طرويلوس وكريسيدا
١
يا للانحطاط! ويا للغش! ويا للتحايل المزري! تنحصر قضيةُ الحرب في عاهرةٍ وديُّوث. منازعةٌ جديرة بنشأةِ شيعٍ وأحزاب متناحرة، ونزف الدم حتى الموت. ألا فلْيحلَّ بها الجرَب، ولْيُهلك القتالُ والعَهْر الجميع!
لا يَرقى هذا مطلقًا لمستوى ثيرستيز، أمَّا ما يلي فيرقى:
(يخرج.)
لا أظن أنَّ بيننا مَن يمكن أن يُغرم بثيرستيز، لكننا نحتاج إليه ونحن نشاهد المسرحيةَ أو نقرؤها؛ فهو يُمثل جوقتها المناسبة. وكونه عبدًا لم يُفلح إلى الآن في اكتسابه أيَّ تأييد من جانبِ نقَّادنا الماركسيين ودعاة المادية الثقافية، ولكن السبب في هذا قد يرجع إلى بذاءة ألفاظه التي زادت عن الحدِّ في نظر الأساتذة، كما أن هجاءه للشهوة غيرُ لائق اجتماعيًّا بقدر ما يعتبر عداؤه للحرب لائقًا إلى حدٍّ بعيد. وهو ينتمي إلى الطبَقة السفلى في الكون الذي يتصوره شيكسبير، وله رفقاؤه مثل بارول، وأوتوليكوس، وبرنردين، وبيستول وغيرِهم. وربما كان ثيرستيز قد دُفِعَ به، مثل غيره من العبيد، إلى حرب طروادة، رغم أنفه، ولكن شتائمه لن تقلَّ لو كان في أية بقعة أخرى من جزر اليونان. وسِبابه المقذع يكتسب قوة خاصة في طروادة، حيث «تنحصر القضية كلُّها في عاهرةٍ وديوث» كما يقول.
٢
ونحن نقول «آمين» لكلِّ قوَّاد منذ تلك اللحظة، حتى إذا لم نجد نفعًا في معادلة طرويلوس بالإخلاص ومعادلة كريسيدا بالخائنات. لقد أوقف شيكسبير الحدثَ هنا (إن أسمَيْناه حدثًا) ورفع مستوى وعينا بما يَدين به (وندين به) إلى تشوسر. إن هذه اللوحة لا تُقدم لنا تعاطفًا بل غُربةً عن الذات. فإن طرويلوس وكريسيدا وبانداروس يرون أنهم ممثلون في قصةٍ مشهورة، وسوف يأتي بعد ذلك سوءُ صيتٍ شديد. والأثر ليس كوميديًّا ولا ساخرًا، ومن المحتمل أن يكون على المخرج أن ينصح الممثلين أن يؤدُّوا هذا المشهدَ أداءً مباشرًا، كأنما لا يُدرك شخوصُه أنهم يؤكِّدون تصنُّعَهم. ولقد أعَدَّنا شيكسبير لهذا التحرُّر الدرامي من الوعي الذاتي في وقتٍ سابق بهذا المشهد نفسه، وذلك في المقام الأول بخلقِ فجوةٍ شاذة بين الملاحظات المرموقة التي يُقدمها طرويلوس وكريسيدا وبين النقصِ المحسوس للطاقات المعرفية والعاطفية، وهو الذي يُمكِّنه من تقديم هذه النظرة الثاقبة البليغة. ونحن ندهش، في هذا السياق، لقدرة هذين العاشقين النهِمَين على تقديم ما يكتسب من قوةٍ جبارة خارج سياقه:
[٥ / ٢ / ١٤٣–١٦٧ في الترجمة المنشورة]
واعتبارًا من «فيا أدلةً! ويا أدلة …» يتحوَّل كلام طرويلوس إلى شَكاةِ عاشق تعرَّض «للخيانة»، ولكن ما سبقها يُمثل، فيما يبدو، أزمةً ذات طابعٍ ميتافيزيقي صارم إلى الحد الذي تُستبعدُ نسبته إلى طرويلوس. وهو ما يعود بنا إلى مُفارقة رئيسية في «الكوميديات السوداء» أو «المسرحيات المشكل» عند شيكسبير: ألا وهي أنَّ قوة الكلام أكبرُ من السياق. ويعتبر ثيرستيز الشارحَ المناسب للسياق: «أتراه بهذي الجعجعة سيُنكر ما شهدَته العينان؟» وإنكار طرويلوس ما يراه أمامه يستبقُ النفي الهيجلي، وإنكاره لطغيان الواقع. والمثاليَّة الجدلية عند طرويلوس أشدُّ عمقًا: «هذه كريسيدا وليست كريسيدا.» ورؤية طرويلوس المزدوجة سيكولوجية لا فلسفية؛ إذ تتعلق بنقض النَّشوة البتراركية لخداع الذات، لا العمى البشريِّ العادي (أو الاستنطاع) الذي يُتيح الخيانةَ الجنسية، على نحوِ ما نُواصل وصفها بهذا الوصف الغريب. ويسمح لنا شيكسبير بقدرٍ ضئيل من التعاطف مع طرويلوس، لا بقدر كبير، خصوصًا عندما يعود العاشق المتصنِّع إلى أسلوبِه المعتاد باعتبار كريسيدا مأدُبتَه الخاصة:
