الفصل العشرون

طرويلوس وكريسيدا

١

كثيرًا ما يتحول شكل العمل الأدبي عند شيكسبير من نوعٍ إلى نوع، وتحديد النوع الذي تنتمي إليه طرويلوس وكريسيدا أمرٌ بالغ الصعوبة؛ إذ يتغيَّر وصف المسرحية، فتُعتبر هجاءً ساخرًا، أو كوميديا، أو مسرحية تاريخية، أو تراجيديا، أو ما تشاء. وهي أشدُّ ما خلَّفه لنا مرارةً سافرة، وهي عدمية مثل الكوميديتَين اللتين سبَقَتاها مباشرة، وهما العبرة بالخاتمة ودقة بدقة. وهي أيضًا أصعبُ أعماله جميعًا وأكثرها مخاطبةً للنخبة. ولا تزال بعض الهالة التي تغشى هاملت قائمة في طرويلوس وكريسيدا التي نتصوَّر أنها كُتبت في عام ١٦٠١-١٦٠٢م.
وعلينا أن نفترض أن شيكسبير كتبَها للتقديم في مسرح الجلوب، وإن لم تكن قد عُرِضَت فيه، فيما يبدو، قط. ولماذا؟ لا نستطيع إلا الظن، وأما القول بأن شيكسبير وفرقتَه قرَّرا أن المسرحية سوف تفشل فيبدو لي مُستبعَدًا؛ استنادًا إلى قوتها الأصيلة وإلى تاريخ تقديمها على المسرح في القرن الذي يَطْوي صفحته. ويقول بعضُ الباحثين إن المسرحية قُدِّمت في عرضٍ خاص أو عرضَين في البلاط الملكي أو لجمهورٍ من المحامين، ولكن النزعة التِّجارية تُضعف من هذه الحجة إلى حدٍّ ما. يجوز لنا أن نقول إن المسرحية أشدُّ مسرحيات شيكسبير نضجًا فكريًّا، ولكن هل تتمتع بطابَعٍ فكري أكبر من خاب سعي العشاق، أو حتى هاملت؟ ربما كان أحدُ كبار القوم قد نصح شيكسبير بأن طرويلوس وكريسيدا قد تبدو ذاتَ حيوية متطرِّفة باعتبارها هجاءً ساخرًا للورد إيسيكس الذي أفَلَ نَجمُه؛ إذ يجوز أنه كان النموذجَ الذي أوحى لشيكسبير بشخصيةِ أخيليس الفظيعة، وربما كانت في المسرحية إحالاتٌ سياسية أخرى لم نَعُد نُدركها. إن الهجاء الساخر الأدبي يظهر لنا بسهولة، فلُغة شيكسبير تتهكَّم على التقعُّر اللفظي عند جورج تشابمان الذي كان قد شبه اللورد إيسيكس بأخيليس، كما أنها تسخر بأسلوبٍ لطيف من الموقف الأخلاقي عند بن جونسون. ولكن سر قرار شيكسبير بالتنكُّر لهذا العمل الرائع لا يزال مجهولًا.
والواقع أن الرجال الأبطال والنساء اللاتي يُعانين عند هوميروس، وهم مَن يحتفل بهم تشابمان في ترجمته للملحمة، يتعرضون هنا لانتقادتٍ وبيلة أقسى من انتقاد يوريبيديس، أو من شتى الساخرين في القرن العشرين، وأما ثيرستيز، الذي تقول قائمة الشخصيات إنه «يوناني شائه الخلقة سليط اللسان»، فإنه يتكلم باسم المسرحية إن لم يكن باسم شيكسبير:

يا للانحطاط! ويا للغش! ويا للتحايل المزري! تنحصر قضيةُ الحرب في عاهرةٍ وديُّوث. منازعةٌ جديرة بنشأةِ شيعٍ وأحزاب متناحرة، ونزف الدم حتى الموت. ألا فلْيحلَّ بها الجرَب، ولْيُهلك القتالُ والعَهْر الجميع!

أي إن قضية طروادة تنحصر في «عاهرة وديُّوث»؛ أي في هيلين ومنيلاوس، وعُصبةٍ من الأوغاد، والحمقى، والقوَّادين، والمغفَّلين، والسياسيين المتنكرين في هيئة حكماء، وهو ما يُشير إلى الشخصيات العامة في زمن شيكسبير، وزماننا. ولكن المرارة في المسرحية تتجاوز حدود الهجاء الساخر، وتتركنا بانطباعٍ أشدَّ عدميةً من كونها «هزلية بطولية» أو «محاكاة ساخرة». ويرجع بعضُ النقاد أصول طرويلوس وكريسيدا إلى ما يُسمى «الحرب بين الشعراء» وهي التي اندلَعَت ما بين جونسون من ناحيةٍ وبين جون مارستون وتوماس ديكر، وربما شيكسبير، من ناحية أخرى — ويقول رسل فريزر إن «البرولوج المدرع» في طرويلوس وكريسيدا يُماثل البرولوج المدرَّع — الذي يحمل أوجه شبه واضحة بالشاعر بن جونسون المتين البِنْية (الذي ساءت سُمعته بسبب قتله أحدَ زملائه الممثلين في مبارزة) — أي البرولوج الذي يفتتح مسرحية الشويعر (١٦٠١م) التي كتبها بن جونسون، وتُمثل هجومًا على زملائه من الشعراء كتَّاب المسرح. وربما كان شيكسبير الذي يتهكَّم على جونسون وتشابمان معًا، قد بدأ كتابةَ المسرحيات بنبراتٍ لطيفة يقصد بها الهجوم على مسرحية الشويعر، بحيث يمكن تقديمها على المسرح بحركة سريعة. ولكنه ما إن بدأ كتابة هذا النصِّ المضاد للتراجيديا وللكوميديا وللتاريخ حتى فقَد التحكُّم فيه، ومن الصعب أن ننكر وجودَ مرارةٍ شخصية خالصة تهبُ المسرحية طاقة معينة. ربما كنا نعود هنا إلى عالم السونيتات، على نحوِ ما اقترحه الكثير من النقاد، بحيث تصبح كريسيدا صورةً أخرى من السمراء الغامضة، مثل روزالاين الساخرة في خاب سعي العشاق. وهكذا نرى أن الحرب والشهوة، وهما تنويعتان على موضوع الجنون، يُصبحان هدفًا للسخرية في المسرحية، ولكن السخرية التي تُثيرها المعركة سخريةً جادة، والحقد والشَّجْو الناجمان عن حياة العشق ممثلان بحيث يزداد التباس الاستجابة لهما.
وعلى الرغم من أن طرويلوس وكريسيدا عمل يتمتع بالوحدة الدقيقة على خشبة المسرح، فإنها مسرحيتان: الأولى تراجيكوميديا عن مقتل هكتور، الذي قضى عليه الرِّعديد أخيليس وعُصبته من البلطجية، والثانية «خيانة» كريسيدا لطرويلوس، وهي التي تهب نفسها إلى ديوميد، عند إرغامها على ترك طروادة ودخول معسكر اليونان. ويُقيم شيكسبير مسافةً تفصل الجمهور عن هكتور، وإلى حدٍّ ما عن طرويلوس، وبذلك لا نتأثر كثيرًا بقتل هكتور، ولا نتأثر إلا قليلًا بغَيرة طرويلوس. والتأثير العاطفي الوحيد الذي كان يمكن للمسرحية أن تؤدِّيه أن يُغير شيكسبير إما المرات الأخيرة التي يظهر فيها ثيرستيز بحيث يسمح لهكتور أن يقتله، أو أن يقتله مرجريتون، الابن النَّغْل لبريام. ولكن ثيرستيز تكتب له النجاة من هذين الخطرين:
هكتور : مَن أنت يا يوناني؟ هل أنت من أنداد هكتور؟ هل أنت ذو شرفٍ كريم المحتِد؟
ثيرستيز : كلَّا كلَّا! فأنا وَغْدٌ مُنْحَطٌّ هَجَّاءٌ شَتَّامْ! وَغْدٌ وحَقِيرٌ ذو خِسَّة!
هكتور : أصدِّقك. وهَبتُك الحياة.
(٥ / ٤ / ٢٦–٣٠)

لا يَرقى هذا مطلقًا لمستوى ثيرستيز، أمَّا ما يلي فيرقى:

مرجريتون : عُد يا حقيرُ فقاتِلْ!
ثيرستيز : ما أنت؟
مرجريتون : ابنُ سِفَاحٍ لبريام.
ثيرستيز : وأنا نغلٌ أيضًا. وأحبُّ الأنغال. حمَلَتْ أُمِّي فيَّ سِفَاحًا، فتعلمتُ سِفَاحًا، وغدا تفكيري سِفَاحًا، وشجاعتي سِفَاحًا، وكلُّ شيء فيَّ حرامٌ في حرام! لا يَعَضُّ الدُّبُّ دُبًّا آخَر، فلماذا يَعَضُّ نَغْلٌ صِنْوَهْ؟ خُذ حذرك فالمعركة علينا شؤمٌ إلى أقصى حد! وإذا قاتل ابنُ العاهرة في سبيل عاهرةٍ فإنه يُثير غضب الأرباب! الوداع يا نغل!

