هاملت
١
يَكتَنِف الغموض منشأ هاملت، أشهر مسرحيات شيكسبير، مثلما يَختلِط علينا حال نصها؛ إذ يُوجَد نَص مُبكِّر لهاملت عكف عليه شيكسبير فنقَّحه دراميًّا وتجاوَزه، ولكن هذا العمل التجريبي مفقود ولا نعلم مُؤلِّفه علم اليقين، وإن كان معظم الباحثين يعتقدون أن كاتبه كان توماس كيد، الذي كتب مسرحية من مسرحيات الثأر تعتمد على الأنماط الفطرية عنوانها «التراجيديا الإسبانية»، غير أنني أعتقد أن بيتر ألكسندر على حقٍّ في حدسه أن شيكسبير نفسه هو الذي كتب هاملت الأصلية قبل عام ١٥٨٩م، عندما كان قد بدأ الكتابة للمسرح، وعلى الرغم من أن معظم الباحثين يختلفون مع ألكسندر في حدسه فإن هذا الحدس يعني أن هاملت في شكلها النهائي، والتي قدمت للجمهور صورة جديدة لشيكسبير، ربما كانت كامنة تتطور عنده لما يربو على عقد كامل.
والمسرحية الكاملة بالِغة الطول؛ إذ تقترب من أربعة آلاف سطر، ويندر أن تُقدَّم على المسرح بشكلها الكامل (تقريبًا). وأما حكم ت. س. إليوت، الذي كان شائعًا يومًا ما، والذي يقول إن هاملت «بالقطع فاشلة فنيًّا» (وما العمل الأدبي الذي يعتبر ناجحًا فنيًّا؟) فهو حُكْم كان حافزه، فيما يبدو، عدم التناسب بين الأمير وبين المسرحية، بمعنى أن هاملت يظهر في صورة وعي أكبر كثيرًا مما تَتحمَّله مسرحية هاملت، فمسرحية الثأر لا تَملِك أن تكون المجال المناسب لأعظم تمثيل غربي للمفكر. ولكن هاملت ليست مسرحية الثأر التي تتظاهر وحسب بهذه الصفة، بل إنها مسرح للعالَم، مثل الكوميديا الإلهية، أو الفردوس المفقود، أو فاوست، أو يوليسيز، أو البحث عن الزمن الضائع. والتراجيديات السابقة التي كتبها شيكسبير تبشر بها من بعض الجوانب فقط، وأعماله التالية، على الرغم من أصداء هاملت فيها، تختلف اختلافًا شديدًا عنها في الروح وفي النغمة. ولا توجد شخصية واحدة في المسرحيات، حتى فولسطاف وكليوباترا، تجاري أصداء هاملت اللانهائية.
وظاهرة هاملت، الأمير من دون المسرحية، غير مسبوقة في الأدب الخيالي للغرب. ويقترب دون كيخوته وسانشو بانزا، وفولسطاف، وربما مستر بيكويك من سيرة هاملت باعتبارهم مبتكرات أدبية تحولت إلى أساطير مُستقِلة، ويمكن أن يشمل هذا الاقتراب عددًا محدودًا من شخوص الأدب القديم؛ مثل: هيلين الطروادية، وأوديسيوس (يوليسيز) وأخيليس. ولكن هاملت يظل منفصلًا عنهم؛ إذ يتميز بصفة تعاليَّة تجعله أقرب مكانة من الملك داود في الكتاب المُقدَّس، أو حتى من بعض الشخصيات الأسمى فيه. وترتبط بهاملت «كاريزما» مُعيَّنة، أي هالة خارقة، في داخل تراجيديا شيكسبير وخارجها. والشخصية الكاريزمية نادرة في الأدب العلماني، وهي غير متواترة خصوصًا (وبغرابة) عند شيكسبير. ومن الواضح أن هنري الخامس كان يُقْصَد به أن يكون ذا كاريزما، ولكنه يهبط بها إلى مستوى السوقية مثل يوليوس قيصر من قبله. وأما الملك لير فهو يَفقِدُها حتى من قبل أن نقابله، إلى حدٍّ بعيد، وسرعان ما يصبح أنطونيو حالة نَتعلَّم منها كيف تختفي. وأما كليوباترا فإنها تُبالِغ في حركاتها المسرحية وإبداء نرجسيتها إلى الحد الذي يعجز عن إقناعنا بكاريزمتها المُؤلَّهَة عندما تموت، وأما بروسبيرو فإن انشغاله بأسرار سِحْره يُؤثِّر سلبيًّا فيه ويَحُول دون اكتسابه كاريزما مُؤكَّدة. وأما هاملت، أولًا وأخيرًا، فينافس الملك داود، ويسوع في إنجيل مرقس باعتباره أعظم ذَوِي الكاريزمية. وللمرء أن يُضيف يوسف من كتاب العهد القديم، ومَن أيضًا؟ يوجد الحاج مراد عند تولستوي، الذي يُمثِّل شيخوخة مُبدِعه الحالمة، وفي مجال الانفلات يُوجَد السير جون فولسطاف الذي لا يُغضِب إلا الفضلاء، ولكنَّ هؤلاء الباحثين الفضلاء يواصلون التعبير معًا عن رفضه حتى يجعلوا صاحب اللماحية العظمى يبدو أقل تألقًا مما تشهد به حقيقته.
يعتبر شيطان شيكسبير، ياجو، والد إبليس عند ميلتون، مؤلِّف هزلية تراجيدية عنوانها غيرة عطيل وقتله زوجته ديزديمونا، وهي مسرحية لا تتماهى مع مسرحية عطيل لشيكسبير، بل هي مطوية جزئيًّا في التراجيديا الشيكسبيرية لأن ياجو لا يستكملها. إذ إنه، عندما يشعر بالإحباط لأن زوجته إميليا أفسدت الفصل الأخير، يقتلها ويرفض تقديم أي تفسير قائلًا: «من هذه اللحظة لن أنطق بحرف واحد». وأما هاملت، الكاتب المسرحي الميتافيزيقي الذي يَتفوَّق في فنه على ياجو، فيكتب الفصل الخامس الخاص به، بحيث نجد أننا لا نستطيع البَت بثقة تامة فيمن كتب قدرًا أكبر من مسرحيته ومسرحية شيكسبير. ومهما يَكُن إله شيكسبير، فإن هاملت يبدو كاتب هزليات، لا كوميديا بالمعنى المسيحي. فالإله، في الكتاب المُقدَّس العبراني، خصوصًا في سفر أيوب، يكتب أفضل ما كتب في شكل أسئلة إنكارية. وهاملت مُولَع ولعًا شديدًا بالأسئلة الإنكارية، ولكن أسئلته تختلف عن أسئلة الإله في أنها لا تسعى دائمًا إلى الإجابة عمَّا تطرحه. والإله العبراني، في نص يهوه على الأقل، يتسم بالسخرية في المقام الأول. وهاملت ساخر قطعًا لكنه لا ينشد إلهًا ساخرًا؛ إذ إن شيكسبير لا يسمح له إلا به.
وقد عكف هاري ليفين على هذه القضية فوصف مسرحية هاملت وصفًا موفقًا قائلًا: إنها مسرحية مَهْوُوسة بكلمة «سؤال» (إذ ترد سبع عشرة مرة) وبالتساؤل عن «الإيمان بالأشباح وقانون الثأر». وأود أن أتناول هذا الهوس تناولًا مختلفًا إلى حدٍّ ما؛ لأن الاختلاف الرئيسي بين موقف شيكسبير وصورة هاملت في الأساطير والتاريخ يتمثل في التغيير الدقيق لأسس العمل عند الأمير. إذ يقول المؤرخ الدنماركي ساكسو جراماتيكوس، كما تقول الحكاية الفرنسية التي كتبها بلفوريست، إن الأمير آمليت يشعر منذ البداية بخطر على حياته من عمه القاتل، ويتَصنَّع البَلَه والجنون بدهاء حتى يظل في قيد الحياة. ربما يكون شيكسبير قد اتَّبَع ذلك النموذج في هاملت الأصلية، ولكنْ لا يكاد يبقى من هذا النموذج شيء في هاملت التي بين أيدينا، حيث نرى كلوديوس راضيًا كل الرضى عن تَعْيِين ابن أخيه وليًّا للعهد، وفي فساده الذي يُضارِع فساد دولة الدنمارك، يشعر أنه نال كل ما يريد: جيرترود والعرش. ولو ظل هاملت سلبيًّا بعد زيارة الشبح، لما مات مِيتة عنيفة كل من بولونيوس، وأوفيليا، ولايرتيس، وروزنكرانتس، وجيلدنستيرن، وكلوديوس، وجيرترود، وهاملت نفسه، فكل شيء في المسرحية يتوقف على استجابة هاملت للشبح، وهي استجابة جَدَلِية إلى حدٍّ بعيد مثل كل ما يتعلق بهاملت. ومسألة مسرحية هاملت لا بد أن تنحصر في هاملت نفسه؛ إذ إن شيكسبير قد خلقه حتى يُمثِّل أقصى صورة تستطيع أن تغذوها مسرحية مُتَّسِقة المعنى للوعي المنقسم على نفسه وذي القوتين المتضادتين.
ونحن نتبين أن الشبح ليس هورونديل، لكنه يتسم بخصائص «آمليت» في الأساطير الدنماركية، فهو مقاتِل ذو بأس شديد، لكنه يتمتع بدهاء في محاولة التلاعب بابنه طالب العلم، يضارع دهاءه في رَدِّ أعدائه. فالأمير هاملت، صاحب لماحية عصر النهضة ومذهب الشك، قارئ مونتاني ومُرْتَاد مسارح لندن، ينفصل عن هاملت عند بلفوريست وعن هاملت في الدراما الأصلية لشيكسبير. وعندما قام شيكسبير بتمثيل دور الشبح في عام ١٦٠١م، كان يُخاطِب مَن كان يأمل أن يصبحه ابنه هامنت، عندما يَصِل إلى مشارف الرجولة على خشبة المسرح. ويتحدَّث الشبح عن عاطفته الزوجية المشبوبة بجيرترود، وننتبه لما يباغتنا هنا: إن ذلك لا يُحيلنا إلى هورونديل، بل إلى آمليت الذي يذهب في القصة القديمة ضحية حبه المُتطرِّف لزوجته الثانية الخائنة. وهكذا فإن الخلط بين هذين الجيلين يُمكِّن شيكسبير من تنبيهنا إلى مستويات التركيب التي ربما زادَت من حيرتنا إزاء هاملت الأخيرة ولكنها يمكن أيضًا أن ترشدنا إلى بعض طرق الخروج من التيه.
يتمتَّع هاملت المنتمي إلى عام ١٥٨٨-١٥٨٩م بما يزيد على لماحية جويس، ويصبح والدًا لهاملت المنتمي إلى ١٦٠٠-١٦٠١م، ويظهر في المسرحية الأخيرة باعتباره شبحًا، وهو ما يناسبه تمامًا، طالبًا ثأرًا عاجلًا ولكنه يَتلقَّى كفارة آجلة من الدم المسفوك الذي يستغرق خمسة فصول وأربعة آلاف سطر. وأما عن شبح عام ١٥٨٨-١٥٨٩م، فَلْنُسَمِّه هورونديل، ثم نلاحظ أنه لا مكان له في ١٦٠٠-١٦٠١م. وشبح هورونديل كان بوضوح يحب التكرار، ونداءاته «هاملت! الثأر!» أصبحَتْ بوضوح فكاهة مُرتادي المسرح. أما هاملت الشبح فليس فكاهة، فإنه آمليت، أو هرقل الدنماركي، روح تَتميَّز بالدهاء والعناد، ومن مُفارَقات شيكسبير التعالِيَّة أن ينجب الملك هاملت المذكور أذكى شخصية في الأدب قاطبة. والقضاء على كلوديوس لا يَتطلَّب ذكاء فائقًا ووعيًا شاسعًا، والأمير هاملت يدرك خيرًا منا أنه كُلِّف بمهمة لا تتناسب إطلاقًا معه. ولو كان هوتسبير أو دجلاس قد قتل هنري الرابع، لأصبح هال يتمتع بمؤهِلَّات تفوق ما يتطلبه دور المنتقم، ولكنه كان سيؤديه بأقصى سرعة ممكنة. وإذا قورن الملك هنري الخامس بهاملت المنتمي لعام ١٦٠١م، لأصبح لا يزيد عن منافق ومكيافيلي، وإن يكن يتمتع بلماحية فائقة بفضل ما تعلَّمه على يد السير جون فولسطاف. ويتمتع هاملت، إلى حدٍّ بعيد، بصفات فولسطاف الخاصة به، ولكنه لم يُلصَق من الخارج بإحدى تراجيديات الثأر، بل إنه يستغرق كل المساحة النفسية والذهنية التي تأمل أية مسرحية أن تشغلها، مثل فولسطاف وإن كان يزيد عنه في ذلك، فإن ثلثي السطور التي لا يتكلمها هاملت مكتوبة في الواقع عنه، بل وكان من الممكن فعلًا أن يكتبها. ولقد أصبح تعبير «هاملت من دون أمير الدنمارك»، فكاهة تجري مَجْرى الأمثال للدلالة على الخواء أو التفاهة. كان فولسطاف، كما ذكرت آنفًا، أول تجربة عظمى في مسألة «كيف يبدأ المعنى». ويعتبر هاملت التجربة المُحْكَمَة، وإثبات أن المعنى يبدأ لا بالتكرار ولا بالمصادفة السعيدة ولا بالخطأ، بل بإضفاءٍ جديدٍ للتعاليَّة على الأشياء والقضايا الدنيوية، وبتقديسٍ يعتبر أيضًا إفناءً لجميع صور اليقين في الماضي الثقافي.
ولكن هل الشبح مؤلِّف المسرحية؟ إن شيكسبير يَتوخَّى أشد الحرص، بل والدهاء، في رسم صورَتَي والدٍ وولدٍ يختلفان اختلافًا كاملًا فيما بينهما، أي فيما بين هاملت الأب والأمير. أما الملك هاملت فنعرف أنه كان محاربًا صنديدًا وقائدًا في حومة الوغى، وأنه كان يرتبط بزوجته بحب «أو شهوة» شديدة. ولا يبدو أن هذا المقاتل كان يتمتع بأية صفات أدَّت إلى ذيوع صيت الأمير. كيف تمكن هاملت وجيرترود من إنجاب فتًى بَلغَت طاقة تفكيره حدًّا يحول دون إدراجه في أي سياق، حتى في سياق مسرحية شيكسبير؟ الواقع أن الأمير لا يحمل أوجه شبه بأبيه أكثر مما يحمل من شبه بعمه الغاصب. كما يمنحه شيكسبير والدًا برجماتيًّا بالتَّبنِّي هو يوريك، مُضحِك الملك؛ لأن هاملت نفسه لا يتوقف عن التَّفكُّه، ولا يبتعد إلا خطوة واحدة عن أشد المُتفكِّهين خطرًا، ياجو.
