الفصل الحادي والعشرون

العبرة بالخاتمة

١

بالقياس إلى مَحاسن العبرة بالخاتمة دراميًّا وأدبيًّا، تظل هذه المسرحية أشدَّ كوميديات شيكسبير معاناةً من نقص التقدير، خصوصًا عند مقارنتها ببعض الأعمال المبكِّرة؛ مثل سيدان من فيرونا وترويض الشرسة. ولقد شاهدتُ عرضًا واحدًا للعبرة بالخاتمة، وكانت المسرحية للأسف تُواصل تاريخها الطويل من عدم الإقبال الجماهيري، وليس من المحتمل إذن أن أشاهد عروضًا أخرى. والقضية أساسًا أننا نُسيء فهم العبرة بالخاتمة، منذ صمويل جونسون، أعظم نقَّاد شيكسبير قاطبة وحتى الوقت الحاضر. ونحن نُشارك الدكتور جونسون نُفورَه من برترام، النبيل الشابِّ الخبيث الذي تُحبه هيلين، وهي الجديرة، بوضوحٍ، بالإعجاب. وليست هذه هي العلاقةَ غيرَ المتكافئةِ الوحيدةَ عند شيكسبير؛ فشخصياته النسائية يَختَرن، عمومًا، رجالًا تَشوبُهم العيوب. ولكن هذه الحالة، فيما يبدو، لا تُمثل أسوأ اختيار للحبيب في مسرحيات شيكسبير. ولا يتَّصف برترام بخصائصَ تُنقذه من الوصف المذكور، وإذا أسمَيْناه غلامًا أفسَده التدليلُ لم نكن نتجاوز أعرافَ زمنه. وكان الدكتور جونسون ينفر بصفةٍ خاصة من النهاية السعيدة، حيث يستقرُّ برترام في هناءٍ عائلي مفترَض:

لا أستطيع مُصالحةَ قلبي على برترام؛ فهو نبيلٌ يَنقصه الكرم، وشابٌّ يَنقصه الصدق، وهو يتزوَّج هيلينا جُبنًا، ويهجرها فسقًا، وعندما تموت بسبب قسوته يسترقُ الخُطى إلى المنزل ليتزوجَ زواجًا ثانيًا، ويتعرَّض لاتهام امرأةٍ أساء إليها، ويُدافع عن نفسه بأكاذيب، ثم يُطرَد ليعيش في سعادة.

ومن المحتمل أن شيكسبير كان سيُعجَب بالمفارقة المريرة عند جونسون وهي «يطرد ليعيش في سعادة». ومسرحية العبرة بالخاتمة تتضمَّن من المرارة، بطريقتها الرفيعة، ما تتضمَّنه طرويلس وكريسيدا ودقة بدقة، بل إن عُنوان المسرحية نفسه يتضمَّن مرارةً راقية. ولما كان برترام لا يزيد عن كونه شابًّا متكبرًا متحذلقًا جاهلًا، فإن الثِّقل الدرامي يتركَّز في هيلينا، وفي بارول، الجنديِّ الزائف، والذي يحمل اسمًا مناسبًا معناه «ألفاظ»، والذي يتعرَّض للتقويض وَفقًا للشِّرعة الأخلاقية عند بن جونسون لا عند شيكسبير. ويُعرب الكثيرُ من النقاد عن نفورهم من بارول، وإن كنتُ لا أستطيع تصور السبب، فهو وغدٌ رائع ويتمتَّع بشفافيةٍ كاملة في عين أي عاقل، وذلك لا يتضمَّن برترام بطبيعة الحال. والدَّوْران المهمَّان في هذه المسرحية هما دَوْرا بارول وهيلينا. وكل ما يستطيعه المخرج في تناوله لبرترام أن يجعلَه يبدو مثل كلارك جيبل في شبابه، وكان هذا هو الحلَّ الذي اهتدى إليه المخرج تريفور نن (Nunn) في العرض المسرحي الذي شاهدتُه. ويَكثر الشبَّان البُغَضاء عند شيكسبير، وبرترام خواء، وذو ضررٍ حقيقي.
وكان الشاعر ييتس يَنْعى أن حبيبتَه مود جُنْ (Gonne) قد اختارت أن تتزوج المقاتل ماكبرايد بدلًا من أن تختار ييتس، ومن ثَم فقد صاغ مبدأ شيكسبير نفسه بشأن جميع الإناث الرائعات اللائي يخترن رجالًا يتَّسِمون بالبشاعة أو الخواء قائلًا:
لا شَكَّ بأنَّ النِّسْوَةَ إنْ كُنَّ جَمِيلَاتْ،
يَأْكُلْنَ اللَّحْمَ مَعَ السَّلَطَاتِ المَجْنُونَاتْ،
وبِذَا يَفْرُغ قَرْنُ الوَفْرَةِ مِنْ كُلِّ الحَسَنَاتْ.

وما دمنا جميعًا نعرف نماذجَ صادقة لتلك الزيجات القائمة على التفاوت عند شيكسبير، فسوف يسرُّنا أن نرجع إلى شيكسبير لنرى تلك «السُّلطات المجنونات». إن بورشيا يُسعِدها أن تتزوج باسانيو، صائدَ الثراء اللطيف الذي لا نفع يُرجى منه على الإطلاق، ونفترض أن السبب هو انتقامها — المضمَر — من والدها الغريب الذي فرَض عليها لعبة اختيار الصندوق الصائب من بين ثلاثة صناديق؛ فهي تقول:

