الفصل الثاني
ترويض الشرسة
تبدأ مسرحية ترويض الشرسة بمشهدَين بالغَي الغرابة يُمثلان المدخل، وهو يُصور نبيلًا مغرمًا ﺑ «المقالب» الفكهة يخدع سمكريًّا
سكران، اسمه كريستوفر سلاي، فيوهمه بأنه لورد رفيعُ المكانة يوشك أن يشهد أداء مسرحية
بعنوان كيت وبتروشيو. وهكذا فإن هذه الكوميديا، أي بقية ترويض
الشرسة مسرحيةٌ داخل مسرحية، وهو ما لا يتناسب على الإطلاق مع تأثيرها
التمثيلي في الجمهور. وعلى الرغم من المهارة البادية في صَوغها فإن المدخل يمكن أن
يناسب حفنةً من كوميديات شيكسبير الأخرى، مثلما يتفق أو يختلف مع ترويض الشرسة. ولقد وضع النقد الأدبي «اللَّوذعي» بضعة أنساق تربط ما
بين كريستوفر سلاي وبتروشيو ببعض أوجه الشبه، لكنني لست ممَّن اقتنعوا بذلك. وأظن أن
شيكسبير كان له غرضٌ درامي ما في هذا المدخل حتى ولو لم نَحْدسه إلى الآن. ولا يرجع
سلاي إلى خشبة المسرح في ختام مسرحية شيكسبير، ربما لأن انقشاع وهمه سيغدو قاسيًا
حتمًا، ولأنه يمكن أن يُكدر الانتصار المتبادل بين كيت وبتروشيو، اللذَين من الواضح سوف
يُصبحان أهنأَ زوجَين عند شيكسبير (باستثناء مكبث وزوجته اللذَين ينتهيان نهايتين
منفصلتين، وكلٌّ منهما سيئة). ويوجد رأيان مُقْنعان بصفة عامة ومقبولان في المدخل: الأول أنه يقيم مسافة بيننا وبين أداء ترويض الشرسة، والثاني أنه يُلْمِح إلى أن اختلال الوضع
الاجتماعي نوعٌ من الجنون. فإن سلاي الذي يطمح إلى ما يفوق منزلته الاجتماعية يُصاب
بالجنون مثل مالفوليو في الليلة الثانية عشرة.
وما دام كيت وبتروشيو متعادلَين اجتماعيًّا فإن اختلالهما قد يتمثل في أشكال التعبير
العنيف الصارخ التي يشتركان فيها، وهي التي «يعالجها» بتروشيو عند كيت مقابلَ ثمنٍ باهظ
وهو زيادة صخبه زيادةً مفرطة إلى درجةٍ تجعل من الصعب التمييزَ بينه وبين خبل
البارانويا. أما مَن منهما يقوم بالعلاج ومَن منهما يحظى بالشفاء فيظلان سؤالين مزعجين
في هذا الزواج، وهو الذي سوف ينجح دون شك، ويظل قائمًا في وجهِ عالم تُخِيفه جبهةٌ
مشتركة من المشاكسة الجبَّارة (التي تتميز بمكرٍ أكبر كثيرًا عند كيت من الهدير
الصِّبياني عند زوجها). إننا نعرف بعض حالات الزواج المماثلة، ولنا أن نُبدي إعجابنا
بما ينجح منها، ولنا أن نعتزم أن نبتعد عن زوجَين قرَّرا الاعتصام بأنفسهما غيرَ
عابئَين بالغير أو بالغيرية.