٣
اللغة هنا بالغةُ الاختلاف عن الجعجعة البذيئة عند ثيرستيز، ولكن المضمون واحد. من العدمي الحقيقي يوليسيز أم ثيرستيز؟ إن القُشَعريرة الحقيقية التي يُصيب يوليسيز سامعَه بها ترجع إلى حديثه بلسان رئيس الجواسيس في عصر الملكة إليزابيث، سواءٌ كان والسينجهام أو سيسيل، وهو الذي لا بد أن شيكسبير كان يشتبه في أنه قتل كريستوفر مارلو، بأقصى قدرٍ من التعصب، وعذب توماس كيد. وعندما نُصغي إلى يوليسيز نستطيع أن نحدس سببَ عدم سماح شيكسبير بعرض هذه المسرحية الرائعة:
هذه الفقرة السامية تتَّسم بتجديفٍ مزدوج في الدين، فهي موجَّهةٌ ضد جهاز الاستخبارات، ولكنها أيضًا ذات دلالة (مضمَرة) ضد السر الرباني الذي يقول جهازُ الدولة إنه يعمل لصالحه؛ فالكنيسة والدولة كانا كِيانًا واحدًا آنذاك (ويزداد توحُّدُهما) اليوم. ربما كتب شيكسبير هذه الكلمات الخطرة لمتعته الخاصة، باعتبارها احتجاجًا على الشر الذي قضى على مَن سبقوه من كُتَّاب المسرح. وقد يكون الدافع إليها الإعلان القتالي الصريح الذي يوجِّهه يوليسيس إلى أخيليس قُبيل الأبيات السابقة، وربما كان أقوى أشعار المسرحية إذا أُخرِج من سياقه:
توجد خصيصةٌ مبهجة ومزعجة في آنٍ واحد في حديث يوليسيز المقتطف ذي القوة الجبارة. فوصف النسيان، بمعنى الغياب التام عن الذاكرة، بأنه «وحش عظيمُ الجُرم دائم الجحود» يعني إقامة رابطة بين «تلك اللقيمات التي مضت من الفعال الصالحة/تلك التي ما إن تتمَّ حتى تُلْتهَمْ» وبين التهام كريسيدا من جانب عاشقيها، وهو ارتباطٌ يؤكد الصور الشعرية النوعيَّة في المسرحية حيث يرتبط الفسق بالشرَه، وفي الصورة الخيالية العجيبة ذات الطاقة الفائقة، يتحول إحسان الزمن الزائف «صدقات للنسيان» إلى صورة الزمن كمضيفٍ حديث الطراز يُصافحك مصافحة خفيفة عند ذهابك، ويحتضن القادمَ الجديد البديل عنك، ويتلخص كلُّ شيء في المسرحية — المتع الجنسية للحب، وارتفاع الصيت وسقوطه في المعركة، والخطب المُقْنِعة «للكلب الثعلب» يوليسيز — في المقولة اللاذعة «فإنما الترحيب دائم التبسُّم/لكنما الوداع يمضي زافرًا آهاتِه» وهي مقولةٌ تضم الحدث كلَّه في الحركة الرمزية لمهنةِ القوَّاد، ويُعلن عن الخيارين المتاحين في المسرحية إما بانداروس وإما ثيرستيز، فالجمهور لا يستطيع أن يُصيبه الجنون مع كاساندرا، من بعدِ أن اغترَب بدوره عن جميع اليونان وجميع الطرواديِّين. أما ثيرستيز فإنه يُدْلي بحقائقَ مختزَلة، وهو ذو بشاعةٍ شديدة، إلى جانب نبذِه الصارم، بحيث يتعذَّر تماهي أيِّ جمهور معه. أما بانداروس فإن طرويلوس ينبذه، كأنما كان القواد المسكين مسئولًا عن تحولِ كريسيدا إلى ديوميد، ولكن طرويلوس يكون في غِمار ذلك قد فقَدَ نصف صوابِه وأصبح ذا مركزيةٍ ذاتية كاملة، ولا تنتهي أية مسرحية أخرى لشيكسبير بمثلِ هذا العفن السافر، بل وبإهانةٍ مباشرة للجمهور، ولكنني أتساءل إن كان جمهور المحامين ودارسي القانون، وهو جمهورٌ من المثقَّفين وذَوي الفكر الرفيع، قد صبر أو تحمل التماهي الذي يوحي به بانداروس المصاب بالزهري بينه وبيننا جميعًا: