الفصل الثالث والعشرون

هاملت

١

يَكتَنِف الغموض منشأ هاملت، أشهر مسرحيات شيكسبير، مثلما يَختلِط علينا حال نصها؛ إذ يُوجَد نَص مُبكِّر لهاملت عكف عليه شيكسبير فنقَّحه دراميًّا وتجاوَزه، ولكن هذا العمل التجريبي مفقود ولا نعلم مُؤلِّفه علم اليقين، وإن كان معظم الباحثين يعتقدون أن كاتبه كان توماس كيد، الذي كتب مسرحية من مسرحيات الثأر تعتمد على الأنماط الفطرية عنوانها «التراجيديا الإسبانية»، غير أنني أعتقد أن بيتر ألكسندر على حقٍّ في حدسه أن شيكسبير نفسه هو الذي كتب هاملت الأصلية قبل عام ١٥٨٩م، عندما كان قد بدأ الكتابة للمسرح، وعلى الرغم من أن معظم الباحثين يختلفون مع ألكسندر في حدسه فإن هذا الحدس يعني أن هاملت في شكلها النهائي، والتي قدمت للجمهور صورة جديدة لشيكسبير، ربما كانت كامنة تتطور عنده لما يربو على عقد كامل.

والمسرحية الكاملة بالِغة الطول؛ إذ تقترب من أربعة آلاف سطر، ويندر أن تُقدَّم على المسرح بشكلها الكامل (تقريبًا). وأما حكم ت. س. إليوت، الذي كان شائعًا يومًا ما، والذي يقول إن هاملت «بالقطع فاشلة فنيًّا» (وما العمل الأدبي الذي يعتبر ناجحًا فنيًّا؟) فهو حُكْم كان حافزه، فيما يبدو، عدم التناسب بين الأمير وبين المسرحية، بمعنى أن هاملت يظهر في صورة وعي أكبر كثيرًا مما تَتحمَّله مسرحية هاملت، فمسرحية الثأر لا تَملِك أن تكون المجال المناسب لأعظم تمثيل غربي للمفكر. ولكن هاملت ليست مسرحية الثأر التي تتظاهر وحسب بهذه الصفة، بل إنها مسرح للعالَم، مثل الكوميديا الإلهية، أو الفردوس المفقود، أو فاوست، أو يوليسيز، أو البحث عن الزمن الضائع. والتراجيديات السابقة التي كتبها شيكسبير تبشر بها من بعض الجوانب فقط، وأعماله التالية، على الرغم من أصداء هاملت فيها، تختلف اختلافًا شديدًا عنها في الروح وفي النغمة. ولا توجد شخصية واحدة في المسرحيات، حتى فولسطاف وكليوباترا، تجاري أصداء هاملت اللانهائية.

وظاهرة هاملت، الأمير من دون المسرحية، غير مسبوقة في الأدب الخيالي للغرب. ويقترب دون كيخوته وسانشو بانزا، وفولسطاف، وربما مستر بيكويك من سيرة هاملت باعتبارهم مبتكرات أدبية تحولت إلى أساطير مُستقِلة، ويمكن أن يشمل هذا الاقتراب عددًا محدودًا من شخوص الأدب القديم؛ مثل: هيلين الطروادية، وأوديسيوس (يوليسيز) وأخيليس. ولكن هاملت يظل منفصلًا عنهم؛ إذ يتميز بصفة تعاليَّة تجعله أقرب مكانة من الملك داود في الكتاب المُقدَّس، أو حتى من بعض الشخصيات الأسمى فيه. وترتبط بهاملت «كاريزما» مُعيَّنة، أي هالة خارقة، في داخل تراجيديا شيكسبير وخارجها. والشخصية الكاريزمية نادرة في الأدب العلماني، وهي غير متواترة خصوصًا (وبغرابة) عند شيكسبير. ومن الواضح أن هنري الخامس كان يُقْصَد به أن يكون ذا كاريزما، ولكنه يهبط بها إلى مستوى السوقية مثل يوليوس قيصر من قبله. وأما الملك لير فهو يَفقِدُها حتى من قبل أن نقابله، إلى حدٍّ بعيد، وسرعان ما يصبح أنطونيو حالة نَتعلَّم منها كيف تختفي. وأما كليوباترا فإنها تُبالِغ في حركاتها المسرحية وإبداء نرجسيتها إلى الحد الذي يعجز عن إقناعنا بكاريزمتها المُؤلَّهَة عندما تموت، وأما بروسبيرو فإن انشغاله بأسرار سِحْره يُؤثِّر سلبيًّا فيه ويَحُول دون اكتسابه كاريزما مُؤكَّدة. وأما هاملت، أولًا وأخيرًا، فينافس الملك داود، ويسوع في إنجيل مرقس باعتباره أعظم ذَوِي الكاريزمية. وللمرء أن يُضيف يوسف من كتاب العهد القديم، ومَن أيضًا؟ يوجد الحاج مراد عند تولستوي، الذي يُمثِّل شيخوخة مُبدِعه الحالمة، وفي مجال الانفلات يُوجَد السير جون فولسطاف الذي لا يُغضِب إلا الفضلاء، ولكنَّ هؤلاء الباحثين الفضلاء يواصلون التعبير معًا عن رفضه حتى يجعلوا صاحب اللماحية العظمى يبدو أقل تألقًا مما تشهد به حقيقته.

