الفصل الثاني والعشرون

دقة بدقة

١

كُتِبت دقة بدقة في الفترة ما بين آخر الربيع وآخر الصيف عام ١٦٠٤م، ويمكن اعتبار هذه المسرحية العجيبة وداعَ شيكسبير للكوميديا، ما دمنا نُضطرُّ إلى أن نصفها وصفًا يبتعد عن الكوميديا؛ إذ درَجَت التقاليد على وصفها بأنها «مسرحية مشكل» أو «كوميديا سوداء»، مثل المسرحيتين اللتين سبَقَتاها مباشرة، وهما طرويلوس وكريسيدا والعبرة بالخاتمة، ولكن دقة بدقة تَزيد عنهما في البشاعة، ويبدو أنها طهَّرَت شيكسبير من أية مثاليةٍ من رواسبهما التي لم يُطهره ثيرستيز وبارول منها. وكنتُ قلت آنفًا إن ثيرستيز يُمثل المركز، والجوقة أيضًا، في طرويلوس وكريسيدا وإن بارول يَشغل مركز العبرة بالخاتمة. والشخصية الموازية لهما في دقة بدقة كان يمكن أن تكون لوشيو، لولا أنه ذو طبيعةٍ كريمة وعاقل إلى حدِّ الخشونة، ومن ثَم فهو لا يصلح رمزًا للعالم الفاسد في دقة بدقة. وأما الدور الرمزي حقًّا هنا فهو دور برنردين العجيب؛ فهو دائمًا سكران، وهو قاتلٌ ثبتَت عليه التهمة، ولا ينطق إلا بسبع جُمل أو ثمانٍ في مشهدٍ واحد فقط، ومع ذلك فيُمكننا أن نُسميه العبقرية الكوميدية الخاصة لهذه المسرحية ذات الإثارة الفذة حقًّا وصدقًا. والخبل — الصفة الصحيحة التي نصف بها المسرحية الاحتفالية الليلة الثانية عشرة — لا يكفي إذا حاولنا تحديد طابَعِ دقة بدقة، فهي مسرحيةٌ تتميز بمرارةٍ وحشية إلى الحد الذي يجعلها بلا نظير في هذا الصدد.
لكل شخص (أو أفترض أنه ينبغي أن تكون لكل شخص) مسرحياتٌ معيَّنة يُفضلها من بينِ مسرحيات شيكسبير، مهما يكن حبُّه الجارف لفولسطاف وهاملت ولير وكليوباترا. والمسرحيتان اللتان أفضِّلهما هما دقة بدقة ومكبث؛ فالبشاعة الشديدة للأولى والاقتصاد الذي لا يرحم في الثانية يملكان عليَّ لُبي أكثرَ من أي عمل من أعمال الفن الأدبي. فصورة فيينا التي يعيش فيها لوشيو وبرنردين، والجحيم الذي يعيش فيه مكبث، يُمثلان رؤيتَين لا تعلو عليهما رؤيةٌ للمرض البشري؛ فهو مرض الإرهاق الجنسي في دقة بدقة ورعب المخيلة من ذاتها في مكبث. وأما سبب عدم الإقبال الجماهيري على دقة بدقة، وإن لم تكن تُعاني من التجاهل، فيرجع إلى التباس «نغماتها»؛ بمعنى أننا لا نستطيع الثقةَ قط في الأسلوب الذي ينبغي أن نتقبَّل به المسرحيةَ، والمقطوعُ به أن المشهد الأخير المجنون يجعلنا حين نصل إليه غارقين في الدهشة. فإن إيزابيلا، البطلة ذات العفة السماوية، لا تتكلم إطلاقًا خلال السطور الأخيرة التي تبلغ نحو ٨٥ سطرًا، وهي التي تنتهي بعرض الزواج الذي يُفاجئنا من جانب الدوق لها، وهي فكرةٌ مخبولة مثل أي شيء آخر في المسرحية التي لا نُصدقها على الرغم من إقناعها لنا. إذ إن شيكسبير يجعل شطحاته المثيرة تتراكمُ إلى الحد الذي يحبس أنفاسَنا الخلقية ويُلقي بمخيلتنا في حيرةٍ تكاد توحي بأنها وضعَت حدًّا لفن الكوميديا نفسه؛ إذ إنه يدفع بها هنا إلى ما يتجاوز جميع الحدود الممكنة، فيتجاوز الهزلية، ويتجاوز الهجاء الساخر، بل ويكاد يتجاوز التورية الساخرة في أشدِّ صورها وحشية. وهذه الرؤية الكوميدية التي اتَّجه إليها شيكسبير (طلبًا للراحة؟) بعد أن نجح في تنقيح هاملت في ١٦٠١م، تختتم ذاتها بهذه الشطحة المرحة، وبعدها تعود التراجيديا من جديد في عطيل وما تلاها. وأظن، أنا على الأقل، أنَّ شيئًا من روح ياجو يُحلق فوق دقة بدقة، وهو ما يوحي بأن شيكسبير كان بدأ يعمل في عطيل. فنحن نُحس أن إدراك ياجو العاجز والمدمِّر للحياة الجنسية البشرية مناسبٌ لمدينة فيينا موقعِ دقة بدقة، ومدينة لوشيو، غريب الأطوار، والسيدة أوفردن [المتهرئة] القوادة، وبومبي بَمْ، القوَّاد الذي أصبح يعمل مساعدًا للجلاد أبهورسن، وقبل هذا وذاك مدينة برنردين المجرم المدان، الذي يتمتَّع بحِكمة السُّكْر الدائم؛ إذ إنه لو أفاق في هذه المسرحية المجنونة لأصبح أشدَّ جنونًا من أعظم المجانين.
ويعمد شيكسبير في دقة بدقة بصفةٍ خاصة، أكثرَ مما يعمد في أي عمل آخر له، إلى ما أجد نفسي مضطرًّا إلى أن أصفَه بأنه استلهامُ الكاتب ومراوغته، في آنٍ واحد، للعقيدة المسيحية والأخلاق المسيحية. والمراوغة بالقطع أشدُّ ارتباطًا بالحدَث من الاستلهام، بحيث لا أستطيع أن أرى كيف يمكن للمسرحية، نظرًا لإحالتها إلى المسيحية، أن تعتبر غيرَ مارقة. ويشمل ذلك في آخر المطاف عنوان المسرحية الذي يشير إلى موعظة الجبل في الكتاب المُقَدَّس: «فإنكم بالدينونة التي بها تدينون تُدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم»، وهي الآية التي تُرجِّع صدى «لا تَدينوا لئلا تُدانوا» [إنجيل متى، ٧: ٢ و٧: ١]. ولقد أوحى ذلك بتفسيرٍ مجنون مثل المسرحية ولكنه أقلُّ طرافة؛ إذ يُطالبنا بعضُ الباحثين من المولَعين بإضفاء المعاني المسيحية أن نعتقد بأن دقة بدقة مسرحيةٌ رمزية عن الكفارة الربانية، حيث يُمثل فيها الدوقُ المريبُ المسيحَ — عليه السلام — ويمثل لوشيو اللطيفُ إبليس، وإيزابيلا التي تُعاني من العصاب الشديد (والتي لا تستطيع التمييز بين الجماع من أيِّ نوع وبين غِشْيان المحارم) هي النفس البشرية التي كُتب عليها أن تتزوَّج الدوق، ومن ثَم تصبح عَروس المسيح — عليه السلام — وأما النقاد المسيحيون مثل الدكتور جونسون وكولريدج فهم عُقلاء، مثل هازليت، الذي لم يكن مؤمنًا بل ابنًا لكاهنٍ بروتستانتي مختلفٍ مع الكنيسة الأنجليكانية. والنظرة العاقلة إلى دقة بدقة تبدأ بإدراك هازليت أن المسرحية في حدود تصويرها لشيكسبير باعتبارِه داعيةً أخلاقيًّا، تُصور «الدعوة الأخلاقية بالمعنى الذي تُعتبر به الطبيعة داعيةً أخلاقية». فالطبيعة بهذا المعنى (على الأقل في هذه الدراما) تتبع فيما يبدو نُصح الدوق المريب لأنجيلو:
وطَبِيعتُنا لا تُقْرِضُنَا خَرْدَلَةً وَاحِدَةً ممَّا تَمْتَازُ النَّفْسُ بِهِ،
إلا كالرَّبَّاتِ المُقْتَصِدَةِ إذْ تَحْتَفِظُ بِحَقِّ الدَّائِنِ
في الفَخْرِ وفي الشُّكْرِ على القَرْضِ ونَوْلِ فَوَائِدِهِ.
(١ / ١ / ٣٦–٤٠)

إن فينشنتو، دوق فيينا، يبتعد في عطلةٍ عن الواقع، تاركًا «الدولة المدينة» التي يحكمها لنائبه في الحكم أنجيلو، قائلًا إن «الأخلاق والرحمة في فيينا» قد فُوِّض أمرهما إلى أنجلو، الضريح الذي يكتسي طِلاءً أبيض، ويعلن الفضيلة بقانونٍ يقضي بأن يُعاقب الجماع وإنجاب الأنغال بقطع الرأس، ويُطلق لوشيو ذو اللماحية صفة «مدام تخفيف» على السيدة أوفردن القوادة، ولكن تخفيف لذع الرغبة يُعتبر الآن جريمةً يُعاقَب عليها بالإعدام في فيينا. ويحكم على كلوديو بالإعدام، نتيجة «صيد الأسماك في نهرٍ معيَّن». وهو خاطبٌ لجوليت، وأتم المرحلة الأولى من الزواج من دونِ أن يُتمه، وهو يُعبر عن أخلاقيات الفطرة قائلًا:

وبِفطْرتِنا شَرٌّ يَدْفَعُها لِلْعَطَشِ المُهْلِكِ،
كالفِئْرَانِ إذَا ظَمِئَتْ مِنْ أَكْلِ السُّمِّ سَعَتْ للماءِ،
فإنْ شَرِبَتْ وشَرِبْنَا جاءَ الموتُ لَنَا ولَهَا.
(١ / ٢ / ١٢٠–١٢٢)