(يخرج.)

مرجريتون : اذهب إلى الشيطان أيها الجبان!
(٥ / ٧ / ١٣–٢٣)

لا أظن أنَّ بيننا مَن يمكن أن يُغرم بثيرستيز، لكننا نحتاج إليه ونحن نشاهد المسرحيةَ أو نقرؤها؛ فهو يُمثل جوقتها المناسبة. وكونه عبدًا لم يُفلح إلى الآن في اكتسابه أيَّ تأييد من جانبِ نقَّادنا الماركسيين ودعاة المادية الثقافية، ولكن السبب في هذا قد يرجع إلى بذاءة ألفاظه التي زادت عن الحدِّ في نظر الأساتذة، كما أن هجاءه للشهوة غيرُ لائق اجتماعيًّا بقدر ما يعتبر عداؤه للحرب لائقًا إلى حدٍّ بعيد. وهو ينتمي إلى الطبَقة السفلى في الكون الذي يتصوره شيكسبير، وله رفقاؤه مثل بارول، وأوتوليكوس، وبرنردين، وبيستول وغيرِهم. وربما كان ثيرستيز قد دُفِعَ به، مثل غيره من العبيد، إلى حرب طروادة، رغم أنفه، ولكن شتائمه لن تقلَّ لو كان في أية بقعة أخرى من جزر اليونان. وسِبابه المقذع يكتسب قوة خاصة في طروادة، حيث «تنحصر القضية كلُّها في عاهرةٍ وديوث» كما يقول.

ومن المهم أن نُدرك أن ثيرستيز، على الرغم من فُحش ألفاظه، يكاد يكون من الزاوية البرجماتية ذا أخلاقٍ مِعيارية؛ إذ تعتمد شَكاواه من الحرب والفسق على إيماننا ببعضِ القيم الراسخة في زمن السلم والحبِّ المخلص. وفي حدود ذلك يعتبر ذا أخلاق سلبية صادقة، على عكس بارول في العبرة بالخاتمة، أو بعض الشخصيات المنوعة مثل لوشيو، وبومبي وبرنردين في دقة بدقة. وتقيم آن بارتون حجة مقنعة تقول إن ثيرستيز يرى أنَّ استهجانه — أي رأيه السلبي في الجميع — موقفٌ راسخ في كيان الإنسان، أي غير مقصور على أبطال اليونان وطروادة البلطجية. ربما كان ذلك صحيحًا، ولكن تأثيره الدرامي مختلف، والأبطال الهوميروسيون الذين يُصورهم شيكسبير وثيرستيز أوغادٌ متميزون إلى حدٍّ بعيد. وتستشهد بارتون استشهادًا مفيدًا بمسرحية أوريستيز للكاتب يوريبيديس، باعتبارها موازية لمسرحية شيكسبير، ولكننا لا نملك أي دليل على أن شيكسبير كان يعرف الأوريستيا بأي شكلٍ من أشكالها.
أضِف إلى هذا أن يوريبيديس أقل تلطفًا من شيكسبير وأقلُّ قسوة منه في الوقت نفسِه؛ فإن كلَّ شخص تقريبًا في طرويلوس وكريسيدا مغفل في أحسن الأحوال، ومن ثم فلنا أن ندهش إذا تأثَّرنا بضروبِ معاناة طرويلوس من الغيرة، ومع ذلك فنحن نتأثر بها على أية حال. فالواقع أن رَحابة طبع شيكسبير، وكرم روحه العظيم، يسمحان لطرويلوس بأن يُصبح شخصًا يُثير إشفاقًا محدودًا، بل ووعيًا منقسمًا ضد ذاته بدرجةٍ مذهلة.
ومع ذلك فإن فن رسم الشخصية عند شيكسبير يتراجع في طرويلوس وكريسيدا، حتى في أدوار طرويلوس، وكريسيدا، وهكتور، ويوليسيز. فقد أدى تصوير باطن الشخصيات إلى منحِنا فوكونبريدج في الملك جون، وريتشارد الثاني، وجوليت، والمربية، ومركوشيو، وبوطوم، وبورشيا، وشايلوك، وأنطوني، وفولسطاف، وهال، وهوتسبير، وبروتوس، وكاشيوس، وروزالند، وهاملت، ومالفوليو، وفسته. ولا يوجد مثلُ هذا التصوير الباطن في الكوميديات المشكل وهي طرويلوس وكريسيدا والعبرة بالخاتمة، ودقة بدقة. ويعود الغَورُ العميق للذات إلى الظهور عند ياجو، وعطيل، والملك لير، والمهرج، وإدموند، وإدجار، ومكبث. ويتوقف شيكسبير، قبل أن يصوغ ياجو، في رحلته إلى الباطن، بحيث لا تقدم لنا الكوميديات «السوداء» الثلاث التي كُتِبت في ١٦٠١–١٦٠٤م أعماقًا نفسية ندركها، ولا شخصيات كرتونية ونماذج فكرية كالتي نعرفها عند مارلو وبن جونسون. وهكذا فإن طرويلوس وثيرستيز، وهيلينا وبارول، وإيزابيلا وأنجيلو، والدوق فينشنتيو، وبرنردين، يزخرون بتعقيدات نفسية، لكنها تظل محجوبةً عنا، ولا يقول لنا شيكسبير مَن هم وما طبيعتهم في الواقع.
ربما لم يكن شيكسبير نفسُه، في تلك الحالة النفسية، يُهمه أن يعرف، أو ربما كان، لأغراضٍ درامية دقيقة، يُفضِّل ألا نعرف. ونلاحظ أن إحدى العواقب الكثيرة لهذا العزوف المؤقَّت عن الكشف عن الشخصيات، تتمثل في تقليل حجم الشخصية، فنحن مدعوُّون، ونكاد نكون مُضطرِّين، إلى أن يقلَّ اهتمامنا بهذه الشخصيات عن اهتمامنا بروزالند أو فسته. وإحدى العواقب العجيبة عاقبةٌ بلاغية؛ فالكثير من الأحاديث في كل مسرحية من هذه «الكوميديات السوداء» الثلاث تُعتبر شعرًا أجمل حين نُخرجها من سياقها. فحديث يوليسيز عن فكرة النظام في طروادة، أو عن الطابع المؤقَّت للصيت، يُقدم لنا انطباعًا معينًا داخل المسرحية وانطباعًا مختلفًا تمامًا خارجها، وذلك مثل نصيحة الدوق فينشنتيو «ثق في قُدوم الموت»، عندما نسمعها في سياقها أو خارج سياقها. فإن يوليسيز، السياسي الدنيء، فصيحٌ خارج المسرحية وذو طنطنة وحسب داخلها، وكذلك نجد الألفاظ الرنانة من فمِ الدوق فينشنتيو قادرةً على إقناعنا في عزلةٍ عن المسرحية، ولكننا نكتشف خواءها وفراغها عندما تتردد في العالم الملتبس الدلالة لمسرحية دقة بدقة.