وسطوع نجم هاملت لم يكن قط مَثار نزاع، وهو الذي يطرح من جديد ذلك السؤال الصعب: «هل كان شيكسبير يعرف مدى ما أضفاه على الأمير؟» ويرى كثير من النُّقاد أن فولسطاف قد أفْلَت زمامه من يد شيكسبير، وهو ما يبدو واضحًا إلى حدٍّ كافٍ حتى إن لم نكن نعرف إن كان شيكسبير قد توقَّع القبول الفوري والطاغي لفولسطاف. ومسرحية هنري الرابع، الجزء الثاني تنتمي إلى فولسطاف مثل الجزء الأول، ومع ذلك فإن شيكسبير كان يُدرِك ولا بد أن جون البدين في زوجتان مرحتان من وندسور مُجرَّد دجال، لا فولسطاف صاحب الكاريزما العبقرية. هل يمكننا أن نتصور وجود هاملت، وإن يكن هاملت وهميًّا، في مسرحية شيكسبيرية أخرى؟ أين نستطيع أن نضعه؟ وأي سياق يستطيع أن يغذوه؟ إن كبار الأشرار — ياجو وإدموند ومكبث — يمكن أن تقضي عليهم سخرية هاملت. بل لا يستطيع أحد في التراجيديات والرومانسيات الأخيرة أن يقف مع هاملت على المسرح: إنهم يستطيعون أن يغذوا الشك، لا تحالفًا بين الشك والكاريزما. وهكذا فإن هاملت لن يكون في المسرحية المناسبة، ومع ذلك فهو موجود سلفًا في مسرحية غير مناسبة. فبلاط إلسينور العفِن مَصْيَدة فئران صغيرة بل أصغر من أن تقتنص هاملت، على الرغم من أنه يعود إليها فيُقتل ويَقْتُل.
ومع ذلك فإن الضخامة ليست وحدها المشكلة الكاملة، فمسرحية الملك لير أوسع كون نفسي عند شيكسبير، ولكنه كون «قديم» عمدًا، ودور هاملت أقل الأدوار قدمًا في كل ما كتبه شيكسبير. وليست القضية أن هاملت يأتي بعد مكيافيلي ومونتاني، بل أن يأتي بعد شيكسبير. ولم يفلح أحد إلى الآن أن يكون «بعد شيكسبيري». ولا أقصد على الإطلاق أن أوحي بأن هاملت هو شيكسبير، أو بأنه بديل عنه. فلقد لاحَظ عدد غير قليل من النقاد، مُحقِّين، الموازاة بين علاقة فولسطاف والأمير هال، وبين علاقة شيكسبير بالشاب النبيل (ربما يكون لورد ساوثامتون) في السونيتات. والدعاة الأخلاقيون لا يريدون الاعتراف بأن فولسطاف يجسد، إلى حدٍّ أبعد من بروسبيرو، شيئًا بالِغ الأهمية في روح شيكسبير، لكنني إذا اضطررتُ إلى أن أحدس التمثيل الذاتي لشيكسبير، فسوف أجده في فولسطاف. ومع ذلك فإن هاملت يُعتَبر الابن المثالي لشيكسبير، مثلما يعتبر هال بالنسبة لفولسطاف. وهذا الزعم ليس زعمي بل ينتمي إلى جيمز جويس الذي كان أول من قال بالتماهي بين هاملت الدنماركي، وهامنت (Hamnet) الابن الوحيد لشيكسبير الذي تُوفِّي في الحادية عشرة من عمره، عام ١٥٩٦م، قبل أربع سنوات أو خمس من النسخة النهائية من مأساة هاملت، أمير الدنمارك التي يقوم فيها والد هامنت شيكسبير بتمثيل دور الشبح والد هاملت.
عندما نشاهد عرضًا مسرحيًّا لهاملت، أو نقرأ المسرحية لأنفسنا، لن نلبث أن نكتشف أن الأمير يتجاوز مسرحيته، أو يمثل تعاليًا عليها، و«التعالية» (transendence) فكرة يصعب إدراكها على معظمنا، خصوصًا عندما تشير إلى سياق دنيوي كامل١ مثل الدراما الشيكسبيرية. فإن شيئًا ما في هاملت وحوله يجعلنا نشعر أنه يَتطلَّب (ويقدم) أدلة من مجالٍ ما يتجاوز نطاق حواسِّنا. فإن رغبات هاملت ومُثُلَه العُلْيا أو طموحاته تكاد تكون مبتوتة الصلة بصورة عبثية مع الجو العفن في إلسينور. إن كلمة shuffle عند هاملت فعل يفيد النبذ أو الطَّرح، وهو يستخدمه في عبارة «نطرح القيد البشري» ولكن كلمة القيد عنده coil تفيد معنى آخر هو الصَّخَب أو الضجيج، كما أن shuffling عند كلوديوس فعل يفيد «الخداع القاتل»؛ إذ ينصح لايرتيس بأن يعمد إلى الخداع بتبديل الأسلحة والقضاء على هاملت. وكلوديوس يقول إن السماء ليس فيها خداع، مع أنه لا يؤمن بالبعث ولا يكفر به، فهو مُخادِع — تعريفًا — وهو لا ينطبق عليه قول هاملت إنه «غريمه الجبار»، فإن هاملت يَتفوَّق تفوقًا كبيرًا على عمه الغاصب. وإذا كان شيكسبير (حسبما أعتقد) قد قام بتنقيح نص هاملت الأصلية قبل نحو عقد، فربما ترك كلوديوس الأصلي دون تغيير تقريبًا، حتى وهو يُغيِّر هاملت الذي كتبه تغييرًا جذريًّا شاملًا. ولا يوجد في شر كلوديوس شيء من عبقرية ياجو، وإدموند، ومكبث.