ونسمع في المسرحية عن وجودِ قانونٍ من قوانين فيينا يزعم شيكسبير وجوده، على استبعادِ ذلك في الواقع، ويقضي بإعدام كلِّ من يرتكب مضاجعةً غير مشروعة، ونسمع أن الدوق العجيب فنشنتو يتظاهر بمغادرة المدينة حتى يتسنَّى تطبيقُ هذا القانون المجنون على يدَي نائبه أنجيلو، وهو الذي لا تصمد استقامتُه الجنسية لأي فحصٍ عميق. ولا يكلف شيكسبير نفسَه بأن يُهيئ للدوق أية دوافع، والحقُّ أن أفعال فنشنتو العجيبة على امتداد المسرحية تجعله مبشرًا عدميًّا بياجو. ولا يوجد هنا عطيل حتى يقوم الدوق بإسقاطه، ولكنه يُدبر مؤامرات، فيما يبدو، ضدَّ جميع رعاياه، ولغايات ليست سياسيةً أو أخلاقية على الإطلاق. فهل هو، كما تتساءل آن بارتون تساؤلًا بارعًا، بديل لشيكسبير نفسه باعتباره كاتبًا مسرحيًّا كوميديًّا؟ لو كان الأمر كذلك فسوف تتجاوز الكوميديا البشاعةَ وتدخل حيِّزَ «المقالب» (الخاصة بإخوان ماركس المهرجين)، وأغراض شيكسبير ستُصبح أوضحَ قليلًا من أغراض الدوق. وهذه اللمحة المرحة تُنهي الكوميديا عند شيكسبير، رغم تصاعُدِ الضحكات الغريبة فيما يتبقَّى من المسرحية.

إن الرغبة الجنسية، التي تُعتبر كارثة في طرويلوس وكريسيدا، تصبح كوميديا بالغةَ التعاسة في دقة بدقة، ونُحس بأن جوًّا من اليأس الشديد يتغلغل في المسرحية، وليس من غير المعقول أن نفترض أن هذا اليأس كان ينتمي إلى شيكسبير، على المستوى الخياليِّ على الأقل. وقد أحسستُ أنا نفسي عند إعادة قراءة المسرحية أنني أستمع فيها إلى إنهاك «الخبرة» بمعنى أن الرغبة أُحْبطت، مثلما نقرأ في سِفر الجامعة، بالكتاب المُقَدَّس أن «جميع بنات الموسيقى [أي الألفاظ] قد انحطَّت» (١٢/٤). ولا نستطيع أن نعرف إذا كانت إيزابيلا، في نفورها من الرؤية العالمية لغِشْيان المحارم، تتحدث بلسان المسرحية، وإن كان هذا هو النتيجةَ المضمَرة التي توصَّل إليها مارك شِلْ (Shell) في كتابه The End of Kinship [نهاية القرابة] عام ١٩٨٨م، وهو أفضل دراسة في كتاب كامل لمسرحية دقة بدقة. إن فيينا التي يحكمها فنشنتو تتَّسم بعوارٍ شديد، ولكن الاقتراح الذي يقول إن «ذبول الحظر على غشيان المحارم» (كما يقول شِلْ) الذي يمكن أن يُعالج «أيَّ» فيينا — بما في ذلك فيينا التي تنتمي إلى فرويد — يعتبر علاجًا جذريًّا على ما فيه من جاذبية. ومع ذلك، فإن شيكسبير «جذري» إلى حدٍّ كبير في هذه المسرحية، وهي التي تكاد تُنافس هاملت في كونها «قصيدة غير محدودة»، تخترق الأشكال التقليدية للتمثيل.
رأينا أن شيكسبير في طرويلوس وكريسيدا يرفض الحياة الباطنة لشخصياته، ومن ثم فهو يسبح في عكسِ تيار فنِّه الناضج باعتباره كاتبًا مسرحيًّا. وأما في دقة بدقة فكل فردٍ هوة لا قرار لها من الحياة الباطنة، ولكن شيكسبير يحرص على أن يحرم كلَّ شخصية من الشفافية فيجعلنا نشعرُ بالإحباط لمنعنا من الدخول إلى وعي أية شخصية. ولذلك تأثيرٌ فريد يتمثَّل في تقديم مسرحيةٍ لنا من دون أية شخصيات ثانوية؛ إذ يبدو دور برنردين، على نحوٍ ما، دورًا كبيرًا مثل دور الدوق أو دور إيزابيلا. بل إن لوشيو، «غريب الأطوار» أكثر الواقفين على خشبة المسرح عقلًا (كما قال عنه نورثروب فراي) يواصلُ هجومه بقصدٍ لا نستطيع إدراكَه. وكان من عادتي أن أبثَّ البهجة في الأفلام الرديئة بأن أتخيَّل تأثير الإدراج التعسفي للمهرج جروشو ماركس في الحدث، وبالروح نفسِها (على الرغم من أن دقة بدقة تمتاز بالعظمة وانعدام الشفافية) كنت أتصوَّر إدراج السير جون فولسطاف في فيينا إبان حكم الدوق فنشنتو، وعندها يتولى حكيم إيست تشيب [فولسطاف] الذي يتمتع بذكاءٍ خِطابي جبار إلى جانب كونه ملكَ اللماحية، بتدمير الممثلين جميعًا بالتهكم عليهم، ومع ذلك فقد يُغادر المسرح حزينًا حائرًا بسبب عجزه وهو مَن هو عن رؤية مشروع الدوق في ضوءِ تفسير أبيقوري واقعي. ومن شأن ازدراء فولسطاف أن يمثل ردَّ فعلٍ مناسبًا للقصيدة التي تتصنع التقوى، وهي التي يلقيها الدوق ابتغاء تدبير خدعة الفراش التي سوف تمكن أنجيلو من «تنفيذ عهده القديم بالزواج» من ماريانا:
إذا امْتَشَقَ المَرْءُ يَوْمًا حُسَامَ السَّمَاءْ،
عَلَيْهِ بِتَقْوًى تُعَادِلُ قَسْوَتَهُ في القَضَاءْ،
وأنْ يَسْتَحيلَ إلَى مَثَلٍ نَاصِعٍ لِلْمَضَاءْ،
بِفَضْلٍ لَهُ في الثَّبَاتِ وعِنْدَ المَسِير سَوَاءْ!
(٣ / ٢ / ٢٥٤–٢٥٧)
إننا نشعر، مُحقِّين، أن شيكسبير لا يمكن أن يكون جادًّا، ومع ذلك فالدوق يصرُّ على تنفيذ التورية الساخرة في عُنوان المسرحية. ويقول كولريدج، أشدُّ عاشقٍ لشيكسبير، إن دقة بدقة وحدها من بين جميع مسرحياته كانت تؤلمه. ويعمد وولتر باتر، في مقاله الذي لا يزال بعد ما يَزيد على قرن، أفضلَ مقال كُتب عن المسرحية، إلى مقارنةٍ ماكرة بينها وبين هاملت:
إن هذه المسرحية، على عكس هاملت، لا تُعالج المشكلات التي تَحيق بفردٍ ذي طبعٍ فذ، ولكن تُعالج الطبيعة البشرية وحسب؛ فهي تُقدم إلينا حشدًا من الأشخاص الذين يتَّسمون بالجاذبية، والحافلين بالرغبة، والذين يعتبرون أوعيةً لِقُوى الطبيعة الكريمة الحاملة للبذور، فهم وجودٌ باهر مزهر في البلاط العريق وفي مدينة فيينا، في مشهد يُمثل الحياة العامرة المتباهية، بحيث يظهرون في نظر البعض وقد لمسوا حافةَ المجون. ووراء هذا الحشد من الناس ووراء شتى أفعالهم، يُحْيي شيكسبير فينا الإحساسَ بالسلطة الطاغية للطبيعة وللظروف. إذن ما الذي سوف يبقى على هذا الجانب، جانب المشاهدين، من هذه الشاشة المزركشة، بما فيها من دُمًى تشعر بالسرور أو بالأسف طول الوقت؟ ما فلسفةُ الحياة؟ وأيُّ نوع من العدل؟
«الطبيعة البشرية وحسب»، «قُوى الطبيعة الكريمة الحاملة للبذور»، «حافة المجون» «قوة طاغية للطبيعة»: إن الترنيمة الدقيقة التي يُقدمها باتر تُشير إلى ما سوف يؤدي إليه كونُ الناس «حافلين بالرغبة» في هذه المسرحية، أي إنه يمثل قوةً تُرغم النظام العام والأخلاق المسيحية على خيارات ما بين العدم والنفاق. وأما «فلسفة الحياة» على جانبنا، «جانب المشاهدين»، فهو الفيض الأبيقوري للأحاسيس، وأما «نوع العدل» فهو، كما يوحي مارك شِلْ، منطق الثأر، أو قانون العين بالعين؛ أي المعاملة بالمثل، أو قُل رأس كلوديو في مقابل عُذرية جوليت، وخدعة الفراش الذي يُدبرها فنشنتو في مقابل محاولة أنجيلو السطو على عفاف المحصنة إيزابيلا، وإرغام لوشيو على الزواج من العاهرة كيت كيبداون، في مقابلِ سخريات لوشيو من الدوق المتنكر في صورةِ كاهن. ربما كان على شيكسبير أن يُسمي المسرحية العين بالعين لكنه اختار ألا يتخلَّى عن تجديفه الخفيِّ بمحاكاة الموعظة على الجبل، وبأن يُخفي ذلك إخفاءً محدودًا وكافيًا للنجاة من الصورة المخيفة لقانون العين بالعين الذي يُطبقه نظام الحكم في زمنه، بعد أن قتل مارلو وكسر إرادة كيد، وهي أفعال همجية لنا أن نفترض أنها كانت لا تزال تَرينُ على قلب شيكسبير، حتى في أيامه القليلة الأخيرة في ستراتفورد قبل تقاعُدِه.
يعتبر الرواد الشيكسبيريون الذين بشَّروا بالعدمية الأوروبية في القرن التاسع عشر، أي بنبوءات نيتشه والوساوس القهرية عند دوستويفسكي، هاملت وياجو وإدموند ومكبث. ولكن دقة بدقة تتجاوز التراجيديات الأربع باعتبارها أبدعَ عملٍ عدمي. فإن ثيرستيز في طرويلوس وكريسيدا كان لا يزال يعتمد في سبابِه الماجن على غيابِ قيمٍ معيَّنة، وهي قيمٌ تُضمر إدانة البلاهة الأخلاقية لكل فردٍ آخَر في المسرحية، ولكننا لا نجد أية قيمٍ في فيينا في ظلِّ حكم فنشنتو، ما دامت كلُّ قيمة صريحة أو مُضمرة للأخلاق المدنية أو الدينية، إما منافقة وإما لا صلة لها بالواقع. لقد كانت ثورة شيكسبير الكوميدية على السُّلطة شاملة مُحْكَمةً إلى الحد الذي جعل جَسارة المسرحية نفسها أفضل درعٍ يحميها من الرقابة أو العقاب. ويقول شِلْ، في عبارةٍ متألقة، إن القانون المجنون ضد الجماع يُمثل النموذج الشيكسبيري لجميع القوانين المجتمعية، والأساس المتوهَّم للحضارة ومثالبها. وإذا كنتُ أجد في هذا تطرفًا، فإن هذه النظرة تُعبِّر أفضلَ من أقوال أيِّ ناقد آخر منذ وولتر باتر، عن الجموح ذي النهج الجوهري في دقة بدقة. فلا يوجد عمل آخر لشيكسبير يبتعد ابتعادًا أصيلًا عن التوفيق الغربي بين الأخلاق المسيحية ونظرية الأخلاق الكلاسيكية، ومع ذلك فإن الابتعاد عن الطبيعة يبدو لي أشدَّ وأكبر؛ إذ إن اليأس الروحي في الملك لير وفي مكبث، حسبما أفهمهما، يَزيد من ابتعادهما عن المسيحية عمَّا نراه في هاملت وعطيل، ويزيد من ابتعادهما أيضًا عن مذهب الشكِّ الطبيعي عند مونتاني، الذي ينعزل انعزالًا مُحكَمًا عن العدمية. وهكذا فإن دقة بدقة، العتبة التي نتخطاها لدخول عطيل والملك لير ومكبث، تتضمَّن انعدامَ ثقةٍ أعمقَ في الطبيعة والعقل والمجتمع والدين عما يتجلَّى في التراجيديات التالية. ففي كل عمقٍ من أعماق هذه الكوميديا ينفتح أمامنا عمقٌ أكبر، ومسلك يزداد هبوطه وخروجه بحيث يستحيل معه العودة. ولا بد أن يكون هذا هو السبب (كما سوف نرى) في عدم اكتراث المشهد الأخير بإقناع نفسه أو بإقناعنا بصحة القرارات والمصالحات التي يأتي بها الدوق ذو الموقفِ الملتبس.

