصى الحب،
وحيدًا، مثل شاعر السونيتات، وربما كان يخشى المزيدَ من صنوف الإذلال. ولا بد أن
أنتهيَ إلى القول بأن شيكسبير نفسه كان يتحاشى رعبًا أو أهوالًا شخصية بجعل فولسطاف
الزائف كبش الفداء في هذه المسرحية الضعيفة.