يعتبر شيطان شيكسبير، ياجو، والد إبليس عند ميلتون، مؤلِّف هزلية تراجيدية عنوانها غيرة عطيل وقتله زوجته ديزديمونا، وهي مسرحية لا تتماهى مع مسرحية عطيل لشيكسبير، بل هي مطوية جزئيًّا في التراجيديا الشيكسبيرية لأن ياجو لا يستكملها. إذ إنه، عندما يشعر بالإحباط لأن زوجته إميليا أفسدت الفصل الأخير، يقتلها ويرفض تقديم أي تفسير قائلًا: «من هذه اللحظة لن أنطق بحرف واحد». وأما هاملت، الكاتب المسرحي الميتافيزيقي الذي يَتفوَّق في فنه على ياجو، فيكتب الفصل الخامس الخاص به، بحيث نجد أننا لا نستطيع البَت بثقة تامة فيمن كتب قدرًا أكبر من مسرحيته ومسرحية شيكسبير. ومهما يَكُن إله شيكسبير، فإن هاملت يبدو كاتب هزليات، لا كوميديا بالمعنى المسيحي. فالإله، في الكتاب المُقدَّس العبراني، خصوصًا في سفر أيوب، يكتب أفضل ما كتب في شكل أسئلة إنكارية. وهاملت مُولَع ولعًا شديدًا بالأسئلة الإنكارية، ولكن أسئلته تختلف عن أسئلة الإله في أنها لا تسعى دائمًا إلى الإجابة عمَّا تطرحه. والإله العبراني، في نص يهوه على الأقل، يتسم بالسخرية في المقام الأول. وهاملت ساخر قطعًا لكنه لا ينشد إلهًا ساخرًا؛ إذ إن شيكسبير لا يسمح له إلا به.