٢

وأما من حيث الحبكة، فيُمكننا أن نقول إن كلوديو المسكين هو سبب المتاعب كلِّها، وذلك بأن اقترح على لوشيو «تجنيد» إيزابيلا لحضِّ أنجيلو على الرحمة:

ناشِدْهَا باسْمِي أنْ تَتَوَدَّدَ لِلنَّائِبِ،
وتُخَاطِبَ ذَاكَ المُتَزَمِّتَ بحديثِ أُنُوثَتِها.
فَعَلَى ذلِكَ أَعْقِدُ آمَالًا كُبْرَى،
إنَّ صِبَاهَا فيه خُضُوعٌ بالقَوْلِ،
وإيماءٌ بالصَّمْتِ يُثِيرُ مَشَاعِرَ كُلِّ رَجُلْ
وأَفَانينُ القَوْلِ المُحْكَمَةِ لَدَيْها تَقْدِرُ أنْ
تَتَلَاعَبَ بالمَنطِقِ والأَلْفَاظِ فتُقْنِعَ مَنْ يَسْمَعُها قَطْعًا.
(١ / ٢ / ١٧٠–١٧٦)
ليس كلوديو واعيًا كلَّ الوعي بالمعاني المضمَرة في كلامه، خصوصًا أن «الخضوع بالقول» لا يعني «المضاجَعة». ولكن ما معناه؟ ماذا نفهمه من مخاطَبة أنجيلو «بحديث أنوثتها»؟ والعبارات «تثير مشاعر» و«تتلاعب» عباراتٌ غامضة قطعًا، وألفاظ كلوديو تستبق التأثير الجنسيَّ القوي في الرجال من جانب إيزابيلا، في كل مرة تتكلَّم فيها تقريبًا. ورغبة أنجيلو الصادية الماسوكية في الراهبة المبتدئة ذاتُ طابَعٍ ملموس يفوق شهوة الدوق، ولكن الاختلاف بينهما اختلافٌ في الدرجة لا في النوع. وعندما نُقابل إيزابيلا أولَ مرة نسمعها وهي «تَنشُد قيودًا أكبرَ وأشدَّ على أخوات الرهبنة» اللاتي سوف تلتحق بهنَّ بعد قليل. ونحن نحس بشيء من قوتها الجنسية اللاواعية، وهي موحًى بها في رغبتها في انضباطٍ أشد، ويُبشر برفضها لما يعرضه أنجيلو عليها من مُقايضة رأس أخيها بعذريتها، دقة بدقة!
أيْ لوْ كانُوا حَكَمُوا بالإعْدَامِ عليَّ وجَلَدُوني،
لَحمَلْتُ علَى ظَهْري آثارَ الجَلْدِ اللَّاذِعَةَ كَيَاقُوتٍ أَحْمَرَ،
ولَكُنْتُ تَجرَّدْتُ مِنَ المَلْبَسِ لِنُزُولِ القَبْرِ تَجرُّدَ مَنْ
أَضْنَاهَا الشَّوْقُ إلى مَرْقَدِها قَبْلَ قَبُولِ
مَسَاسِ العَارِ بِجَسَدِي.
(٢ / ٤ / ١٠٠–١٠٤)
لو كان المركيز دي صاد يستطيع الكتابةَ بهذه الجودة لَتمكَّن من المنافسة مع إيزابيلا، ولكن أسلوبه كان في الواقع رديئًا، بيد أن نغمته الخاصة هي التي تستبقها إيزابيلا، حتى حين تَزيد من إثارة صادية أنجيلو (وصاديتنا، إذا اعترفنا بها). ومن أخصِّ غرائب شيكسبير المؤثرة أن إيزابيلا أكثر شخصية نسائية لديه تتمتع بالقدرة على الإثارة الجنسية، كما تفوق في قدرتها على الإغواء حتى كليوباترا، المغوية المحترفة. ويشهد لوشيو العجيب، أو «غريب الأطوار»، بأن براءتها ذات سُلطة مضادة، مما يُذكر الجمهور دائمًا أن تعبير «الراهبة المبتدئة» بالعامِّية التي يتكلَّمها الجمهور، يعني «عاهرة مبتدِئة»، وأن «الدير» في لغة العامة مُرادفٌ ﻟ «دار البِغاء». وفي ارتباطٍ عجيب نرى أن الدوق وأنجيلو يتعرَّضان لأعلى مراتب الشهوة بسبب توسُّلات إيزابيلا، فيشعر أنجيلو بما يشعر به أثناء مناشدتها إياه، ويشعر الدوق بما يشعر به أثناء مُتابعته، باعتباره كاهنًا زائفًا، مشهد الهيستيريا الجنسيَّة العالية النبرة أثناء الصدام بين كلوديو وإيزابيلا حول ثمن فضيلتها. ومن العسير أن نَبُتَّ فيمن هو أشدُّ إثارةً للنفور: أنجيلو أم الدوق فنشنتو، ولكن الذكور في الجمهور من المحتمل أن يُرْجِعوا صَدى ما يقوله أنجيلو: «تتحدث بكلام فيه من المنطق والإحساس الغامر ما/ينعش عندي الفكرَ ويوقظ إحساسي» ويُفسر إمبسون كلمةَ sense [التي تتكرَّر في كلام أنجيلو] بأنها تعني العقلانية والإحساس البدني معًا قائلًا: «إن المفارقة الحقيقية … أنَّ برودها، بل حتى عقلانيتها، هو الذي يُثيره.» قد يكون على حق، ولكن قداستها تُثيره إلى حدٍّ أكبر، وملاذُّ التدنيس تُمثل أعمقَ رغبة لديه. ماذا يمكن أن يُثير مَن يشعر بصادية ماسوكية مكبوتة أكثرَ من عَرْض إيزابيلا بأن ترشوه:
بالصَّلَواتِ الصَّادِقَةِ الصَّاعِدَةِ إلى المَلَأِ الأَعْلَى
قَبْلَ شُرُوقِ الشَّمْس: صَلَوَاتٌ مِنْ أَرْوَاحٍ مَكْنُونَاتٍ
لِعَذَارَى صَوَّامَاتٍ لا تَشْغَلَهُنَّ شُئُونُ الدُّنْيَا.