وربما كان شيكسبير الذي يتميز بدهاءٍ لا ينتهي يُلمح إلى وجودِ تشابه بين كريستوفر
سلاي وبين الثنائيِّ الزوجي السعيد، فكلٌّ من الطرفَين يعيش في حلمٍ خاص به، ولن يُفيق
سلاي منه ولن يتخلَّى كيت وبتروشيو عنه. فالواقع الذي يُشاركون فيه آخِرَ الأمر مؤامرةٌ
من نوعٍ ما ضدَّنا جميعًا؛ فإن بتروشيو سوف يتمايل خُيَلاءً وسوف تتحكم كيت فيه وفي
المنزل، لاعبةً على الدوام دورها بصفتها الشرسة التي صلح حالها. ولقد زعمَت عدة ناقدات
نسويات أن كيت تزوجت من بتروشيو مرغَمة، وليس هذا صحيحًا، قطعًا، وقد يتطلب الأمر منك
الحرص والانتباه في القراءة؛ حتى تُدرك صحة قول بتروشيو وإصرارَه على أن كيت وقعَت في
غرامه من أول نظرة. وكيف لا تهواه؟! إن أباها بابتيستا الفظيع يدفعها إلى العنف والشدة
بتفضيله الشرسة الحقيقية تفضيلًا شديدًا، وهي ابنته الصغرى البلهاء بيانكا؛ ومِن ثم فإن
كيت ذاتَ الروح الأبيَّة تستميتُ في طلب النجدة. وبتروشيو المتخايِلُ عُجْبًا يُثير
عندها ردَّ فعل مزدوجًا؛ فهي ظاهريًّا غاضبةٌ وداخليًّا عاشقة. فالشعبية الجارفة التي
تحظى بها ترويض الشرسة لا ترجع إلى صاديةٍ ذكورية عند
الجمهور، بل إلى الإثارة الجنسية عند النساء والرجال معًا.
وتعتبر ترويض الشرسة من الكوميديات الرومانسية؛ أي
كوميديات الحب، بقدر ما تُعتبر هزلية. فالخشونة المتبادَلة بين كيت وبتروشيو ذات جاذبية
أولية، ومع ذلك فإن الطابع الفكاهيَّ لعلاقتهما راقٍ رفيع. فالوغد الظريف بتروشيو خيارٌ
مثالي في الحقيقة — أي خيار تحكمه عوامل متعددة — للفتاة كيت في إطار سعيها للخلاص من
موقفٍ منزلي يدفع إلى الجنون بأكثرَ ما تدفع إليه ألاعيبُ جنون بتروشيو. فإذا كان
يَهْدر ويَزأر ظاهريًّا، فإنه ذو باطن نفسي مختلف، وهو ما تراه كيت وتفهمه وتُسيطر
عليه، بموافقته الأخيرة على ذلك. وحربُهما البلاغية تبدأ في صورةِ إثارة جنسية
متبادَلة، وبتروشيو يستعيض عنها بعد الزواج بلعبةٍ مُبالغ فيها من سورات الغضب
الطفولية. ومن الجدير بالذكر قطعًا أن كيت، على الرغم من معاناتها المبدئية فيما يتعلق
بالطعام والملبس وما إلى ذلك بسبيل، تُكابد لحظةً واحدة من الألم الحقيقي، وذلك عندما
يتعمَّد بتروشيو أن يصل متأخرًا عن موعد الزفاف، وهو ما يجعلها تخشى أن يكون قد
هجَرها:
بابتيستا
:
يا أَيُّهَا السِّنْيُورُ لُوسِنْتُو! هذَا هُوَ اليَوْمُ
المُحَدَّدُ للزَّفَافْ،
أعْنِي زَوَاجَ كَاتْرِينَا هُنَا بِعَرِيسِهَا بتْرُوشْيُو،
لكنَّنا لَمْ تَأْتِنَا الأَنْبَاءُ عَمَّنْ قَدْ غَدا صِهْرًا
لَنَا،
ماذا يقُولُ النَّاسُ عَنَّا؟ بلْ ما مَدَى ما سَوْفَ تَغْدُو
السُّخْرِيَة،
إنْ غابَ عَنْ عَقْدِ القِرَانِ عَرِيسُنَا، والكَاهِنُ المَأْذُونُ
عِنْدي
جَاهِزٌ لِتِلَاوَةِ النَّصِّ الذي يُتْلَى هُنَا وَفْقَ
الشَّعَائِرْ؟
ما رَأي لُوسِنْتُو بِهذَا العَارِ في أُسْرَتِنَا؟
كاترينا
:
لَا عَارَ هُنَا إلَّا عَارِي. لا بُدَّ بأنْ أُضْطَرَّ إلَى
أَنْ
أَرْضَى بزَوَاجٍ يَرْفُضُهُ قَلْبِي مِنْ مَخْبُولٍ حَادِّ
الطَّبْعِ،
وذِي نَزَوَاتٍ لا حَدَّ لَهَا. فإذَا هوَ في الخِطْبَةِ
يَتَعَجَّلْ،
وبِيَوْمِ زَفَافي يَقْصِدُ أَنْ يَتَمَهَّلْ!