آهٍ مِنْ كَلِمَةِ «أَخْتَارْ»! إنِّي لا أَقْدِرُ أنْ أَقْبَلَ مَنْ أَرْضَاهُ،
أو أَرْفُضَ مَنْ لا أَرْضَاهُ. فإرَادَاةُ بِنْتٍ حَيَّة
كَبَّلَهَا رَجُلٌ مَيِّتْ.
(تاجر البندقية ١ / ٢ / ٢٢–٢٥)
وجوليا في مسرحية سيدان من فيرونا تُحب بروتيان حبًّا أحمق، ولكن الحبيب البروتيوني يظهر في عدة صور متفاوتة، إلى الحد الذي يجعل امرأةً أكثرَ حكمة إلى حدٍّ بعيدٍ ترتكب الخطأ نفسَه. وهيرو في ضجة فارغة تتزوَّج المستهتَر كلوديو، ولكنها أصغرُ من أن تعرف أنه لا خير فيه. وعندما نصل إلى الليلة الثانية عشرة يكون شيكسبير قد انطلق انطلاقةً جامحة جميلة؛ فالساحرة فيولا، على ما بها من خبلٍ تسعد بالقرب من أورسينو العبثي، وتختطف أوليفيا سباستيان لأنه توءمُ فيولا وحسب، وباعتباره مخبولًا آخرُ يُسعده أن يُلتهَم على هذا النحو. أما هيلينا هنا فهي قضية أخرى، وعاطفتها الرومانسية المشبوبة السامية لبرترام تبدو مزيجًا من الذروة الساخرة للجمع الكوميدي عند شيكسبير بين عاشقَين اثنين، وبين شيءٍ يكاد أن ينتميَ إلى الشاعر الرومانسي الإنجليزي جون كيتس:
ما عَادَ بِخَلَدِي وَجْهٌ
غَيْرُ مَلَامِحِ وَجْهِ حَبيبِي برترام!
قد قُضِي عَلَيَّ! لا عَيْشَ الآنَ أَمَامِي قَطْ
ما دامَ حَبيبِي قد غَابْ! مَثَلِي في ذَلِكَ مَثَلُ العَاشِقَةِ
لِنَجْمٍ تَتَصَوَّرُ أنْ تَتَزوَّجَهُ إذْ يَسْطَعُ في العَلْيَاءْ؛
فحبيبي يَعْلُوني بِمسَافَاتٍ شَاهِقَةٍ والوَاجِبُ أنْ
أَرْضَى بِأَشِعَّتِهِ الوَهَّاجَةِ وضِيَاءِ النَّجْمِ الَّلأْلَاءْ،
لا أنْ أَطْمَحَ لِلدَّوَرَانِ بفَلَكٍ مِنْ أَفْلَاكِهْ!
وطُمُوحي ذاكَ إلى هذا المَحْبُوبِ عَذَابٌ لي!
والظَّبْيَةُ إنْ شَاءَتْ أن تَتَزَوَّجَ أَسدًا
هالِكَةٌ حَتْمًا مِنْ لَذْعِ الحُب! كانَ عَذابًا لكنْ كانَ جَمِيلًا
أنْ أُبْصِرَهُ في كُلِّ الأَوْقَاتِ وأنْ أَجْلِسَ كي أَرْقُبَ
قَوْسَ الحَاجِبِ فوقَ العَيْنِ البَرَّاقَةِ كعيونِ الصَّقْرِ،
وأنْ أَرْقُبَ خُصُلَاتِ الشَّعْرِ وأرسُمَ ذلك أَجْمَعَ في لَوْحَةِ قَلْبي،
قلبٌ يتجاوبُ مع كُلِّ خُطُوطِ الوَجْهِ وتعبيراتِ الوَجْهِ الجَذَّابَة!
لكنَّ الرَّجُلَ الآنَ مَضَى وعَلَى قلبي المُشْرِكِ أنْ
يَتَبَتَّلَ في مِحْرابٍ مِنْ تَذْكَارِي لَهْ!
(١ / ١ / ٨٠–٩٦)
والسونيتة العظيمة التي كتبها كيتس «يا ضوءَ النجم اللألاء! لو أنِّي أتمتَّع بثباتٍ مثلك!» ترجع صدى إخلاص هيلينا في التعلق ﺑ «ضياء النجم اللألاء»، ويمكننا أن نقول إن الدَّفقة الشعورية في قصيدة كيتس تتضمَّن التوريةَ الساخرة عند شيكسبير. ولكن التوريات الساخرة عند هيلينا هنا موجَّهةٌ فقط ضد «قلبها المشرك»؛ أي عبادتها البتراركية للنبيل الشابِّ الذي نشأَت وترعرَعَت معه. وعندما تشير هي وشيكسبير هنا إلى «خَلَدي» و«قلبي» فإنما يقصدان ملَكةً سلبية، ما دامت تقوم واعيةً بالخداع الذاتي.١
ويحرص شيكسبير على أن نتأثر (كما تأثر كيتس) بطاقةِ هيلينا على الحب، من دون أن ننسى أن هذه المرأة الجميلة قد تناولَت سلاطةً مجنونة مع اللحم. وبرترام «يعلوها» في الطبقة الاجتماعية، وربما في الوسامة أيضًا، ذاك وإلا أصبحَت هي في الحقيقة «ضوء النجم اللألاء»، ولا يُعتبر برترام إلا أعلى قليلًا من بارول، ما دامت المنجزات الوحيدة لبرترام منجزاتٍ حربية، في حينِ أن بارول مجردُ جندي متفاخر، ودَعي، وكذاب، وطفيلي، ومن ثَم أكثر إثارةً للاهتمام من المقاتل وزير النساء برترام. والسؤال المبدئيُّ في العبرة بالخاتمة إذن هو كيف يمكن أن تكون قد أخطأت هذا الخطأ الفاحش؟ ويمكن إنقاذُ سوء حُكمها فقط بأن تقول إن برترام غيرُ ناضج، وإنه سوف يتغيَّر، ولكن شيكسبير يشير إلى غيرِ هذا؛ فإن هذا الشابَّ الذي أفسده التدليلُ سوف ينمو ويغدو وحشًا أبشَع، على الرغم من أمِّه، وزوجته، ومليكه، بل وأكاد أقول لإغاظتهم. وتنتصر العنيدة هيلينا، ولكنها تتحمَّل تكاليف النصر بنفسها، على نحوِ ما لا بد أن ينتهيَ الجمهورُ إلى القول به. ويتوسَّل شيكسبير بقدرته الفائقة على تمثيل المرأة تمثيلًا مُقنِعًا يُجاري تمثيلَه للرجل على الأقل، في تحويل سؤال المسرحية إلى سؤالٍ أشدَّ طرافة وهو: من تكون هيلينا؟