وتكريس جسد إيزابيلا للإشباع الزمنيِّ الكامل لشهوة أنجيلو يُمثل استجابته المحتومة:

لَمْ تُفْلِحْ عَاهِرَةٌ يَوْمًا مَا، بمُضَاعَفَةٍ مِنْ طَاقَةِ
فَنِّ الإغْوَاءِ وطَبْعِ الأُنْثى، في العَبَثِ بإحْسَاسِي.
لكنَّ هوَى هذي العَذْرَاءِ الفَاضِلَةِ غَدا يَقْهَرُني القَهْرَ الكَامِلْ!
(٢ / ٢ / ١٨٣–١٨٦)

ويشعر المرء أن سماء أنجيلو سوف تُصبح ديرًا للراهبات، حيث يقوم بوظيفة كاهن الاعتراف الذي يزور المكان (ويُعاقب الخاطئات) وأن المرء يسمع الرجلَ للمرة الأولى عندما يُعلن صراحةً (وبحميَّةٍ بالغة) إنذاره الأخير للراهبة المبتدئة التي تثير الحواس إلى حد الجنون:

… … إنِّي انْطَلَقْتُ بِذلِكَ المِضْمَارِ أَنْشُدُ
غَايَةً حِسِّيَّةً … ولَسَوْفَ أُرْخِي لِلْجَوادِ عِنَانَهُ،
فَتَهيَّئي لِقَبُولِ ما يَجْتَاحُنِي مِنْ شَهْوَةٍ مَحْمُومَةٍ،
ثُمَّ اطْرَحِي كُلَّ الدَّلَالِ وما نُضِيعُ الوَقْتَ فِيه مِنَ
التَّمَنُّعِ والخَفَرْ … فجميعُها يَدْعُو إلَى ما يَدَّعي نَبْذَهْ!
ولْتُسْلِمِي لإِرَادَتي جَسَدَكْ … كي تَفْتَدِي رُوحَ الشَّقِيقْ.
هذَا وإلَّا لَنْ يُوَاجِهَ حُكْمَ إعْدَامٍ وحَسْب.
فَإِذَا قَسَوْتِ عليَّ سَوْفَ أُذِيقُهُ طَعْمَ الرَّدَى مُتَمَهِّلًا،
وأَسُومُهُ سُوءَ العَذَابِ مُطَوَّلًا … رُدِّي عليَّ غدًا وإلَّا
قَسَمًا بِغَضْبَتِي التي سَادَتْ علَى كُلِّ المَشَاعِرِ سَوْفَ أُبْدي
لِلْغَرِيمِ أَشَدَّ قَسْوَة! يَا إِيزَابِيلْ: قُولي الذي في طَوْقِكْ،
كِذْبي سَيُرْجِحُ صِدْقَكْ!
(٢ / ٤ / ١٥٨–١٦٩)
هذا الردُّ البديع من جانب المكبوت يُشكل ميلودراما رائعة، خصوصًا حين يكون سياقُها المسرحي كوميديًّا، مهما تبلغ بشاعته. إن أنجيلو سيِّئ، ويحرص شيكسبير بسعادةٍ على ألا يتحسن، حتى نهاية المسرحية، ولا حاجةَ لنا في أن نشك أن أنجيلو الوالهَ المدنف، على الأقل في هذه المرحلة، على استعدادٍ لاستبدال تعذيب الأخ بافتراع الأخت. ومن شأن هذا أيضًا أن يكون دقة بدقة، وأن يُرضي الفضيلة (فضيلة أنجيلو) التي أضيرت! ونقول من جديد إن المركيز دي صاد العظيم لن يقدرَ على مُجاراة شيكسبير، لا في التصور النفسي ولا في فصاحة التنفيذ. كما أن المزج الذي يُجريه صاد بين السلطة السياسيَّة، والسيادة الروحية، والتعذيب الجنسي، يستبقه أنجيلو الذي لا يتَّسم اسمه [الذي يعني الملاك] بتوريةٍ ساخرة تَزيد عن التورية الساخرة للمنصب الذي يَشغله بالتفويض أو مهمته في القضاء التام على الفحشاء وإنجاب الأطفال سفاحًا.
وقد يكون أنجيلو وحده كافيًا للقيام بدور المعجب العجيبِ بإيزابيلا الفذة، ولكن شيكسبير يأبى إلا المبالغةَ ومن ثَمَّ يشمل أيضًا الدوق المتنكر، في المشهد المركزي للمسرحية (الفصل الثالث المشهد الأول) الذي تسوده فصاحةٌ غريبة تتردد أصداؤها بروعةٍ خارج السياق أكبرَ من روعتها داخله. ولقد صادفنا هذه الغرابةَ من قبل في الخطب المنمَّقة التي يُلقيها يوليسيز في طرويلوس وكريسيدا، ولكن ليس على نطاق ردِّ الدوق على قول كلوديو «فإن كنت أرجو العيش حقًّا فإنما/تهيَّأت للموت الذي بات قادمًا». وهاك النصيحة الروحية للكاهن المفترض، وهي ترنيمة من الأشجان الذي أثرَت تأثيرًا عميقًا في اثنين تتفاوت حساسيتهما تفاوتًا كبيرًا وهما الدكتور جونسون وت. س. إليوت:
كلوديو :
فإنْ كنتُ أرْجُو العَيْشَ حَقًّا فإنَّما
تَهيَّأَتُ لِلْمَوْتِ الذي بَاتَ قَادِمًا!
الدوق :
ثِقْ في قُدُومِ المَوْتِ حَتَّى يكْتَسي هُوَ والحَيَاةُ عُذُوبَةً أكْبَرْ!
خَاطِبْ إذَنْ تِلْكَ الحَيَاةَ وقُلْ لَهَا:
أنا إنْ فَقَدْتُكِ يا حياةُ فَقَدْتُ شيئًا لا يَوَدُّ بَقَاءَهُ
إلَّا ضِعَافُ العَقْل! ما أنْتِ إلا نَسْمَةٌ
تُبْدِي الخُضُوعَ لما تَعِجُّ بهِ السَّمَاءُ مِنَ القُوَى الجَبَّارَة،
تِلْكَ التي تَلْقى بمَسْكَنِكِ العَذَابَ بِكُلِّ سَاعَة! بَلْ لَسْتِ إلَّا
كَالمُهَرِّجِ في بَلَاطِ المَوْتِ يَسْعَى لِلْفِرَار مِنَ الرَّدَى!
ويَظُنُّ أنَّ فِرَارَهُ يُنْجِيهِ وهْوَ يَزِيدُهُ مِنْ مَوْقِعِ الموْتِ اقْتِرَابًا،
بَلْ لَيْسَ فيكِ يا حَيَاةُ نُبْلٌ أو شَرَفْ. فكلُّ ما قد
تَحْمِلِينَهُ مِنَ النِّعَمْ … مِنْ زِينَةِ الحَيَاةِ في الدُّنْيا
نمَا وَشَبَّ في مَهْدِ الوَضَاعَة: ولَيْسَ فيكِ مِنْ شَجَاعَة،
فإنَّما تَخْشَيْنَ ذلك اللِّسَانَ اللَّينَ المَشْقُوقَ عِنْد الحَيَّةِ المِسْكِينَة!
والراحةُ الفُضْلى لَدَيْكِ هي الرُّقَادْ … تُغْرِينَهُ حتى
يَجِيئَكِ مَرَّةً مِنْ بَعْدِ مَرَّة … لكنَّما تَخْشَينَ مَوْتَكِ خَشْيَةً
عُظمَى … وَهْوَ المُعَادِلُ للِرُّقَادِ. ولَسْتِ بالكِيَانِ
الوَاحِدِ المُتَّسِقِ: بَلْ أنْتِ آلَافٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الذَّرَّاتِ،
تَخْرُجُ مِنْ تُرَاب! ولَيْسَ فيكِ مِنْ هَنَاءْ
إذْ تُجْهِدينَ النَّفْسَ حتَّى تكْسِبِي ما لَيْسَ عِنْدَكْ،
لكنَّما تَنْسين ما لَدَيْك. ولَسْتِ في ثَبَاتٍ قَطْ!
بلْ أنْتِ قُلَّبٌ تُحَوِّلينَ مِنْ طِبَاعِكِ التي تَغْدو
غَرِيبَةً معَ اخْتِلَافِ أَوْجُهِ القَمَرْ. أمَّا غِنَاكِ فهو فَقْر،
مثلُ الحمارِ ظَهْرُهُ يَنُوءُ بالسَّبَائِكِ التي يَحْمِلُهَا،
فأنْتِ تَحْمِلِينَ أَثْقَلَ الكُنُوزِ طُولَ رِحْلَةٍ وحَسْب،
والمَوْتُ يُنْزِلُ الأَحْمَالَ عَنْ كاهِلِك. وأَنْتِ لا صَدِيقَ لَكْ!
فإنَّما الأبْنَاءُ — مَنْ يَدْعُونَكِ الأبَ الذي أَنْجَبَهُمْ —
وأصلُ كُلِّ نُطْفَةٍ نَقِيَّةٍ مِنْ صُلْبِكْ —
لَيَلْعَنُونَ كُلَّ أَمْرَاضٍ تَأَخَّرَتْ في جَلْبِ مَوْتِكْ؛
مِنْ نِقْرِسٍ وأَمْرَاضِ الحُكَاكِ والزُّكَامْ.
وأنْتِ لا شَبَابَ تمْلكِينَ أوْ شَيْخُوخَة … بلْ قُلْ هُما
يُراوِدَانِ ذِهْنَ حَالمٍ في غَفْوَةٍ بَعْدَ الغَدَاءْ؛
ففي شَبَابِنَا الجَميلِ فقْرٌ يَجْعَلُ الإنْسَانَ كَهْلًا يَقْصِدُ
الكبارَ المُقْعَدِينَ طَالِبًا لِلصَّدَقَة. وعِنْدَمَا يَصِيرُ شَيْخًا
ذَا ثَرَاءٍ إذْ بهِ فَقَدَ الحَمِيَّةَ والرَّشَاقَةَ والجَمَالَ،
ووَقْدَةَ الإحْسَاسْ. ولَمْ يَعُدْ مِنْ ثَمَّ يَسْتَطِيعُ الاسْتِمْتَاعَ بالثَّرَاءْ.
ماذَا إِذَنْ يَبْقَى هُنَا ويَسْتَحِقُّ اسْمَ الحَيَاة؟ لكنَّما يَخْفَى
عَلَيْنَا ألْفُ مَوْتٍ كامِنٍ في هذِهِ الحَيَاة … وَرغْمَ ذَاكَ
نَخْشَى المَوْت … وهو الذي يُسَوِّي بَيْنَ كُلِّ شيء.
(٣ / ١ / ٤–٤١)

وقد تركَّز اهتمامُ جونسون وإليوت معًا على أشد موسيقى معرفيةٍ استيلاءً على اللُّب في هذا الخطاب العظيم (وإن يكن يتسم بالخواء العظيم أيضًا في سياقه):

وأَنْتِ لا شَبَابَ تَمْلِكِينَ أوْ شَيْخُوخَة …
بَلْ قُلْ هُمَا يُرَاوِدَانِ ذِهْنَ حَالمٍ
في غَفْوَةٍ بَعْدَ الغَدَاءْ.
ويُعلق جونسون قائلًا:

الصورة بارعة التخيل. فنحن نشغل أنفسنا في شبابنا بوضع مشروعات لِقابلِ الزمن، وتضيع علينا مصادرُ الإشباع التي بين أيدينا، وعندما نتقدم في السن، ونُمسي أسرى خمول العمر، نتسرى عنه بتذكار مَسرَّات شباب أو ما أنجزناه في شرخ الشباب، وهكذا فإن حياتنا التي لا تَشغل أيَّ جانب منها شئونُ الحاضر، تُشبه أحلامنا بعد الغداء، عندما تختلط مشاغلُ الصباح بمشروعات المساء.