لا نعرف إن كان الانتقال الغامض من الفصل الرابع إلى الفصل الخامس في هاملت يُشكِّل وداع شيكسبير لشبابه، ولكنه وداع مُؤكَّد لهاملت ابن شبابه. فالاسم آمليت مشتق من اللغة النرويجية القديمة بمعنى الأبله، وكان يُطلَق على المُهرِّج صاحب الحِيَل والتحايل الذي يتظاهر بِالْبَلَه. وتظاهر هاملت بالجنون يختفي تمامًا بعد مشهد المدفن، بل إن الجنون فيه يَتحوَّل إلى تورية عميقة ساخرة مُوجَّهة إلى الصور الغليظة للموت. لماذا كتب شيكسبير مشهد المدفن، ما دام استلهام يوريك لا يدفع حدث المسرحية على الإطلاق؟ ولا يكتسب هذا السؤال أهمية إلا إذا طَبَّقناه على عدد من المشاهد الأخرى في هذا العمل العجيب، وهو الذي يَحُولُ طولُه البالغ أربعة آلاف سطر دون تقديمه على المسرح. «ونحن نشك في أن المسرحية قد عرضت كاملة في لندن أيام شيكسبير، وإن كانت العروض التي قيل إنها قُدِّمَت في أوكسفورد وكيمبريدج لم تَحذِف شيئًا على الأرجح من النص.»
وتبقى إمكانية يعتبرها جميع الباحثين المُحدَثين في شيكسبير تقريبًا من قبيل الهرطقة؛ إذ تقول إن شيكسبير — في هذه المرة دون سواها — كان يكتب مدفوعًا إلى حدٍّ ما بحافز شخصي قهري محض، مُدرِكًا أنه سيكون عليه أن يحذف أجزاءً من النص عند كل عرض. وقد يفسر هذا الاختلاف بين طول طبعة الكوارتو الثانية، البالغة ٣٨٠٠ سطر وحذف ٢٣٠ سطرًا منها في طبعة الفوليو الأولى. واحتواء طبعة الفوليو الأولى على ٨٠ سطرًا إضافيًّا لا تتضمنها طبعة الكوارتو الثانية قد يدل على أن شيكسبير لم يتوقف عن تنقيح هاملت بعد عام ١٦٠٤-١٦٠٥م، عام صدور طبعة الكوارتو الثانية. وأتصور أن طبعة الفوليو ربما كانت تُمثِّل آخر نسخة تمثيل وضعها شيكسبير، وإن كان طولها البالغ ٣٦٥٠ سطرًا أطول مما ينبغي للعرض على مسارح لندن. وهاملت الكاملة التي بين أيدينا، وتبلغ ٣٨٨٠ سطرًا، تمتاز بتذكيرنا بأن المسرحية ليست فحسب «موناليزا الأدب» بل أيضًا الفيل الأبيض عند شيكسبير، أو العمل الفذ بين أعماله.
وأود أن أؤكد أن شيكسبير لم يتوقف عن إعادة كتابتها، من النسخة المبكرة، في نحو عام ١٥٨٧–١٥٨٩م حتى وقت انسحابه عائدًا إلى ستراتفورد تقريبًا. ونحن نفترض أن طبعة الكوارتو الثانية قد طُبِعَت مباشرة عن مَخطوطه، وأن طبعة الفوليو الأولى تتضمن النص الذي يمثل الدلالة النهائية للمسرحية التي كانت تسكن ذاكرة زملائه الممثلين الباقين في قيد الحياة. إن الانشغال إلى حدِّ الهَوس لا شك توحي به هذه المسرحية ذات الطابع الشخصي وأشد مسرحيات شيكسبير التسع والثلاثين إلحاحًا. ربما كان شيكسبير، الذي يسميه كيركجارد أستاذ السخرية، يستمتع ساخرًا بالظاهرة العجيبة التي تقول إن مسرحية التراجيديا الإسبانية التي كتبها توماس كيد، والتي يقول الباحثون إنها أَثَّرت في هاملت كانت تحظى وحدها بنجاح جماهيري، يضارع نجاح هاملت ومسرحيات فولسطاف.
وتُعْتَبر التراجيديا الإسبانية اليوم مسرحية ميتة، إلا بين الباحثين، فلم أشهد عرضًا واحدًا لها، ونادرًا ما سمعتُ عن عرض ما، وأشك في قدرتي على احتمال مُشاهَدة أي عرض لها، على الرغم من صمودي لعدة عروض لمسرحية تيتوس أندرونيكوس التي كتبها شيكسبير. أما هاملت فقد تمكنت من البقاء على الرغم من كل شيء، أي على الرغم من بيتر بروك نفسه، كما أن خلود فولسطاف يتجاوز حتى أفضل أوبرات فيردي. هل نستطيع أن نحدس شيئًا مما كان هاملت يعنيه لشيكسبير؟
٢
من المحتمل ألا يقوم أحد بتحديد المشاعر الدينية لشيكسبير، في بواكير حياته أو آخرها، فلقد كان يختلف عن والده الكاثوليكي في الحفاظ على غموضه المعتاد في هذا المجال الخطر، فليست مسرحية هاملت عملًا بروتستانتيًّا أو كاثوليكيًّا، كما تبدو حقًّا لا هي مسيحية أو غير مسيحية؛ إذ إن شكوك هاملت لا تزيد وحسب عمَّا يمكن أن يكون أصلًا لها عند مونتانيْ، بل إنها تتحول إلى شيء حافل وغريب في الفصل الخامس، شيء لا اسم له عندنا. فالجمهور لا يريد أن ينازع فورتنبراس الذي يقود موسيقى الجنود وطقوس الحرب، ولا هوراشيو الذي يستلهم تحليق الملائكة. فإلى من ينتمي هاملت الجندي، ولماذا تُعْتَبر معونة الملائكة غير مناسبة؟ إن المسرحية تُخْتَتَم بلحظة إشراق علمانية شديدة الأصالة؛ إذ يبدو أن بهاءً تعاليًّا ينبثق فياضًا من الذروة التي يحمل فيها الجنود جثمان هاملت، ونرى في الخلفية مُحاوَلة انتحار هوراشيو التي تفزعنا، وهي التي يوقفها هاملت لا لسبب إلا لكي يتمكن هوراشيو من إحياء ذكراه وتضميد الجرح الذي أصاب اسم الأمير. ولكن الذي يمنح الكلمة الأخيرة ليس هوراشيو بل فورتنبراس وهي «أطلق النار». ستكون الطلقة جزءًا من طقوس الحرب، احتفالًا بهاملت، ربما باعتباره فورتنبراس آخَر. من الصعب أن نعتقد أن شيكسبير لا يختتم المسرحية بسخرية مناسبة تمامًا لهاملت، وهو الذي لم يكن فقط صاحب سخرية بل أيضًا سببًا في لجوء الآخَرين إلى السخرية. ولكن هوراشيو ليس ساخرًا، وليس فورتنبراس ساخرًا هو الآخَر، ويتركنا شيكسبير؛ إذ نشعر ببعض الأسف لعدم وجود هاملت الذي كان يمكن أن يقدم تعليقًا ختاميًّا على ما يبدو ساخرًا ولكنه ربما يتجاوز السخرية حسبما نعرفها.
كنت ولا أزال أقول إن ما يصفه بعض النقاد مثل إمبسون وجراهام برادشو بأنه يمثل «إدماج مشكلات» [في نص المسرحية] لن يُلقِي الضوء على هاملت؛ لأن شيكسبير لم يكن يضيف شيئًا إلى نصٍّ كتَبَه كيد ويعتبر ميلودراما، بل كان يُنقِّح مسرحية كتَبَها من قبل. ومنذ ما كتبه ج. م. روبرتسون [١٩٢٠م] إلى الآن، تأثَّرَت التَّخرُّصات بشأن هاملت الأصلية (مهما يكن كاتبها) ولم تتكاثر بشأن هاملت المبكر. وحتى إن كانت المسرحية الأصلية من إبداع شيكسبير، فإن الأمير في عام ١٥٨٧م أو ١٥٨٨م لم يكن إلا صورة بالخطوط العريضة وحسب، إن قورن بهاملت عام ١٦٠٠م أو ١٦٠١م. كانت مشكلة شيكسبير لا تتعلق بوضع هاملت في سياق غير مكافئ له، بل برسم صورة رهيفة لهاملت داخل صورته الغليظة. ومن المعقول فيما يبدو أن نفترض أن هاملت الأول عند شيكسبير كان قريب الشبه بآمليت عند بلفوريست؛ أي إنه كان صاحب تحايُل مُوفَّق طبقًا لمعايير البطولة القديمة، من دون تأمُّل كثير في نفسه بقدر تأمُّله للمَخاطر التي كان عليه أن يتفاداها. وأما هاملت الثاني أو المُنقَّح فليس مقيمًا في وعاء غير مكافئ له، لكنه، على الأقل، كائنان اثنان معًا: الأول كائن فولكلوري وُهِبَ حياة مديدة، والثاني مُعاصر لمونتانيْ، وذلك كله إيجابي، فإن السحر اللانهائي لهاملت يذيب الفوارق بين ساكسو جراماتيكوس وبين مقالات مونتانيْ. وسواء كانت هذه فكاهة شيكسبير الخاصة (أو الشخصية) فأمر لا نستطيع البَتَّ فيه، ولكنها نَجحَت ولا تزال تنجح.
وهاملت، في عام ١٦٠١م، لا يبدو لنا في صورة من يُحتَمَل أن يكون منتقمًا؛ لأن حريته الفكرية، وروحه المديدة، يتناقضان، فيما يظهر، مع المهمة التي فرضها عليه الشبح. وقد تكون هذه اللحظة مناسبة لأن نسأل إن كانت فكرة قيام شيكسبير بتنقيح مسرحيته المُبكِّرة لن تساعدنا في حل معضلة دائمة في المسرحية النهائية. إن هاملت في الفصول الأربعة الأولى من مسرحية شيكسبير، يشبه صورته عند بلفوريست، باعتباره شابًّا في العشرين من عمره أو أقل، فهو طالب في جامعة ويتنبرج، ويريد أن يعود إليها، حيث يوجد أصدقاؤه ومن بينهم هوراشيو، وروزنكرانتس وجيلدنستيرن اللذان ساء مصيرهما. وينتمي لايرتيس نفسه، إلى الجيل نفسه، ويظهر أنه يريد العودة إلى جامعة باريس. ولكن هاملت في الفصل الخامس (الذي تقع أحداثه بعد فترة لا تزيد على بضعة أسابيع) في الثلاثين من عمره (وفق ما يقوله حفَّار القبر) على الأكثر، ويبدو على الأقل في سن شيكسبير الذي كان في السابعة والثلاثين. فعندما عاد شيكسبير إلى مسرحيته القديمة، قد يكون قد بدأ بهاملت قبل أن يبلغ سن الرشد (مثل هاملت عند بلفوريست، وفي هاملت الأصلية التي كتبها شيكسبير) ولكن عملية التنقيح ربما أَثْمَرت هاملت الناضج في الفصل الخامس. ولما كان مرتبطًا إلى حدٍّ ما بصورة هاملت في المسرحية المُبكِّرة، ترك شيكسبير، واثقًا، ذلك التناقض قائمًا. وعندما أطلق على ابنه اسم هامنت، كان شيكسبير نفسه لم يَتعدَّ الحادية والعشرين، وكان في الخامسة والعشرين أو نحوها (على أكثر تقدير) عندما كتب هاملت الأصلية. كان يريد الجمع بين أمرين لا يجتمعان: أن يستمسك برؤيته الشبابية لهاملت، وتصوير هاملت وقد تجاوز النضج في الختام.
إن النَّشوة التي تأتي بها الحالة الديونيسية التي تنفي حدود الوجود وقصوره تتضَمَّن، طالما استمَرَّت، عنصرًا من الخمول الذي تغرق فيه جميع خبرات الماضي الشخصية. وتفصل هوة النسيان المذكورة عالَم الواقع اليومي عن عالَم الواقع الديونيسي. ولكن ما إن يَعُدْ هذا الواقع اليومي إلى دخول الوعي حتى يشعر المرء بحقيقته مصحوبًا بالاشمئزاز، وتنشأ حالة نفسية من الزهد النافي للإرادة ثمرة لهذه الحالات.
لم يكن غريبًا (وإن يكن مصدر إيضاح) أن نطبق فكرة نيتشه على رجل ديونيسي آخَر، المنافس الشيكسبيري الوحيد لهاملت في شمول الوعي وحدة الذهن؛ السير جون فولسطاف. الواضح أن فولسطاف كان قد نظر في جوهر الأشياء، قبل وقت طويل من لقائنا به، أي إن المُحارب المخضرم قد كشف حقيقة الحرب، ونبذ شرَفها ومَجْدَها باعتبارهما أوهامًا خبيثة، ووهب نفسه بدلًا من ذلك لنظام «اللعب». وهو يختلف عن هاملت في أنه اكتسب المعرفة من دون أن يدفع الثمن اشمئزازًا، والمعرفة عند فولسطاف لا تكبح الفعل بل تزيح الفعل جانبًا باعتباره ليس ذا صلة بالعالم اللازَمني «للعب»، وهوتسبير يُعَبِّر عن هذا بدقة:
وهاملت مثل فولسطاف نادرًا ما يتوقف عن اللعب، على الرغم من أن هاملت ذو وحشية وفولسطاف على الرغم من شدة صخبه رقيق الحاشية. والنقاد الماركسيون يخلطون بين مذهبهم المادي ومادية السير جون، وهكذا يرون أن صاحب اللماحية العظيمة انتهازي. ولكن استثمار فولسطاف، على عكس هاملت، استثمار في اللماحية من أَجْلِها وحسب. ولْنُقارن بين الاثنين في أعظم لحظاتهما، هاملت في المدفن، وفولسطاف في الحانة:
إن عظامي تتوجع حين أتأمل ذلك!
من الصعب استنباط أية معلومات دقيقة من هذا الهَرْج والمَرْج، ولكن الواضح، فيما يبدو، وجود مسرحية تُدْعَى هاملت بين نواتج كُتَّاب المسرح غير العلماء والدارسين، وأنها تبدو للكاتب، ناش، مَدينة بالكثير إلى ترجمات سينيكا، وكذلك أن أحد كُتَّاب المسرح المذكورين هو كيد؛ إذ إن ناش يَدُسُّ الاسم دسًّا بغض النظر عن عدم وجود حالة موازية مُقْنِعة للمَثل الذي يضربه، لا عند إيسوب ولا عند سبنسر (وهو الذي يشير إلى قصيدة الربيع الواردة عنده في روزنامة الرعاة). أما أن نستنتج من هذا، كما فعل الكثيرون، أن كيد كان مُؤلِّف هاملت المُبكِّرة، فهذا افتراض لا يبرره النص وتثير الأدلة اللاحقة شكوكًا فيه. إن ناش يشير إلى «نوع»، أي إلى مجموعة، من الكُتَّاب الذين كان من بينهم كيد، وإلى أن مسرحية عنوانها هاملت كانت من بين ما كتبوه، وذلك أقصى ما يمكن أن تفيدنا به هذه الفقرة التي تتعمد إغاظتنا.
واستنادًا إلى هذا الأساس أريد أن أقترح شكلًا آخر لرؤيتنا للحياة العملية لشيكسبير. ويقدم لنا ليدز بارول في كتابه السياسة والطاعون ومسرح شيكسبير: سنوات أسرة ستيوارت الحاكمة (١٩٩١م) تحذيرًا مفيدًا من تحديد تواريخ مسرحيات شيكسبير طبقًا لإشارات مُفترَضة لأحداث عصرية، ويقول إن شيكسبير في مرحلته الأخيرة لم يكن يُؤلِّف إلا حين تكون المسارح متاحة، وكان يتعرض بالتناوب لفترات جفاف وفترات نشاط فَوَّار وسريع، بما في ذلك الإنجاز المذهل؛ حيث كتب الملك لير، ومكبث، وأنطونيو وكليوباترا في أربعة عشر شهرًا متوالية فقط.
وأقترِح بروح بارول إلى حدٍّ ما إعادة النظر (وإن تكن جذرية إلى درجة أكبر) في معرفتنا ببدايات شيكسبير في الكتابة للمسرح. لا يبدو أن هاملت الأصلية قد كُتِبَت بعد أوائل عام ١٥٨٩م، وربما في ١٥٨٨م. ومن ثم كانت تسبق كل نشاط له في اكتساب الصنعة، بما في ذلك ثلاثية هنري السادس (١٥٨٩–١٥٩١م)، وريتشارد الثالث (١٥٩٢-١٥٩٣م)، وتيتوس أندرونيكوس (١٥٩٣-١٥٩٤م). والواقع أننا لا نعرف متى كَتب كيد التراجيديا الإسبانية، ولكن ذلك قد يكون ما بين ١٥٨٨م و١٥٩٢م. ولم أستطع قطُّ أن أفهم كيف ولماذا يَعتبِر باحثو شيكسبير أن التراجيديا الإسبانية كان لها تأثير جاد في هاملت. فعلى الرغم من الإقبال الجماهيري الذي حَظِيَت به التراجيديا الإسبانية فإنها مسرحية فظيعة، مكتوبة كتابة بشعة، بل إن القُرَّاء العاديين، حتى البلهاء منهم، سوف يدركون ذلك إن بدءُوا قراءتها. لن يستطيعوا تَجاوُز افتتاحيتها، وسوف يجدون من الصعب تصديق القول بأنها بهرت شيكسبير. أما الافتراض الأكثر عقلانية فهو أن هاملت الأولى التي كتبها شيكسبير أثَّرَت في التراجيديا الإسبانية، وأن أي تَشابُه بين الميلودراما الحقيرة التي كتبها كيد وبين هاملت الناضجة كان يعني أن شيكسبير كان يَسترِد وحسب ما كان قد كتبه أصلًا.
ولا يرتبط آمليت عند بلفوريست بأوجه شبه كبيرة، باستثناء النَّسق المذكور للحبكة، بهاملت عند شيكسبير، ولنا أن نفترض أن هاملت كان يواصل ابتعاده عن مصدره «الوحشي» كلما ازداد شيكسبير تنقيحًا للنص. ومهما يكن ما اجتذب شيكسبير أولًا إلى شخصية آمليت/هاملت، فقد بدأ مبكرًا؛ لأن كاتبنا المسرحي أطلق اسم هامنت على ابنه عام ١٥٨٥م، والمفترض أن ذلك كان يتضمن إشارة ما إلى البطل الدنماركي. وما دمت أومن إيمانًا ثابتًا بأن بيتر ألكسندر على حق في نسبة كتابة هاملت الأصلية إلى شيكسبير، فإن التساؤل عمَّا اجتذب والد الرضيع هامنت إلى الحبكة والشخصية قبل أن يبدأ حياته العملية كاتبًا للمسرح يكتسب أهمية كبرى.
يتمتع آمليت عند بلفوريست بسعة حيلة مثالية؛ إذ يصعب قتله، ويثابر على تنفيذ مشروع انتقامه، ويفوز آخر الأمر بعرش الدنمارك. ولكن شدة البأس المذكورة لا تكفي، فيما يبدو، لإطلاق اسمه على ابن وحيد وربما يكون قد فاتَنَا شيء هنا.
ولنا أن نفترض قطعًا أن هاملت الأول الذي كتبه شيكسبير في عام ١٥٨٨-١٥٨٩م، كان قريبًا من آمليت عند بلفوريست، فهو طالب ثأر روماني أو على غرار أبطال سينيكا في سياق شمال أوروبا. وتصوير السرائر والدخائل في مسرحيات شيكسبير لا يكتسب قُوَّته المميزة قبل الانتصار الكوميدي الذي يحرزه فولسطاف، وإن كانت تُوجَد آثار لاذعة له عند بوطوم، ونسخة جروتسك تتضمن عنصرين مُتضادين في شايلوك. ولا حاجة بنا لافتراض أن هاملت الأصلي عند شيكسبير كان مفكرًا تعاليًّا. إذ إن شيكسبير، بعد فولسطاف، وهال، وبروتوس قد اختار أن يعود عودة تنقيحية إلى جذوره باعتباره كاتبًا مسرحيًّا، وربما كان ذلك إحياءً لذكرى وفاة ابنه هامنت. وتتسم هاملت الناضجة بنبرة رثاء عميقة، وهي النص الذي ربما كان قد تعرض للتنقيحات الأخيرة بعد وفاة والد شيكسبير في سبتمبر ١٦٠١م. وقد نسمع أصداء نعي هامنت وجون شيكسبير في نعي هوراشيو «ونعي الجمهور» لهاملت. ولغز هاملت، ومسرحية هاملت، يدور حول النَّعي باعتباره نموذجًا تنقيحيًّا، وربما حول التنقيح نفسه باعتباره نوعًا من النعي للذات المبكرة لشيكسبير. فعندما بلغ السادسة والثلاثين، ربما تَبيَّن أنه وصل إلى ذروة روحية، وأن جميع مواهبه قد انصهرت معًا، وهو ينكبُّ على عمل تنقيحي أكبر مما حاوله قبل ذلك أو بعده.
لا يوجد هاملت «حقيقي» مثلما لا يوجد شيكسبير «حقيقي»، فالشخصية مثل الكاتب صفحة ماء عاكسة، مرآة شاسعة لا بد أن نرى فيها أنفسنا. فإن سمحتَ لهذا الكاتب بتلاقي الأضداد، فسوف يريك كل الناس ولا أحد في الوقت نفسه. ولا خيار لنا إلا أن نسمح بكل شيء لشيكسبير وهاملت المنتمي إليه، بسبب عدم وجود منافس لأي منهما.
ولكن ذلك طبع يتميز به وعي هاملت؛ إذ إن للأمير ذهنًا يتمتع بالقوة التي تتيح لأشد المتناقضات من المواقف والقيم والأحكام أن تتعايش في داخله بدرجة كبيرة من الاتساق، بل إن الاتساق قد بلغ حدًّا يجعل من هاملت، تقريبًا، كل شيء لجميع الرجال وبعض النساء. أي إن هاملت يُجسِّد قيمة الشخصية الإنسانية، مع التنحي عن قيمة الحب. فإذا كان هاملت يمثل فولسطاف الخاص به (وهي الصيغة الجميلة التي وضعها جودارد) فإنه فولسطاف الذي لا يحتاج إلى هال، تمامًا مثلما لا يحتاج إلى أوفيليا المسكينة، أو حتى هوراشيو، إلا باعتباره الباقي في قيد الحياة الذي سوف يَقصُّ قصة الأمير. والعنصر المُشترَك الذي يجمع بين تلاعب فولسطاف الرائع وتمسرح هاملت هو استخدام اللماحية العظمى لمناهضة المكيافيلية، ودفاعًا ضد افتئات عالَم فاسد.
ونحن نجهل مدى تلاعب شيكسبير نفسه، ولكننا نعرف مسرحياته، وهكذا نستطيع أن نعثر عليه من جديد وبيُسْر في بعض ملاحظات هاملت أكثر مما نستطيع ذلك بالنسبة لفولسطاف. فنحن لا نستطيع أن نتصور فولسطاف وهو يُقدِّم الإرشادات للممثلين، أو حتى وهو يشاهد مسرحية ما؛ إذ إن الواقع كان مسرحًا في عيني السير جون. ونحن نستمتع بتمثيل فولسطاف دور الملك هنري الرابع ثم دور هال، ولكننا لن نقبل أن يمثل فولسطاف دور فولسطاف؛ لأنه يتمتع بوحدة كبيرة في شخصيته. ومن بين بواعث الحيرة الكثيرة لدينا في حالة هاملت أننا لا نستطيع القطع قط فيما إذا كان يمثل دور هاملت متظاهرًا بالجنون أو غير متظاهر. فالمحاكاة؛ أي محاكاة الممثل لشخص ما، قضية تشغل بال هاملت، ولكنها من المُحال أن تُمثِّل مشكلة لفولسطاف. وعلى الرغم من فظاظة هال في معاملة فولسطاف، وهي التي لا يمكن أن نَتصوَّرها عند هاملت «فمن المحال لهاملت أن ينبذ هوراشيو مثلًا»، فإنه يشترك مع هاملت في اهتماماته التمثيلية، وهو أيضًا يدعو إلى القيام بمسرحيات صغيرة داخل المسرحية، وإن تكن تتسم بنفاق يحتقره هاملت. ولكنْ لو قُدِّرَ لهاملت أن يصبح ملكًا فلن يصير فورتنبراس ذا اللماحية الفائقة؛ أي صنوًا لهنري الخامس. فباعتبار أن هاملت يُمثِّل فولسطاف الخاص به، نفترض أنه سوف يمارس في هذه الحال «اللعب» السامي أي فن التمثيل. ونعود بهذا إلى المفارَقة التي تقول إن هاملت كان يمكنه كتابة مسرحية هاملت على عكس فولسطاف الذي يرى أن تأليف مسرحية فولسطافية لا ضرورة له، فإن فولسطاف ذو وجود مُلازِم للحياة من حوله بل إن وجوده فياض، على عكس ياجو وإدموند اللذين لا يتمتعان بهذه الخصيصة الكاملة. أي إن فولسطاف مثال لتدشين معنًى جديد، كما ذكرتُ آنفًا، على عكس هاملت الذي يتميز بالسلبية واللماحية معًا فيصد المعنى أو يوقعه في حيرة، إلا فيما يتجاوز التعاليَّة.
كان أودين، ذو اللماحية المسيحية، يفضل فولسطاف تفضيلًا شديدًا على هاملت، ويقول إنه يرى أن فولسطاف «رمز كوميدي لنظام الخير والإحسان الخارق» وهو اكتشاف يورثني قلقًا بالغًا؛ لأن أودين يبالغ في نظرته فيقول إنه يجد دلالات مسيحية مضمرة لفولسطاف الذي تلفظه الدنيا. ولك أن تفضل دون كيخوته على هاملت، مثل أودين، إذا شئت أن تتبع تفضيل كيركجارد للرسل على العباقرة. ومع ذلك فمن الغريب أن يرى أودين أن فولسطاف أقرب إلى الرسل منه إلى العباقرة؛ لأننا لا نجد رسلًا في شيكسبير. وكيركجارد دنماركي لمَّاح يُنادِم الأشجان مثل هاملت، لكنه ليس شخصية شيكسبيرية ما دام ينتمي حقًّا إلى الرسل، ويسعدنا عدم انتماء أودين إليهم، بل كان يتمتع بقدر من الروح الفولسطافية يكفي للصفح عن اختطافه السير جون وضمه إلى مذهب الخير والإحسان المسيحي.
هل يوجد عند شيكسبير أشخاص آخرون يتمتعون بالاستقلال؛ مثل فولسطاف وهاملت؟ إن الرصد الشامل لأعظمهم لا بد أن يتضمن بوطوم، وشايلوك، وروزالند، وياجو، ولير، ومكبث، وكليوباترا، وبروسبرو، ولكن هؤلاء على الرغم من قدرتهم على إثارة التأمل واستمراره، يعتمدون على عوالم مسرحياتهم أكثر من اعتماد هاملت وفولسطاف. لا شك أن فولسطاف أفلت زمامه من يد شيكسبير، لكنني أميل إلى القول بأن شيكسبير لم يستطع الفرار من هاملت، وهو الذي بُني على أسس باطنة، وأما فولسطاف فبدأ باعتباره بِناءً خارجيًّا ثم تحول إلى الباطن، ربما ضد الرغبة الأصلية لشيكسبير. وأظن ظنًّا أن هاملت يمثل إرادة شيكسبير؛ إذ أطال تأمله، على عكس فولسطاف الذي تشكل بمصادَفة مُوفَّقة. فإذا كانت عند شيكسبير شخصيات تشغل المكان كله فهي هذان الشخصان، وإن يكن هاملت وحده هو الذي رُسِمَ له هذا الدور عمدًا. فاغتصاب خشبة المسرح هو الدور الوحيد المنوط به، وهو، على عكس فولسطاف، ليس متمردًا على فكرة الزمن وفكرة النظام. ويشعر فولسطاف بالسعادة في وعيه بذاته وبالواقع، ولكن هاملت ليس سعيدًا بهذا أو ذاك. وهما يشغلان معًا قلب ابتكار الشخصية الإنسانية عند شيكسبير.
٣
من السمات الغريبة الخاصة بانتصارات شيكسبير أن أشد الأعمال الأدبية أصالة في الأدب الغربي، وربما في الأدب العالمي، قد أصبح اليوم مألوفًا إلى الحد الذي يجعلنا نشعر أننا قرأناه من قبل، حتى عندما نقابله أول مرة؛ إذ لا يزال هاملت باعتباره شخصية (أو دورًا مسرحيًّا إن أحببت) يَتمتَّع بالأُلفة وبالأصالة تَمتُّع مسرحيته نفسها. وكان الدكتور جونسون لا يكاد يرى أية مشكلة في مسرحية هاملت، وكان يمتدحها بسبب ما تمتاز به من «تَنوُّع»، وهي صفة تَصدُق على بطل المسرحية، فالأمير يقف مثل المسرحية على مبعدة من سائر أشخاص «وأعمال» شيكسبير، ربما لأن العادة لم تنتقص من تنوعه اللانهائي، فهو بطل يمكن وصفه برجماتيًّا بأنه شرير، فهو بارِد وقاتِل ومُنْكَبٌّ على ذاته، وعدمي، ومتلاعب. ونحن نستطيع أن نتعرف على ياجو بهذه الصفات، لا على هاملت؛ لأن الاختبارات البرجماتية لا تنطبق عليه. والوعي خصيصته البارزة، فهو أشد الشخصيات التي تَصوَّرها الإنسان وعيًا ومعرفة، بحيث نَتوهَّم أن هذا الشخص الخيالي من المحال أن يفوته إدراك شيء ما، فهاملت يشبه هنري جيمز، غير أنه بارع في الضرب بالسيف، وفيلسوف يُتوقَّع له اعتلاء العرش، ونبيءٌ ذو حساسية تسبق ما لدينا، في حقبة مقبلة.
وعلى الرغم من أن شيكسبير كتب ست عشرة مسرحية بعد هاملت، وهو ما يضعها بُعَيْدَ منتصف حياته العملية، فالواضح لنا أن من زاوية مُعيَّنة أن هذه الدراما تمثل ألفه وياءه معًا؛ إذ يوجد فيها شيكسبير برمته، ففيها التاريخ والكوميديا والهجاء الساخر والتراجيديا والرومانس، وقد يغدو المرء مثل بولونيوس إذا أراد المرء تحديد نوع هذه «القصيدة غير المحدودة». والواقع أن كل ما كان بولونيوس يعنيه أن مثل هذه المسرحية الشعرية لا حاجة بها للالتزام بقاعدة الكلاسيكية الجديدة عند بن جونسون بخصوص وحدتَي الزمن والمكان. وهاملت تتولَّى، بما في هذا من مُفارَقة، تدمير أية فكرة متسقة عن الزمن بصورة جذرية تفوق ما سوف نراه حتى في مسرحية عطيل. ولكن صفة «القصيدة غير المحدودة»، على نحو ما كان شيكسبير يعرف، فيما يبدو، أفضل عبارة متاحة تصف النوع الأدبي الذي تنتمي إليه مسرحية هاملت المكتملة، وهي التي تُعْتَبر ولا تُعْتَبر في آنٍ واحد مأساة الأمير. ومسرحية فاوست التي كتبها جيته، تدين بدين أكبر مما ينبغي لمسرحية هاملت، ويُعْتَبر جيته فيها خير معلم لنا لما يمكن أن تكون عليه «القصيدة غير المحدودة». والرؤيا الشيطانية التي تمثل القسم الثاني من فاوست «غير محدودة» إلى درجة فاضحة، ومع ذلك فإنها تفقد قدرًا كبيرًا من هالتها الرائعة إذا وضعت مباشرة بجوار هاملت. وأنا أزعم أن «القصيدة غير المحدودة» التي وضعها شيكسبير، تتسم بأنها ذات طابع شخصي وهوائي وتَعسُّفي مثل القسم الثاني من فاوست، وبأنها ذات رحابة مديدة غريبة أكثر من عمل جيته الغريب. ولا شك أن مسرحية هاملت الأصلية «المفقودة» كانت تراجيديا ثأر شيكسبيرية تُضارِع تيتوس أندرونيكوس، أو يوليوس قيصر (إذا أردنا أن نعتبر أن هذه المسرحية انتقام مارك أنطونيو) ولكن مسرحية هاملت الظافرة دراما كونية عن قدر الإنسان وتُخْفِي دافعها الأساسي بقناع الثأر. لنا أن ننسى «تَردُّد» هاملت و«واجبه» الذي يقضي بقتل عَمِّه الملك المُغتصِب للعرش. والواقع أن هاملت يستغرق بعض الوقت حتى ينسى كل ذلك، ولكنه ما إن يبدأ الفصل الخامس حتى نجد أنه لم يَعُد في حاجة إلى التذكُّر؛ لقد مضى الشبح، والصورة الذهنية للوالد قد فَقَدت سلطانها، وبدأنا نرى أن التردد والوعي مترادفان في هذه المسرحية الشاسعة. ويجوز لنا أن نتكلم عن لحظات التردد في الوعي نفسه؛ إذ إن هاملت يعلن مولد دراما الهوية العميقة، وهي التي لم يستطع أحد، حتى بيرانديلو وبيكيت، إلا تكرارها، ولو كان ذلك بنغمة أشد يأسًا، كما حاول بريخت عبثًا أن يهدمها. والواقع أن الدافع الماركسي عند بريخت قد غدا الآن مُجرَّد تكرار، على نحو ما فعل توني كوشنر في مسرحيته ملائكة في أمريكا [١٩٩٢م] وهي التي تسعى لإثبات عدم وجود أفراد مستقلين بالمعنى المعروف، وهي لا تحقق التعاطف الصادق إلا عندما يصعد روي قون، بطلها الشرير، على خشبة المسرح، وتَتبدَّى عزلته مثل أي وعي مُعذَّب وفق التقاليد الهاملتية.
لا نكاد نستطيع أن نتصور أننا ذوات منفصلة من دون أن يخطر هاملت على بالنا، سواء كنا ندرك أو لا ندرك أننا نتذكره، وهو ليس، في المقام الأول، عالم اغتراب اجتماعي، ولا غيابًا (أو حضورًا) للإله. فالواقع أن عالمه هو الذات الباطنة المتنامية، وهو أحيانًا يحاول نبذها، ولكنه يحتفل بها بصفة مستمرة تقريبًا، وإن يكن ذلك مضمرًا. وليس اختلافه عن ورثته، أي عنا نحن، أمرًا تاريخيًّا؛ لأنه من هذه الزاوية أيضًا يسبقنا، فهو دائمًا يوشك أن يكون. والطابع المؤقت هو السمة الغريبة الخاصة لوعيه الذي ما تفتأ براعمه تتفتح بلا نهاية، وإذا لم يكن في طوقه أن يعرف نفسه، معرفة كاملة، فما ذاك إلا لأنه موجة تتكسر من الحساسية والفكر والشعور، أو قل موجة يدفعها نبضها إلى الأمام. وقد أدرك أوسكار وايلد أن هاملت لم يكن يرى في الطابع الجمالي إلغازًا وتعمية بل كان يرى أنه يشكل العنصر المعياري أو الأخلاقي الوحيد في الوعي. وقال وايلد إن العالم أصبح حزينًا بسبب هاملت، فإن الوعي الذاتي عند هاملت يزيد الأشجان على حساب المشاعر الأخرى.
لن يصف أحدٌ هاملت يومًا ما بأنه «الدنماركي المَرِح»، ولكنَّ الوعي الحيَّ بهذه الصورة المستمرة، وفي جميع الأحوال، لا يمكن تصنيفه في فئة الشجو والشجن والحزن، فإن حزن هاملت، حتى في أحلك لحظاته، يتسم بشيء مؤقت في داخله. فإذا قلنا «الحداد المتردد» كنا نَبنِي تناقضًا ظاهريًّا، ومع ذلك، فإن جوهر هاملت لا يتسم بالالتزام الكامل قط بأي موقف أو نظرة أو مهمة أو أي شيء في الواقع على الإطلاق. وتكشف لغته عن ذلك في كل ما ينطق به. ولا يوجد في الأدب كله شخص يغير من «طابع اللياقة» في لغته بمثل هذه السرعة. فلنقل إنه ليس له مركز أو محور خاص، فإن لعطيل «عمله» وهو القتال الشريف، ويتمتع لير بالجلال الذي يكفله له كونُه ملكًا من ناصية رأسه لأخمص قدمه، ولدى مكبث مُخَيِّلة ترنو إلى المستقبل وتثب فتسبق ما يطمح إليه. ولكن هاملت أذكى من أن يقتصر على دور واحد وحسب، والذكاء في ذاته يتزحزح عن المركز عندما يشتبك مع حياد الأمير آخِر الأمر، فمن المحال فعليًّا تصنيف هاملت. أما فولسطاف الذي يُعْتَبر من الزاوية البرجماتية معادلًا لهاملت في الذكاء فهو يقول إنه يتماهى مع حرية اللَّماحية، ومع اللعب. وأما هاملت فإن أحد جوانبه يتمتع بالحرية، ويمتع نفسه بلماحية مريرة، وبتمثيل له غاية مريرة، ولكن له جوانب أخرى مقيدة، ولا نستطيع أن نجد التوازن.
لو كانت المسرحية مسيحية، أو حتى غير مسيحية، لاستطعنا القول إن هاملت يتمتع بالبركة، مثل داود، ويوسف، ويعقوب ذوي المهارة، عليهم السلام جميعًا وفق قول الكتاب المقدس. الواقع أن هاملت يتفوق على فولسطاف، أو كليوباترا في الكاريزما بل إنه ذو الكاريزما العظمى عند شيكسبير، ولكنه يحمل البركة كأنما كانت لعنة. ويقول كلوديوس، في حسرة: إن هاملت يتمتع بحب الشعب الدنماركي، ومعظم الجماهير تشاركه هذا الحب. وتنشأ المشكلة عندما يصبح معنى البركة «زيادة حياة في زمن بلا حدود»، وإذا كان هاملت يُجسِّد مثل تلك الحيوية البطولية، فإنه يمثل الموت أيضًا، ذلك البلد غير المستكشف الذي يحده الزمن. ولقد خلق شيكسبير هاملت من جدلية بين صفات متضادة، من المحال تسويتها حتى بموت البطل. وليس من المبالَغة أن نقول إن هاملت هو قوة شيكسبير الإبداعية؛ أي فن كاتب المسرح الشاعر الذي هو الطبيعة في ذاته. وهاملت أيضًا موت شيكسبير، ابنه المُتوفَّى ووالده الراحل. وقد يبدو هذا القول من نسج الخيال ولكنه واقعيٌّ من الزاوية الزمنية. فإذا قمتَ بتمثيل الفن الحي لمؤلِّفك ومستقبل الفَناء الذي ينتظره، فمن المحتمل أن تلعب أشد أدوارك الْتِباسًا وأكثرها تعددًا للدلالات، ألا وهو دور الشرير البطل. ويعتبر هاملت بطلًا تعاليًّا، ونوعًا جديدًا؛ إذ يرهص إرهاصًا مباشرًا بياجو وإدموند، أو قُل إنه الشرير في ثياب كاتب المسرح الذي يستخدم في الكتابة الألفاظ وحيوات الآخَرِين معًا. وقد يكون من الأفضل وصف هاملت بأنه البطل الشرير؛ لأن صفة التعالِيَّة عنده تنتصر أخيرًا على الرغم من أنه تَسبَّب برجماتيًّا في موت ثمانية، وهو من بينهم. وهكذا نشهد آخِر الأمر مسرحًا خاليًا، ليس به إلا هوراشيو الذي لا لون له، وفورتنبراس اليافع البلطجي، وأوزريك المتغندر، يمثل العاقبة التي خلفها هاملت البرجماتي.
لن يفعل هاملت شيئًا قبل موعده، فإن في باطنه شيئًا يصمم على عدم العناد. ويكمن جانب من حريته في عدم التعجل، أو عدم التبكير. فهل يدلنا هذا على أن شيكسبير كان يشعر بأسف ساخِر لأنه كتب هاملت الأصلية على عجلة بل في وقت قريب من نشأته الأولى باعتباره شاعرًا مسرحيًّا؟ وسواء صَدَّقْنا أو كذَّبْنا أنه كَتب الخطاب العظيم الذي يلقيه ممثل دور الملك (٣ / ٢ / ١٨٦–٢١٥)، فهل يجوز اعتباره ذا علاقة بمسرحية موت جونزاجو وبهاملت الأصلية؟ إن ضروب نفي ذلك تحطم كل شيء. ربما كان ذلك تعليقًا، إذن، على فشل شيكسبير الكاسف في هاملت المبتسرة. وتُعتَبر قراءة هاملت الناضجة أو مشاهدتها على المسرح باعتبارها عملًا مُنَقَّحًا يوازي تقبل جانب من جوانب هاملت نفسه باعتباره شخصًا يعيد النظر في ذاته. ما أعظم سحر مفارقات التاريخ الأدبي التي ربما بَدَت لعيني شيكسبير! وأظن أن هاملت [الأولى] التي كتبها شيكسبير سَبقَت كتابة توماس كيد لمسرحية التراجيديا الإسبانية وساعدت على وضبعها، بحيث يعتبر شيكسبير مُبتكِر تراجيديا الثأر والمُنقِّح العظيم لها. ومن المفارقات اللطيفة الأخرى أن بن جونسون الذي بدأ حياته العملية ممثلًا، واصل ذلك العمل فأدى دور هيرونومو المنتقم في التراجيديا الإسبانية، الدراما التي ألَّفَ لها فيما بعد بعض التنقيحات. وقام شيكسبير بدور شبح هاملت الأب في مسرح الجلوب «وربما أيضًا دور الممثل الملك». تُرى هل شعر بامتعاض وهو يؤدي دور الشبح في مسرحية هاملت الأصلية، وترديده النداء الذي سخر الناس منه وهو «هاملت! الثأر!»؟
ويمكننا أن ننظر نظرة بَالغة الاختلاف إلى المذهب التنقيحي في هاملت إذا لم يكن شيكسبير ينقح المسرحية المزعومة خطأً أي هاملت التي كتبها كيد بل مسرحيته المُبكِّرة هاملت. وأسلوب هاملت نفسه هو التنقيح الذاتي، فهل فُرِضَتْ عليه فرضًا بسبب المواجهة المتسمة بدرجة كبيرة من الوعي الذاتي بين شيكسبير وبين بداياته العرجاء في كتابة التراجيديا؟ فإلى جانب جوانب المحاكاة الساخرة لتيتوس أندرونيكوس — في مواجهاتها لتوماس كيد ومارلو — نجد ابتعادًا، في هذه المسرحية التي يكثر فيها القتلى، عن أي تماهٍ متعاطف مع أي فرد على خشبة المسرح. والواضح أن «التغريب» البريختي قد تعلمه «السارق الأكبر» من تيتوس أندرونيكوس التي يبعدنا بطلها عنها من البداية بتضحيته الرهيبة بابن تامورا، ويعقبها بذبح ابنه نفسه. والأرجح أن يفضل أي مُشاهد أو قارئ هارون المغربي على تيتوس؛ لأن هارون وحشيُّ التفكه، وتايتوس وحشيُّ الآلام.
وأظن أن شيكسبير كان يرد في كتابته لا على مارلو وكيد فقط، بل أيضًا على تعاطفه مع هاملت الذي نفترض أنه كان منتقمًا شديد الدهاء. ويكمن جانب من جوانب لغز هاملت [في صورته النهائية] في حب الجمهور والقراء له، مثل عموم أبناء الشعب في الدنمارك، في المسرحية. فحتى الفصل الخامس، نرى أن هاملت يحب والده الراحل (أو بالأحرى صورته) ولكنه لا يقنعنا بأنه يحب (أو كان يحب يومًا ما) أي شخص آخر. ولا يشعر الأمير بالندم على قتله بولونيوس، وهو من باب القتل الخطأ، ولا على تقريعه الشديد لأوفيليا دافعًا إياها إلى الجنون والانتحار، أو على إرساله روزنكرانتس وجيلدنستيرن، دونما ضرورة، إلى الموت الذي لا يستحقانه. ونحن لا نصدق هاملت في جعجعته عن حبه لأوفيليا، لأخيها لايرتيس، ما دامت الطبيعة الكاريزمية، فيما يبدو، تستبعد الندم، إلا بشأن ما لم يُفعل بعد. إن جمجمة يوريك المسكين لا تثير الحزن بل التَّقزُّز، ووداع الابن لأمه المتوفاة عبارة باردة الإحساس تقول «إلى اللقاء يا مليكة شقية.» كما نسمع الثناء المبالغ فيه على هوراشيو المحب والمخلص، ولكن الثناء ينهار عندما يمنع هاملت في غضب صديقه الحزين من الانتحار، لا بسبب الحب بل حتى يكلفه بمهمة قص قصة الأمير، خشية أن يحمل هاملت اسمًا مجروحًا إلى الأبد. لا شك قطعًا في وجود حيثيات «إدانة لهاملت»، وهي حيثيات لا يستهان بها، وأحدث من قدمها أليستير فاولر، ولكن حتى إن كان هاملت شريرًا بطلًا، فإنه يظل البطل الغربي للوعي.
وتعتبر صورة الذات الباطنة من أعظم مبتكرات شيكسبير، خصوصًا لأنها جاءت من قبل أن يكون أحد على استعداد لها، ولا شك أن البروتستانتية تنص على وجود ذات باطنة، ولكننا لا نجد عند لوثر ما يهيئنا لتَقبُّل لغز هاملت، وسوف يظل تصوير دخيلة نفسه قائمًا. يقول هاملت «لكنَّ بقلبي ما يقصر عنه الظاهر»، وقد يكون شيكسبير قد تَعلَّم من هاملت الأولى التي كتبها، ألا يقدم صورة درامية مباشرة قط لجوهر هاملت. وبدلًا من ذلك فإنه يقدم إلينا المونولوجات السبعة الفذة، والتي أبعد ما تكون عن الابتذال، وإن تكن سيئة الإخراج وحسب، وسيئة التمثيل وسيئة القراءة. وكان أعظمها الذي يستهله السؤال «نكون يا تُرى أم لا نكون» قد تَسبَّب في حرج شديد للمخرج وللممثل في أحدث عرض شاهدتُه لمسرحية هاملت، وهو المسخ الذي قام فيه رالف فينيس بدور هاملت؛ إذ نطق معظم سطوره مغمغمة خارج المسرح ثم دخل المسرح ليلقي الباقي بأقصى ما يستطيع من سرعة. ومع ذلك فإن هذا المونولوج يشغل قلب هاملت، وهو كل شيء ولا شيء في آن واحد، وهو امتلاءٌ وخَوَاءٌ يتبارزان. وهو الأساس لكل شيء تقريبًا يقوله في الفصل الخامس، ويمكننا أن نصفه بأنه «خطاب الموت مقدمًا»، والإرهاص بالتعالية عنده.
يفتقر هاملت إلى الإيمان بالله وبنفسه. ومن ثَمَّ فلا بد أن يُعَرِّفَ وجوده من خلال الآخرين، فيقول مثلًا إنني الرجل الذي تَزوَّجَتْ أمُّه عَمَّه الذي قَتل أباه. وهو يود أن يصبح مثالًا للبطل التراجيدي اليوناني؛ أي الشخص الذي يخلقه موقف مُعَيَّن. وهذا ما يتسبب في عجزه عن الفعل؛ إذ إنه لا يستطيع إلا أن «يمثل» أي أن يلعب بالإمكانات.
ويعود بنا هذا إلى حيث يمضي بنا هاملت الناضج دائمًا؛ أي إلى خطوات التنقيح الذاتي، وإلى التَّغيُّر باستراق السمع إلى ما يقوله المرء، ثم إلى إرادة التَّغيُّر. إن شيكسبير يشير إلى ما نسميه «الذات» بكلمة «نفس الشيء»، ومسرحية هاملت، مهما كان شكل نسختها الأولى، تُعتَبر إلى حدٍّ بعيد تلك الدراما التي يُنقِّح فيها البطلُ التراجيدي مفهومَه لنفس الشيء. وليس هذا تشكيلًا للذات بل تنقيح للذات؛ إذ يقول فوكوه: إن الذات تتشكل، ولكن شيكسبير يرى أن لها وجودًا أصيلًا، تخضع بعده لضروب التَّغيُّر. والموضوع الأعظم عند شيكسبير، أو الموقع العام، هو التَّغيُّر: فالأشرار الكبار عنده، من ريتشارد الثالث، إلى إدموند، وياجو، ومكبث، يعانون جميعًا تغييرات مُدهِشة قبل أن تنتهي حياتهم العملية. ولن نَعثُر أبدًا على هاملت الأصلية؛ لأنها راسخة في أرضية هاملت النهائية. إذ يُعتبر التَّهكُّم على الآخَرِين وعلى الذات نهجًا حاسمًا عند هاملت، وهو يَتهكَّم على الثأر تهكمًا شديدًا إلى الحد الذي يجعل من المُحال لنا التمييز بين تراجيديا الثأر وبين الهجاء الساخر. ويُدرِك هاملت أن حزنه يتناقض مع عبقريته الكوميدية، حتى تأتي لحظة طمسهما معًا أثناء ركوب البحر. وهو لا يثير الضحك ولا الأشجان في الفصل الخامس، فالاستعداد أو الإرادة كل شيء. وهكذا فإن شيكسبير ينزع السلاح من يد النَّقد الأخلاقي، وينجح بذلك في تبرئة هاملت من إثم المجزرة الأخيرة. أما مَقتَل جيرترود، ولايرتيس، وكلوديوس وهاملت نفسه فيرجع إلى خداع كلوديوس، على عكس موت بولونيوس، وأوفيليا، وروزنكرانتس، وجيلدنستيرن، وتلك الوفيات الأولى يمكن أن تنسب إلى نزعة التمسرح الفتاكة عند هاملت، أي إلى مزيجه الغريب بين دوري الكوميديان والمنتقم، وأما مقتل كلوديوس فليس عملًا ثأريًّا، بل هو النتيجة الطبيعية النهائية وحسب للخدعة المدبرة.
لا يوجد إذن أساس لاتهام هاملت بالمسئولية عن المشهد الذي يقتل فيه، ويشعر الجمهور بهذا الخلاص التنقيحي باعتباره موسيقى تعاليَّة، وهوراشيو يدعو الملائكة إلى الترانيم، وفورتنبراس يأمر باتباع الطقوس الحربية [في دفن القتلى]. هل من قبيل الوهم الكامل أن نقول إن شيكسبير، أثناء تنقيح نصه، كان يعرف أيضًا نظام الخلاص من الحِدَاد على ابنه المتوفَّى هامنت؟ لقد علمني المرحوم كينيث بيرك أن أسأل دائمًا: ما الذي يُحاوِل الكاتب أن يفعله، رجلًا كان أو امرأة، من أجل نفسه بكتابة هذا العمل؟ وكان بيرك يقصد بتعبير «نفسه» الشخصية الإنسانية في المقام الأول، لا الكاتب، ولكنه تَقبَّل بصدر رحب تنقيحي لهذا السؤال. كما علمني أيضًا أن أطبق على هاملت مقولة نيتشه القوية المأثورة: «إن الذي نستطيع أن نجد له ألفاظًا شيء مات من قبلُ في قلوبنا، ففِعْل التَّكلُّم يتضمن دائمًا نوعًا من الاحتقار». لا يمكن أن نجد قولًا أقرب من هاملت، وأبعد عن فولسطاف من هذا. فالذي يجد فولسطاف الألفاظ له لا يزال حيًّا في قلبه، ولا يوجد أي احتقار في نظره في فعل التَّكلُّم. ويمتلك فولسطاف اللماحية خشية أن يفنى من الحقيقة؛ وأما لماحية هاملت، فهو يَتخلَّص منها أثناء انتقاله إلى الفصل الخامس، ويُقصيها عن خشبة المسرح، ومن ثم يصبح هاملت الشخصية الإنسانية السامية التي لا بد أن يكون قدَرُها أن تفنى بسبب الحقيقة. وعندما قام شيكسبير بتنقيح هاملت، خلَّص نفسه من هاملت واستعاد حريته في أن يصبح فولسطاف مرة أخرى.
يوجد شيء مختلف في نص هاملت المكتمل (إذا صح هذا التعبير) يفصل بينه وبين المسرحيات الشيكسبيرية السِّت والثلاثين الأخرى. وربما كان الناس يشعرون دائمًا بذلك الاختلاف، ولكن السِّجل الذي يشير إليه يبدأ في عام ١٧٧٠م، عندما أكَّد الناقد هنري ماكنزي «الحساسية المتطرفة للذهن» عند هاملت. وكان ماكنزي يرى أن هاملت يمثل «جلال الأشجان». ويبدو أن الدكتور جونسون كان يرى أن تأثير أوفيليا أكبر من تأثير هاملت، ويبدي مُلاحَظة لا انفعال فيها تقول إن الأمير «على امتداد المسرحية كلها أقرب إلى أن يكون أداة من أن يكون فاعلًا». وليست هذه الملاحَظة بالضرورة مُناقِضة لما كان الرومانسيون الألمان والإنجليز يرونه في هاملت، ولكن جونسون بعيد كل البُعد عن الصورة الرومانسية لهاملت. فإننا أثناء احتضاننا، بحماس مُتطرِّف، لهاملت الرومانسي، بطَل التَّردُّد الذي تسيطر صورته المذكورة على النقد من جيته وهازلت، إلى إمرسون وكارلايل، ثم إلى أ. سي برادلي وهارولد جودارد، كنا نُبْدِي استعدادًا أكبر مما ينبغي لكَفِّ أبصارنا عن غرابة هاملت الدائمة، وتُفرُّده المستمر، على الرغم من جميع من حاكَوْه. ومهما تَكُن علاقة هاملت على وجه الدقة بشيكسبير، فإن علاقته بالشخصيات الأدبية والدرامية تماثل علاقة شيكسبير بالكتَّاب الآخَرِين؛ فهو يشغل طبقة لا يشاركه فيها أحد؛ إذ يفصله عن الجميع سطوع نجمه معرفيًّا وجماليًّا. فالأمير والشاعر عبقرِيَّتَا التغيير، وهاملت، مثل شيكسبير، فاعِل لا أداة للتغيير. وهو ما غفل عنه الدكتور جونسون.
قد يجد من يقضي عمره في مشاهدة المسرحيات بعض أوجه الشبه أو التماثل في أداء دور الملك لير أو عطيل أو مكبث، ولكن كل ممثل يؤدي دور هاملت يختلف اختلافًا يكاد يكون عبثيًّا عن جميع الآخَرِين، وأشد أدوار هاملت تعلقًا بذاكرتي الدور الذي أداه جون جيلجود، وأذكر أنه أصاب في تصوير نبالة الأمير الكاريزمية، ولكنه ربما زادها عمَّا ينبغي على حساب الطابع الفكري القلق عند هاملت. وسوف يختلف أداء هاملت دائمًا باختلاف المُمثلِين والمُخرجِين والمُشاهدِين والقراء والنُّقاد. ولقد نطق هازلت بحقيقة أكثر من رومانسية عندما قال: «إنما نحن هاملت». و«نحن» عنده تتضمن قطعًا دوستويفسكي، ونيتشه، وكيركجارد، وفي زمن لاحق جويس وبيكيت. فالواضح أن هاملت قد اغتصب الوعي الأدبي الغربي، عند أشد عتباته وعيًا ذاتيًّا، وهي أبواب لم نَعُد نستطيع ولوجها إلى مناطق «المابعد» التعاليَّة. ومع ذلك، فإن مُعظَمنا ليسوا من ذوي الحدس والإبداع والخيال الجامح، حتى ولو كنا نشترك في ثقافة أدبية أساسًا (وهي التي تُحتضر الآن في جامعاتنا وربما حان حينها قريبًا في كل مكان). وأما ما يبدو الطابع العالمي الأول عند هاملت فهو نوع حداده وكرم معدنه. ويتركز هذا الطابع بدايةً في نَعْي الوالد الراحل والوالدة الخاطئة، ولكننا ما إن نصل إلى الفصل الخامس حتى يصبح مركز الحزن في كل مكان، ويختفي محيط الدائرة أو يصبح لا نهائيًّا.
وكانت لدى شيكسبير بطبيعة الحال أحزانه الخاصة، وربما كانت تزيد في عام ١٦٠٠-١٦٠١م، عام استكمال هاملت عمَّا كانت عليه في الفترة ١٥٨٧–١٥٨٩م التي ربما شَهدَت أول تأليف مُؤقَّت لها. ومع ذلك فإذا كان حِداده الرئيسي يدور حول وفاة الطفل هامنت شيكسبير، فلقد تَحوَّل تحولات غَيَّرت صورته تمامًا في شجو هاملت وأشجانه. ويرجع جانب من سِحر هاملت لنا إلى إهماله [بمعنى عدم اكتراثه] وعلى الرغم من أن هذا الطابع بالقطع وعيٌ أتى به التنقيح، فإنه يبدو في الفصل الخامس كله؛ طافيًا على صفحة نهر يمضي به، نهر من اللامبالاة والخمود، كأنما كان يريد أن يقبل كل تحول في ذاته نفسها ويرفض إرادة التغيير. وكان شيكسبير باعتباره كاتبًا مسرحيًّا يتسم بنوع خاص به من الإهمال [أو عدم الاكتراث] ظاهريًّا، ولكن ذلك، كما في حالة هاملت، أقرب إلى الموقف المنفتح على التغيير منه إلى هَجْر الفن. والتوازي قائم من جديد بين صورة هاملت «العالمية المبعثرة»، وبين إنجاز الكاتب الدرامي للعالمية إنجازًا كاملًا بالرجوع إلى عمل مبكر كان قد هزمه وربما كان أول جهد يبذله. ولقد كانت هاملت دائمًا، وفق خبرتي الخاصة، تلبي فكرة شيكسبير عن المسرحية، أو عن مسرحيته الخاصة، وليس من قبيل المصادَفات، فيما يبدو، أن نجاح تنقيح هاملت قد فتح أمام شيكسبير الطريق إلى التراجيديات العظمى التي تلتها، وهي عطيل، والملك لير، ومكبث، وأنطونيو وكليوباترا، وكوريولانوس. إن في طبيعة هاملت نزعة انتصارية شرسة، على الأقل قبل الفصل الخامس، ويبدو أن التمجيد التراجيدي للأمير قد أطلق نزعة انتصارية معينة عند شيكسبير الشاعر المسرحي. وقد تمكن هاملت بصورة ما من إصابة المرمى من خلال الأسلوب الرفيع لموته، والواضح أن شيكسبير نجح أخيرًا في إصابة المرمى أيضًا فيما يتعلق بمسرحية هاملت «وشخص هاملت» وحرر نفسه لكتابة التراجيديا.
والملاحَظ أن محاولات حدس الشكل الذي كانت عليه هاملت الأصلية تتعثر في جميع الحالات تقريبًا بسبب افتراض أن توماس كيد مؤلفها، ومن ثم يُنظَر إلى تلك المسرحية كأنما كانت تراجيديا إسبانية أخرى. ولكن ما دام شيكسبير هو الذي كتب تلك المسرحية، وكانت أولى مسرحياته، فإن أفضل ما يعيننا في هذا المسعى هو كتابات شيكسبير المبكرة، باستثناء الكوميديات، ألا وهي الرباعية التي تتكون من الأجزاء الثلاثة لهنري السادس، وريتشارد الثالث، وتيتوس أندرونيكوس أيضًا، التي ربما كانت تُمثِّل التمرد بالمحاكاة الساخرة ضد الرباعية المشار إليها والتي كانت تظهر التأثر الشديد بمارلو. ولا يتمتع بالتذكار في هذه المسرحيات الخمس إلا شخصان: ريتشارد وهارون المغربي في تيتوس، وكلاهما نسخة من باراباس المكيافيلي، الشرير البطل في مسرحية يهودي مالطة لمارلو. وأظن أن اليافع شيكسبير كان مبهورًا بمسرحية تمبرلين [أي تيمورلنك] بجزأيها، والتي كانت تُقدَّم على المسرح في أواخر عام ١٥٨٧م، فبدأ كتابة هاملت في عام ١٥٨٨م باعتبارها محاكاة لتمبرلين، ثم استوعب الصَّدمة الكبرى التي أحدثتها يهودي مالطة عام ١٥٨٩م، ومن ثم أكمل هاملت الأصلية في ظل باراباس. وقد سبق لي أن بينت أن هارون المغربي يعتبر بوضوح محاكاة ساخرة من باراباس، وعلى الرغم من أن كثيرًا من النقاد يختلفون معي في هذا الصدد، فإن مسرحية تيتوس أندرونيكوس برمتها مواجهة بشعة لمارلو. والبطل هاملت، حتى في ١٦٠٠-١٦٠١م يعتبر إلى حدٍّ بعيد شريرًا بطلًا، يبشر بياجو، ومن المحتمل أنه كان في ١٥٨٨-١٥٨٩م يحاكي دهاء باراباس، وإن يكن ذلك في غمار سعيه المشروع للحفاظ على روحه والانتقام.
٤
ويقول هاري ليفين: إن «الخط الفاصل بين المسرحيات التاريخية وبين التراجيديات لا يلزم تحديده بالدِّقَّة التي نلحظها في تصنيفات طبعة الفوليو.» وهاملت النهائية تراجيديا بلا مِراء، ومهما يكن تعريفنا للتراجيديا، فلا بد من وَصْف مقتل هاملت بأنه تراجيدي. ولما كان آمليت الذي يصوره التاريخ والفولكلور مخادِعًا، أو مُهرِّجًا يَتصنَّع البلاهة حتى يُحقِّق لنفسه البقاء في قيد الحياة أولًا، وحتى ينجح بعد ذلك في استعادة مملكته، فإن تحويله إلى بطل تراجيدي كان يقتضي تحويرًا هائلًا، وأشك في أن شيكسبير الذي لم يكن تجاوز الخامسة والعشرين من عمره كان قادرًا على القيام بمثل هذا التحوير الحاسم بعيدًا عن مارلو. ولنا أن نتصور قصة ثأرية تتميز بنبرات كوميدية قوية، ينتصر فيها هاملت، الذي كان في ميعة الصبا، بذكائه الوقاد على أعدائه، ثم ينتهي بإحراق القصر الملكي في إلسينور، ويحظى من ثَمَّ بخاتمة سعيدة، على عكس الغاصب ريتشارد الثالث وصاحبيه المكيافيليين، باراباس اليهودي، وهارون المغربي. ولكن هاملت الأول المذكور كان، ولا شك يدين بالكثير إلى باراباس وإلى تمبرلين. أما دَيْنه إلى باراباس فيتمثل في استمتاعه الصفيق بذاته، وأما دَيْنه إلى تمبرلين فيتمثل في بلاغته، والمقصود مستوى رفيع من اللغة ذات الجبروت التي تُعْتَبر في ذاتها نوعًا من الفعل؛ أي «الإقناع الشعري»، أي ذات القدرة المُؤكدة على استمالة الأعداء أو قهرهم.
وترجع الحيرة التي نشعر بها إزاء شخصية هاملت إلى أن إيحاءاته لا نهاية لها. هل تُوجَد حدود له؟ إن حياته الباطنة أشد أصالة جذرية عنده، فذاته الباطنة تنمو على الدوام، كما يُمثِّل حلم الوعي اللانهائي، وهما خصيصتان لم يَسْبِق تصويرهما تصويرًا أكمل. فشخصيات شيكسبير العظمى قبل هاملت المُنقَّح، إبداعات كوميدية، وسبق لي أن قلتُ في هذا الكتاب إن شايلوك وهنري الخامس من بينها. وهاملت نفسه كوميديان عظيم، كما توجد في تراجيديا هاملت بعض عناصر هزلية تراجيدية، ومع ذلك فإن هاملت يصر على امتداد المسرحية كلها تقريبًا على اعتبار نفسه فاشلًا، بل على أنه بطل تراجيدي فاشل، وربما كان كذلك عندما بدأ، في نظر شيكسبير. والوهم أو التخيل الذي يكاد يكون عالميًّا ويقول إن هاملت ينافس شيكسبير، على نحو ما نراه في كتابة المسرحية، قد يَتجلَّى فيه كفاح شيكسبير مع بطله الذي يصعب كبح جماحه.
٥
يقول هاملت إن «الدنمارك سجن»، ولكننا لا نجد في كل ما كتب شيكسبير شخصًا يتمتع بحرية دفينة تفوق حرية الأمير ولي عهد الدنمارك. ولقد ذكرت آنفًا أن هاملت يتميز من بين جميع شخصيات شيكسبير الذين يعتبرون «فنانين أحرارًا في ذواتهم» (كما يقول هيجيل) بأنه أكثرهم حرية. فإن مسرحية شيكسبير تعتبر مجازيًّا قيدًا على بطلها وتحريرًا له في آنٍ واحد؛ إذ يشعر أحيانًا أنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا في إلسينور، ويخشى أيضًا أن يفعل أكثر مما ينبغي، خشية أن يصبح مثل نيرون، ويجعل جيرترود [والدته] مثل أجريبينا، والدة وعشيقة وضحية. والواقع أن عدد الحريات المتاحة لهاملت كبير إلى درجة محيرة، فله أن يتزوج أوفيليا، وله أن يعتلي العرش بعد كلوديوس إذا استطاع الصبر، وله أن يقتل كلوديوس في أي وقت تقريبًا، وله أن يرحل إلى جامعة وتينبرج من دون استئذان، وله أن يدبر انقلابًا يتولَّى عن طريقه الحكم «ما دام الشعب يحبه»، وله حتى أن يتفرغ لتأليف مسرحيات غير مُحْكَمة لعرضها في المسارح. وله أن يحاكي والده فيصبح قائدًا حربيًّا، يشبه الشاب فورتنبراس، أو ربما اختار أن يستغل ذكاءه الشديد في التأمُّلَات المنهجية القائمة على الحدس، سواء كانت فلسفية أو هرمسية [خاصة بالسحر وألغاز الكون] بتركيز أكبر مما اعتاد عليه [في دراسته الجامعية]. وتصفه أوفيليا أثناء نعيها لجنونه بأنه كان جنديًّا وباحثًا ومن رجال البلاط، ومثلًا أعلى في الشكل والسلوك لجميع أبناء الدنمارك. إذا كانت تراجيديا هاملت، أمير الدنمارك تعتبر «قصيدة غير محدودة»، تتجاوز النوع الأدبي وقواعده، فإن بطلها يُعْتَبر شخصية غير محدودة، يتجاوز حتى من أرهصوا به مثل داود — عليه السلام — في الكتاب المُقَدَّس، وبروتوس في التاريخ القديم. ولكن ما مدى الحرية التي يمكن أن تتاح لهاملت في مسرحية تراجيدية؟ وأي مشروع يمكن أن يكون بالضخامة التي تناسبه؟ إن القضاء على كلوديوس لا يَتطلَّب مَقدرة يتسم بها مثل هاملت، والانتقام كما هو معروف دافع قاصر، على أية حال، للبطل الرئيسي في الوعي الغربي. ترى ماذا كان في طوق شيكسبير أن يفعل إزاء نوع جديد من البشر، نوع لا يرعاه أحد حقًّا مثل هاملت؟
وبعد أن يستبعد أ. د. ناطول بتلطف آراء كل الذين يصرون على أن هاملت ليس شخصًا بل سلسلة من الصور، يقول: «إذا واجه كاتب مسرحي جمهورًا كاملًا يصر أفراده إصرارًا عنيدًا على قمع أية استنباطات والتهليل لأنساق الصور فمن حقه أن ييأس.» وإذا خطوت خطوة قصيرة تالية لما يقوله ناطول، قلت إن فن شيكسبير، منذ هاملت المكتوبة في ١٦٠٠-١٦٠١م، وحتى النهاية، كان يعتمد على أسلوب استنباط جذري أعمق مما كان يُستخدم حتى ذلك الحين، وليس على أيدي كتاب المسرح وحدهم. ويمكننا تعريف حرية هاملت بأنها حرية الاستنباط، ونحن نتعلم هذه الحرية الفكرية بالإصغاء إلى هاملت. فالاستنباط في الحياة العملية لهاملت نهج رفيع من الحدس، وهو مَجازي؛ لأنه يَثِب إلى الأمام مع كل تَغيُّر في الظروف، بحيث يصبح الاستنباط طريق الجمهور إلى وعي هاملت. فنحن نَسبر أغوار ظروفه، ونَثِق في دوافعه بمقدار ثقته فيها تقريبًا، ومن ثم نحدس عظمته، واختلافه عنا كمًّا وكيفًا. فإن هاملت يزيد عن مجموع فولسطاف والأمير هال إذا انصهرَا معًا، وهو يضيف إلى هذا الصَّهْر نوعًا من الاستنباط الإنكاري الذي سوف يحوله ياجو وإدموند إلى الطريق المؤدي إلى الهبوط والخروج، ولكنه عند هاملت يتخلى عن الإرادة، ولذلك فهو حر.
ويبدو لنا هاملت الآن أكثر تَخيُّلًا من مونتانيْ؛ إذْ تَولَّت أربعة قرون إثبات وجود هذين معًا باعتبارهما شخصيتين إنسانيتين حقيقيتين، وذلك إلى حدٍّ ما مثلما يظهر لنا أن فولسطاف حقيقة تاريخية مثل رابيليه، وإذا كانت الثقافة الغربية تريد أن تنجو من كراهيتها الذاتية في الوقت الحاضر فعليها أن تزيد من تماثلها مع هاملت. فليس لدينا صورة للمعرفة البشرية معادلة له في القوة والنفوذ وقد دُفع بها إلى أقصى حدودها، وسقراط الذي يصوره أفلاطون أقرب ما يكون لها. وكلاهما تَحُول جَودَة تفكيره دون بقائه، فإن سقراط، على الأقل عند مونتانيْ، يكاد يصبح البديل البرجماتي ليسوع عليه السلام، وعلاقة هاملت بيسوع — عليه السلام — لغز، ما دام شيكسبير، في كل حالة، يروغ من الإيمان ومن الشك. وما دام يسوع في إنجيل مرقس، مثل يهوه عند كاتب التوراة، شخصية أدبية تُعبد الآن مثل الإله (وأنا أتكلم من الزاوية البرجماتية فقط) فإننا نواجه اللغز الذي يقول إن هاملت من الممكن مناقشته ببعض الطرائق التي قد نستخدمها في الحديث عن يهوه أو سقراط أو يسوع — عليه السلام. وأساتذة الجامعة الذين يُدَرِّسون ما كنا نسميه «الأدب» ذات يوم، لم يعودوا يعتبرون الشخصيات الدرامية والأدبية أشخاصًا «حقيقية»؛ وليس هذا بمهم على الإطلاق، ما دام القراء ومرتادو المسرح العاديون «والمؤمنون من العامة» يواصلون مُحِقِّين سعيهم في سبيل الشخصية الإنسانية. ومن العبث تحذيرهم من أخطاء التماهي مع هاملت، أو يسوع — عليه السلام — أو يهوه. وأعظم ما يدعو للدهشة من منجزات شيكسبير، مهما يكن غير مقصود، يتيح لنا في هاملت نموذجًا عالميًّا لإرادة التماهي أو الهوية عندنا؛ إذ إن هاملت يقدم لبعضنا الأمل في تحقيق تعاليَّة علمانية خالصة، ولكنه يقدم لبعض الآخرين أفكارًا عن بقاء الروح بطرائق تقليدية. ربما يكون هاملت قد حل محل سقراط عند أفلاطون ومونتانيْ باعتباره المسيح الفكري. ولم يكن أودن يوافق على هذا ويفضل قيام فولسطاف بهذا الدور، ولكنني لا أستطيع أن أرى السير جون، عاشق الحرية، يكفِّر عن ذنوب أي أحد.
وأكبر ألغاز هاملت هالة التعاليَّة التي تنبثق منه، حتى في أشد لحظاته عنفًا، وهوائيةً، وجنونًا. ولقد تمرد بعض النقاد على هاملت، مؤكدين أنه، في أفضل الحالات، شرير بطل، لكنهم يذرون حبات الرمل في عكس اتجاه الريح، فتعيدها الريح ثانية. فأنت لا تستطيع حل لغز هاملت؛ إذ استمر سحره القوى زمنًا أطول من المعتاد، وهو يتمتع بموقعه وسط الشخصيات المتخيلة، وهو موقع شيكسبير نفسه بين الكُتَّاب، أي مركز المراكز. ولم أشهد ممثلًا — حتى ولو كان جون جيلجود — استطاع اغتصاب ذلك الدور لنفسه واستبعاد كل الآخَرِين. فهل تعتبر هذه المركزية مُجرَّد تشكيل استرجاعي للتاريخ الثقافي أم إنها مضمرة في نص شيكسبير؟ لقد أصبح هاملت والوعي الذاتي الغربي شيئًا واحدًا لمدة تَقترِب من قرنين من الحساسية الرومانسية. ونرى من الدلائل ما يشير إلى أن الوعي الذاتي العالمي يزداد تماهيه مع هاملت، حتى في آسيا وإفريقيا. وربما لم يَعُد ذلك ظاهرة ثقافية، بمعنى أن موسيقى الروك وسراويل البلوجينز تشكل ثقافة دولية، لقد أصبح الأمير هاملت أكثر مما أصبحت مسرحية هاملت أسطورة خرافية، أو قل إن الحديث المتناقل حوله وصل درجة النضج فأصبح أسطورة تاريخية.
وكما هو الحال بالنسبة لفولسطاف نستطيع أن نتحدث عمَّا لا يمثله هاملت بصحة أكبر من الحديث عما يُمثِّله. فهو ينتهي بصورة الرجل ذي الرضى [الديني] أكثر من صورة صاحب الإيمان الفعال، ولكن سلبيته في ذاتها قناع يخفي ما لا يمكن التعبير عنه وإن كان يمكن الإيحاء به. وليست تلك عدميته المبكرة. وهي التي تتصدر المسرحية، وإن لم تكن مغرضة، حتى في التمثيل. فخشبة المسرح، عند انتهاء المسرحية، مفروشة بالدلائل وجثث الموتى معًا. لماذا يبدي هاملت الحرص على سمعته بعد الوفاة؟ إن أشد لحظاته انفعالًا لحظة توصية هوراشيو أو أمره بأن يظل في قيد الحياة، لا من أجل المتعة ورغم مكابدة البقاء، بل ليكفل ألا يحمل الأمير اسمًا مجروحًا. كما أننا لا نتبين حتى النهاية اهتمام هاملت بالجمهور، فهو يطلب منا إضفاء الشرف والمعنى على موته، وينبغي قص قصته، لا على فورتنبراس وحده، كما ينبغي أن يحكيها هوراشيو، فهو الوحيد الذي يعرفها حق المعرفة. هل يفهم هوراشيو إذن ما لا نفهمه؟ إن هاملت في ساعة موته لا يحب أحدًا — لا أبَاه ولا أمه ولا أوفيليا ولا يوريك — لكنه يعرف أن هوراشيو يحبه. أي إن القصة يجب أن يقصها من يقبل هاملت قبولًا شاملًا، يتجاوز الحكم عليه. وعلى الرغم من الاحتجاجات الأخلاقية من جانب بعض النقاد، فلقد فرض هاملت إرادته. إننا نحن هوراشيو، واتفق أغلب الخلق على حب هاملت، على الرغم من جرائمه وأخطائه الفاحشة، وعلى الرغم حتى من معاملته الغاشمة، القاتلة برجماتيًّا، لأوفيليا. إننا نصفح عن هاملت، على وجه الدقة، مثلما نصفح عن أنفسنا، على الرغم من أننا نعرف أننا لسنا هاملت، ما دام وعينا من المحال أن يتسع السعة التي اتسعها وعيه. ولكننا نعبد (بالمعنى العلماني) هذا الوعي الذي يكاد يكون لا نهائيًّا، والذي نطلق عليه اسم الرومانسية، والذي ولَّده هاملت، وإن اقتضى الأمر أن ينقضي قرنان قبل أن يصبح الوعي الذاتي للأمير سائدًا في العالم، وثلث قرن تقريبًا قبل أن يؤكد نيتشه أن هاملت كان يملك «المعرفة الحقيقية والبصيرة التي كشفت له الحقيقة الرهيبة»، ألا وهي الهوة العميقة التي تفصل ما بين الواقع الدنيوي وبين النشوة الديونيسية للوعي المنطلق بلا نهاية. ولقد كان نيتشه أساسًا على حق، فهوراشيو رواقي، ولكن هاملت ليس رواقيًّا. فالجمهور، مثل نائبه هوراشيو، مسيحي إلى حدٍّ ما، وربما يكون أقرب كثيرًا إلى الفكر الرواقي أيضًا. ويستخدم هاملت، قرب النهاية، بعض المفردات المسيحية، لكنه يتحول من الاطمئنان المسيحي إلى الوعي الديونيسي، وتصبح استشهاداته من العهد الجديد قراءات خاطئة للتفاسير البروتستانتية والكاثوليكية للنص. ويقول هاملت إنه لو أتيح له الوقت اللازم لأخبرنا … بماذا؟ الموت يتدخل هنا، لكننا نتَلقَّى المفتاح اللازم للفهم في الكلمة اللاحقة: «فليكن!»
لقد أصبحت كلمة «فليكن» الكلمة المتواترة على لسان هاملت، وهي تتمتع بقوة رِضًى ذات إيحاءات غريبة. وهو يعزف عن الإفضاء بما في قلبه في صورة ألفاظ، ما دام يملك الأفكار فقط لا الغايات من ورائها. ومع ذلك ففي قلبه شيء أبعد ما يكون عن الموت، شيء يُبدِي الاستعداد أو الإرادة، وله قوة لا يساندها ضعف الجسد. وعندما تَلطَّف يسوع — عليه السلام — في حديثه إلى سمعان بطرس الذي يهوى النعاس، فإنه لم يقل إن الاستعداد كل شيء؛ إذ كان موقف يسوع — عليه السلام — موجهًا إلى يهوه وحده، ويهوه وحده كل شيء. وأما هاملت فليس عنده إلا الاستعداد، وهو الذي نترجمه بأنه الاستعداد لتَقبُّل وجود كل شيء، لا بسبب الثقة في يهوه بل بسبب الثقة في وجود وعي نهائي. وهذا الوعي يُنحِّي جانبًا الثقة الفريسية التي يقول بها يسوع عن بعث الأجساد، وكذلك مبدأ الواقع القائم على الشك والقائل بالعدم أو الفناء. وهكذا فإن كلمة «فليكن» تعني التنحية، فلا هي إنكار أو إثبات. فالذي كان يمكن لهاملت أن يخبرنا به هو الوعي الذي ظفر به بما يُمثِّله هو نفسه، ألا وهو خوف الكاتب المسرحي من معنى تجسيد التراجيديا التي لا يستطيع المرء تأليفها.
٦
يبدو أن فولسطاف كان يتمتع في حياة شيكسبير بحب جماهيري يفوق حتى حب هاملت، وأما القرون المنصرمة منذ ذلك الحين فقد اتَّسمَت بتفضيل الأمير لا على الفارس البدين فقط بل على جميع الشخصيات الأدبية المُتخيَّلة. وعالمية هاملت، فيما يبدو، أكبر دليل على لغز شخصيته الإنسانية، فكلما قَلَّ اهتمامه بأي أحد، بما في ذلك جمهور المسرح، زاد حُبُّنا له. وذلك فيما يبدو أغرب علاقة غرامية في العالم، فإن يسوع — عليه السلام — يبادلنا الحب ولكن هاملت لا يستطيع. ويتجلَّى في انحباس عواطفه — الذي يعتبر أُودِيبيًّا وفق تشخيص الدكتور فرويد — رضًى تعاليٌّ يسعدنا ألا يتوافر لدينا عنوان له. إذ إن هاملت يتجاوزنا، ويتجاوز كل شخص آخَر عند شيكسبير أو في الأدب، إلا إذا وافقتني في اعتبار يهوه الذي يصوره كاتب التوراة ويسوع — عليه السلام — في إنجيل مرقس من الشخصيات الأدبية. وعندما نصل إلى لير نفهم أن حقيقة تَجاوُز هاملت تتعلق بلغز المَلكِيَّة، الذي كان قريبًا من قَلْب الملك جيمز الأول، راعي شيكسبير. ولكننا نجد صعوبة في رؤية هاملت في صورة مَن يمكن أن يصبح مَلكًا، ويندر أن نجد بين القراء ومرتادي المسرح من يتفق مع حكم فورتنبراس بأن الأمير كان يمكن أن يلحق بهاملت الأب وبفورتنبراس نفسه باعتباره ملكًا عظيمًا آخر يحطم رءوس البشر. فالواضح أن سمو هاملت مسألة تَتعلَّق بالشخصية الإنسانية، وذلك ما فَهمَتْه أربعة قرون منصرمة. وأدلى أوغسط فيلهلم فون شليجيل في عام ١٨٠٩م بملاحَظة دقيقة تقول إن «هاملت لا يتمتع بإيمان راسخ لا بنفسه ولا بأي شيء آخر.» وأضيف أنا: بما في ذلك الإله واللغة. ويوجد هوراشيو، بطبيعة الحال، الذي ساء ذكر إسراف هاملت في امتداحه، ولكن سبب وجود هوراشيو، فيما يبدو، تمثيل حب الجمهور لهاملت. أي إن هوراشيو هو جسرنا الذي نعبره إلى «المابعد»، أي إلى تلك التعاليَّة السلبية الغريبة، وإن لم تخطئها العين، التي تُختتم بها المسرحية.
ويتعايش مذهب الشك اللغوي عند هاملت مع نطاق لغوي وقدرة على التحكم اللغوي أكبر حتى مما نجده عند فولسطاف؛ لأن مدى هذا النطاق الواسع أكبر مما تلقاه في عمل واحد مهما يكن. ودائمًا ما نُصدم عندما يذكرنا أحد أن شيكسبير استعمل ما يربو على ٢١٠٠٠ كلمة منفصلة، في حين أن عدد الكلمات التي استعملها راسين يقل عن ٢٠٠٠، ولا شك أن أحد الباحثين الألمان قد أحصى نصيب هاملت من الكلمات اﻟ ٢١٠٠٠، لكننا لَسْنا في حاجة إلى أن نعرف عدد مفردات هاملت، فالمسرحية أطول ما كتبه شيكسبير لأن هاملت ينطق بعدد كبير من ألفاظها، وكثيرًا ما كنتُ أتمنى أن يزداد طوله، حتى يتمكن هاملت من الحديث عن قضايا أكثر مما تَحدَّث عنه فيها. وأما فولسطاف، ملك اللَّماحية، فإنه على الرغم من ذلك لا يبلغْ وعي المؤلِّف المستقل بذاته، وأما هاملت فإنه يقتحم هذا الحاجز، ليس فقط عندما يُنقِّح مسرحية مَقْتَل جونزاجو فيجعلها مصيدة الفئران، ولكن بلا استثناء تقريبًا وهو يُقدِّم تعليقاته على كل شيء بين الأرض والسماء. ويقدم ج. ويلسون نايت تشخيصًا رائعًا لهاملت، واصفًا إياه بأنه سفير الموت إلينا؛ إذ لا تتحدث شخصية أدبية أخرى بالثقة المستمدة من ذلك البلد غير المستكشف، باستثناء يسوع — عليه السلام — في إنجيل مرقس. ويُعْتَبر هاري ليفين رائدًا في تحليل ثراء لغة هاملت، وهي التي تنتفع بجميع الموارد، ومن بينها الموارد الفريدة لأبنية اللغة الإنجليزية وألفاظها. ويُؤكِّد نُقَّاد آخرون التَّحوُّلات في الصياغة اللازمة للحفاظ على اللياقة اللغوية في كلام هاملت؛ إذ تتفاوت واثبة وَثبات مدهشة ما بين الرفيع والخفيض، وحالات التغيُّر المعرفي والشعوري. وأنا نفسي كثيرًا ما تدهشني الطرائق المُنوَّعة الدائبة التي يُصْغِي بها هاملت إلى ما يقول. وليست هذه القضية مقصورة على البلاغة أو الوعي بالألفاظ، بل إنها تمثل جوهر أعظم الخصائص الأصيلة لشيكسبير في تمثيل الشخصية الأدبية، والتفكير، والشخصية الإنسانية. فالجو الخلقي، والمنطق والإحساس — وهي الأساس الثلاثي للبلاغة وعلم النفس وعلم الكون — تذهلنا جميعًا في هاملت؛ لأنه يَتغيَّر في كل مرة يسترق السمع فيها لكلامه.
لا أدري كيف يستطيع أي جمهور أن يستوعب هذه الأفكار الميتافيزيقية السيكولوجية المضغوطة في ٢٦ سطرًا بالآذان وحسب، فهي مُكثَّفة ومُثْقَلة مثل أي فقرة أخرى عند شيكسبير، وحبكة مسرحية مصيدة الفئران لا تحتاج إليها، وأفترِض أن هاملت ألَّفها باعتبارها توقيعه الخاص، أو ما كان ذلك الدنماركي ذو الأشجان كيركجارد يسميه «وجهة نظري عملي باعتباري مؤلفًا». وهي ترتكز على السطور الأخيرة:
وأقر بأنك لا تحتاج إلى اتباع المذهب الشكلي أو التاريخي حتى تقول إن صدق الموقف إزاء هاملت أو فولسطاف مَسعًى لا معنى له. إذا قلت إنك تقرأ شيكسبير أو تشاهد مسرحياته حتى ترفع مستوى جارِك أو مستوى الحي، فإن كلامي يصبح هراءً وأصبح دون كيخوته النقد الأدبي. يُصوِّر المرحوم أنطوني بيرجيس، في رواية رائعة له عن شيكسبير عنوانها لا شيء كالشمس، شيكسبير وهو يدلي بملاحظة جميلة، نيتشية إلى حدٍّ ما تقول: «التراجيديا عَنْزَة وَلُود، والكوميديا رب الإخصاب في القرية، وكلمة الموت جماع الاثنين معًا.» كان يمكن لهاملت أو فولسطاف أن يُعَبِّر عن الفكرة تعبيرًا أفضل، ولكن التورية الجنسية في جماع الموت تنقذ العبارة النثرية، ونحن نتذكر أن شيكسبير لم يلتزم بكتابة أنواع أدبية مُحدَّدة، واستخدام المسكين بولونيوس لتحقير من يلتزمون بها. وقد قال ألدوس هكسلي ذات يوم: إن على التراجيديا ألا تذكر الحقيقة الكاملة، ومع ذلك فإن شيكسبير قد اقترب كثيرًا من إثبات خطل هكسلي. لقد كتب جون وبستر تراجيديا الانتقام، وكتب شيكسبير هاملت. لا توجد شخصيات إنسانية عند وبستر، على الرغم من أن كل فرد ينجح في تَلقِّي الموت بفصاحة تقترب من فصاحة شيكسبير. ولا بد أن تصدق صورة الحياة عند شيكسبير إذا كان للشخصية الإنسانية أن تكون لها قيمة. وأن تكون في ذاتها قيمة. ولا تنجح القيمة والعاطفة في التواصل بيسر فيما بينهما، ولكن مَن غير شيكسبير نجح في تصالحهما هذا التصالح الذي لا يتوقف قط. وعلى أية حال ما الشخصية الإنسانية؟ يقول المعجم إنها الصفة التي تجعل المرء شخصًا، لا شيئًا ولا حيوانًا، أو إنها مجموعة من الخصائص التي تجعل المرء متميزًا بطريقة ما. ولكن ذلك لا يفيدنا، وخصوصًا فيما يتعلق بهاملت أو بفولسطاف، فهذان مُجرَّد دَوْرَين لمُمثِّلَين، كما يقول لنا الشَّكلِيُّون، وربما يقع الممثلون في حب الأدوار، ولكن تُرانا نفعل ذلك إذا قُدِّر لنا يومًا ما أن نصعد على خشبة المسرح؟ ما الذي تعنيه «بشخصية يسوع عليه السلام»، سواء كنا نقصد يهوه أو كاتب التوراة أو الإله الأمريكي، المُولَع ولعًا ساء صيته بالجمهوريين والمحافظين الجُدد؟ وأقول إننا نعقل ما نقول وما نقصده أو نعنيه عندما نتكلم عن شخصية هاملت في مقابل شخصية صديق لنا صدوق، أو عن شخصية أحد المشاهير الذين نحبهم، إن شيكسبير يقنعنا بأننا نعرف شيئًا في هاملت، شيئًا يُعْتَبر أفضل دخائله وأعمق سرائره، وهو شيء غير مخلوق يرجع بنا إلى أبعد من أُولى ذكرياتنا المُبكِّرة عن أنفسنا. إن عند هاملت أنفاسًا تَهُبُّ أو شرارة تَندلِع، وتُمثِّل مبدأه في التَّفرُّد، وهي هوية يمكن التَّعرُّف عليها وتدل عليها لغته الفريدة، وإن لم تكن اللغة بقدر ما هي الألفاظ، ونعني الاختيار المعرفي بين الكلمات، الاختيار الذي يتمثل دافعه الدائم في التوجه نحو التحرر: من إلسينور، ومن الشبح، ومن العالم. ويشبه هاملت فولسطاف في أن تعريفه المضمر للشخصية الإنسانية يقول إنها نمط من أنماط الحرية، وهو أقرب إلى أن يكون رحِمًا للحرية من كونه نتاجًا للحرية. وأما فولسطاف، كما ذكرتُ آنفًا فهو مُتحرِّر إلى حدٍّ بعيد من الأنا العليا اللَّوَّامة، وأما هاملِت فيعاني معاناة بَالِغة الشدة في الفصول الأربعة الأولى منها، لكنه في مرحلة التَّحوُّل التطهيري الجميلة، أي في الفصل الخامس، يكاد يتحرر مما هو فوق الأنا أو أعلى منها، وإن كان الثمن الذي دفعه هو الموت قبل أجله بفترة طويلة.