ويُعتبر ثيرستيز وبارول وبرنردين استثناءات كبرى، فهم مندمجون اندماجًا تامًّا في سياقاتهم في المسرحية، بحيث يقلُّ تأثير كلامهم خارجَها. وكان كولريدج لا يُطيق، كما هو متوقَّع، شخصية ثيرستيز، ويصفُه وصفًا أنيقًا هو «كاليبان الحياة الديماجوجية»؛ إذ كان ثيرستيز مثل كَالِيبان يبدو لنا نِصف إنساني وحَسْب (في حينِ أن المهرج الغريب في الملك لير لا يبدو إنسانًا على الإطلاق). وأقلُّ عناصر ثيرستيز اتصافًا بالإنسانية تُمثل، فيما يبدو، تحذيرًا ساخرًا من شيكسبير لنا: ألا وهو أن الميل إلى الاختزال يحرق كلَّ شيء، على نحوِ ما سوف نرى، بصورةٍ أشدَّ تدميرًا، عند ياجو، المخرج المسرحي المولَع بإضرام النار. ويُضيف جراهام برادشو طبع ثيرستيز بأنه «مُختَزِلٌ قتال ودوجماطي مُتصَلِّب». والوصف بالدوجماطية، من فم هذا الناقد المنصِف، ظلمٌ للشخصية في نظري. فإن ثيرستيز مصابٌ بالهوس الأحادي (obsessed monomaniac) [أي بفكرةٍ واحدة تسيطر عليه إلى درجة الهوس]، ولكنه أيضًا مغتاظ مما يرى بقدرِ ما يَغيظنا كلامُه. فإذا قسمتَ وقتك في العمل مهرجًا بين أخيليس وإيجاكس؛ أي بين بلطجي شرير وبلطجي غبي، فلن يكفيَك أيُّ قدر من الاختزال، خصوصًا إذا كانت وظيفتك الدرامية أن تقوم بدور الجوقة. وبرادشو يصفُ ثيرستيز أيضًا بأنه عدمي، ولكنَّ ذلك المهرج ذا الألفاظ البذيئة، فيما يبدو لي، الشخصيةُ الوحيدة في المسرحية التي تتمتع حقًّا بالغضب؛ بسبب إحساسه الراسخ بوجود القيم العليا. بل إنه من الظلم أيضًا أن يُصنَّف ثيرستيز المسكين بأنه يمثل أحد المصابين بمركَّب النقص بمفهوم آدلر (برادشو أيضًا). ويوجد جانب ذاتي غريب في انحطاط ثيرستيز الذي يعيه وعيًا شديدًا، ولكننا نجد صعوبةً في تقبُّله بسبب غيريَّة ثيرستيز؛ أي جانبه غير الإنساني. فإذا كان في مقدور المرء أن يقول لنفسه: «يا عجبًا يا ثيرستيز! هل ضِعت في متاهة غضبك؟» فلن يكون المرءُ قد ضاع تمامًا. فليس ثيرستيز مسرورًا بأن يكون الناطقَ الوحشي بالحقائق الكريهة، ولا أظن أن شيكسبير يريدنا أن نفهم إلا أن ثيرستيز رجلٌ يُعاني ما يُعانيه. فإذا كان لنا أن نثق بأيِّ أحد في المسرحية فلا بد أن يكون ثيرستيز، على الرغم من اختلالِ عقله. ولكنْ مَن غيرُه في المسرحية يمكن اعتباره خادعًا لنفسه وللآخَرين؟ سبق لي أن علَّقت على الجوانب النفسية المحجوبة في طرويلوس وكريسيدا، ومثل هذه السريرة المحتجبة أبرزُ ما تكون عند ثيرستيز.
وعلى غِرار دقة بدقة، تُعتبر طرويلوس وكريسيدا مسرحيةً تستعصي على أي تفسير ذي معنًى متكامل، وربما كان شيكسبير يقصد ذلك، وهو الذي درَج على أن يبنيَ مسرحيته، حتى إلى أبعدَ ممَّا نجده في هاملت، على عناصرَ متناقضةٍ من المحال التوفيقُ بينها. وما دمنا لا نجد هاملت في هذه المسرحيات، فإننا لا نجد فيها الوعيَ الشامل إلى الحدِّ القادر على احتواء بَرِّية شاسعة من الغرائب، وهكذا لا نستطيع أن نفهمَ الفهم الكامل لطرويلوس أو للدوق فينشنتيو، في دقة بدقة. إن طرويلوس يكافح متناقضاتٍ تستعصي على ذهنه، لكنه على الأقل يكتسب تعاطفنا، إلى حدٍّ ما، على عكس فينشنتيو، الذي ننفرُ نفورًا عميقًا منه ومن دروسه الأخلاقية. أما طرويلوس فساذجٌ يشكو حاله، وهو يحبُّ الحب لا كريسيدا، كما أن ذهنه مشوَّش إلى درجةٍ بعيدة، لكنه يظل أقربَ إلى قلوبنا من هكتور، أخيه البطولي الصارم، الذي يُبعدنا عنه بتناقضاته ونهَمِه ورضاه عن ذاته. ولا توجد فائدةٌ كبرى في اعتبار أن أغراض شيكسبير في هذه المسرحية هجائيةٌ ساخرة، أو محاكاة ساخرة. فقد يبدو أحيانًا أنه يتهكَّم على مُنافسَيه جورج تشابمان وبن جونسون، لكنه لا يكتب قصةَ حبٍّ مناهضةً لتقاليد الفروسية، كما يزعم بعضُ النقاد. أي إن قضية طروادة لا تُهمه، وإذا كان يستخرج بعض اللمحات من تشوسر، فإنه يتعمَّد أن يبتعد عن الحذق اللطيف ذي الدفء العاطفي الذي تتميز به معالجةُ تشوسر الرائعة للقصة نفسها.
إننا نُحس بوجود مرارة، شخصيةٍ ولا شخصية، في الصورة التي رسمها شيكسبير لهذه الحكاية التي تنتمي أساسًا إلى العصور الوسطى (والتي لم يكن هوميروس يعرف عنها شيئًا). ومن المحتمل أن ثيرستيز، كَالِيبان الحياة الديماجوجية، قد حثَّ شيكسبير نفسَه على أن يجعل بروسبرو يقبل قَبولًا غامضًا مقبضًا آخِرَ الأمر انتماء كَالِيبان إليه: «أعترف بأنَّ ابن الظلام هذا ينتمي إليَّ.» فلقد كُتب على طرويلوس أن يُحب ما يُمثل الحرب لهكتور، وإدارة السياسة ليوليسيز، والتفوق القتالي لأخيليس؛ فهم جميعًا دجالون، وممثلون غيرُ مُجيدين. ويتساوى في الافتقار إلى الذهن الحادِّ أجاممنون، ونسطور وإيجاكس، وأما كريسيدا فهي تُمثل صفات العاهرة الطروادية مثلما تُمثل هيلين صفات الفاسقة الإسبرطية. وهذا كله أثقلُ قليلًا مما يتحمله الهجاء الساخر، بل والمحاكاة الساخرة المتطرفة. ونبرات إيقاع كلام شيكسبير في طرويلوس وكريسيدا لا تنمُّ على طيبة قلب أو صفاءِ طَوية، فلا أحد يبتسم ابتسامةَ صفحٍ عن الأفعال وضروب التعذيب، والمواقف المتصنَّعة، والخطب المديدة، لهذه العصبة من الدهماء. وأما بانداروس الذي يُحطمه مرضٌ تناسلي، فهو الرمز المقابل لثيرستيز: هل نُفضل أشجان القوَّاد على سباب الشتام ثيرستيز؟