كانت كلمة dinner تعني عند شيكسبير وجونسون الغداء (lunch) [وقد تعني اليوم لدينا الغداء أو العشاء إن كان أيُّهما الوجبة الرئيسية] ولم يُعبر جونسون تعبيرًا أقوى من هذا عن الحياة التي لا يحياها الإنسان.
والخطاب الذي ألقاه «الدوق–الكاهن» يتضمَّن من التجديف في الدين ما ينفي قدرته على تقديم السُّلوان المسيحي. وجَرْس ألفاظه شديد التأثير، وبأعلى درجة، ويَدين بهالته العامة لمونولوجات هاملت، ولكن الخواء في قلب حياتنا الذي يُعذِّب هاملت يبدو هنا في صورة شيءٍ حسن للدوق الكاهن. فإذا كان جادًّا فإنه نصفُ مخبول، وهو أمر نُرجح صحته. ويُلخص نورثروب فراي هذا الخطاب قائلًا إنه ينصح كلوديو بأن يموت بأسرعِ ما يتسنى له، لأنه إن ظلَّ في قيد الحياة فربما أصيب بعدة أمراض فظيعة. ومع ذلك فنحن لا نستطيع تجاهل خُطبة الدوق؛ لأنها تنطلق بجلال يُعْلي من عدميتها، وبجرسٍ رنان خالد. وموقف الخطاب أبيقوري، ويوحي بالحجة التي يقيمها لوكريشيوس ضدَّ الموت، إلى جانب قطرة من الرواقية عند سنيكا التي أُضيفت لإكساب المزيج طعمًا خاصًّا. وعلى الرغم من غياب التآلف الموسيقي في رنين الخطاب الذي يوحي بانعدام صلته بالقضية، فإن فصاحة الدوق تُلهم كلوديو مؤقتًا بأن يجيبه إجابة ملتبسة المعنى وتُناسب الموقف، فهي مثل خطاب الدوق لا تقول ما تعني، ولا تعني ما تقول:
كلوديو :
… إنِّي أَشْكُرُكَ بِكُلِّ تَوَاضُعْ.
في نُشْدَاني لِلْعَيْشِ أرَانِي أَسْعَى لِلْمَوْت،
وبِنُشْدَانِ المَوْتِ أرَاني أَجِدُ العَيْش. وإذَنْ فَلْيَأْتِ المَوْت.
(٣ / ١ / ٤١–٤٣)

لا نستطيع إدراكَ معنًى مباشر لا من كلام الدوق ولا من نصيحته الروحية؛ لأن شيكسبير يرفض ذلك. إن فنشنتو ينطبق عليه وصفُ لوشيو له بأنه «دوق الزوايا المظلمة»، فهو مُدمنٌ للتنكُّر، وتقديم الإغراءات الزائفة الصادية، ووضع خُطط خداعة لا رجاء فيها. وما دام لوشيو هو الشخصَ العقلاني الوحيد الذي يمكن التعاطف معه في هذه الكوميديا العبثية (باستثناء برنردين العظيم) فمِن المأمون أن نفترض أن هجماته اللفظية التي لا تتوقف على الدوق تتحدَّث بلساننا، نحن الجمهور، وبلسانِ شيكسبير، إن كان في المسرحية شخصٌ باستثناء برنردين يستطيع تمثيلَ الاقتصاد العاطفي للكاتب وسطَ هذه الحماقة. فلنفترض أن لوشيو على صوابٍ دائمًا، كما قال العديد من النقَّاد قبلي، وكما أفاض في ذلك مارك شِلْ. وهكذا يكتب اشتهاء الدوق لإيزابيلا أبعادَه الصحيحة، فما كان عند أنجيلو «عودة المكبوت» يصبح عند فنشنتو فرارًا مُستميتًا من الانحلال، من الإرهاق الجنسي الذي يُشارك فيه مشاركة كبيرة مع مدينته التي تغصُّ بالقوَّادين والعاهرات. وبذلك يُصبح هروبه مما تعجُّ به المدينة من فسادٍ جنسي، هروبًا من نفسه، وأما علاجه الشافي فيتمثل في نظره في براءة إيزابيلا المغوية، والتي ربما يكون من الممكن أن تسير في عكس ذلك الطريق، أو قُل إن هذا ما يتمنَّاه. ويقول شِلْ محقًّا إن لوشيو يُصور المراميَ السيئة للدوق، وأعتقد أننا يمكن أن نَزيد على ذلك فنقول إنه لا يوجد عند شيكسبير شخص ذو دوافع غريبة (أو بلا دوافع) مثل فنشنتو، وسوف يختفي عددٌ كبير من خصائصه الغامضة، إن لم نقُل معظمها، إذا أصغَيْنا إلى لوشيو باعتباره يقول الحق ولا يفتري على الدوق الكذب. ولوشيو يُصر على عدم مفارقة الدوق (المتنكر) قائلًا: «كلا أيها الراهب! إنني مثل البذور الشائكة، ألتصقُ بمن يصادفني». إنهما اثنان من غريبي الأطوار، وكلٌّ منهما يرى نفسَه في الآخر، فإذا بالشهم عاشقِ الضوء يُصادف «الشهم» عاشق «الزوايا المظلمة». ومن ذا الذي يعرف خيرًا من لوشيو فيينا التي تعيش فيها السيدة أوفردنْ، والآنسة كيت كيبداون، وبومبي بَمْ؟ هل نُصدق لوشيو الذي يقول للدوق [المتنكر في لباس الراهب] «أنت لا تعرف الدوق خيرًا مني. إنه أكثرُ صيدًا للنساء مما تتصور» أو نصدق الدوق فنشنتو في دفاعه المبالَغ فيه:

الدوق  [وحده على المسرح] :
يا أيُّها العظيمُ يا ذا المَنْصِبِ الرَّفِيعْ! إنَّ المَلَايينَ التي
تَعلَّقَتْ عُيُونُها بشَخْصِكُمْ لا تُضْمِرُ الحُبَّ لَكُمْ
وأَطْنَانُ الأَقَاوِيلِ التي تُهَاجِمُ الذي تَفْعَلُهُ،
قامَتْ علَى الدَّعَاوَى البَاطِلَة … كما يَشُوبُها التَّنَاقُضُ الشَّدِيدْ!
وآلافُ الفُكَاهَاتِ التي تَفِرُّ فَجْأَةً مِنَ الشِّفَاهْ
تَزْعُمُ غَرْسَكَ الأَوْهَامَ مثلَ بَاطِلِ الأَحْلَامِ في صُدُوِرهمْ،
وفي خَيَالِهمْ يُشَوِّهُونَ صُورَتَكْ.
(٤ / ١ / ٥٩–٦٥)

إنه نعى جميع مشاهير المحدثين، في السياسة وفي المسرح، في حقبة التغطية الصحفية المباشرة. ويعتبر لوشيو الغريب الأطوار صحفيًّا في فيينا التي يحكمها فنشنتو، وأكاذيبه تفصح عن بعض الحقائق الجارحة. من ذا الذي يمكن أن يُصدِّق قول الدوق للراهب الحقيقي توماس: «لن يقبل عقلك أن ينجح سهم الحب الخائر في/أن يخترق الصدر الصامد بدروعه»، أو قوله: «مثل الأسد الكهل إذا لزم الكهف/ولم يخرج للصيد». إن فنشنتو هو نفسه فيينا التي يحكمها، وهو المرض الذي يزعم تصديه لعلاجه. وأنا أستعيرُ هذه الصيغة البديعة من كارل كراوس الذي لم يرضَ فرويد قوله اللاذع إن التحليل النفسي هو المرض الذي حاول تخفيف آثاره. وتعتبر فيينا التي يرسمها شيكسبير فكاهةً سبقَت فرويد ضده، وهو انتقام شيكسبير من التأييد الشديد الذي سوف يُبديه فرويد للحجَّة الطريفة التي تقول إن «ابن مدينة ستراتفورد» المتواضع المولد قد سرق كلَّ مسرحياته من لورد أوكسفورد المهيب. وفنشنتو يُعتبر النمط الذي يُمثل جميع أتباع فرويد من الهراطقة الذين تمرَّدوا على رئيسهم وأغوَوا الإناث من مَرْضاهم بزعم النقاء العلمي لما يقول به التحليل النفسي من النقل [أي نقل بعض الخصائص النفسية من شخصٍ إلى شخص، وللطبيب خصوصًا]. ومن شأن ذلك أن يجعل إيزابيلا نمطًا لجميع ربات التحليل النفسي الموهوبات الجميلات، المصابات بالهستيريا والاضطرابات النفسية، والباعثات على الاضطراب النفسي في غيرهن؛ أي نساء فيينا اللاتي كان فرويد وتلاميذه يُعْلون من شأنهن ويستغلونهن. ومعاملة فنشنتو لإيزابيلا — ما بين إقناعها بالمساعدة في تدبير خدعة الفراش، وبين خداعها فيما يتعلَّق بإعدام كلوديو — تعتبر إلى حدٍّ بعيد تلاعبًا في النقل، وهو حالةٌ نفسية ترمي إلى تهيئتها للوقوع في غرام أبيها الروحي، الراهب الزائف، والدوق اللعوب.