يُقال لنا الكثير في المسرحية عن والد هيلينا، الطبيب النطاسي وصديق الملك، لكنَّني لا أذكر أيَّ موقع في المسرحية ترد فيه إشارةٌ إلى والدة هيلينا الفعلية. لقد تولَّت الكونتيسة، والدة برترام، تنشئةَ هيلينا باعتبارها ابنتَها المتبنَّاة، وعلاقة الحب التي تربط بين والدة التعِس وهيلينا أروعُ عاطفةٍ في المسرحية. ويتمتع شيكسبير بكفاءةٍ عالية في التكتُّم على الآباء عندما لا يكونون ذَوي صلةٍ بالحدث الدرامي في تصوُّره له. فنحن لا يُقال لنا أيُّ شيء عن والدة جونريل وريجان وكورديليا، قُل كأنَّما كانت الملكة، زوجة الملك لير، لا وجود لها، مثلًا مثل الزوج الأول لليدي مكبث، أو والدة ياجو (ونحن نفترض أن ياجو نفسه كانت له أم). ولستُ أعتزم إرضاء أصحاب المذهب الشكليِّ والمذهب المادي معًا بتقديمِ ما أحدسُه بشأن طفولة هيلينا، ناهيك بطفولة ياجو! ولكنه من المهم أن نُنوِّه بالحب الذي تُكِنُّه هيلينا للوارثة، كونتيسة روسيون، التي تولَّت رعاية اليتيمة هيلينا. وقد قسم فرويد — متبِعًا شيكسبير في هذا أيضًا — اختيارَ الأشخاص إلى نمَطَين؛ النمط الأول نرجسي، والثاني هو المستند إليه، واختيار هيلينا لبرترام يُشارك في النمطَين مشاركةً قوية. كان برترام، رفيقُ طفولةِ هيلينا، يُمثل من الزاوية النرجسية ما كانت تتطلَّع إلى أن تَكونه؛ أي الطفل الحقيقي للأم التي تبنَّتْها، وأما من زاوية المستند إليه، فإن برترام كان يُمثل الوالد المفقود، والده ووالدها. ومن ثَم فإن حبَّ هيلينا تتحكم فيه عدةُ عوامل إلى درجةٍ غير مألوفة حتى عند شيكسبير، حيث العاطفةُ الجنسية المشبوبة الطارئة التي تُثبت وجودها في جميع الحالات تقريبًا. فليس من المهم إذن ما في باطن برترام ولا ما يفعله؛ فإن هيلينا حبيسة الغرام به.

وعلينا مِن ثَم أن نبدأ في تفهُّم العبرة بالخاتمة بإدراك أن حكم هيلينا لا هو فاسدٌ ولا هو سليم؛ فالقضية لا تتعلق بالحكم على الإطلاق، فما دامت هيلينا في قيد الحياة فسوف تظلُّ مرتبطةً بحبِّ برترام؛ لأنه يُمثل هُويتها نفسها؛ أي ما كانه هو نفسه دائمًا. ويُبين لنا شيكسبير، الذي كان بكلِّ تأكيدٍ غيرَ سعيد في زواجه، أن الزواج ليس إطلاقًا مسألةَ اختيار. وأجد متعةً في أن أقول لطلابي إن أسعد زواج في جميع أعمال شيكسبير هو زواج مكبث وليدي مكبث، ما داما يُناسبان بعضُهما بعضًا بصورةٍ رائعة! لماذا تزوَّج عطيل وديزدمونة زيجةً غير متناسبةٍ هيَّأَت لياجو فرصتَه الرهيبة؟ لا نستطيع أن نُقدم إجابةً قاطعة عن هذا السؤال مثلما لا نستطيع اختيار أيٍّ من دوافعه الكثيرة إلى الشر. ونحن نُحس بشيءٍ مفقود، فيما يبدو، فيما يرويه كلٌّ من عطيل وديزديمونه عن غرامهما، ولكن ذلك الشيء أساسيٌّ في طبيعة الزواج، أغرب المؤسسات البشرية على الإطلاق، عند شيكسبير وخارج عالم شيكسبير. ويوحي شيكسبير دائمًا بأن الزواج هو حيث نُكتَبُ لا حيث نَكتُب.

٢

ينبغي ألَّا نذكر بارول بالقياس إلى فولسطاف، ملك اللماحية والحرية، وإن كان الكثيرُ من النقاد يقعون في مثلِ هذا الخطأ. فإن فولسطاف الرائع أكبرُ من مسرحيتي هنري الرابع، كما أنه، على نحوِ ما أذكر في شتى فصول هذا الكتاب، يعتبر أقربَ شخصيات شيكسبير إلى تمثيل مركزه الحيوي باعتباره شخصًا، وبارول ليس كونًا كاملًا مثل فولسطاف، ولكنه المركزُ الروحي لمسرحية العبرة بالخاتمة، فهو رمز العفن الكامن تحت أسطُحِها المهذبة البرَّاقة. ومرارة المسرحية مكثَّفة في اليمين الذي يحلفه بارول بالبقاء في الحياة بعد فضحه ودماره:
بارول :
لكنِّي شاكِرْ! لوْ كانَ القَلْبُ بِصَدْرِي ذَا كَرَمٍ وإِبَاءٍ لَانْفجَرَ القَلْب!
لنْ أَغْدُوَ قائدَ جُنْدٍ بَعْدَ اليَوْمِ ولكنِّي أحْيَا!
وسَآكُلُ وسأَشْرَبُ وأنامُ هنيئًا مثلَ القَادَة،
ما خُلِقَ الطَّبْعُ عليه وَحَسْبُ سَيَجْعَلُنِي أحْيَا! مَنْ يَعْرِفْ في
داخِلِهِ مَيْلًا لمُفَاخَرَةٍ أو زَهْوٍ فَلْيَخْشَ الآتِي:
لا بُدَّ إذَا مَرَّ الزَّمَنُ ودَارَا
أنْ نَجِدَ بِدَاخِل رَبِّ الزَّهْوِ حِمَارَا،
فَلْتَصْدَأْ يا سَيْفُ وتَبْرُدْ يا خَجَلُ وعِشْ يا بَارُولُ بأَمْنٍ في العَارِ،
ما دُمْتُ خُدِعْتُ بهذا التَّهْريجِ سأَلْقَى في دُنْيَا التَّهْرِيجِ مَسَارِي؛
فَلكُلٍّ مِنْ أَبْنَاءِ البَشَرِ الأَحْيَاءِ مكانٌ وَوَسَائِلُ عَيْشِهمُ الجَارِي،
وسَأَمْضِي خَلْفَهُمُ الآنْ!
(٤ / ٣ / ٣١٩–٣٢٩)

إننا نتألم حين نسمعُه يقول «ما خُلِقَ الطَّبْعُ عَلَيْه سَيَجْعَلُنِي أَحْيَا» ولكننا لا نستطيع معارضتها، وكان بارول قد قال قبل لحظات: «مَن ذا الذي لا تسحقُه مؤامرة؟» وقد تجعلنا تلك العبارة نتألَّم أيضًا. وأما قوله «فلكلٍّ من أبناء البشر الأحياء مكانٌ ووسائلُ عيشهم الجاري» فله هالةٌ خاصة، ويمكن أن تجعَلنا نقشعرُّ أيضًا. وعندما يسقط بارول فإنَّ إثارته لتعاطفِنا أقلُّ من توسيعه نطاقَ إمكانِ تماهيه معنا. فنحن قد لا نكون جنودًا متفاخرين، وجبناء وذَوي إطناب وإسهاب، لكننا نُكابد الخوف الرهيب من الفضيحة والحرمان، ومن التدنِّي في المكانة مثل الخادمة أبيشاج [التي كانت يومًا من حَسْناوات هوليوود] في قصيدة روبرت فروست، وعنوانها «قدِّم لنفسك قدم لنفسك!» أو مثل بارول. والواقع أن هذه القصيدة مكتوبةٌ بروحِ جُملة بارول «وسأمضي خلفهم الآن!»

ولكن ما سببُ الجمع بين بارول وهيلينا في مسرحيةٍ واحدة؟ ولماذا حقًّا يتقاسمانِها باعتبارهما من الأضداد، إن لم يكونا من الأضداد الجبابرة؟ إن الصلة بينهما برترام، وإن لم يكن من الممكن اعتبارُ بارول مسئولًا عن حال برترام، فإن برترام لا يكاد يتغيَّر بعد فضحِ بارول. ولو لم يكن لبارول وجودٌ فلا بد أن برترام كان سوف يُصادف طفيليًّا آخَر من نوعٍ ما، أو قُل وغد مداهن غير بارول. والعنصر الصادق الوحيد في شخصية برترام رغبتُه في المجد الحربي، ما دام عشقُه للنساء يبدو نزعةً مُلحَقة بحياته الحربية لا مسعًى مستقلًّا في ذاته. ويحاول بعضُ المدافعين عن برترام أن يرَوه ضحيةً لبارول المتطفِّل عليه، ولكن الفحص لا يؤيِّد هذا الرأي؛ ذلك أن بارول لا يُمثل في المسرحية شيطان برترام، بل يُمثل ما كان شيكسبير يُبغِضه، وهو الطراز اللاعقلاني، والتظاهر بالسيادة مع الانتهازية، والشجاعة الزائفة، ومجال الكذب. وأما الخصيصة الفريدة والمهمة عند بارول فهي شفافيته، وكلُّ فرد حسَن النية في المسرحية يكشف سرَّ بارول بنظرةٍ واحدة. ويُعتبر عمى برترام مؤشرًا على انعدام قيمته، ويماثل نفور برترام من هيلينا، وهو الذي لا بد من رصده في طفولتهما المشتركة التي انقضى عليها زمنٌ طويل. ولقد عرَفْنا — جميعًا — شخصًا أو شخصين مثل بارول، وأما المدهش حقًّا فهو تسامحُ شيكسبير مع الوغد المطنب المسهب، والذي يقبل الكاتب المسرحي مذهبه في السعي للبقاء، وهو مذهبٌ بشع لكنه قويٌّ عنيد، بل إن ذلك المذهب سوف يصبح عاملًا من عواملِ قهر برترام وانتصار هيلينا. ويُساعدنا بارول، مثلما تساعدنا هيلينا ولو بأسلوبٍ بالغ التعقيد، على أن نفهمَ أقوى خصائص العبرة بالخاتمة وأدقَّها، ألا وهي الرؤية القاتمة للطبيعة البشرية التي تتَّسم أيضًا بقَبولها العميق لهذه القتامة. فكأنما يريد شيكسبير عامدًا أن يبتعد عن المهاوي العدمية في طرويلوس وكريسيدا وفي دقة بدقة، وإن لم يتحقَّق ذلك إلا بثمنٍ معيَّن هو إيلاء أعلى القيم للجيل المسنِّ — الملك والكونتيسة واللورد لافيو والمهرج لافاتش — وإلى هيلينا، باعتبار ذلك ارتدادًا إلى مبادئ هؤلاء. ولجوءُ شيكسبير إلى النظام القديم يعني أنه يُقدم إلينا حكمةً ممكنة، نجد أفضل تعبيرٍ عنها في المسرحية فيما يقوله نثرًا أحد اللوردات الفرنسيين:
نسيجُ حياتِنا مُخْتَلِطُ الخيوط، ويمتزج فيه خَيْرُها بشَرِّها! ومِن حق
فضائلِنا أن تَزْهو إذا لم تُلهبها رذائلُنا بالسِّياط، وسوف تستيئس
مثالبنا إذا لم تُخفِّف مناقبُنا من غُلَوائها!
(٤ / ٣ / ٦٨–٧١)
ما أقلَّ الجُملَ في لغتنا التي تتَّسم بدقةٍ أكبر من هذه، أو تُعتبر في النهاية أشدَّ إثارة للقلق! لا توجد خيوطٌ مختلطة في نسيج برترام أو نسيج بارول، فالملاحظة تتعلق بهيلينا باعتبارها البديلَ عنا. وكان جورج برنارد شو يُبدي إعجابًا كبيرًا بهيلينا باعتبارها المرأةَ الإيجابية في حقبةِ ما بعد إبسن، لكنها لا تكاد تعرف الضحك؛ ومِن ثَم فهي لا تنتمي انتماءً كبيرًا إلى فِكر برنارد شو. إنها ذاتُ قوةٍ جبَّارة فعلًا، وتكاد تخضع لخبلٍ أوحد يتبدَّى في تركيزها على الخواء المتألِّق لبرترام. ولما كان موقفها المسيطر في الحصول عليه يُثير الغيظ، فلنا أن نَعجب لعدم إحساسنا ببعض التعاطف معه، على الرغم من اغتصاب حريةِ اختياره بسبب تحالف هيلينا مع الملك، الذي يُهدد الشابَّ بأن يفرض عليه زواجًا مدبَّرًا. ويتعرض برترام من الزاوية الإنسانية لظلم فادح؛ فهو الجائزة التي طلبَتها هيلينا، باعتبارها المكافأةَ التي نُصادفها في القصص الخرافية، لقاءَ نجاحها في شفاء ملك فرنسا. وينبغي أن يُعتبر هذا أمرًا شنيعًا، ولكن ما دام برترام نفسُه شنيعًا، فإننا لا نحزن. وفنُّ شيكسبير في تصوير صفاقة هيلينا فنٌّ فذ؛ إذ إنها تُنفذ مشروعها الغريب بهمة وما يُشبه السهل الممتنع (Sprezzatura):
برترام : لَيْسَ بِوُسْعِي أنْ أَهْوَاهَا … بَلْ لَنْ أَجْتَهِدَ لكي أَهْوَاهَا!
الملك : إنَّكَ تَظْلِمُ نَفْسَكَ إنْ حَاوَلْتَ الآنَ خِيَارًا.
هيلينا :
يُسْعِدُنِي أنْ عُدْتَ صَحِيحًا يا مَوْلَاي!
ولْنَضْرِبْ صَفْحًا عَمَّا يَعْدُو ذَلِكْ.
(٢ / ٣ / ١٤٥–١٤٨)
«ولْنضرب صفحًا عمَّا يعدو ذلك» عبارةٌ رائعة، في مزْجِها بين اليأس والدهاء، ما دامت هيلينا تعرف، مثلما يعرف الملك، أن الشرف الملكيَّ والسلطة الملكية في خطر. وتتكلم السلطة التي استفزَّها عنادُ برترام، بنبراتٍ تتنبَّأ بإلهِ ملتون المنذِر المحذر في الفردوس المفقود:
أَقْلِعْ عَنْ هذَا الاسْتِكْبَارْ! آمُرُكَ بأنْ تَنْصَاعَ
الآنَ لِمَا شِئْنَا فَتُصِيبَ الخَيْر!
لا تَثِقِ البَتَّةَ في الاسْتِكْبَارِ وأَوْفِ عَلَى الفَوْرِ
بِحَقِّ الطَّاعَةِ تَخْدُمْ مُسْتَقْبَلَكَ وحَظَّكَ في الدُّنْيَا؛
فالوَاجِبُ عِنْدَكَ يَقْضِي بهْ، ولَدَيْنَا فيهِ حَقُّ السُّلْطَانْ!
فَأَطِعْنِي الآنَ وإلَّا أَخْرَجْتُكَ مِنْ كَنَفِ رِعَايَتِنَا لَكَ؛
كي تَسْقُطَ في دَوَّامَاتِ شَبَابٍ مِنْ عَبَثٍ واسْتِهْتَارٍ
يَحْدُوهَا الجْهَلُ إذَا أَطْلَقْتُ عَلَيْكَ رِيَاحَ الثَّأْرِ
وعَاصِفَةَ البُغْضِ وبِاسْمِ الإنْصَافِ وَحَسْب،
وبِلَا أَدْنَى صُوَرِ الشَّفَقَة!
(٢ / ٣ / ١٥٨–٦٦)