قُلْتُ لَكُمْ مِنْ قَبْلُ بأنَّ الرَّجُلَ غَريبٌ مَأْفُونْ،
ويُحَاوِلُ بِسُلُوكٍ فَظٍّ إخْفَاءَ مَلَاعِبهِ المُتَفكِّهَةِ
المُرَّة،
ولكي يَكْتَسِبَ الصِّيتَ بِقُدْرَتِهِ البَالِغَةِ على
الهَزْلِ؛
تَراهُ يَخْطُبُ أَلْفَ فَتَاةٍ ويُحَدِّدُ يَوْمَ زَفافِهْ،
فَيُقِيمُ المَأْدُبَةَ ويَدْعُو الأَصْحَابَ ويُعْلِنُ نَصَّ
العَقْدِ الكَنَسي،
مِنْ دُونِ النِّيَّةِ في أنْ يَقْتَرِنَ بأي فتاةٍ
يَخْطُبُها.
لا بُدَّ بأنَّ الدُّنْيا الآنَ تُشِيرُ إلى كَاتْرِينَا
المِسْكِينَةِ،
وتَقُولُ «انْظُرْ! هَا هي ذِي زَوْجَةُ بتْرُوشْيُو
المَجْنُونْ،
فَلْيَتَعَطَّفْ إنْ شَاءَ فَيَأْتِي كي يَتَزَوَّجَهَا».
ترانيو
:
الصَّبْرَ كَاتْرِينا الكَرِيمَة! وأَنْتَ يا بَابتِيسْتَا!
أَقْسَمْتُ بالحَيَاةِ إنَّ بتْرُوشْيُو سَليمُ النِّيَّة،
إنْ كَانَتِ الأَقْدَارُ قَدْ عَاقَتْهُ عَنْ تَنْفِيذِ
وَعْدِهْ؛
فإنَّهُ علَى فَظَاظَتِهْ … لَدَيْهِ ما عَرَفْتُهُ مِنْ حِكْمَةٍ
وعَقْل،
ورَغْمَ ما لَدَيْهِ مِنْ مَرَحْ … فإنَّهُ لَذُو أَمَانَةٍ وذُو
شَرَفْ.
كاترينا
:
ورَغْمَ ذَاكَ لَيْتَ أنَّ كاتْرِينَا هُنَا … ما شَاهَدَتْهُ قَطْ!
(تخرج كاترينا باكيةً وتتبعها بيانكا والوصيفات.)
لا أحد يستمتع بأن يُهجَر، ولكن قلق كيت ليس قلقَ عروس مرغمة، بل إنها
تُضمِر حُبًّا حقيقيًّا، ومع ذلك فلا تملك إلا أن تشعرَ بالتوتر الشديد إزاءَ أفعال
بتروشيو الجنونية؛ إذ تخشى أن يتَّضح أنه مولَعٌ ولعًا قهريًّا بتدبير «المقالب»، وربما
يكون خاطبًا لنصف بنات إيطاليا. وعندما يرفض بتروشيو، بعد مَراسم الزفاف، أن يسمح
لعروسه أن تحضر مائدة العرس، فإنه يُحطم ما يُسميه «روح المقاومة» عندها، بإلقاء خطابٍ
لاذع يزعم فيه امتلاكها ويستند بثباتٍ إلى الوصية العاشرة [من الوصايا العشر] ذات
النبرة الأبَوية العالية، دون أدنى شك، قائلًا:
بتروشيو
:
لَسَوْفَ يَذْهَبُونَ مُنْصَاعِينَ يا كِيتُ لأَمْرِكْ،
يا مَنْ تُرَافِقُونَ هذِهِ العَرُوسَ نَفِّذُوا مَطْلَبهَا،
هَيَّا إِلَى الوَلِيمَة! هَيَّا إِلَى احْتِفَالٍ صَاخِبٍ
مُعَرْبِدْ،
ولْتَشْرَبُوا الأَنْخَابَ مُتْرَعَةً لِعُذْرِيَّتِهَا،
إنْ لمْ تُعَاقِرُوا المَرَاحَ والجُنُونَ فاشْنُقُوا
أَنْفُسَكُمْ!
أَمَّا حَبِيبَتِي كِيتُ الجَمِيلَة … فإنَّها لا بُدَّ أنْ تَأْتِي
مَعِي،
أَرْجُوكُمو أَلَّا تُقَاوِمُوا … لا تَضْرِبُوا الأَرْضَ
بِأَرْجُلِكُمْ،
ولا تُحَمْلِقُوا ولا تُعَبِّرُوا عَنِ اسْتِيَائِكُمْ؛
فإنني لَمَالِكٌ أُرِيدُ أنْ يَكُونَ في يَدِي مَا أَمْلِكْ!