٢

إن المتع التي تُقدمها طرويلوس وكريسيدا، على غرابتها، بالغة الكثرة: إذ يتبدَّى في كل مكان بها تدفَّق الروح الخلَّاقة عند شيكسبير. وقد يكون طرويلوس نفسُه أقلَّ الشخصيات إثارةً للاهتمام في المسرحية؛ إذ نراه في البداية وقد أضْناه الحب؛ أي إن شوقه الذي يؤجِّجه اشتهاؤه كريسيدا قد استوعبه إلى الحدِّ الذي يجعلنا نعجز عن التمييز بينه وبين ذلك الشوق. ويطلب منا كولريدج في أضعفِ تعليقاته على شيكسبير أن نؤمن بتفوقِ طرويلوس أخلاقيًّا على كريسيدا. ويُثبت شيكسبير أن ذلك الحكم عبَث. فإن كريسيدا، بلغة العامَّة آنذاك أو الآن، تُعتبر في نظر طرويلوس، برجماتيًّا، ما تمثل لديوميد؛ أي إنها طبقٌ لذيذ شهي. وتُعبر آن بارتون تعبيرًا دقيقًا عن ذلك قائلةً «إن كريسيدا يعتبرها عاشقُها شيئًا يُلتهَم ويُهضم.» وأما طرويلوس، الأمير الطروادي الصغير المغمور الذي أفسَده التدليل، فيسمح لنفسه بصورةٍ معيَّنة من المثالية ما دام عاشقًا، وكولريدج يُصدقه، بل ويستشهد بفكرة «الطاقة الخلقية»، في حين أن كولريدج يسمح لنفسه أن يقول إن كريسيدا تغرق في الفضيحة.
مهما تكن المسافة الاجتماعية التي تفصل بين العاشقَين، فإن طرويلوس لا ينظر ولو للحظةٍ واحدة في المسرحية في إمكان زواجه من كريسيدا، أو حتى في إقامة علاقةٍ دائمة. وأما غَيرته — التي تَزيد بطبيعة الحال من غيرة عطيل أو غيرة ليونتيس في حكاية الشتاء — فهي تتنبَّأ بكوميديا بروست حول رغبة الامتلاك عند سوان، لأوديت، ورغبة مارسيل لألبيرتين. ويرى ثيرستيز، وكذلك يوليسيز إلى حدٍّ ما، أن ذلك موقفٌ فكاهي، ولكن طرويلوس لا يستطيع أن يقول مع سوان: «هل من المعقول إنني خضتُ كلَّ ذلك من أجل امرأةٍ لا تُناسبني، وأسلوبها يختلف عن أسلوبي؟!» والواقع أن كريسيدا تُناسب طرويلوس إلى حدٍّ بعيد، وهي تنتمي إلى أسلوبه، وإلى أسلوب ديوميد، أيضًا، وإلى كلِّ مَن يأتون بعد ديوميد. وليست أفضلَ من طرويلوس، ولماذا ينبغي أن تكون أفضل؟ الواقع أن شيكسبير يُنقِّح بدهاء صورةَ كريسيد عند تشوسر، وبأسلوبٍ يشير إليه الناقد أ. طولبوت دونالدسون إشارةً رائعة في كتابه طائر التم عند البئر (١٩٨٥م) وهو دراسةٌ لعلاقة شيكسبير بأصدقِ سلفٍ له. فالراوي عند تشوسر في قصيدته طرويلوس وكريسيد يحبُّ كريسيد بجنون، على نحوِ ما يقول دونالدسون، وأما تشوسر نفسه، وإنْ فتنَتْه الفتاة، فيُقدم بضعة تحفُّظات لطيفة عليها. ولكن كريسيد التي يُصورها تعارضُ قَبولِ عشق طرويلوس إلى حدٍّ أبعد من معارضة كريسيدا عند شيكسبير.
والبطلتان — عند تشوسر وشيكسبير — معزولتان اجتماعيًّا، والعم بانداروس وحده، القوَّاد الحريص، مستشار كلٍّ منهما. وعلى الرغم من أن الجميلة التي يُصورها شيكسبير أكثر إقدامًا وصراحة وبهجة، فإنني أتفق مع دونالدسون في أن الشخصيتين المفترى عليهما إلى حدٍّ بعيد تتمتعان بالتعاطفِ والإعجاب من الشاعرين، وهو إعجابٌ شهواني في الحقيقة عند شيكسبير. ولكن شيكسبير بالضرورة أكثر وحشية: إن كانت المعايير المعتادة يمكن تطبيقها على أيِّ فرد في هذه المسرحية (وهو محال) فإن كريسيدا فاسقة، ولكن مَن ذا الذي لا يتصف بالفسق في طرويلوس وكريسيدا؟ قد لا يكون طرويلوس البارد وخادع ذاته، عاهرًا ذكرًا مثل باتروكلوس معشوق أخيليس، ولكنه فاسقٌ وفقًا للشرف العسكري، وفاسقٌ مذكر بتركيزه على الذات؛ إذ يشتري ذاته ويبيعها. وهو يريد شيئًا واحدًا من كريسيدا، ولنفسه فقط، وهو ما يُعتبر أساسًا مثله الأعلى للحب في شرع الفروسية. وعندما تفرض عليه الظروف أن يفقدَ كريسيدا، لا يبذل أيَّ جهد لمعارضة تلك الظروف. وهو يُقيم الحجة ويحارب حتى تظلَّ هيلينا في أيدي أخيه باريس، ولكنه يرى بوضوح أن كريسيدا أقلُّ شأنًا من هيلين؛ لأن امتلاك هيلين يأتي إلى طروادة بمجدٍ يزيد عما يأتي به امتلاكُ كريسيدا.
ويُنافس شيكسبير أيضًا تشوسر، فيتفوق عليه في تصوير الوعي الذاتي لشخصياته بأدوارهم في التاريخ الأدبي، ولكن التأثير الدرامي، إذا قُورن بالدهاء السردي عند تشوسر، بالغُ الغرابة، ويجعلنا نتساءل عن أسلوب شيكسبير في تصوُّرِ مسرحيته الخاصة. من المحتمل أننا لا نزال نشهد وهجَ ما بعد هاملت، بما فيها من تَمسرُحٍ جَسور، خصوصًا في المشهد الذي يُحيِّي هاملت فيه الممثِّلين ثم يُلقي بنا فجأةً في داخل حرب المسارح. كيف ينبغي للمخرج أن يتعامل مع هذا؟
طرويلوس :
تلك مباراةٌ فُضْلَى! إذْ يتبارى الحَقُّ مع الحَقِّ لإثباتِ
الأقربِ للحَق! سيقاسُ لدَى عُشَّاقِ المُسْتَقْبَلِ إخلاصُ الحُبِّ
بِمِعْيَارِ الإخْلَاصِ لَدَى طُرويْلُوسْ! فإذا نَفِدَتْ بِقَوَافِيهِمْ
كُلُّ عِبَارَاتِ الحُبِّ وكُلُّ الأَيْمَانِ وكُلُّ مَجَازٍ بُولِغَ فيه وبَاتُوا
يَسْعَوْن إلى التَّشْبِيهِ بأَشْيَاءَ أُخْرَى بَعْدَ الكَلَلِ مِنَ التَّكْرَارْ
— مِنْ تَشْبِيهِ الإخْلَاصِ بفُولَاذٍ أو إخْلَاصِ الزَّرْعِ لِضَوْءِ القَمَرِ،
وإخْلَاصِ الشَّمْسِ لِنُورِ الصُّبْحِ وإخْلَاصِ القُمْرِيَّةِ للزَّوْجِ،
إلَى إخْلَاصِ حَدِيدٍ للمِغْنَاطِيسِ وإخْلَاصِ الأَرْضِ لمركزِهَا —
قلتُ إذَا نَفِدَتْ تَشْبِيهَاتُ الإخْلَاصِ جَمِيعًا
وأَرَادُوا الاسْتِشْهَادَ بأَوَّلِ مُبْتَدِعٍ للإخْلَاصِ بَلِ الحُجَّةِ فيه،
جَاءُوا بِعِبَارَةِ «في إخْلَاصِ طُروُيْلُوس» تاجًا
لِلْقَافِيَةِ وإِكْلِيلًا يَهِبُ الشِّعْرَ قَدَاسَة!
كريسيدا :
فَهَلْ قَرَأْتَ أَنْتَ الغَيْب؟ أمَّا أنا فَلَوْ غَدَوْتُ خَائِنَة،
أوِ انْحَرَفْتُ قِيدَ شَعْرَةٍ عَنِ الإخْلَاصِ،
بَعْدَ أنْ يَطُولَ بالزَّمَانِ العُمْرُ ثم يَنْسَى نَفْسَهُ،
وبَعْدَمَا يُذِيبُ قَطْرُ المَاءِ ها هُنَا أَحْجَارَ طُرْوَادَة،
ويَعْمَدُ النِّسْيَانُ في عَمَاهُ لابْتِلَاعِ هذه المَدَائِنِ —
فَإذْ بكُلِّ دَوْلَةٍ عُظْمَى حُطَامٌ لا يَبينُ بل تُرَابٌ مِنْ عَدَمْ —
فَلْيَبْقَ في رُكْنٍ بِذَاكِرَةِ اللَّيَالِي قَائِلٌ «كأنَّها كريسيدا التي خَانَتْ!»
بَلْ فَلْتَلُمني كُلُّ مَنْ تَخُونُ حِبَّهَا! فَبَعْدَ أنْ تَقُولَ:
في خِيَانَةِ الهَوَاءِ والمِيَاهِ والرِّيَاحِ والرِّمَالِ فَوْقَ الأَرْضْ،
وفي خِيَانَةِ الثَّعَالِبِ التي تُخَادِعُ الحُمْلَانْ!
وَالذِّئْبِ لابْنِ العَنْزَةِ … والفَهْدِ لِلْغَزَالِ،
أوْ قُلْ كَزَوْجَةِ الأَبِ التي تَسُومُ طِفْلَ زَوْجِهَا العَذَابْ! أَجَلْ!
دَعْهُنَّ يَضْرِبْنَ المِثَالَ بِي كَيْمَا يُصِبْنَ قَلْبَ هذِهِ الخِيَانَة،
بِقَوْلِهنَّ: «خائنةٌ مثلُ كِرِيسيدَا!»
بانداروس : هيا إذن! ما دُمنا عقَدْنا الصفقة، لا بد أن تضَعا خاتَمكما عليها! اختُماها الآن وسأكون الشاهد. ها أنا ذا أُمسك يدك يا طرويلوس ويدَ بنتِ أخي! إن خان أحدُكما الآخر يومًا ما من بعدِ ما لاقيتُه من العناء في الجمع بينكما، فليُطلِق الناس اسمي على كل وسيطٍ رحيم إلى آخر الزمان: فليكن كل واحد باندراروس وليكن كلُّ مخلص طرويلوس، وكل خائنة كريسيدا، وكل وسيط بانداروس، قُولا آمين!
(٣ / ٢ / ١٦٩–٢٠٣)