وانتقام برترام، بعد استسلامه، طفوليٌّ تمامًا إذ يقول: «سأغتدي للحرب في توسكانيا! ولن أُضاجعها إلى الأبد!» وأشدُّ اللحظات اللاذعة إيلامًا في المسرحية، في ختام الفصل الثاني تجمع بين مُكابرة برترام الجريح ويأس هيلينا الرزين:

هيلينا : ولَنْ أَقُولَ غَيْرَ أنني أَظَلُّ خَادِمَةً مُطِيعَة!
برترام : كَفى كفى فَأَمْسِكي!
هيلينا :
وسَوْفَ أَبْذُلُ الجُهُودَ دُونَما كَلَالٍ كي أَسُدَّ الفَجْوَةَ التي
تَقُومُ بَيْنَ طَالَعِي الذي قَضَى بأنْ أكونَ في مكانَةٍ مُتَوَاضِعَة
وبينَ حَظِّيَ العَظِيمِ في الزَّوَاجْ.
برترام : دَعِيكِ مِنْ هذا! فإنَّني في عَجَلَةٍ شَدِيدَةٍ وأَسْرِعِي لِلْمَنْزِل.
هيلينا : الصَّفْحَ يا مَوْلَايَ!
برترام : ما الذي تُحَاوِلِينَ قَوْلَهُ؟
هيلينا :
أقولُ إنني لا أَسْتَحِقُّ ما امْتَلَكْتُهُ مِنْ ثَرْوَةٍ ولَسْتُ بالتي
تَجَاسَرَتْ لِتَزْعُم امْتِلَاكهَا لَهَا وإنْ تَكُنْ مِنْ حَقِّي!
لكنَّنِي كِمَثْلِ لِصٍّ خَائِفٍ يَسُرُّني أنْ أَسْرِقَ الَّذِي
يَقُولُ قانُون البِلَادِ شَرْعًا إنَّهُ مَالي!
برترام : فما الذي تَبْغِينَهُ؟
هيلينا :
شيء مِنَ المُحَالِ أنْ يُسْتَكْثَرْ! بلْ إنَّهُ العَدَمْ!
ولا أَوَدُّ أنْ أَقُولَ يا مَوْلَايَ ما أَوَدُّهُ! لَا! بَلْ سَأْذكُرُهْ:
إنَّ الفِرَاقَ لا يكونُ دُونَ تَقْبِيلٍ سِوَى ما بَيْنَ أَغْرَابٍ وَأعْدَاءْ!
برترام : أَرْجُوكِ لا تَتَأَخَّرِي، بَلْ أَسْرِعي إلَى رُكُوبِ الخَيْل!
هيلينا : لنْ أَرْفُضَ الذي طَلَبْتَهُ مَوْلَايَ أَيُّهَا الكَرِيمْ!
(٢ / ٥ / ٧١–٨٨)