وقد عكف هاري ليفين على هذه القضية فوصف مسرحية هاملت وصفًا موفقًا قائلًا: إنها مسرحية مَهْوُوسة بكلمة «سؤال» (إذ ترد سبع عشرة مرة) وبالتساؤل عن «الإيمان بالأشباح وقانون الثأر». وأود أن أتناول هذا الهوس تناولًا مختلفًا إلى حدٍّ ما؛ لأن الاختلاف الرئيسي بين موقف شيكسبير وصورة هاملت في الأساطير والتاريخ يتمثل في التغيير الدقيق لأسس العمل عند الأمير. إذ يقول المؤرخ الدنماركي ساكسو جراماتيكوس، كما تقول الحكاية الفرنسية التي كتبها بلفوريست، إن الأمير آمليت يشعر منذ البداية بخطر على حياته من عمه القاتل، ويتَصنَّع البَلَه والجنون بدهاء حتى يظل في قيد الحياة. ربما يكون شيكسبير قد اتَّبَع ذلك النموذج في هاملت الأصلية، ولكنْ لا يكاد يبقى من هذا النموذج شيء في هاملت التي بين أيدينا، حيث نرى كلوديوس راضيًا كل الرضى عن تَعْيِين ابن أخيه وليًّا للعهد، وفي فساده الذي يُضارِع فساد دولة الدنمارك، يشعر أنه نال كل ما يريد: جيرترود والعرش. ولو ظل هاملت سلبيًّا بعد زيارة الشبح، لما مات مِيتة عنيفة كل من بولونيوس، وأوفيليا، ولايرتيس، وروزنكرانتس، وجيلدنستيرن، وكلوديوس، وجيرترود، وهاملت نفسه، فكل شيء في المسرحية يتوقف على استجابة هاملت للشبح، وهي استجابة جَدَلِية إلى حدٍّ بعيد مثل كل ما يتعلق بهاملت. ومسألة مسرحية هاملت لا بد أن تنحصر في هاملت نفسه؛ إذ إن شيكسبير قد خلقه حتى يُمثِّل أقصى صورة تستطيع أن تغذوها مسرحية مُتَّسِقة المعنى للوعي المنقسم على نفسه وذي القوتين المتضادتين.

ولا بد أن هاملت الأول عند شيكسبير كان ينتمي إلى مارلو، ولا بد أنه كان (كما ألمحت آنفًا) مكابرًا، سعيدًا بذلك مناهضًا لمكيافيل، وصاحِب بلاغة تستطيع لغته المَجازية حَفْز الآخَرِين على الفعل، ولكن هاملت الناضج أشد تركيبًا إلى حدٍّ بعيد بل ومثير. وقد أقدم شيكسبير بدهاءٍ مبهورٍ «وباهر» على عدم اتباع مصدره بتسمية والد هاملت هورونديل، بل منح الاسم نفسه للأب والابن، وهو الاسم الذي منحه شيكسبير نفسه لابنه «الوحيد». ويشير بيتر ألكسندر بحصافته المعهودة، في كتابه هاملت، الأب والابن (١٩٥٥م) إلى أن الشبح مُقاتِل يناسب الأساطير الأيسلندية، ولكن الأمير طالِب جامعي مُثقَّف يمثل عصرًا جديدًا. ويواجه اثنان يحملان اسم هاملت بعضهما بعضًا، ولا يكادان يشتركان في شيء إلا الاسم. ويَتوقَّع الشبح من هاملت أن يصبح نسخة منه، على نحو ما يمثل فورتنبراس الابن صورة من والده. ويلتقي هاملت الأب بهاملت الابن في مفارقة عجيبة، فكأن ملحمة إيدا (Edda) الأيسلندية القديمة تلاقي مونتانيْ، أو قُل كأن العصر القديم يواجه ذروة عصر النهضة، والعواقب العجيبة للمواجهة تحقق توقعاتنا.