ونحن نقول «آمين» لكلِّ قوَّاد منذ تلك اللحظة، حتى إذا لم نجد نفعًا في معادلة طرويلوس بالإخلاص ومعادلة كريسيدا بالخائنات. لقد أوقف شيكسبير الحدثَ هنا (إن أسمَيْناه حدثًا) ورفع مستوى وعينا بما يَدين به (وندين به) إلى تشوسر. إن هذه اللوحة لا تُقدم لنا تعاطفًا بل غُربةً عن الذات. فإن طرويلوس وكريسيدا وبانداروس يرون أنهم ممثلون في قصةٍ مشهورة، وسوف يأتي بعد ذلك سوءُ صيتٍ شديد. والأثر ليس كوميديًّا ولا ساخرًا، ومن المحتمل أن يكون على المخرج أن ينصح الممثلين أن يؤدُّوا هذا المشهدَ أداءً مباشرًا، كأنما لا يُدرك شخوصُه أنهم يؤكِّدون تصنُّعَهم. ولقد أعَدَّنا شيكسبير لهذا التحرُّر الدرامي من الوعي الذاتي في وقتٍ سابق بهذا المشهد نفسه، وذلك في المقام الأول بخلقِ فجوةٍ شاذة بين الملاحظات المرموقة التي يُقدمها طرويلوس وكريسيدا وبين النقصِ المحسوس للطاقات المعرفية والعاطفية، وهو الذي يُمكِّنه من تقديم هذه النظرة الثاقبة البليغة. ونحن ندهش، في هذا السياق، لقدرة هذين العاشقين النهِمَين على تقديم ما يكتسب من قوةٍ جبارة خارج سياقه:

طرويلوس : لا شيء سِوى ما نتعهَّد نحن العُشاقَ بفعله! إذ نُقسم إننا سنذرف الدمعَ بحارًا، ونقتحِمُ نَارًا، ونأكل الصخور، ونُروض النمور، ونتصوَّر أن حبيبتنا يَشُقُّ عليها ابتكارُ عقَبةٍ لا نستطيع اجتيازها. هذا هو المحال الذي لا يراه الحبُّ مُحالًا أيتها الليدي! فالشوقُ جارفٌ لا يعرف الحدود، وقدرةُ الساعدِ قاصرة، والرغبةُ عارمةٌ لا ساحلَ لها، والفعلُ عبدٌ تُقيِّدُه الحدود.
كريسيدا : يقولون إن العشاق جميعًا يُقْسِمون أنْ يفعلوا أكثرَ مما تسمح به طاقةُ سَواعدهم، ومع ذلك يحتفظون بطاقةٍ لا يبذلونها أبدًا! يقولون إنهم يحلفون إنهم يستطيعون أداءَ أكثرَ مما يستطيعه عشَرة، ولا يفعلون ما يصل إلى عُشْر ما يستطيعه واحد!
(٣ / ٢ / ٧٣–٨٧)
مَن ذا الذي ينسى، عاشقًا كان أو غيرَ عاشق، أن الإرادة لا حدود لها، وأن الساعد قاصر، والرغبة عارمة، والفعل عبدٌ تُقيده الحدود؟ لديَّ ذاكرة خارقة، ولشيكسبير بوجهٍ خاص، لكنني لا أستطيع أن أتصور أن طرويلوس صاحب هذه الملاحظة اللاذعة. أما «الإرادة» هنا فتعني «الشهوة» [وهو ما يظهر في النص العربي في كلمتَي «الشوق الجارف»] وهو ما لا بد أن يتضمَّن إحالةً ذاتية إلى الكاتب المسرحي، تمامًا مثلما يتلاعبُ شيكسبير بلفظ will في السونيتات [انظر ترجمة السونيتات، القاهرة، ٢٠١٦م، ص٣٥٤–٣٥٦] ولا يبدو أن طرويلوس قادرٌ على الحديث الميتافيزيقي عن الحب، أو حتى عن الشهوة، ولكن شيكسبير يجعله يتكلم كلامًا فذًّا، وهو الكلام الذي يبلغ ذروةَ عُمقه فيتجاوز السياقَ الحالك للمسرحية في الفصل الخامس بالمشهد الثاني، عندما يتجسس طرويلوس ويوليسيز على اللقاء الغرامي السريِّ بين كريسيدا وديوميد، وثيرستيز يتجسس على الجاسوسين. ولا يزال شيكسبير حُجتَنا الكبرى بشأن مرض الوقوع في الحب، أو الغرق في حب شخص ما، بدلًا من قولنا حب شخص ما وحَسْب. وأما طرويلوس، فليس من الثقات في هذا الباب، ولكنه بالتأكيد معتلٌّ أو عليل، ولا يزال غارقًا في حبِّ كريسيدا، ويبدو لنا نموذجًا كلاسيكيًّا لأقصى دفاعٍ ضدَّ الغيرة الجنسية، والإنكار الذي يصل إلى أقصى مداه الميتافيزيقي، فحين يسأل أحدٌ إن «كانت كريسيدا هنا؟» يؤكِّد يوليسيز ببرودٍ أنها كانت «بالقطع» هنا، وهو ما يؤدي إلى انفجارٍ عجيب غريبٍ من جانب طرويلوس:
طرويلوس :
أَهذِهِ هِيَهْ؟ كَلَّا! فَهذِهِ كِرِيسيدَا دَيُومِيدْ،
لَوْ كانَ لِلْجَمَالِ رُوحْ … فَهذِهِ لَيْسَتْ هِيَهْ!
لَوْ كَانَتِ الأَرْوَاحُ تَهْدِينَا إلَى الوَفَاءِ بالأَيْمَانْ،
لَوْ كَانَتِ الأَيْمَانُ عِنْدَنَا لَهَا قَدَاسَة،
لَوْ كَانَتِ الأَرْبَابُ تُسْعِدُهَا القَدَاسَة،
لَوْ كَانَ في الوُجُودِ ما يَنْفي انْقِسَامَهُ شَطْرَيْن،
فَهذِهِ لَيْسَتْ هِيَهْ! ويَا لِمَا يَشُوبُ مَنْطِقِي مِنَ الجُنُونْ؛
إِذْ إنني أُقِيمُ حُجَّتِي بِعِلَّةٍ تُفِيدُ نَقْضَها!
ويَا لهذِهِ المفَارَقَة! إذْ يَسْتِطيعُ العَقْلُ إنْكَارَ الشَّوَاهِدِ دُونَ
أيِّ نَقْصٍ فِيه! ويَكْتَسِي الإنْكَارُ كُلَّ مَنْطِقٍ دُونَ احْتِجَاجْ!
فَهذِهِ لَيْسَتْ كِرِيسيدَا وإِنْ تَكُنْ كِرِيسيدَا!
يَدُورُ في نفسي صِرَاعٌ يَكْتَسي بالطَّابَعِ الغَرِيبِ التَّالي:
إني لِشيءٍ كَامِلٍ لا يَنْقَسِمْ … بِذَاكَ الانْفِصَامِ فِيهِ
وبابْتِعَادِ كُلِّ شَطْرٍ مِنْهُ بُعْدًا شَاسِعًا عَنْ صَاحِبِهْ
كَأَنَّهُ ما بَيْنَ هذِي الأَرْضِ والسَّمَاءْ! لكنَّ هذَا البُعْدَ كُلَّهُ،
بالحَقِّ لَيْسَ فِيه ثُغْرَةٌ تَكْفي نَفَاذَ خَيْطٍ ذِي رَهَافَةٍ،
كخيطِ بَيْتِ العَنكبُوتِ «أرياكني»! فَيَا أَدِلَّةً!
يا أَدِلَّةً قَوِيَّةً كأَنَّهَا أَبْوَابُ حَارِسِ الجَحِيمْ،
تقولُ لي كِرِيسيدَا قَرِينَتِي وتَرْبِطُهَا رَوَابِطُ السَّمَاءِ بي!
ويا أَدِلَّةً قَوِيَّةً كَأَنَّهَا السَّمَاءُ نَفْسُها … فَلْتَشْهَدِي:
لَقَدْ تَمَزَّقَتْ رَوَابِطُ السَّمَاءِ وانْحَلَّتْ وذَابَتْ!
وإِذْ بِهَا ارْتَبَطَتْ بِعُقْدَةٍ أُخْرَى وَثِيقَةِ العُرَى بِدَيُومِيد،
بِمَا تَبَقَّى عِنْدَهَا مِنَ الإخْلَاصِ أوْ فُتَاتِ الحُبِّ في المَائِدَةِ،
كَأَنَّهَا الشَّذَرَاتُ والفَضَلَاتُ والحُثَالَةُ التي عَلَاهَا الدُّهْنُ
مِنْ طَعَامِ إِخْلَاصٍ أَصَابَها هُنَا بالتُّخَمَة!
(٥ / ٢ / ١٣٦–١٥٩)
 [٥ / ٢ / ١٤٣–١٦٧ في الترجمة المنشورة]