إنه الثروة الجنسية التي تملكها، ولكن رفضه لها يجعلها تُشبه «لصًّا خائفًا»، ما دامت تشتاق إلى أن تسرقَ ما ينتمي قانونًا لها. وتهدُّجُ صوتها ما بين الانطلاق والتوقف هنا يعتمد على أداءٍ فني عظيم، ويستعيد لها جانبًا كبيرًا من تعاطفِنا معها، وإن لم نتعاطف مع حُكمها. ورسالة الوداع التي يُرسلها لها تستكمل احتقارنا إياه وفرض تواطئنا معها. تقول رسالته:

«إذا استطعتِ الحصولَ على الخاتم الذي
ألبسُه في أصبعي ولنْ أخلعَهُ أبدًا، واستطعْتِ أنْ تُرِيني طِفلًا أنْجَبْتِهِ
من جسدِك وأنا والده، فقولي عندها إنني زوجُك، ولكنني أكتب
عبارة «لَنْ تقولي أبدًا» بدلًا من عبارة «قولي عندها» المذكورة.»
(٣ / ٢ / ٥٦–٥٩)
من الزاوية البرجماتية تُعتبر هذه دعوة شيكسبير إلى خُدعة الفراش، أي استبدال امرأةٍ بأخرى في الظلام، وهي التي تساعد على الإتيان بحلٍّ بشع، هنا، وفي دقة بدقة. والصيغة اللاهية — أي كلُّهن يتشابهن في الظلام — تُعتبر في جانبٍ منها هجاء شيكسبير الساخر من ميل الرجال إلى عدم التمييز بين النساء، كما تحمل معها عبئًا من المرارة. فعندما قَبِلَت إيزابيلا خدعةَ الفراش، بحيث تحلُّ ماريانا بدلًا منها، في دقة بدقة، استجابةً لتحريض «الدوق صاحب الزوايا المظلمة»، فنحن لا نفزع من تواطئها الأخلاقي لأنها، مثلَ كل شخصية أخرى في المسرحية، نصفُ مخبولةٍ على الأقل. ولكننا بالضرورة ننزعج حين تقترح هيلينا نفسُها خدعةَ الفراش، حيث تكون الفاعلة الجنسية باسم شخصيةٍ أخرى. وينبغي أن يَزيد ضيقُنا عندما نتأمل لغة هيلينا أثناء توقُّعها الوحدةَ الوشيكة مع برترام المخدوع:
لكنْ ما أَغْرَبَ بَعْضَ رِجَالِ الأَرْضْ!
كيفَ يَرَوْنَ المُتْعَةَ فيما تُبْغِضُهُ الأَفْئِدَةُ،
وتَجْرِفُهُمْ شَهْوَتَهُمْ وهُمُو يَثِقُونَ بها ثقةً وقحة … حَتَّى إنْ كَانَتْ
أَحْلَكَ منْ ظُلْمَةِ لَيْلٍ أَدْهَمَ وتُدَنِّسُهُ تَدْنِيسًا! فالشَّهْوَةُ تَلْهُو
بِغَرِيبٍ تَكْرَهُهُ مُسْتَبْدِلَةً إيَّاهُ بمَا هُوَ غَائِبْ!
لكنِّي سوفَ أعودُ لهذا فيما بَعْد!
(٤ / ٤ / ٢١–٢٦)
وتكمن البشاعة الفائقة في هذه السطور في طابعها البرجماتي: هل يملك الأدبُ تقديمَ صورةٍ أنثوية أعقلَ وأكثر موضوعيةً للشهوة الذكورية؟ إن عبارة هيلينا اللاذعة «ثقةٌ وقحة» سوف تتردَّد أصداؤها في دقة بدقة عندما يُعادل المنافق أنجيلو القتلَ العمد بإنجاب الأطفال سِفاحًا، فهو يقول إننا إذا عفَونا عن قاتل «كنا كمَن يعفو عن الذي ينساقُ خلف شهوةٍ مبتذَلة/لطبع صورةِ السماء فوق عملاتٍ محرمة!» والكلمة الإنجليزية المستخدمة في السياقَين وهي saucy تُفيد الوقاحة والشهوة معًا [وقد وصفَت الشهوة بالوقاحة أولًا ثم بالابتذال ثانيًا] وترجع قوة نظرة هيلينا الثاقبة، في جانبٍ منها، إلى معناها المركَّب الذي يقول إن شهوةَ الذكَر تجمع في آنٍ واحد بين المرارة، وعدم التمييز، وكراهية المرأة. وعلى الرغم من وعد هيلين لنا بأن تعودَ «لهذا فيما بعد!» فإننا لن نستمع (مع الأسف) إليها فيما بعدُ بخصوص هذا الأمر. وبدلًا من ذلك فهي تقول لنا إن المسرحية لا بد أن تُطلِعَنا على ما نريد أن نعرف، مستشهدةً بعُنوان المسرحية نفسها:
ذلكَ ما أَرْجُوهُ! والمثلُ يقولُ: الزَّمَنُ كَفِيلٌ أنْ يأتي بالصَّيْفِ،
فَتَنْمُو الأَوْرَاقُ بجانبِ أَشْوَاكِ الوَرْدِ البَرِّي،
ويَضُمُّ إلى وَخْزِ الأَشْوَاكِ جَمَالًا وعُذُوبَة! هَيَّا لا بد مِنَ الإسْرَاعْ!
فالعَرَبَةُ جَاهِزَةٌ عِنْدِي، والزَّمَنُ سَيَبْعَثُ فِينَا كُلَّ حَيَاة!
العِبْرَةُ بالخَاتِمَةِ المَنْشُودَةِ إنْ جَاءَتْ تَتْوِيجًا لِلْجُهْدِ السَّابِقْ
مَهْمَا يَكُنِ الدَّرْبُ عَسِيرًا فثناءُ النَّاسِ رَهِينٌ بنَجَاحٍ لَاحِقْ.
(٤ / ٤ / ٣٠–٣٦)
وخلطُ كلمات الأمثال السائرة بعضِها ببعض يجمع جمعًا جميلًا بين الحلاوة والمرارة، ويقصد به تبرير جَسارة هيلين، وهي في ذاتها وقاحةٌ لا نحتاج إلى التهوين من شأنها. ولكن خدعة الفراش أمرٌ مختلف بل يمكن أن يكون له مُبرره إذا أردتَ ممارسة هذه اللعبة، ولكنْ ألَا نعتبر الأمرَ بالِغَ الاختلاف إذا تظاهر أحدٌ بالموت حتى يصيب بالحزن الأمَّ المتبنَّاة، أي الكونتيسة، والملك، ولافيه؟ والواقع أن خطوات هيلينا هنا تُعتبر مقدمةً للدوق الذي يعتبر أكثرَ من مريب في دقة بدقة، عندما يخدع بقسوةٍ إيزابيلا وكلَّ من عداها فيما يتعلق بوفاة كلوديو. ولا يعني هذا أن هيلينا صادية، مثل الدوق، بل يعني أنها تنطلق بلا هوادةٍ في سعيها لتحقيق ما ترجوه لنفسها، بأن توقعَ في الفخِّ برترام الذي لا يؤكَل لحمُه! ولا بد أن يجد الجمهورُ أن هذا المسعى بعيدٌ كلَّ البعد عن الصحة، ويُبدي شيكسبير كلَّ علامة لازمة لإثبات وعيه الكامل بالتباس نظرتنا، لا إلى هيلين، بل إلى مُهمتها التي تؤديها بلا أدنى ندم.