في رواية جاتسبي العظيم التي كتبها فيتزجيرالد، يقول نيك كاراواي، الراوي بنهج كونراد: إن الشخصية الإنسانية سلسلة من الأفعال الناجحة، ولا بد أن هذا الوصف كان سيروق لوولتر باتر، ولكنَّ له حدودًا صارمة. ربما كان جاي جاتسبي مثالًا لتعريف كاراواي، ولكن مَن ذا الذي يُغامِر بأن يقول إن الشخصية الإنسانية عند هاملت تتكون من سلسلة من الأفعال الناجحة؟ إن وليم هازلت، كما قلتُ آنفًا، أعطى صوته للحياة الباطنة قائلًا: «إننا نحن هاملت.» وكان هازلت يوحي بأن خشبة مسرح هاملت هي مسرح الذهن والنفس، ومن ثَمَّ فإن أفعال هاملت تصدر من أعمق أعماق الذات الباطنة، وهي التي تعتبر على هذا المستوى الذات الباطنة لكل فرد تقريبًا. وكانت مواجهة هذا التمثيل المحير، الذي يُعتَبر عالميًّا وفرديًّا في آنٍ واحد، هي التي جعلت ت. س. إليوت يُصدِر حكمه العجيب قائلًا: إن هاملت فاشلة جماليًّا. وأفترض أن ت. س. إليوت، بما يكابده من جراح خاصَّة، كان يُقدِّم رد الفعل على العلة الروحية عند هاملت، وهي بالقطع أشد أنواع الهم والغم غموضًا وإلغازًا في الأدب الغربي. وأما الميتافيزيقا الشعرية الخاصة فهي، كما رأينا، أن الشخصية والقَدَر متضادان، ومع ذلك، ففي ختام المسرحية من المحتمل أن نعتقد أن شخصية الأمير كانت قَدَره. هل لدينا إذن دراما عن حرية الشخصية الإنسانية أو عن قدر الشخصية؟ إن ممثل دور الملك يقول إن كل شيء يحدث عرَضًا، ويلمح هاملت في الفصل الخامس إلى عدم وقوع أي شيء عرضًا. مَن منهما عَسانا نُصدِّق؟ إن هاملت في الفصل الخامس يبدو في صورة مَن نجح في علاج ذاته، ويؤكد أن الاستعداد أو الإرادة كل شيء. وأنا أفسر هذا القول بأنه يعني أن الشخصية الإنسانية كل شيء، بشرط أن تكون قد طَهَّرَت نفسها ووُلِدَت من جديد. ومع ذلك فإن هاملت لا تكاد تكون لديه رغبة في البقاء.
تعتمد الرفعة المعترف بها على غرابة تستوعبنا حتى ونحن نعجز إلى حدٍّ كبير عن استيعابها. ما الموقف الذي يتخذه هاملت تجاه الحياة، أو ما موقف هاملت الذي يعود من البحر في بداية الفصل الخامس؟ إن هاملت نفسه يتأرجح تأرجح الدُّوار بين كونه كل شيء وكونه لا شيء، وهو التناوب الذي يسود حياتنا بالقدر الذي يسود أدبنا. ويشبه هاملت شيكسبير في عدم اتخاذ أي موقف، وهذا هو السبب الذي يجعل مُقارَنة أي منهما ﺑ «مونتانيْ» مُضلِّلة إلى حدٍّ بعيد. فنحن نعرف ما نعني عندما نتكلم عن مذهب الشك عند مونتانيْ، ولكننا نميل إلى أن نعني أكثر مما ينبغي وأقل مما ينبغي عندما نُؤكِّد مذهب الشك عند هاملت أو عند شيكسبير. إذ لا يوجد لفظ «أو ألفاظ» تتسم بالدِّقَّة المُطلَقة لوصف مواقف هاملت تجاه الحياة والموت في الفصل الخامس. وللمرء أن يجرب استعمال هذه المصطلحات كلها؛ الرواقية، مذهب الشك، مذهب الرضى، والعدمية، ولكنها لا تنجح النجاح المنشود. وأنا أميل إلى تفضيل مصطلح «اللامبالاة»، لكنني أجد أنني أُعَرِّفُ الكلمة وفقًا لدلالتها عند هاملت وحده. وأما مذهب الرِّضَى فأصبح يعني بعد نصف قرن من كتابة هاملت طريقة إسبانية مُعيَّنة للتصوف الديني، ولكن هاملت ليس متصوفًا أو رواقيًّا بل ولا يكاد يُعْتَبر مسيحيًّا على الإطلاق؛ إذ إنه يدخل مشهد المذبحة الأخير بروح انتحارية، ويمنع هوراشيو من الانتحار بوعي أناني يقول إن هناء هوراشيو [بالموت] سوف يُؤجَّل حتى يتاح لقصة الأمير أن تُرْوَى وتُعاد روايتها. ومع ذلك فهو يبدي الحرص على سمعته أثناء احتضاره؛ إذ ينصب قلقه الأخير على «اسمه المجروح» إن لم يكتب البقاء لهوراشيو حتى يبرئه. فما دام قد قتل بولونيوس، ودفع أوفيليا إلى الجنون ثم إلى الانتحار، وأرسل روزنكرانتس وجيلدنستيرن إلى حيث يُقْتَلان دون مبرر، فإن قلقه لا بد أن يبدو مُبرَّرًا، ولكنه في الواقع ليس لديه وعي بأي ذنب جناه. وخوفه من «اسمه المجروح» لغز آخر، ولا يشير قط إلى قتل كلوديوس ولايرتيس، ناهيك بقتل أمه، وهي التي يوجه إليها تحية وداعٍ ذات برود صادم قائلًا: «إلى اللقاء يا مليكة شقية.» وقلقه ذو طابع مسرحي مناسب، فهو يوجهه إلينا، نحن الجمهور:
ويبدو لي ذلك قَلق مؤلِّف مسرحي، مناسب للمؤلِّف الذي نَقَّح مسرحية مصيدة الفئران، وشخصية ستيفن في رواية يوليسيز لمؤلفها جيمز جويس، لا يكاد يميز في مشهد المكتبة في تلك الرواية بين شيكسبير وهاملت، وكما قلت آنفًا، يؤكد لنا ريتشارد إلمان أن ما يتخيله ستيفن ظل يمثل على الدوام قراءة جويس الجادة للمسرحية. ويبدو هاملت نفسه متحررًا من صدمة الجمهور الذي يرى أن هذا الوعي الشاسع يُقضى عليه في شبكة مُعقَّدة عبثية تقوم على سيف مسموم وكأس مسمومة. فلشد ما يضير حساسيتنا أن نرى بطل الوعي الفكري الغربي يموت في هذا السياق الهزيل إلى حدٍّ كبير، ولكن ذلك لا يضير هاملت الذي سبقت له معاناة أهوال أكبر كثيرًا مما ينبغي. إننا ننعي شخصية إنسانية عظيمة، وربما كانت العظمى، ولكن هاملت قد كف عن النعي في الفاصل بين الفصل الرابع والفصل الخامس، وأعمق أسرار شخصيته الإنسانية متداخلة في طبيعة نعيه العالمي وفي شفائه الذاتي. ولن أتعرض للصور المَجازية الأُودِيبِيَّة، ولن أُقْدِم حتى على رفضها؛ إذ إنني خَصَّصتُ فصلًا كاملًا لهذا الرفض في كتاب عن الأدب الغربي المعتمد، قَدَّمتُ فيه قراءة شيكسبيرية لفرويد. إن اليأس الروحي عند هاملت يتجاوز مقتل والد، وتَعجُّل والدة بالزواج، وجميع الأبخرة العَفِنة المتصاعدة من فساد إلسينور، حتى عندما يتجاوز تمجيده في الفصل الخامس أي زوال لمركَّب أوديب. ويصبح السؤال الحاسم هنا: كيف ينبغي لنا أن نشخص المزاج السوداوي لهاملت في الفصول الأربعة الأولى، وكيف نشرح فراره منه إلى مكان رفيع في الفصل الخامس، وهو مكان ينتمي أخيرًا له وحده تمامًا، إلى جانب ما يشبه طريقة جديدة جدة جذرية في التعاليَّة العلمانية؟
كان الدكتور جونسون يرى أن الامتياز الخاص لمسرحية هاملت يكمن في «تَنوُّعها»، وهو ما يبدو لي أكثر انطباقًا على الأمير منه على الدراما. وأكثر ما يُميِّز شخصية هاملت الإنسانية طبيعته التحولية، بمعنى أن تغيراته من الظواهر المتسقة الثابتة، والتي تستمر حتى بعد التغير «البحري» الذي يسبق الفصل الخامس. والأحجية الدائمة التي نواجهها تقول إن أعظم شخصية إنسانية تتصف بالتكثيف المسرحي عند شيكسبير تتوسط مسرحية ساء صيتها بسبب توقعاتها القلقة، وبسبب حالات التأخير التي لا تتوقف، وهي التي تعتبر أكثر من محاكاة ساخرة للثأر الذي يتأخر بلا نهاية. وهاملت ممثل عظيم، مثل فولسطاف وكليوباترا، ولكن مُخرج مسرحيته، أي المؤلف المسرحي، يعاقب بطل العمل، فيما يبدو، بسبب شروده الذي يُؤدِّي إلى انفلات زمامه، أو قل بأنه جنيٌّ هرب حاملًا طاقة زهر أبولو، ربما لأنه قد راودَتْه شكوك أكبر مما ساور خالقه. وإذا كان هاملت ذا خيال مريض، فإن ذلك يشاركه فيه جميع مَن في المسرحية، ربما باستثناء هوراشيو، الذي ينوب عن الجمهور. فعندما نلاقي هاملت أول مرة، نجده طالبًا جامعيًّا لا يُسْمَح له بالعودة إلى دراسته، ولا يبدو أنه يزيد عن العشرين من عمره، لكننا نراه في الفصل الخامس في سن لا تقل عن الثلاثين، بعد رحلة بحرية لم تستغرق أكثر من عدة أسابيع على أكثر تقدير. ولكنَّ أيًّا من ذلك لا يهمنا، فإنه دائمًا أصغر وأكبر شخصية إنسانية في الدراما، بأعمق معنى لهاتين الصفتين، بل إنه أكثر سنًّا من فولسطاف، فالوعي نفسه قد تسبب في تقدمه في السن، وهو الوعي الفتاك الذي يجلبه المرض الروحي لعالمه، إذ إنه استوعب ذلك المرض في باطنه ولا يرغب في أن يدعوه أحد لعلاجه، ولو اقتصر السبب الحقيقي لطابع التغيير والتغير عنده على انطلاقه نحو الحرية. والنقاد متفقون منذ قرون على أن الجاذبية الفريدة لهاملت تَكمُن في أننا لن نجد بطلًا آخَر من أبطال التراجيديا الرفيعة يتمتع فيما يبدو بحرية هاملت الكبيرة، وهي من المفارقات. فهو لا يكاد يكون موجودًا في المسرحية في الفصل الخامس، فهاملت «النهائي» يشبه ما يسميه ويتمان «أنا الحقيقي» أو «أنا نفسي» في أنه موجود داخل اللعبة وخارجها؛ إذ يتابعها ويَتعجَّب منها. ولكن إذا كان تَغيُّره البحري قد شفاه من مرض إلسينور، فما الذي يدفعه إلى العودة إلى القصر الملكي وإلى الفاجعة النهائية؟ ونحن نشعر أنه لو قدر للشبح أن يحاول الظهور مرة ثالثة في الفصل الخامس، فسوف يزيحه هاملت جانبًا؛ إذ إن هوس انشغاله بوالده المُتوفَّى قد انتهى بصورة قاطعة، وإذا كان لا يزال يعتقد أن أمه المفترى عليها زانية، فإن اهتمامه بهذا الأمر قد ذوَى أيضًا. وهو يسمح لنفسه بعد أن تطهر بأن تخدعه النسخة الإيطالية المُهذَّبة من مَصيدة الفئران التي وضعها كلوديوس، اهتداء بالمبدأ الذي أعلنه وهو «فليكن». وربما يكون أفضل تعليق هو التعديل الذي جاء به والاس ستيفنز والذي يقول: «فليكن الوجود خاتمة الظاهر.» ومع ذلك فإن علينا مرة أخرى أن نعود إلى مرض إلسينور ودواء الرحلة البحرية.
أظن أن كل دارس للصور الشعرية في هاملت قد تأمَّل صورة القرح، أو الخُرَّاج، التي التقطها روبرت براوننج فصاغ منها تورية بديعة، قائلًا: «هذا هو القرح الذي فجرته حتى أريحك من غرورك.» وقد يكون هاملت نفسه الذي أرهص بالكثير من شخصيات أو أقنعة براوننج، يقصد التورية في الإشارة إلى القرحة باعتبارها خُرَّاجًا:
ومرض إلسينور ينتمي إلى كل مكان وكل وقت. إذ يوجد عفن في كل دولة، وإن كنت تتمتع بحساسية كحساسية هاملت، فلن تصبر عليه آخر الأمر. ومأساة هاملت أخيرًا مأساة شخصية إنسانية، وصاحب الكاريزما مضطر إلى الخضوع لسلطة الطبيب رغم أنفه، وأما كلوديوس فهو مجرد عرض عارض، وأما العدو المُقْنعُ الوحيد لهاملت فهو هاملت نفسه. عندما ابتعد شيكسبير عن رسم الشخصيات الكارتونية عند مارلو، فأصبح بذلك شيكسبير، كان يعد الهوة السحيقة عند هاملت لنفسه. فإن هاملت يعرف لا أقل من كل شيء عن نفسه، ويعرف أيضًا أن نفسه ليست شيئًا في نفسه. وهو يستطيع أن يذهب، بل ويذهب فعلًا إلى ذلك «اللاشيء» عند البحر، ثم يعود بلا مبالاة، أو بإحساس عدمي، أو بالرضى وحسب، أيًّا كان الذي تفضله. ولكنه يموت شاعرًا بقلق شديد على اسمه المجروح، كأنما يُؤدِّي دخوله مرة أخرى دوامة إلسينور إلى بعض التفكك لتَغيُّره الكبير. ولكن ذلك لا يصيب إلا جانبًا واحدًا؛ إذ إن موسيقى التعاليَّة المعرفية تعلو من جديد في لحن احتفالي في ختام مأساة هاملت، فتحقق الانتصار العلماني في عبارة «لم يبق إلا الصَّمت.» وأما ما لا يخمد، أو ما يستمر قائمًا قبل الصمت، فهو القيمة الخاصة التي تتميز بها الشخصية الإنسانية لهاملت، والتي يطلق عليها اسم آخر هو «الرفعة المقدسة».
والمقصود في هذا السياق تحديدًا هو المعنى الفلسفي الأول الذي يقول بأن الطاقة الذهنية للإنسان إذا كانت تتمتع بالعمق والحِدَّة استطاعت أن تتجاوز عالَم الحواس إلى عالَم الفكر، بحيث تعلو على خبرات المرء في الحياة اليومية وتتطلب قُدرة على التجريد للاستجابة إلى الفكر التعالِيِّ، أي الذي يتجاوز المحسوسات والخصوصيات إلى المجردات والعموميات، وهو ما يتطلب جهدًا في الفهم والمتابعة والتذوق.