واعتبارًا من «فيا أدلةً! ويا أدلة …» يتحوَّل كلام طرويلوس إلى شَكاةِ عاشق تعرَّض «للخيانة»، ولكن ما سبقها يُمثل، فيما يبدو، أزمةً ذات طابعٍ ميتافيزيقي صارم إلى الحد الذي تُستبعدُ نسبته إلى طرويلوس. وهو ما يعود بنا إلى مُفارقة رئيسية في «الكوميديات السوداء» أو «المسرحيات المشكل» عند شيكسبير: ألا وهي أنَّ قوة الكلام أكبرُ من السياق. ويعتبر ثيرستيز الشارحَ المناسب للسياق: «أتراه بهذي الجعجعة سيُنكر ما شهدَته العينان؟» وإنكار طرويلوس ما يراه أمامه يستبقُ النفي الهيجلي، وإنكاره لطغيان الواقع. والمثاليَّة الجدلية عند طرويلوس أشدُّ عمقًا: «هذه كريسيدا وليست كريسيدا.» ورؤية طرويلوس المزدوجة سيكولوجية لا فلسفية؛ إذ تتعلق بنقض النَّشوة البتراركية لخداع الذات، لا العمى البشريِّ العادي (أو الاستنطاع) الذي يُتيح الخيانةَ الجنسية، على نحوِ ما نُواصل وصفها بهذا الوصف الغريب. ويسمح لنا شيكسبير بقدرٍ ضئيل من التعاطف مع طرويلوس، لا بقدر كبير، خصوصًا عندما يعود العاشق المتصنِّع إلى أسلوبِه المعتاد باعتبار كريسيدا مأدُبتَه الخاصة:

بما تَبَقَّى عِنْدَهَا مِنَ الإخْلَاصِ أو فُتَاتِ الحُبِّ في المَائِدَةِ،
كَأنَّهَا الشَّذَرَاتُ والفَضَلاتُ والحُثَالَةُ التي عَلَاهَا الدُّهْنُ
مِنْ طَعَامِ إخْلَاصٍ أَصَابَهَا هُنَا بالتُّخَمَة!
(٥ / ٢ / ١٥٧–١٥٩)
والمقصود ببقايا قطع اللحم على المائدة شيئان: أولهما المعنى الحرفي للَّحم الذي يوحي بجسد كريسيدا، والثاني المعنى المجازي وهو العهد الذي قطعَتْه على نفسها بالإخلاص لطرويلوس، وهكذا يتساوى تمسُّك طرويلوس بشرعة الفروسية استمساكَ كريسيدا بالإخلاص والوفاء! وأما من وجهة نظرنا للمسرحية فنحن نُواجه نقاطَ غموض معيَّنة، فالشهوة تنتصر على كل شيء، ومع ذلك فلا يُسمح بمعايير زائفة بالحكم على طاقات الحياة. فشيكسبير يرفض أن يُصبح تشوسر الذي يكاد يعشق كريسيدا عنده، ولكن شيكسبير (كدَأبه على الدوام) يرفض المذهبَ الأخلاقي أيضًا. فإذا كان أخيليس البطلُ مجردَ قائدٍ جبان لعُصبةٍ من البلطجية القتلة، وإذا كان يوليسيز سياسيًّا يُلقي الخُطَب، وإذا كان هكتور لا يستطيع إمضاءَ حكمٍ سديد ويموت في سبيل الحصول على حُلةٍ مدرَّعة فاخرة، وإذا لم يكن طرويلوس روميو بل مجرَّد نسخة بلا لماحية من مركوشيو، فما عسى أن تكون كريسيدا إذن غيرَ عاهرةٍ طروادية؟ وباستثناء كاساندرا المجنونة، نجد أن هذه مسرحيةٌ يتَّسم النساءُ فيها بالفُجور، والرجال أيضًا. ولكن ما أشدَّ الحيوية الدافقة التي يتواثبُ الجميع بها! إن نظرة شيكسبير التي تصفُ الجميع بالعفن تنبع من بصيرته النفَّاذة التي وجدَت أن الذهن نفسه مصابٌ إصابةً عميقة بمرض الشهوة، وهو ما يُدينه د. ﻫ. لورنس بعبارتِه التي تنتقد ما يُسميه «الجنس داخل الرأس»، وهي نسخةٌ أخرى مما انتقده وليم بليك ساخرًا، واصفًا إياه بأنه «التفكير النابع من صُلب الذكر». وهكذا فإن الروح في طروادة، شأنها شأن الروح في كلِّ مكانٍ وزمان، تُعاني المرض الذي حلَّله هاملت. ويمكن أن يكون شعارُ طرويلوس وكريسيدا السطرَين الرائعين اللذين يقولهما الممثلُ الذي يلعب دور الملك في هاملت:
ما زِلْنَا نَسْأَلُ حَتَّى الآنَ ودُونَ صَحِيحِ جَوَابْ؛
أَيُّهُمَا يَتْبَعُ صَاحِبَهُ … قَدَرُ الدُّنْيَا أمْ حُبُّ الأَحْبَابْ!
(هاملت، ٣ / ٢ / ١٩٧-١٩٨)
لمْ تَثْبُتْ صحةُ شيء في هاملت أو في طرويلوس وكريسيدا، بأيِّ معنًى من معاني «إثبات الصحة»؛ فإن هاملت الذي بشَّر بفكر نيتشه القاضي بإعادة تقييم كلِّ القيم، لا يزال يحكم في طروادة، كما سوف يحكم في كل عمل لاحق لشيكسبير. إذ نرى أنَّ شبح شيكسبير، أثناء انتقاله من هاملت الأولى (١٥٨٨م أو نحوها) إلى هاملت (١٦٠١م) وهو يتغيَّر من فردٍ لا يزال على الأرجح يُشارك في الإيمان بالبعث، إلى شبحٍ يتأمَّل الطابَع الوهمي للبعث. فلقد كتب شيكسبير الذي حُرِمَ من ابنه ومن أبيه، النسخةَ النهائية لهاملت التي تتجاوز، فيما يبدو، العقيدة المسيحية لتدخل فكرة التعاليَّة العلمانية الخالصة. لا شيء يُكتسَب من لا شيء، وتعتبر عدمية الكوميديا المشكل جزءًا من ثمن هذا التحول. ولكنه تحولٌ ذو بهجةٍ غريبة؛ فأهم ما في طرويلوس وكريسيدا، والعبرة بالخاتمة، ودقة بدقة هو التدفُّق الحيوي السلبي، حتى نكاد نقول إن مزيجًا من هاملت وفولسطاف قد كتَب هذه المسرحيات.

٣

إن كان في طرويلوس وكريسيدا بطلٌ شرير، فلا يمكن أن يكون أخيليس التافه، فأما عبقريَّة المسرحية فتنتمي، بعد ثيرستيز، إلى يوليسيز الذي لا يقول شيئًا يؤمن به ولا يؤمن بشيءٍ يقوله، وليس أفضل صورة رسمها شيكسبير للسياسي (فإن عددًا منوعًا من رجال الدِّين يُنازعون عددًا منوَّعًا من الملوك للظفر بذلك الامتياز)، ولكنه ربما أقلق واحدًا من بين بضعِ شخصياتٍ كبرى في القصر الملكي، وهو ما قد يُفسر عجز شيكسبير عن عرضِ المسرحية في مسرح الجلوب؛ إذ إن يوليسيز يُمثل الدولة، وقيمها واهتماماتها، ويُمثل فكرة النظام في طروادة، والاتفاقية المعقودة مع اليونان، بمفهوم جنجريتش [السياسي اليمينيِّ الأمريكي]. فخُطبه الكُبرى الثلاث، وهي التي يُدمرها سياقُها، تؤهِّله لزعامة الحزب الجمهوري عندنا، ناهيك بالتحالف المسيحيِّ لدينا؛ فهو مؤمنٌ صريح بالمكيافيلية، ولكنه أكثر من مجرد سوفسطائي عظيم؛ إذ يتمتع يوليسيز بطاقةٍ حيوية هائلة، فمَن مِن بين الديماجوجيين دعاةِ القانون والنظام الآخرين قد دافع هذا الدفاعَ المقنع عن طاقة القهر الناجمة عن المراتبية؟ إننا نسمع الصوتَ الخالد لليمين الاجتماعي ينطق من خلاله:
وعِندَها سَتَنْتَهي الأَشْيَاءُ كُلُّها إلى السُّلْطَة،
ويَنْتَهي التَّسَلُّطُ المذكورُ بالإرَادَةِ التي سَتَغْدو شَهْوَةً،
والاشْتِهَاءُ ذِئْبٌ مُفْتَرِسْ! يَجْتَاحُ أَهْلَ الأَرْضِ
مَدْعُومًا بما لَدَيْه مِنْ إرَادَةٍ الدُّنْيا،
ويَنْتَهي أَخِيرًا بالْتِهَامِ نَفْسِهِ!
(١ / ٣ / ١١٩–١٢٤)

اللغة هنا بالغةُ الاختلاف عن الجعجعة البذيئة عند ثيرستيز، ولكن المضمون واحد. من العدمي الحقيقي يوليسيز أم ثيرستيز؟ إن القُشَعريرة الحقيقية التي يُصيب يوليسيز سامعَه بها ترجع إلى حديثه بلسان رئيس الجواسيس في عصر الملكة إليزابيث، سواءٌ كان والسينجهام أو سيسيل، وهو الذي لا بد أن شيكسبير كان يشتبه في أنه قتل كريستوفر مارلو، بأقصى قدرٍ من التعصب، وعذب توماس كيد. وعندما نُصغي إلى يوليسيز نستطيع أن نحدس سببَ عدم سماح شيكسبير بعرض هذه المسرحية الرائعة:

إِنَّ اسْتِخْبَارَات الدَّوْلَةِ سَاهِرَةٌ لا تَغْفُلْ،
وتَكَادُ تُحِيطُ بِأَدْنَى ذَرَّاتِ الذَّهَبِ لَدَى الرَّبِّ بلُوتُو،
وتَقِيسُ مَدَى عُمْقِ القَاعِ بِبَحْرٍ لا يُسْبَرُ غَوْرُهْ،
وتُتَابِعُ تَفْكِيرَ النَّاسِ جَمِيعًا وتكادُ كِمثْلِ الأَرْبَابِ تُمِيطُ
لِثَامَ الكِتْمَانِ عَنِ الأَفْكَارِ إذَا وُلِدَتْ مِنْ قَبْلِ النُّطْقِ بِهَا!
في نَفْسِ الدَّوْلَةِ أَسْرَارٌ مَحْفُوظَة
لا يَجْرُؤُ أي لِسَانٍ أَنْ يَذْكُرَهَا،
ولحِفْظِ الأَسْرَارِ قَدَاسَتُهُ البَالِغَةُ ولَا
يُمْكِنُ أنْ تُفْصِحَ عَنْهَا شَفَةٌ أو قَلَمٌ!
وعَلَيْهِ فَنَحْنُ نُحِيطُ بِكُلِّ مُعَامَلةٍ كانتْ لَكَ مَعَ طُرْوَادَة،
مِثْلَ إحَاطَتِكُمْ يا مَوْلَايَ بِهَا!
(٣ / ٣ / ١٩٥–٢٠٥)

هذه الفقرة السامية تتَّسم بتجديفٍ مزدوج في الدين، فهي موجَّهةٌ ضد جهاز الاستخبارات، ولكنها أيضًا ذات دلالة (مضمَرة) ضد السر الرباني الذي يقول جهازُ الدولة إنه يعمل لصالحه؛ فالكنيسة والدولة كانا كِيانًا واحدًا آنذاك (ويزداد توحُّدُهما) اليوم. ربما كتب شيكسبير هذه الكلمات الخطرة لمتعته الخاصة، باعتبارها احتجاجًا على الشر الذي قضى على مَن سبقوه من كُتَّاب المسرح. وقد يكون الدافع إليها الإعلان القتالي الصريح الذي يوجِّهه يوليسيس إلى أخيليس قُبيل الأبيات السابقة، وربما كان أقوى أشعار المسرحية إذا أُخرِج من سياقه:

يوليسيس :
مَوْلَايَ إنَّ لِلزَّمَانِ جَعْبَةً وَرَاءَ ظَهْرِهِ
يُلْقِي بِهَا الصَّدَقَاتِ لِلنِّسْيَانْ،
وَحْشٌ عَظِيمُ الجُرْمِ دَائِمُ الجُحُودِ والنُّكْرَانْ.
أمَّا اللُّقَيْمَاتُ التي في جَعْبَتِهْ … فما مَضَى مِنْ صَالِحِ الفِعَالْ!
ما إنْ تَتِمَّ حَتَّى تُلْتَهَمْ! ما إنْ تَمُرَّ حَتَّى تُنْسَى!
لا يَحْفَظُ البَرِيقَ للشَّرَفِ الرَّفِيعِ أَيُّها المَوْلَى العَزِيزُ،
غَيْرُ جَلْوِهِ بِتَكْرَارِ الفِعَالْ!
أمَّا إذَا أَقْلَعْتَ كُنْتَ مِثْلَ دِرْعٍ صَدِئَة — عَفَّى عَلَيْهَا الزَّمَنُ —
فَعُلِّقَتْ علَى الجِدَارِ ذِكْرَى سَاخِرَة! اسْلُكْ سَبِيلَ اللَّحْظَةِ الحَاضِرَة:
فالمَجْدُ لا يَسِيرُ إلَّا في طَرِيقٍ بَالِغِ الضِّيقْ …
مِنَ المُحَالِ أَنْ يَمُرَّ فيه اثْنَانْ! ثَابِرْ إذَنْ علَى التَّقَدُّمِ!
فَلِلتَّنَافُسِ أَلْفُ إبْنٍ لا يَنِي يُزَاحِمُكْ،
وإنْ سَمَحْتَ بالمُرُورِ للَّذِي يُرِيدُ أوْ رَأَيْتَ أنْ
تَنْحَازَ جَانِبًا عَنِ الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ والمُبَاشِرْ،
تَدَافَعَ الجَمِيعُ وانْقَضُّوا كَمَدِّ البَحْرِ في المَضِيقْ،
وخَلَّفُوكَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَحْدَكْ.
أوْ كَالْجَوَادِ الشَّهْمِ إنْ تَقَدَّمَ الجَمِيعَ ثُمَّ عَثَرْ!
فإذْ بِهِ يَغْدُو مَدَاسًا لِلْحَوَافِرِ القَمِيئَةِ التي تَأَخَّرَتْ،
لكنَّها تَفُوقُهُ وَتَطَؤُهْ! إذَنْ فإنَّ فِعْلَهُمْ في الحَاضِرْ
— وإنْ يكُنْ أَقَلَّ مِنْ إِنْجَازِكَ المَاضِي — لا بُدَّ أنْ يَفُوقَهُ ويَسْبِقَهْ!
إنَّ الزَّمَانَ كالمُضِيفِ في زَمَانِنَا
يُصَافِحُ الضُّيُوفَ عِنْدَمَا يُغَادِرُونَ الدَّارَ دُونَمَا حَرَارَةٍ لكنَّهُ
يُعَانِقُ الذي يَجِيءُ فَاتِحًا له الذِّرَاعَيْنِ اللَّذَيْن انْبَسَطَا،
كَأَنَّمَا يَهُمُّ بالطَّيَرانْ! فَإِنَّمَا التَّرْحِيبُ دَائِمُ التَّبَسُّمِ،
لكنَّما الوَدَاعُ يَمْضِي زَافِرًا آهَاتِهِ! فَلَا تَدَعْ فِعْلًا جَلِيلًا
يَطْلُبُ الجَزَاءَ بَعْدَ أنْ مَضَى ووَلَّى!
فما الجَمَالُ والذَّكَاءُ بَلْ والمَحْتِدِ الكَرِيمْ —
والسَّاعِدُ المَتِينُ وامْتِيازُ المَرْءِ في العَمَلْ،
والحُبُّ والإحْسَانُ والصَّدَاقَةُ كُلُهَا سِوَى صِفَاتٍ خَاضِعَاتٍ لِلزَّمَنْ،
وكُلِّ ما يَرْمِي بِهِ مِنَ الأَحْقَادِ والإِفْكِ المُبِينْ.
والضَّعْفُ في طَبِيعَةِ الإنْسَانِ يَجْعَلُ الجَمِيعَ أُسْرَةً وَاحِدَةً،
فإذْ بِهِمْ قَدْ أَجْمَعُوا على امْتِدَاحِ ما اسْتَجَدَّ مِنْ بَهْرَجَة،
حَتَّى وإنْ كَانَتْ مَصُوغَةً مما تَوَلَّى قَبْلَهَا وفَاتْ!
ثَنَاؤُهُمْ علَى التُّرَابِ إنْ عَلَاهُ بَعْضُ التِّبْر
يَفُوقُ إِطْرَاءَ النُّضَارِ إنْ كَسَتْهُ ذَرَّاتُ الغُبَّارْ!
فالعَيْنُ تَحْيَا اليَوْم … وتَمْدَحُ الذي تَرَاهُ اليَوْم!
(٣ / ٣ / ١٤٥–١٨٠)
وموجز هذه الحِكمة الوحشية هي العبارة ذات المرارة الرائعة «الضعف في طبيعة الإنسان يجعل الجميعَ أسرةً واحدة»؛ أي إنه اختزالٌ للفردية كلِّها وجميع إنجازات الأفراد، وهو يردُّ على شكوى أخيليس: «عجبًا! هل نسيت أفعالي السالفة جميعًا؟» مِن المفارقات أن يكتب شيكسبير الصياغةَ المُثْلى للشَّجن الذي كان عمله أقلَّ الأعمال تعرضًا له. والملاحَظ في هذه المسرحية ذات السخرية المريرة أن الوعي بوجود بن جونسون سافر صريح (فهو يغذو صورة إيجاكس، مثلما يغذو صورة مالفوليو في الليلة الثانية عشرة) وربما يكون التحذير الذي يوجِّهه يوليسيز ضربةً أخرى عارضة لبن جونسون، الذي كانت رغبته في الشهرة الدرامية يُعمقها ضيقه من تفوق شيكسبير. نحن لا نستطيع إلا الحدس؛ إذ إن شيكسبير «اللطيف» قد امتنع بدهاءٍ عن تقديم ردودٍ سافرة على إشارات جونسون المريرة إلى عمل شيكسبير. والواقع أن ضروب الحسد والمفترَيات ظاهرةٌ عالمية، وليست مقصورةً على جونسون، والواضح أن شيكسبير يتجاوز ما يُسمى «حرب المسارح» حين يهبط «الحب والإحسان والصداقة» في جُب النسيان، ما دامت «العين تمدح الذي تراه اليوم».