وتحمي المسرحيةُ هيلينا من شكوكنا بتصويرِ ولَعِها الأحادي بأبعادٍ بطولية. هل يُناضل أيُّ شخص آخر عند شيكسبير، رجلًا كان أو امرأة، هذا النضالَ المتصل ثم ينجح هذا النجاحَ الباهر آخِرَ الأمر في التغلُّب على عقَبةٍ لتحقيق طموحه؟ لا يُنافس هيلينا إلا الأبطالُ الأشرار — ريتشارد الثالث، وياجو، وإدموند، ومكبث — وهم ينتهون جميعًا إما بالقتل وإما بالسقوط أخيرًا. ولكن هيلينا تنتصر، حتى وإن ساءنا اختيارُها للغنيمة. ومع ذلك فما أشدَّ تعقيدَ الكفاح الذي خاضَته! وإذا لجأنا لتلخيصِ ما فات قلنا إن لنا أن نرى أنَّ نضالها للظفَر ببرترام هو البناء الكلي للمسرحية، باستثناء حكاية بارول الأسطورية؛ إذ إن هزيمته وإرادته اللاحقةَ للبقاء يُشكِّلان صدى المحاكاة الساخرة لانتصار هيلينا وإرادتها الزواج. لقد تعلَّم فرويد نسبةً فاضحة من الأفكار التي نفترض أصالتها عنده من شيكسبير، وتقول إحدى هذه الأفكار إن تحقيق الذات، إن لم يكن تحقيق السعادة، يتوقف على تحقيق أعمق طموحاتنا عندما كنا أطفالًا. وهيلينا تنجح في تحقيق الاكتمال، ومن ثم نفترض أنها سوف تُمسي راضية. ومع ذلك فإن شيكسبير يُثير قلقنا من خلال الحوار الأخير بين الزوجة وزوجها:

هيلينا :
يا زوجي الأَكْرَمُ! حِينَ حَلَلْتُ مَحَلَّ العَذْرَاءِ الوَاقِفَةِ هُنَا،
أَلْفَيْتُكَ ذَا عَطْفٍ وحَنَانٍ بَالِغْ. هذَا خَاتَمُكَ أُعِيدُهْ.
وانْظُرْ ما جاءَ هُنَا بِخِطَابِكَ لي إذْ قُلْتَ:
«إنْ أَفْلَحْتِ وأَخْرَجْتِ الخَاتَمَ مِنْ هذِي اليَدِ،
وحَمَلْتِ بِوَلَدٍ مِنْ صُلْبِي» … ولَقَدْ أَفْلَحْتُ بِهذيْن الأَمْرَيْن،
هَلْ تُصْبِحُ زوجي الآنَ وقَدْ فُزْتُ وحَقَّقْتُ الشَّرْطَيْن؟
برترام :
إنْ أمْكَنَها يا مَوْلَايَ إحَاطَتِي بما كان وإِيضاحُ الأَمْر،
فَسَأُعْلِنُ حُبِّي الرَّاسِخَ والثَّابِتَ لِلزَّوْجَةِ أَبَدَ الدَّهْر!
هيلينا :
لو لَمْ يَتَّضِحِ الأَمْرُ وتَشْهَدْ خَيْرَ المِصْدَاقِ،
فَلْأَمُتِ اليَوْمَ بِحَقٍّ فيكونُ المَوْتُ طَلَاقِي!
(٥ / ٣ / ٣٠٣–٣١٢)

هذه المزدوجات الثلاثة الأخيرة من أبشعِ ما نجده عند شيكسبير، وتؤدِّي إلى تغريبٍ فكاهي عن الشخصيات. وأفظعُ صورةٍ من صور الجُرأة عند هيلينا يأتي في الكلمات التالية: «يا مولاي الأكرم! حين حلَلتُ محلَّ العذراء الواقفة هنا/ألفيتُك ذا عطفٍ وحنان بالغ»؛ فظلالُ معانيها يمَجُّها الذوقُ السليم ويأباها في هذا السياق، إلى الحد الذي يجعل شيئًا في داخل أرواحنا ينبذ هيلينا. أما عن برترام الذي لا يُطاق، فهو ينطق بالنغمة الصحيحة المعبِّرة عن التصنُّع المضحك. قائلًا: «فسأعلن حبي الراسخ والثابت أبدَ الدهر.» وإحدى الصفتين الأُولَيين زائدة! وأما المزدوج الختامي الذي يقوله الملك فهو، باستثناء الإبيلوج [أي الخاتمة] يُعبر عن بعض التحفُّظات التي تُنقذ شيكسبير وتنقذ الجمهور، قائلًا:

تَبْدو الأحْوَالُ بخيرٍ في أَعْيُنِنَا وإذَا جَاءَ المُسْتَقْبَلُ بِرِفَاءْ،
فَسَنطْوِي الكَدَرَ المُنْصَرِمَ وتَزْدَادُ حَلَاوَةُ كُلِّ صَفَاءْ!

 [التوكيد مضاف.]