إنَّهَا بَضَائِعِي أو قُلْ مَتَاعِي … منزلي وكُلُّ مَا يكونُ
فِيه!
إنَّهَا حَقْلِي وجُرْنِي وخُيُولي بَلْ وثِيرَاني وحَتَّى
حُمُري!
إنَّها لِي كُلُّ شيء. هَا هي الآنَ بِمَرْأًى مِنْكُمْ،
فَلْيُحَاوِلْ مَنْ لَدَيْهِ جُرْأةٌ أَنْ يَلْمَسَها،
سَوْفَ أَشْكُو لِلْقَضاءِ أوْ أَصُدُّ عَنْوَةً أَعْتَى
الرِّجَالْ،
إنْ أَعَاقُوا مَسْلَكي في بَادْوَا! يا جُرُومْيُو سُلَّ
سَيْفَكْ!
قد أَحَاطَتْنَا اللُّصُوصْ! هُبَّ كي تُنْقِذَ مَوْلَاتَكْ،
أَظْهِرِ الآنَ الرُّجُولَة! لا تَخَافي يا فَتَاتِي
الفَاتِنَة،
لَنْ يَمَسُّوكِ أيَا كِيتُ بِسُوءْ؛
فَأَنَا أَحْمِيكِ حَتَّى لَوْ تكُنْ مِنْهُمْ أُلُوفٌ
وأُلُوفْ.
(يخرج بتروشيو وكاترينا وجروميو.)
وهذا الخروج «المسرحي»، حيث يُشهر بتروشيو وجروميو سيفَيهما مُلوِّحَين
بهما، يُمثل اختطافًا رمزيًّا ويبدأ علاج بتروشيو الذي يكتسب غرابةً تقترب من الطابع
الخرافي، لكيت المسكينة، وهو الذي يستمرُّ حتى تكتشف كيت أخيرًا كيف تروض ذلك
المختال:
بتروشيو
:
هَيَّا! هَيَّا نَسْتَأْنِفْ رِحْلَتَنا باسْمِ اللهِ إلى مَنْزِلِ
وَالِدِنا،
يا لله! ما أَجْمَل ما يَسْطَعُ هذَا القَمَرُ الفَتَّانُ عَلَيْنَا
بِضِيَائِهْ!
كاترينا
:
هذا القَمَرُ؟ ألَا تَعنِي الشَّمْس؟ ما هذَا ضَوْءُ القَمَرِ الآنْ!
بتروشيو
:
أقُولُ إنَّهُ البَدْرُ الذي يُشِعُّ نُورَهُ السَّاطِعْ.
كاترينا
:
وأَنا وَاثِقَةٌ أنَّ النُّورَ السَّاطِعَ نُورُ الشَّمْس.
بتروشيو
:
قَسَمًا … وبِمَنْ وَلَدَتْهُ أُمِّي … أي بكِيَانِي
إنِّي لَنْ أَرْحَلَ لمَقَرِّ الوَالِدِ حَتَّى يُصْبِحَ هذا
ضَوْءًا لِلْقَمَرِ أو النَّجْمِ السَّاطِعِ أوْ مَا يَحْلُو
لِي.
[إلى جروميو.]
اذْهَبْ حَتَّى تَرْجِعَ بالخَيْلِ إلَيْنَا! لا أَلْقَى
مِنْها
غَيْرَ مُنَاوَأَةٍ ومُعَارَضَةٍ دَوْمًا! لا شيء سِوَى هذَا!
هورتنسو
[إلى كاترينا]
:
قُولِي قَوْلَهْ! ذاكَ وإِلَّا لَنْ نَذْهَبَ أَبدًا لأَبِيكِ.
كاترينا
:
أَرْجُو أنْ نَسْتَأْنِفَ رِحْلَتَنا … ما دُمْنَا قَدْ سِرْنَا
وقَطَعْنَا
هذِي المَرْحَلَةَ الآنْ! ولْيَكُنِ الضَّوْءُ ضِيَاءَ الشَّمْسِ أوِ
القَمَرِ …
أو ما يُرْضِيكْ … حَتَّى لوْ بَثَّتْهُ أَرْخَصُ شَمْعَة؛
فَمِنَ الآنَ سَأُقْسِمُ أَنْ أَقْبَلَ ما تَرْضَاهُ.