ويُعيدنا هذا إلى خطبة الدوق التي يستهلُّها بعبارة «ثق في قدوم الموت»؛ فهي تُمثل مرحلة مبكرة من حمَلة الدوق لإغراء إيزابيلا، والتي تعتمد أولًا على إثارة الرعب في قلب أخيها بحيث يَدفع أخته «الربانية» إلى الوقوع في حالةِ غضبٍ هيستيري وهياج شديد، ردًّا على ما يقوله شقيقُها التعس. فنحن نرى فنشنتو هنا من جديدٍ باعتباره مقدمةً لظهور ياجو، وإن لم يكن يتمتَّع بالوضوح القاطع مثل ياجو. والنغمة الباطنة لخطبة «ثِق في قدوم الموت» يلتقطها إليوت حين يستخدم كلمات الدوق «وأنتِ لا شباب تملكين أو شيخوخة …/بل قُل هما يُراودان ذهن حالم/في غفوةٍ بعد الغداء» مقدمة لقصيدته جيرونتيون، وهي ترنيمة إلى الجفاف الذي يُصيب «الميت الحي»، فهي أنشودةٌ قائمة على السلبيات. فالدوق يتكلم بلسان الدوق، باعتباره مختزلًا وحشيًّا للحياة يُفرغها من كل قيمة؛ إذ يرى أن كلَّ واحد منا يتنفَّس أنفاس العبد سواءٌ كان أحمقَ أم ضحية، فهو منحط، وجبان، وناعس، ومجموعة من الذرات التي تلاقت ما بين الماضي والمستقبل في حاضر وهمي، مسكين، مخبول، بلا أصدقاء وخاضع لألف ميتة صغيرة. نحن ضروب قلقِنا لا أكثر ولا أقل، ومن ثَم فيَجمُل بنا أن نغادرها بما فيها. هذا هو خاطب إيزابيلا، ولا عجب إذن في أننا لا نعرف أبدًا إذا كانت سوف تقبل الزواج من الدوق أم لا، فجنونها يَزيد عن جميع مجانين فيينا. لكنَّنا نعرف لماذا يريدها، فإنه يُمثل فراغًا حسيًّا هائلًا إلى الحدِّ الذي قد يستطيع عفافُها النابض أن يدفعه، على الأقل، إلى اكتساب بعض الحَمية النابضة الخاصة به.

ويسترقُ السمعَ فنشنتيو معنا إلى الحوار العجيب بين الشقيق وشقيقته، وهو الذي يعتبر أبشعَ تحية من شيكسبير لمسرات الأخوة. فعندما تسأل إيزابيلا أخاها «أتراك تجرؤ أن تُلاقي الموت؟» يُقدم كلوديو إجابةً باهرة في الظاهر قائلًا:

إنْ لمْ يكُنْ مِنَ الهَلَاكِ
بُدٌّ سَوْفَ ألْقَى ذلكَ الظلامَ مثلما ألْقَى عَرُوسًا
لي بأحْضَاني!
(٣ / ١ / ٨٢–٨٤)

لو كانت هذه الكلمات قد قالها أنطونيو أو كوريولانوس، لاحتفينا بها أيَّ احتفاء، أما في سياق المسرحية فتتلقى الردَّ المناسب عليها من إيزابيلا التي تمتدحُ الموت:

إيزابيلا :
هذا أخِي تكلَّمْ! وذاكَ قَبْرُ وَالِدِي وقَدْ نَطَقْ!
نَعَمْ! لا بُدَّ مِنْ مَوْتِكْ!
(٣ / ١ / ٨٥–٨٦)
لو كان لهاملت أختٌ لقالت هذا الكلام؛ فما إيزابيلا إلا صوت الوالد الميت، يَغْتدي بالأحياء، وكلوديو، حتى في أبلغ أقواله، يستجدي أن يعيش، حتى على حساب فضيلةِ أخته، وهو الخطاب الذي تذكره ميلتون (ربما من دون تعمد) عندما جعل أحدُ الشياطين، وهو بليعال الداهية، يُشير باتخاذِ موقفٍ سلبي في المناظرة التي جرَت في الجحيم في الفردوس المفقود:
كلوديو :
حَقًّا لكنَّ المَوْتَ ذَهَابٌ لِدِيَارٍ لا نَعْرِفُ أيَّانَ تكُونْ،
ورُقَادٌ في سِجْنٍ بارِدْ … وعَفَنْ!
إذ تَخْمُدُ حَرَكَةُ هذا الجِسْمِ الحَسَّاسِ الدَّافِئِ،
ويَبِيتُ كمُضْغَةِ طِينْ! والرُّوحُ المَرِحُ الوَثَّابُ بِنَا،
يَغْتَسِلُ بأنْهَارٍ مِنْ نَارٍ أو يَسْكُنُ في أصْقَاعٍ
مُؤْلَمَةٍ مِنْ ثَلْجٍ وجَلِيدٍ صُلْبِ الأَضْلَاعْ،
أوْ يُحْبَسُ في هَبَّاتِ ريَاحٍ لا نُبْصِرُهَا،
تَتَقَاذَفُهُ في عُنْفٍ لا يَهْدَأُ حَوْلَ الكُرَةِ الأَرْضِيَّةِ،
وهي مُعَلَّقَةٌ وَسْطَ فَضَاءِ الكَوْن! أوْ أَسْوَأُ مِنْ
أَسْوَأِ مَا يَتَخَيَّلُهُ الفِكْرُ المَارِقُ والحَائِرُ مِنْ
أصْوَات عُوَاءْ! رُعْبٌ يَتَجَاوَزُ كُلَّ حُدُودْ.
بلْ إنَّ أشَدَّ الصُّوَرِ التَّاعِسَةِ وأَبْغَضَها لحَيَاةِ الأَرْضِ
— مِمَّا يُمْكِنُ أنْ تَلْقَاهُ الفِطْرَةُ مِنْ وَهَنِ الشَّيْخُوخَةِ،
والأَوْجَاعِ البَدَنِيَّةِ والفَاقَةِ والسِّجْن —
فِرْدَوْسٌ إنْ قُورِنَ بمَخَاوِفِنَا مِنْ هذَا المَوْت.
(٣ / ١ / ١١٧–١٣١)

وهذه نشوةُ رعبٍ كالتي يُصورها لوكريشيوس، وهي تتجاوز الصادية عند إيزابيلا، حتى تُقدم إجابةً في المقام الأول لخطبة الدوق التي يستهلُّها بعبارة «ثق في قدوم الموت»، كأنما كان كلوديو يحتاج إلى وقتٍ يستوعب فيه النصيحة، وأما إيزابيلا فلا تحتاج إلى وقتٍ على الإطلاق حتى ترد عليه بكلِّ قوتها المكبوتة:

إيزابيلا :
يا أيُّها الحَيَوانْ! يا خائِنًا يا خَائِرَ العَزْمِ! يا أيُّها التَّعِيسُ
مَسْلُوبَ الشَّرَفْ! أَتُرِيدُ أنْ يَأْتِيكَ وِزْرِي بالحَيَاةِ
مِنْ جَدِيدْ؟ أوَلَيْسَ مِنْ بَابِ اسْتِبَاحَتِكَ المَحَارِمَ أنْ تَنَالَ
اليَوْمَ عُمْرًا ثَانِيًا مِنْ عَارِ أُخْتِكْ؟ ماذا عَسَاي أَقُولْ؟ لا قَدَّرَ
اللهُ الكريمُ بأنْ تكونَ ابْنًا لأُمِّي مِنْ أبي! فَأَنْتَ
فَرْعٌ شَائِهٌ مِنْ نَبْتَةٍ بَرِّيةٍ مِنَ المُحَالِ أنْ
تكونَ مِنْ صُلْبِهْ! اقْبَلْ أمَارَاتِ احْتِقَارِي لَكْ!
اقْبَلْ هَلَاكَكَ والفَنَاءْ! حَتَّى ولَوْ كَانَ انْحِنَائِي فِيه إنْقَاذٌ
لَكَ مِنْ مَصِيرِكْ … فَلَسَوْفَ يَأْتِيكَ المَصِيرْ. ولَسَوْفَ أدْعُو
الله في الصَّلَاةِ أَلْفَ مَرَّةٍ بأنْ تَمُوتْ! ولَا دُعَاءً وَاحِدًا
لَكَ بالنَّجَاة!
(٣ / ١ / ١٣٥–١٤٦)
فإذا نحَّينا جانبًا تفضيلَ إيزابيلا الواضحَ لوالدها على والدتها، وإذا تغاضَيْنا بصرامةٍ عن سَخافتها الواضحة، فيمكن أن نَحكُم بأن هذا الانفجار العجيب من جانبِها يُعتَبر المركزَ الحقيقي للمسرحية (وهو حكم مارك شِلْ). ومع ذلك فليست هذه بالهيستيريا التي تبدو عليها، فكما ذكرتُ من قبل، تَتصوَّر إيزابيلا أن كل جِماع «نوعٌ من غشيان المحارم»، ورغبتها بأن تكون عروسًا للمسيح — عليه السلام — مشهودٌ لها قطعًا بالصدق. تُرى هل تتكلَّم باسمها فقط، أم أن هذا هو الصوت الحقيقي للمعرفة والشعور في دقة بدقة؟ ففي فيينا، في عهد فنشنتيو وعهد فرويد، ينحصر الواقع في الجنس والموت، وإن كانت مدينة فنشنتيو أقرب للمعادَلة التي تقول: الجنس يساوي غشيان المحارم يساوي الموت. وهذه المعادَلة هي الفكرة الوحيدة عن النظام في دقة بدقة، كما كانت أيضًا فكرة النظام الاختزالية عند هاملت حتى تَغيَّر وظهر في إطار اللامبالاة في الفصل الخامس. وأما في دقة بدقة فلا نحظى بشيء يشبه الوعي الفكري لهاملت. بل نحن في منتصف المسافة ما بين هاملت وياجو. ولا يتمتع فنشنتيو بالذِّهن المتعالي مثل هاملت ولا بالإرادة الشيطانية عند ياجو، ومع ذلك فَباطِنه يَغلي بالإنهاك الجنسي مثل هاملت، والهمة التي يتمتع بها ياجو للتلاعب بالآخَرين، حتى ينسج شباكه الخاصة. وهاملت يؤلِّف مسرحية عنوانها «مصيدة الفأر» وياجو يؤلف «مصيدة عطيل»، وفنشنتيو الذي يريد أن يكون مؤلِّفًا للمسرحيات الكوميدية، يؤلِّف زيجات مدبرة: كلوديو وجوليت، وأنجيلو وماريانا، ولوشيو وكيت كيبداون، وفنشنتيو وإيزابيلا. ويستخدم شيكسبير فنشنتيو باعتباره أعظم مؤلِّف للمسرحيات الكوميدية الفاسدة؛ إذ يأتي بالنظام إلى فيينا التي تستطيع أن تتحمل النظام.