توجد خصيصةٌ مبهجة ومزعجة في آنٍ واحد في حديث يوليسيز المقتطف ذي القوة الجبارة. فوصف النسيان، بمعنى الغياب التام عن الذاكرة، بأنه «وحش عظيمُ الجُرم دائم الجحود» يعني إقامة رابطة بين «تلك اللقيمات التي مضت من الفعال الصالحة/تلك التي ما إن تتمَّ حتى تُلْتهَمْ» وبين التهام كريسيدا من جانب عاشقيها، وهو ارتباطٌ يؤكد الصور الشعرية النوعيَّة في المسرحية حيث يرتبط الفسق بالشرَه، وفي الصورة الخيالية العجيبة ذات الطاقة الفائقة، يتحول إحسان الزمن الزائف «صدقات للنسيان» إلى صورة الزمن كمضيفٍ حديث الطراز يُصافحك مصافحة خفيفة عند ذهابك، ويحتضن القادمَ الجديد البديل عنك، ويتلخص كلُّ شيء في المسرحية — المتع الجنسية للحب، وارتفاع الصيت وسقوطه في المعركة، والخطب المُقْنِعة «للكلب الثعلب» يوليسيز — في المقولة اللاذعة «فإنما الترحيب دائم التبسُّم/لكنما الوداع يمضي زافرًا آهاتِه» وهي مقولةٌ تضم الحدث كلَّه في الحركة الرمزية لمهنةِ القوَّاد، ويُعلن عن الخيارين المتاحين في المسرحية إما بانداروس وإما ثيرستيز، فالجمهور لا يستطيع أن يُصيبه الجنون مع كاساندرا، من بعدِ أن اغترَب بدوره عن جميع اليونان وجميع الطرواديِّين. أما ثيرستيز فإنه يُدْلي بحقائقَ مختزَلة، وهو ذو بشاعةٍ شديدة، إلى جانب نبذِه الصارم، بحيث يتعذَّر تماهي أيِّ جمهور معه. أما بانداروس فإن طرويلوس ينبذه، كأنما كان القواد المسكين مسئولًا عن تحولِ كريسيدا إلى ديوميد، ولكن طرويلوس يكون في غِمار ذلك قد فقَدَ نصف صوابِه وأصبح ذا مركزيةٍ ذاتية كاملة، ولا تنتهي أية مسرحية أخرى لشيكسبير بمثلِ هذا العفن السافر، بل وبإهانةٍ مباشرة للجمهور، ولكنني أتساءل إن كان جمهور المحامين ودارسي القانون، وهو جمهورٌ من المثقَّفين وذَوي الفكر الرفيع، قد صبر أو تحمل التماهي الذي يوحي به بانداروس المصاب بالزهري بينه وبيننا جميعًا:

أَرْجُو أنْ يَذْكُرَ أَعْضَاءُ نِقَابَةِ بانداروسَ هُنَا ما فَاتْ،
ولْيَبْكُوا ما آلَ إليه بانْدَارُوسُ بِعَيْنٍ كادَتْ تَعْمَى بالعَبَرَاتْ،
فإذا اسْتَعْصَى الدَّمْعُ عَلَيْهَا يَكْفينَا بَعضُ الأَنَّاتِ أو الآهَاتْ
إنْ لَمْ يَكُ مِنْ أَجْلي فَبِسَبَبِ العَظْمِ المُوجَعِ في الجَنَبَاتْ،
إخْوَتَنَا والأَخَوَاتْ! في مِهْنَةِ تَقْدِيمِ الأَجْسَادِ لِطُلَّابِ الحَاجَاتِ،
لَنْ يَمْضِي شَهْرَانِ هُنَا إلَّا آمْلَيْتُ وَصِيَّتِي الخَاصَّةَ قَبْلَ مَمَاتِي،
كانَ الوَاجِبُ أنْ أَكْتُبَهَا الآنَ ولكنِّي أَخْشَى أنْ يَحْدُثَ لي الآتِي:
أَنْ أَسْمَعَ شكْوَى مِنْ عَاهِرَةٍ تَعْتَرِضُ ويُؤْلِمُهَا مَعْنَى كَلِمَاتِي،
فإلَى ذَاكَ الحِينِ أُعَالِجُ مَرَضِي بالحَمَّامِ السَّاخِنِ تَخْفِيفًا لمُعَانَاتِي،
وأُورِّثُكُمْ أَمْرَاضِي في ذَاكَ الوَقْتِ وأَتْرُكُكُمْ مِنْ بَعْدِ حياتي!
(٥/١٠/٤٨–٥٧)
لن تكون العاهرةُ المشارُ إليها تُمثل جمهورًا يُقدر بانداروس تقديرًا كبيرًا، ولكن مَن ذا الذي يُقدره؟ من المحتمل أن شيكسبير كان يقصد أن يعرض طرويلوس وكريسيدا في مسرح الجلوب، أو حتى في أيِّ مكان آخر، وربما كانت تسبَّبَت نسخةٌ من المسرحية في حفز شخص ذي منصبٍ رفيع على تنبيه شيكسبير، الذي كان دائمًا ما يُبدي الحذَر، إلى أنه قد تجاوز الحدودَ هذه المرة. وربما كان الفصل الخامس كله، الذي يتزايد فيه العنفُ والسخط، يُمثل ردَّ فعل الكاتب المسرحي إزاء هذه المعضلة. وليس بين أيدينا أدلةٌ (كما قلتُ آنفًا) على أن طرويلوس وكريسيدا التي كتبها شيكسبير قد عُرِضَت في أيِّ مكان قبل القرن العشرين، على الرغم مما يحدسه بعضُ الباحثين من أنها فشِلَت عند عرضِها في مسرح الجلوب، وهو ما يبدو لي بعيدَ الاحتمال. وباعتبارها دراما تحيط بها هالةٌ من الممنوع، كأنما تجرَّأ شيكسبير فارتكب خطأً ضد الدولة، وهو ما يتناقض تناقضًا تامًّا مع حياته العمَلية طول عمره. وأتساءل في نفسي هل كان الفصل الخامس ينتهي نهايةً مختلفة عندما كان شيكسبير لا يزال يأمُل في عرض طرويلوس وكريسيدا على المسرح؟ والواقع أن دقة بدقة تذهب إلى مدًى أبعدَ في إثارة قضية الغربة الاجتماعية والعدميَّة، ومع ذلك فهي تبدو لي ذاتَ طابَعٍ أقلَّ ارتباطًا بشخصية المؤلف. وأما النقاد الذين يقولون إن طرويلوس وكريسيدا تشترك مع السونيتات في الشواغل وضروب المعاناة فهُم على صواب، فيما يبدو لي. وعلى الرغم من عظَمة لغة طرويلوس وكريسيدا فإنها تتراجع عن تحقيق أعظمِ موهبةٍ عند شيكسبير، ألا وهي ابتكاره الشخصية الإنسانية. ففي هذه المسرحية شيءٌ لا نستطيع أن نعرفه يدفعه إلى السَّير ضد قوته الخاصة باعتباره كاتبًا مسرحيًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