بتروشيو
:
أَقُولُ إنَّهُ القَمَرْ.
كاترينا
:
لا شَكَّ عنْدِي أنَّهُ القَمَرْ.
بتروشيو
:
إذَنْ فَأَنْتِ كَاذِبَة … فإنَّما هي الشَّمْسُ المُبَارَكَة.
كاترينا
:
تَبَارَكَ اللهُ القَدِيرُ إنَّهَا الشَّمْسُ المُبَارَكَة.
لكنَّها لَيْسَتْ بِشَمْسٍ إنْ نَفَيْتَ ذلِكْ.
بَلْ إنَّ أوْجُهَ القَمَرْ … لا تَهْتَدِي إلَّا بِرَأْيِكْ.
أَطْلِقْ علَى الأَشْيَاءِ ما تَهْوَى مِنَ الأَسْمَاءِ
تَصْدُقْ!
ولَنْ تكُونَ غَيرَ الصِّدْقِ عِنْدَ كَاتْرِينَا.
واعتبارًا من هذه اللحظة تتولَّى كيت الحكم وهي لا تتوقف عن إعلان طاعتها لبتروشيو
السعيد، وهو عَكْسٌ رائع يُنجزه شيكسبير للموقف الأول الذي كان بتروشيو يؤكد فيه لطف
كيت ورقتها أثناء غضبِها وزمجرتها. ولا أجد مشهدًا للحب الزوجي في شيكسبير كله أجمل من
هذه القطعة الزخرفية في أحد شوارع بادوا:
كاترينا
:
هيا نتبعهم يا زوجي حتى نشهد آخر تلك الضجة.
بتروشيو
:
قبِّليني أولًا يا كيت من قبل المسير.
كاترينا
:
لكنْ أفي وسط الطريق؟
بتروشيو
:
تراكِ تستحين مني؟
كاترينا
:
لا قدَّر الله يا سيدي! لكنني أستحي من القُبلة.
بتروشيو
:
إذن نعود ثانيًا لبيتنا! جهِّز لنا الخيولَ يا غلام!
كاترينا
:
لا لا! سأعطيك قبلة! (تُقبِّله) أرجو بأن تبقى الآن يا حبيبي.
بتروشيو
:
هَيَّا إذَنْ يا كيتُ يا حَبِيبتَي … قد كانَ ذَاكَ صَادِقًا،
مَهْمَا يَزِدْ تَأْخِيرُ ما تَأْتِي بهِ … يَأْتِي لَنَا
مُوَفَّقَا؛
فإنَّما أَوَانُ فِعْلِ الخَيْرِ لا يَفُوتُ مُطْلَقَا!
(يخرجان.)
لا بد أن يكون المرء عاجزًا عن إدراك نغمةِ الكلام (أو مخبولًا أيديولوجيًّا) إن
لم
يسمع في هذا الحوار أدقَّ صَوغٍ لموسيقى الزواج في أسعدِ حالاته. وأنا نفسي أبدأ تدريس
ترويض الشرسة بهذه القطعة؛ لأنها تِرْياق جبَّار
لجميع ألوان الهراء الشائع عن المسرحية قديمًا وحديثًا. (وتُقدم إحدى الطبعات الحديثة
للمسرحية مقتطفاتٍ من كتب الإرشادات إبان عصر النهضة بصدد ضرب الزوجات، ويتعلم المرء
منه أن مثل هذا الفعل، بصفة عامة، لا يوصى به. ولما كانت كيت تضرب بتروشيو دون أن يردَّ
بضربها — وإن كان يُحذرها من تَكْرار هذا الحماس الفيَّاض — فلا يتضح لي سببُ إثارة
موضوع ضرب الزوجات على الإطلاق). وأدقُّ من هذا كلِّه خطابُ كيت الطويل المشهور،
ونصائحها للنساء بشأن سلوكهن إزاء أزواجهن، قرب نهاية المسرحية. وأقول من جديدٍ لا بد
أن يكون المرء عاجزًا عن تجاوز حَرْفية التعبير اللفظي؛ بحيث يعجز عن سماع السخرية
اللذيذة التي تُمثل اللحن الباطن لكلام كيت، والذي يرتكز على السطر العظيم «إني لأخجل
إن رأيتُ المرأة الحمقاء». فالواقع أننا نحتاج إلى ممثلةٍ بالغة البراعة حتى تُلقي هذه
الخُطبة المتكاملة بالصورة الصحيحة، كما نحتاج إلى مخرجين مسرحيين أفضلَ ممَّن لدينا
الآن، حتى تُتاح للممثلة فرصتها الكاملة؛ إذ إنها تنصح النساء كيف يحكمن حكمًا مطلقًا
وهن يتظاهرنَ بالطاعة:
تَبًّا وتَبًّا لَكْ! الآنَ حُلِّي عُقْدَةَ الجَبِينِ؛ فالوَعِيدُ في
تَقْطِيبِهِ
مُنَاقِضٌ لِلْفِطْرَة! لا تُطْلِقِي سِهَامَ الاحْتِقَارِ الجَارِحَاتِ
مِنْ
عَيْنَيْكِ نَحْوَ سَيِّدِكْ … فإنَّهُ لَعَاهِلُكْ … ومَالِكٌ زِمَامَ
أَمْرِكْ!