ولكن هل فيينا الدوق إلا لندن شيكسبير، أو مدينة نيويورك، أو أية فوضى حيوية أخرى للإنسان؟

٣

ويُعْتَبر برنردين روح تلك الفوضى، ويستحق الوصف بأنه المركز التَّخيُّلي «والمجد الأعظم» لدقة بدقة، والحجة التي يقدمها كلوديو في الفصل الأول تقول إن كل ما ينقصهما هو وجوليت هو «النظام الخارجي»، ولولا غيابه لكانَا بالحق زوجًا وزوجة. وأما أنجيلو فهو يسمح عابسًا «للخاطئة» بأن تتلقى ما يكفي «تدبير حوائجها/من دون مَظاهر سرف» ثم يضيف قائلًا: «وسأصدر أمرًا في هذا الشأن.» كما يتلاعب الدوق أيضًا بكلمة order [التي تُرْجِمَت هنا بالنظام وبالأمر]، مثلما يفعل عندما يأمر بتنفيذ الإعدام في برنردين:
أقسم بالعهد الخاص بطائفتي الدينية (order) لأكفلنَّ سلامتك إذا التزمتَ بتعليماتي: نَفِّذ الإعدام في برنردين المذكور هذا الصباح وأرسل رأسه إلى أنجيلو.
 [وهو يستخدم order بعد ذلك بمعنى «مذهب» أحد القِدِّيسِين أيضًا]. ويرفض برنردين، متعاظمًا، أن يتعاوَن، صائحًا: «أقسم أنِّي لن أموت اليوم، ولن يقنعني أحد بخلاف ذلك». وفكرة النظام في فيينا في ظل فنشنتيو تُعْتَبر في نهاية الأمر فكرة للموت، فبرنردين الذي يرفض النظام كله يرفض أن يموت، وشيكسبير يؤيد برنردين، عندما يجعل الدوق أخيرًا يعفو عن هذا القاتل المعترف بذنبه. ولكن من برنردين ولماذا يوجد في الدراما الشيكسبيرية البالغة الغرابة؟ إنه يقدمه إلينا من طريق إشارة ذات تورية ساخرة إلى سفر الجامعة: «نوم العامل هنيء سواء أكثر من الطعام أو قل» (٥: ١٢) [كتاب الحياة، ١٩٨٨م، ٢٠٠٣م، القاهرة]. وعندما يقدم الضابط الإذن بتنفيذ الإعدام إلى كلوديو، يسأله أين برنردين، فيجيبه كلوديو قائلًا:
حَبِيسُ دارِ نُعَاسٍ لا يُفَارِقُها
نَوْمَ البَراءَةِ بَعْدَ الجُهْدِ في العَمَلِ.
عِظَامُهُ أخْشُبٌ باتَ الرُّقادُ بهَا
مِثْلَ المُسَافِرِ مَهْدُودًا مِنَ الكَلَلِ.
ولَنْ يُفِيقَ هُنا.
(٤ / ٢ / ٦٤–٦٦)
وكلمة «المسافر» traveller تختلط بكلمة travailer أي العامل أو الفقير الذي ينام نومًا هنيئًا، وبرنردين مُذنِب، وسكران، ولكن «الخير» الذي ينتوي الضابط أن يقدمه إليه («مَن يمكنه أن يصنع خيرًا معه؟») لا يزيد عن قطع رأسه عصرًا، وفق فكرة النظام في فيينا. ونحن نسمع الكثير عن برنردين قبل أن نسمعه أولًا آخر الأمر ثم نراه.
الدوق : وما بَرْنَرْدِينْ هذا الذي تقرر إعدامه عصرًا؟
الضابط : وُلِدَ في بوهيميا، لكنه نشأ وترعرع هنا، وهو في السجن منذ تسع سنوات.
الدوق : لماذا لم يأمر الدوق الغائب بإطلاق سراحه أو إعدامه؟ كان ذلك دأبه دائمًا فيما سمعت.
الضابط : لم يَتوقَّف أصدقاؤه عن تأجيل تنفيذ الحكم فيه، والواقع أن جريمته لم تَثبُت بالبرهان القاطع حتى اليوم، في حكومة اللورد أنجيلو.
الدوق : وهل تَأكَّدت الآن؟
الضابط : كل التأكيد، بل إنه لا يُنكِر ارتكابها.
الدوق : وهل أَبْدى النَّدم في السجن؟ كيف يبدو لك من حيث التوبة؟
الضابط : ذاك رجل لا يرى في الموت ما يخيف أكثر مما يرى في نوم المخمور. فهو مهمل طائش لا يخشى الماضي أو الحاضر أو المستقبل. لا أحاسيس لديه تجاه الموت ولا رجاء لديه في تحاشيه.
الدوق : يحتاج إلى النصح.
الضابط : لن يستمع لأي نصح. فهو يستمتع دائمًا بحرية التنقل في السجن، ولو سمحت له بالهرب لم يهرب. وهو يسكر عدة مرات في اليوم، بل ويقضي أيامًا كثيرة في حالة سُكْر بَيِّن، وما أكثر ما أيقظناه موهمين إياه أننا سننفذ فيه حكم الإعدام، وأطلعناه على إذن وهمي بالتنفيذ، من دون أن يُؤَثِّر ذلك فيه على الإطلاق.
(٤ / ٢ / ١٢٦–١٥١)
أي إن برنردين الفائق يرفض اللعب وفق قواعد فيينا تحت حكم فنشنتيو، وهو لا يتأثر لا بقدرتها على القتل ولا على إبداء الرحمة. فلقد مَرَّت على برنردين تسع سنوات في نُعاس السُّكْر، وهو لا يُفيق منه إلا لرفض الهرب ورفض الموت معًا. وربما لم تكن في دقة بدقة عبارة أشد إضحاكًا من قول الدوق-الراهب، فيما يشبه القلق: «يحتاج إلى النُّصح»، وهو يعني به المزيد من السلوان الروحي من نوع «ثق في قدوم الموت». ويُهيِّئنا شيكسبير بدهاء درامي رائع لأشد مشاهد برنردين تفكُّهًا مرحًا، وذلك بأن يجعل فنشنتيو يَخدَع نفسه فيما يَتعلَّق بسُلطته على برنردين: «ادع جلَّادك واقطع رأس برنردين، سأذهب إليه من فوري لأساعده على التَّوبة وأهديه إلى حياة هي خير وأبقى.» ولكننا يمكن أن نتصور أننا في «أَلِيس في بلاد العجائب» أو من خلال المرآة عندما نسمع صيحة «دقوا عنق برنردين». والواقع أن حديث فنشنتيو، كما يَتبيَّن الجمهور، في عداد الهراء بصفة عامة، ويتمثل جانب من جوانب مهمة برنردين في كشف هذا الهراء، والجانب الآخَر لمهمة هذا القاتل المدان هو تمثيل الطبيعة البشرية غير القابلة للإصلاح تمثيلًا مباشرًا لا يُنسى، في فيينا أو في العالَم، وهي التي لا تتأثر بجميع ضروب القهر التي يفرضها النظام. والكوميديا الحقيقية في دقة بدقة تلمس آخر حدودها في مشهد تمجيد برنردين، وهو الذي لا بد من اقتطافه كاملًا:
أبهورسن : يا غلام! أَحضِر برنردين.
بومبي : يا أستاذ برنردين! يجب أن تصحو وتُشْنَق يا سيد برنردين!
أبهورسن  [ينادي] : ألا تسمع يا برنردين؟!
برنردين  [من خارج المسرح] : داهية في حلوقكم! مَن صاحب الضَّجَّة هناك؟ ما أنتم؟
بومبي : أصدقاؤك يا سيدي! أنا الجلاد. لا بد أن تتكرم يا سيدي بأن تنهض من نومك وتُقتَل.
برنردين  [من خارج المسرح] : ابتعد أيها الوغد ابتعد! فأنا نعسان.
أبهورسن : قل له إنه لا بد أن يصحو، وبسرعة أيضًا.
بومبي : أرجوك يا أستاذ برنردين! استيقظ حتى ننفذ الإعدام ثم عُدْ للنوم بعدها.
أبهورسن : ادخل عليه وأَخْرِجه من غرفته.
بومبي : إنه قادم يا سيدي قادم! أسمع خَشخَشة القش الذي يمشي عليه.

(يدخل برنردين.)

أبهورسن : هل البلطة فوق النِّطْع يا غلام؟
بومبي : جاهزة تمامًا يا سيدي.
برنردين : ما حالك يا أبهورسن؟ ما أخبارك؟
أبهورسن : بالحق يا سيدي، أرجو أن تستغرق في صلواتك، فقد وصل الإذن القضائي بالتنفيذ.
برنردين : أيها الوغد! لقد قضيتُ الليل كله أشرب، ولستُ أصلح الآن لما تريد.
بومبي : بالعكس! هذا أفضل يا سيدي. فإن مَن يشرب طول الليل ويشنق في الصباح الباكر، ينعم بنوم أعمق في النهار التالي كله.

(يدخل الدوق متنكرًا في زي راهب.)