(٥ / ٣ / ٣٢٧–٣٢٨)
وتخطو الأبيلوج خطوةً أخرى بعد ذلك؛ إذ تجعلنا نحن الممثلين، حتى يصبح تصفيقُنا احتفالًا ساخرًا بالمسرحية، وبالممثلين، وبالتحفظات الساخرة التي أبداها المؤلِّف. ويصحب انسحابَ شيكسبير من القرار الذي يظل منتميًا إلى هيلينا آخِرَ الأمر نغمةٌ هابطةٌ غريبة:
بَعْدَ انْتِهَاءِ العَرْضِ يُصْبِحُ المَلِيكُ مِسْكِينًا فَقِيرًا سَائِلًا!
فَهذِهِ نِهَايَةٌ سَعِيدَةٌ لِلْمَسْرَحِيَّة! إنْ لَمْ يكُنْ ذَاكَ العَنَاءُ بَاطِلًا،
أَرْجُوكُمو التَّعْبِيرَ عَنْ رِضَاكُمو عَنَّا وسَوْفَ نَدْفَعُ الثَّمَنْ؛
بِبَذْلِ جُهْدٍ لا يَنِي يَزْدَادُ إخْلَاصًا عَلَى مَرِّ الزَّمَنْ،
وسَوْفَ نُبْدي الصَّبْرَ نَحْنُ طَالِبينَ مِنْكُمو أنْ تَلْعَبُوا أَدْوَارَنَا،
فَصَفِّقُوا لَنَا بِهَذِهِ الأَيَادِي الرَّائِعَاتِ تَكْسِبُوا قُلُوبَنَا!
(الإبيلوج، ١–٦)
أي إن اللاعبين يُصبحون جمهورًا ولا بد أن يحصلوا على الرضا، إذا توافَر الرضا، منَّا وعلى الرغم من اختلاف الباحثين حول التسلسل الزمني للكوميديات المشكل الثلاث، فإن العبرة بالخاتمة في نظري تُعتبر الأفضل، بصفتها تُمثل المزج بين طرويلوس وكريسيدا وبين دقة بدقة. وهي لا تُعادل أيًّا من هذين العمَلَين العدميَّين العظيمَين، ومع ذلك فهي تنقلنا من خلال هيلينا وبارول، ما بين يوليسيز وثيرستيز وبين لوشيو وبرناردين؛ أي من فكرة النظام في طروادة إلى فكرة النظام في فيينا. إذ لا يوجد نظامٌ في فرنسا وإيطاليا اللتين نراهما في العبرة بالخاتمة. فإما تستطيع، مثل هيلينا، أن تقتحم كلَّ حاجز وتُحقق إرادتك، وإما تكتشف حقيقتك، مثل بارول، وتُحقق إرادةَ البقاء على الرغم من ذلك. هل يعتبر هذا الاختلاف عاملًا حاسمًا بحق؟ إن شيكسبير يمتنع، في هذه المسرحية التي تُعتبر أكثرَ الكوميديات المشكل الثلاث تحررًا وإن تكن أخفَّها وزنًا، عند تقديم إجابةٍ لا لبس فيها ولا غموض.
١  «الخَلَد» اسمٌ يوحي بالمخيلة (imagination)؛ فأنت تقول ما دارَ ذاك بخَلَدي؛ أي I could hardly imagine it وتشترك دلالته في جانبٍ كبير منها مع الخاطر أو الفكر، كقولك: «ما جال ذاك بخاطري قط»؛ أي I never thought/imagined it والقلب في النص المترجَم يشترك في بعض دلالاته مع fancy التي تفيد الوهم أو التخيُّل؛ كقولك fancy him doing that؛ أي هل تتصوَّر أنه فعل ذلك؟! والكلمة عند شيكسبير قد تعني «وهم الحب» لأن الشاعرَ ينسب الحب إلى طاقةٍ غير منطقية، والمعنى الحديثُ يُوازي بين fancy والهوى، فنحن نسمع أن فلانًا يهوى فلانة (He fancies her)، وهواية تربية الحمام هي (pigeon fancy) التي نسميها «غيَّة» بالعامية، والغاوي (fancier)، وبهذا تشترك الكلمتان imagination وfancy في الطابع النفسي وتختلفان في أن الأولى (المخيلة) أقربُ إلى الواقع من الثانية (الوهم/القلب). وحُجة المؤلف هنا تقول إنهما معًا يُفيدان الخداع والتقلُّب؛ فأما الخداع فغيرُ مقطوعٍ به؛ لأن المخيلة قد تَصدُق مثلما يصدق القلب، وأما إن كان يقصد التقلُّب فالقلبُ يتقلب على الرغم من المرء، وإن كان يمكن الركونُ إليه في حالة الشك الفكري (استفتِ قلبك). وللناقد كولريدج تعريفٌ مشهور لكلٍّ من اللفظتين؛ إذ يقسم المخيلة إلى طاقتَين: الطاقة الأولى يُسميها المخيلة الأولية (primary imagination)، ويعني بها الوعيَ بالوجود باعتبار الذهن دليلًا على وجود الله الباقي في جسد الإنسان الفاني، وهذا يختلف عن معنى الوعي بالوجود عند هايديجر الذي لا يستلزم الإحساسَ بوجود روحٍ هي نَفْثة الله في الإنسان، ويقول كولريدج إن الواهمة (fancy) هي الطاقة التي تستدعي صورَ الأشياء إلى الذهن أو إلى النفس بعد تحريرها من قيود الزمن والمكان؛ أي هي طاقة التخيُّل البسيطة، وأما الطاقة الثالثة فيُسميها المخيلة الثانوية؛ أي secondary imagination، وصفة الثانوي لا تعني الأقلَّ أهميةً بل تعني الثانيةَ وحسب؛ أي التي تعقب الواهمةَ (fancy)؛ فهي طاقةٌ فعالة تقوم بتحليل الصور المستدعاة وتفتيتها بغرَض إعادة خلقها، فهي المخيلة الخلاقة أو المبدعة والتي تعتبر مسئولةً عن تخيلات الشعراء (fantasies) والمجازات بأنواعها المختلفة. والخلاصة أن التداخل الكبير بين دلالات الكلمتين عند شيكسبير يُبيح للمترجم باعتباره مفسرًا أن يختار ما يراه أقربَ إلى المعنى المقصود . (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