وإنَّها لَتَطْمِسُ البَهاءَ فيكِ مِثْلَمَا يُشَوِّهُ الصَّقِيعُ مَشْهَدَ
المُرُوجْ!
وتُسْقِطُ الصِّيتَ الجَمِيلَ مثْلَمَا تَهْوِي البَرَاعِمُ الحِسَانُ
في
أَيْدِي الرِّيَاحِ العَاتِيَة! ولَيْسَ هذَا بالمُحَبَّبِ الذي يَلِيقُ
بِك.
فالمَرْأَةُ الغَضُوبُ عِنْدَمَا تَثُورُ تُشْبِهُ النَّبْعَ الذي
تَعَكَّرْ،
وأَصْبَحَتْ مِيَاهُهُ طِينًا وأَكْدَارًا وقُبْحًا وفَظَاظَة،
وعَاطِلًا مِنَ الجَمَالِ يَأْنَفُ العَطْشَانُ في حُرْقَتِهِ
مِنْ أنْ يَنَالَ رَشْفَةً أوْ أنْ يَذُوقَ قَطْرَةً وحَسْب!
زَوْجُكِ سَيِّدُكْ … وإنَّهُ حَيَاتُكِ الدُّنْيَا وعَائِلُكْ.
وإنَّهُ الرئيسُ والمَلِيكُ لَكْ … مَنْ يَعْتَنِي بأَمْرِكْ،
ويَكْسِبُ الرِّزْقَ الذي يُقِيم أَوْدَكْ،
مَنْ يَبْذُلُ الجُهْدَ الأَلِيمَ بَدَنًا … في البَحْرِ والبِرِّ
مَعًا،
ويَسْهَرُ اللَّيْلَ الطَّوِيلَ وَسْطَ العَاصِفَةِ … مُكَابِدًا
للزَّمْهَرِيرِ بالنَّهَارْ،
وأَنْتِ تَنْعَمِينَ بالدِّفْءِ الأَمِينِ والمَأْمُونِ في دَارِكْ،
ولَيْسَ يَرْجُو مِنْ جزَاءٍ مِنْكِ غَيْرَ الحُبِّ،
وزِينَةَ المَظْهَرْ … والطَّاعَةَ الحَقَّة …
فمَا أَقَلَّ هذَا الأَجْرَ في مُقَابِلِ الدَّيْنِ العَظِيمِ لَهْ!
فَدَيْنُ كُلِّ زَوْجَةٍ لِزَوْجِهَا دَيْنُ الرَّعَايَا لِلْأَمِيرْ!
أمَّا إذَا تَنَكَّرَتْ لَهُ وضَاقَ صَدْرُها بِهِ،
وأَبْدَتِ التَّجَهُّمَ المَرِيرَ والعِصْيَانَ لِلْإرَادَةِ
المَشْرُوعَة،
فمَا عَسَاهَا أنْ تكونَ غَيْرَ ثَائِرٍ خَبيثٍ قَدْ تَمَرَّدْ،
وخَانَ في فَظَاظَةٍ وَلَاءَهُ لِلْحَاكِمِ الذي يُحِبُّهْ،
إني لأَخْجَلُ إنْ رَأَيْتُ المَرْأَةَ الحَمْقَاءَ
تَرْفَعُ رَايَةَ لِلْحَرْبِ لا أنْ تَنْشُدَ السِّلْمَ وتَرْجُوهُ،
أوْ إنْ سَعَتْ لِلْحُكْمِ أوْ لِلْقَهْرِ والسِّيَادَة،
وإنَّما الوَاجبُ أنْ تُقَدِّمَ الحُبَّ الذي يَرْجوهُ زَوْجُها
والطَّاعَة.