أبهورسن : انظر يا سيدي: ها قد حضر أبوك الروحي. هل تظن أننا نهزل الآن؟
الدوق : يا سيدي! جئتُ مدفوعًا بحبي الخير، عندما سمعتُ أنه قد تقرر رحيلك بسرعة، وذلك حتى أعظك وأريحك وأصلي معك.
برنردين : لا يا راهب! لست براحل! فلقد أسرفتُ في الشراب طول الليل، ولا بد أن أقضي فترة أخرى في الاستعداد، وإلا حَطِّموا رأسي بالهراوات فأهْدِروا مُخِّي. لن أرضى بالموت اليوم. هذا مُؤكَّد.
الدوق :
هذَا مَحتُومٌ يا سَيِّدْ! ولِذَا فَأَنَا لَكَ أَتَوَسَّلْ
أنْ تَتَطَلَّعَ لِذَهَابِكَ في تَرْحَالِ المُسْتَقْبَلْ
برنردين : أقسم أنِّي لن أموت اليوم، ولن يفلح أحد في إقناعي بخلاف ذلك.
الدوق : ولكن اسمع …
برنردين : ولا حرفًا واحدًا. إن كنتَ تريد أن تقول لي شيئًا فتعال إلى حجرتي؛ إذ لن أخرج منها طول النهار.

(يخرج.)

(يدخل الضابط.)

الدوق : لا يَصْلُحُ لحَيَاةٍ أوْ مَوْت. يا قَلْبًا قُدَّ مِنَ الصَّخْرِ!
الضابط : انْطَلِقَا في أَثَرِهْ! عُودَا بالمُذْنِبِ للنِّطْع.
(٤ / ٣ / ٢١–٦٤)

لم أشاهد قط هذه الجسارة العميقة اللذيذة على خشبة المسرح بإخراج سليمٍ وتمثيل مناسب. وأقول الآن بعد تكاثر حالات الإعدام القانونية يوميًّا في الولايات المتحدة، إنني أُزكِّي نموذج برنردين حتى يتبعه حَشْد الواقفين في طابور الإعدام [أي من ينتظرون تنفيذه] أي إن عليهم أن يرفضوا — وحسب — إهدار الكرامة بالبذاءة التي يَتَّسم بها القتل بالغازات السامة بصورة مُهذَّبة زائفة، والحقن بمواد قاتلة، والقتل بالكرسي الكهربائي، وبالشنق، والإعدام رميًا بالرصاص استنادًا إلى أنها (مؤقتًا بلا شك) عفا عليها الزمن. فليرفضوا أن يموتوا، مهما أقنعهم غيرهم [مثل برنردين] ومن ثم يرغموننا على أن نكسر جماجمهم بقطع من الخشب على نحو ما يقترح برنردين، مُحِقًّا. تلك هي البصيرة الشيكسبيرية التي يقدمها إلينا العنيد برنردين في توريته الساخرة، ومعه العصبة التي يعصرها القلق وتتكون من أبهورسن، وبومبي، وضابط السجن، والدوق الفظيع، الذي ينسى تمامًا أنه يُمثِّل دَوْر الراهب، خصوصًا حين يستسلم لرفض برنردين التعاون في تنفيذ إعدام بالصورة الصحيحة:

الدوق :
مخلوق لم يَتهيَّأ بعدُ ولم يَتجهَّز للموت
وحرامٌ أنْ نُرْسِلَهُ لِلْآخِرَةِ بتِلْكَ الحَالِ النَّفْسِيَّة.
هذه البلاهة الصريحة التي تُمثِّل فنشنتيو خير تمثيل، تَبتعِد بمسافة سنوات ضوئية عن تشخيص بومبي لجنوننا الاجتماعي: «أرجوك يا أستاذ برنردين! استيقظ حتى ننفذ الإعدام ثم عُد للنوم بعدها». ولن يكون برنردين في حالة مناسبة لتنفيذ الإعدام، وفصاحته تلقي الضوء على كل ما يَتَّسم بالانحراف الرائع في عالم دقة بدقة: «لن أوافق على أن أموت اليوم، هذا مُؤكَّد!» وذلك مُؤكَّد فقط في هذه المسرحية، حيث لا يقول فنشنتيو كلامًا له معنًى، سواء بصفته الدوق، أو بصفته راهبًا، وحيث يغدو العفاف المشبوب عند إيزابيلا حافزًا لا يُقاوَم على الشهوة، وحيث تحظى خدعة الفراش بمن يعتبرها حلالًا إلى حدٍّ يفوق مثيلتها في مغامرة هيلينا في مسرحية العبرة بالخاتمة. وأنا شخصيًّا أجد أن أروع لحظة في المسرحية هي اللحظة التي يقول فيها الدوق: «ولكن اسمع …» فيرد برنردين قائلًا: «ولا حرفًا واحدًا». والفكاهة المعنوية في هذه الكوميديا رد شيكسبير الحاد على أي فرد في الجمهور يمكن أن يخدعه فنشنتيو. ولا يلجأ شيكسبير، إلا بعد استيعابنا لرفض برنردين، إلى جعل الدوق-الراهب يهبط إلى التدهور الصادي بالكذب على إيزابيلا وإخبارها أن أخاها قد أُعْدِم. والغريب أن أنجيلو نفسه هو الذي يصيب كبد الحقيقة عندما يقول عن فنشنتيو: «أفعاله أقرب ما تكون إلى الجنون».
وتنتهي دقة بدقة بالخاتمة المجنونة جنونًا كاملًا التي تتكون من فصل واحد ومشهد واحد، يعفو فيه الدوق عن أنجيلو وبرنردين وكلوديو، ويتحوَّل إلى الوسيط الذي يزوج الأشخاص بعضهم ببعض، منتقمًا في ذلك من لوشيو. وأهم ما يتميز به هذا المشهد هو الصمت الكامل لبرنردين، عندما يُؤتَى به إلى المسرح ليتلقى العفو عنه، وصمت إيزابيل بعد أن شاركَت ماريانا في التماس إنقاذ أنجيلو من القتل. وهي لا تجيب عندما يعرض الدوق عليها الزواج، وهو ما يعني تنحية اعتزامها ونزوعها المسيطر عليها بأن تصبح راهبة. ولكن كلماتها الأخيرة، دفاعًا عن أنجيلو، تتسم بالغرابة مثل كل شيء في المسرحية:
لكنَّ أَمْرَ أَنْجِلُو اخْتَلَفْ … فإنَّ فِعْلَهُ لَمْ يَسْتَجِبْ لِسُوءِ نِيَّتِهْ.
وينبغي ما دَامَ صُورَةً وحَسْبُ أنْ يُدْفَنْ،
لمَقْصِدٍ يَفْنَى مِنْ دُونِ غَايَتِهْ! فَلَيْسَتِ الأَفْكَارُ أَشْخَاصًا.
تُحَاسَبُ أوْ تُسَاءَلْ … ولَيْسَتِ النَّوَايَا غَيْرَ أَفْكَارْ.
(٥ / ١ / ٤٤٨–٤٥٢)
ولما كانت إيزابيلا مخبولة فلا بد أن تكون جادَّة، ولكن شيكسبير لا يمكن أن يكون جادًّا؛ إذ إن إيزابيلا تستبعد نية القتل من الزاوية البرجماتية على الرغم من أنها كانت تزيد حقًّا عن كونها مُجرَّد فكرة: ما دام أنجيلو قد أصدر الأمر فعلًا بقطع رقبة كلوديو، وذلك بعد افتراع أنجيلو المفترض لإيزابيلا. وتقول إيزابيلا إن ما لا يحدث، ومهما يَكن السبب، يَعتبِر فكرة وحسب، لا ذاتًا؛ أي شخصًا يخضع لحكم فنشنتيو. وصور الدفن والفناء «من دون الغاية» تنتمي لجميع النوايا، وجميع الأفكار. لا شيء يحيا في إيزابيلا، وشيكسبير لا يقول لنا كيف تَعرَّضَت لمثل هذا الدمار الروحي (vastation)١ فهي ذات فكر برجماتي، ولا تحتاج إلى أن تجيب الدوق على طلب الزواج منها، وامتناعها يعني أن نفترض أن الدوق سوف يُنفِّذ مشروعه معها. ولن يسعد المرء بتأمُّل مستقبل زواج فنشنتيو وإيزابيلا، وأنجيلو وماريانا، بل إن الزواج القسري بين لوشيو وكيت كيبداون العاهرة لا يحتمل أن يكون أقل صحة! وأنا لا أعرف عملًا بارزًا آخَر في الأدب الغربي يقترب في طابعه العدمي من دقة بدقة، فهي كوميديا تُدمِّر الكوميديا. وكل ما يبقى هو الصورة البديعة لبرنردين القاتل المنحل الذي يهبنا الحد الأدنى من الأمل للإنسان في مواجهة الدولة، ما دام غير راغب في الموت مهما تَكُن قدرة أي رجل على إقناعه.
١  vastation كلمة مهجورة مشتقة من الفعل اللاتيني vastare أي يُفْرغُ، والصفة vastus أي الخاوي أو الفارغ، والكلمة لا توردها المعاجم الحديثة بسبب تَغيُّر معناها؛ إذ أصبحَتْ تعني تطهير شيء أو شخص بتدمير الصفات أو العناصر الخبيثة، وتتفق المعاجم المُتخصِّصة على أن معناها هو التطهير الروحي. والصورة المشتقة منها هي devastate بأشكالها الصرفية المختلفة، بمعنى يُخَرِّب أو يُهْدِر، أو يَهد هدًّا. ولكن المعنى الذي يستخدم المؤلِّف الكلمة المهجورة فيه لا يوحي بمعناها الحديث أو المتخصِّص، بل بمعنى أقرب إلى الكلمة التي اشتقت منها، فهو لا يعني قطعًا أن إيزابيلا تَطهَّرَت، ولكن الأرجح أنه يستخدم الكلمة بمعناها اللاتيني المهجور بمعنى أنها دُمِّرَتْ روحيًّا فتعرَّضَت لإهدار خصائص إنسانية أو أُفْرِغتْ منها. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