ما سِرُّ خَلْقِنَا بِأَجْسَامٍ رَقِيقَةٍ ضَعِيفَةٍ مَلْسَاءَ،
لا تَسْتَطِيعُ الكَدَّ والجُهْدَ الجَهِيدَ في الدُّنْيَا،
هَلْ ذَاكَ غَيْرُ أنْ تَصْفُو النُّفُوسُ والقُلُوبُ عِنْدَنَا
تَنَاغُمًا مَعَ الصَّفَاءِ في أَبْدَانِنَا؟
هَيَّا إِذنْ يا حَيَّتَيْنِ تَهْوَيَانِ دُونَ قُوَّةٍ طَبَائعَ
المُشَاكَسَة!
كانَتْ لَدَيَّ ذاتَ يَوْمٍ كِبْرِيَاءُ وكَانَ قَلْبِي ذَا
جَسَارَةٍ،
وعَقْلِي طَامحًا مِثْلَكُمَا … وكانَ يَهْوَى أنْ يُقَارِعَ
الأَلْفَاظَ
بالأَلْفَاظِ والعُبُوسَ بالعُبُوسْ … لكنني رَأيتُ اليَوْمَ
أنَّ كُلَّ هذِهِ الرِّمَاحِ أَعْوَادُ أَسَلْ! وأنَّ قُوَّةَ
المَرْأَةِ
مِثْلُ القَشِّ ضَعْفًا! وأنَّ ضَعْفَهَا شَدِيدٌ لا مَثِيلَ لَهْ!
وأنَّما أَشَدُّ ما نُظْهِرُهُ أَشَدُّ ما نَفْتَقِدُهْ.
فَلْتُقْلِعَا إذَنْ عَنِ التكبُّرِ الَّذي لَا نَفْعَ فِيهِ لَكُمَا،
لكنْ ضَعَا أَيْدِيكُمَا … مِنْ تَحتِ أَقْدَامِهِمَا،
أمَّا أنَا فَوَاجِبِي يَقْضِي بأنْ أُقَدِّمَ اليَدَا،
إنْ شَاءَ أنْ يَقْبَلَها … أَرْجُو بِهَا أنْ يَسْعَدَا.
ولقد اقتطفتُ هذه القطعةَ كاملة، وذلك على وجه الدقة؛ لأن إطنابها
والخضوعَ المبالَغ فيه يحسمان طبيعتها باعتبارها اللغةَ السرية أو الشفرة التي يشترك
فيها الآن كيت وبتروشيو. ﻓ «الطاعة الحقة» تبدو هنا أقلَّ صدقًا إلى حدٍّ بعيد مما
تزعمه، أو حتى إذا لجأنا للسياسة الجنسية، فإنها خالدةٌ أزلية مثل جنَّات عدن. ﻓ
«القوة» و«الضعف» يتبادلان معنَيَيهما؛ إذ إن كيت لا تُعَلِّمُ المرأةَ الخضوعَ الظاهري
بل فن فرض إرادتها، وهي إرادة أشدُّ تهذيبًا وتشذيبًا عما كانته في بداية المسرحية.
ويتفجَّر معنى الخُطبة في ردِّه السعيد (الذي تحكمه عدة عوامل):
بتروشيو
:
فَذَاكَ دَأْبُ المَرْأَةِ الحَقَّة. فَأَعْطِنِي يا كيتُ قُبْلَة!
إن كنتَ تريد أن تسمع هذا السطر في ذروة إحدى المسرحيات المشكل فربَّما كنت أنت
المشكل. لا تحتاج كيت إلى دروس في «رفع مستوى الوعي». والواقع أن شيكسبير الذي يُفضل
بوضوحٍ شخصياته النسائيةَ على رجاله (باستثناء فولسطاف وهاملت) يَزيد من أبعاد الكيان
الإنساني منذ البداية، وذلك بالإيحاء من طرْفٍ خفي بأن المرأة تتمتَّع بِحِسٍّ أصدق
بالواقع.