ونحن نتبين أن الشبح ليس هورونديل، لكنه يتسم بخصائص «آمليت» في الأساطير الدنماركية، فهو مقاتِل ذو بأس شديد، لكنه يتمتع بدهاء في محاولة التلاعب بابنه طالب العلم، يضارع دهاءه في رَدِّ أعدائه. فالأمير هاملت، صاحب لماحية عصر النهضة ومذهب الشك، قارئ مونتاني ومُرْتَاد مسارح لندن، ينفصل عن هاملت عند بلفوريست وعن هاملت في الدراما الأصلية لشيكسبير. وعندما قام شيكسبير بتمثيل دور الشبح في عام ١٦٠١م، كان يُخاطِب مَن كان يأمل أن يصبحه ابنه هامنت، عندما يَصِل إلى مشارف الرجولة على خشبة المسرح. ويتحدَّث الشبح عن عاطفته الزوجية المشبوبة بجيرترود، وننتبه لما يباغتنا هنا: إن ذلك لا يُحيلنا إلى هورونديل، بل إلى آمليت الذي يذهب في القصة القديمة ضحية حبه المُتطرِّف لزوجته الثانية الخائنة. وهكذا فإن الخلط بين هذين الجيلين يُمكِّن شيكسبير من تنبيهنا إلى مستويات التركيب التي ربما زادَت من حيرتنا إزاء هاملت الأخيرة ولكنها يمكن أيضًا أن ترشدنا إلى بعض طرق الخروج من التيه.

يتمتَّع هاملت المنتمي إلى عام ١٥٨٨-١٥٨٩م بما يزيد على لماحية جويس، ويصبح والدًا لهاملت المنتمي إلى ١٦٠٠-١٦٠١م، ويظهر في المسرحية الأخيرة باعتباره شبحًا، وهو ما يناسبه تمامًا، طالبًا ثأرًا عاجلًا ولكنه يَتلقَّى كفارة آجلة من الدم المسفوك الذي يستغرق خمسة فصول وأربعة آلاف سطر. وأما عن شبح عام ١٥٨٨-١٥٨٩م، فَلْنُسَمِّه هورونديل، ثم نلاحظ أنه لا مكان له في ١٦٠٠-١٦٠١م. وشبح هورونديل كان بوضوح يحب التكرار، ونداءاته «هاملت! الثأر!» أصبحَتْ بوضوح فكاهة مُرتادي المسرح. أما هاملت الشبح فليس فكاهة، فإنه آمليت، أو هرقل الدنماركي، روح تَتميَّز بالدهاء والعناد، ومن مُفارَقات شيكسبير التعالِيَّة أن ينجب الملك هاملت المذكور أذكى شخصية في الأدب قاطبة. والقضاء على كلوديوس لا يَتطلَّب ذكاء فائقًا ووعيًا شاسعًا، والأمير هاملت يدرك خيرًا منا أنه كُلِّف بمهمة لا تتناسب إطلاقًا معه. ولو كان هوتسبير أو دجلاس قد قتل هنري الرابع، لأصبح هال يتمتع بمؤهِلَّات تفوق ما يتطلبه دور المنتقم، ولكنه كان سيؤديه بأقصى سرعة ممكنة. وإذا قورن الملك هنري الخامس بهاملت المنتمي لعام ١٦٠١م، لأصبح لا يزيد عن منافق ومكيافيلي، وإن يكن يتمتع بلماحية فائقة بفضل ما تعلَّمه على يد السير جون فولسطاف. ويتمتع هاملت، إلى حدٍّ بعيد، بصفات فولسطاف الخاصة به، ولكنه لم يُلصَق من الخارج بإحدى تراجيديات الثأر، بل إنه يستغرق كل المساحة النفسية والذهنية التي تأمل أية مسرحية أن تشغلها، مثل فولسطاف وإن كان يزيد عنه في ذلك، فإن ثلثي السطور التي لا يتكلمها هاملت مكتوبة في الواقع عنه، بل وكان من الممكن فعلًا أن يكتبها. ولقد أصبح تعبير «هاملت من دون أمير الدنمارك»، فكاهة تجري مَجْرى الأمثال للدلالة على الخواء أو التفاهة. كان فولسطاف، كما ذكرت آنفًا، أول تجربة عظمى في مسألة «كيف يبدأ المعنى». ويعتبر هاملت التجربة المُحْكَمَة، وإثبات أن المعنى يبدأ لا بالتكرار ولا بالمصادفة السعيدة ولا بالخطأ، بل بإضفاءٍ جديدٍ للتعاليَّة على الأشياء والقضايا الدنيوية، وبتقديسٍ يعتبر أيضًا إفناءً لجميع صور اليقين في الماضي الثقافي.

وبعد نحو اثني عشر عامًا (من ١٥٨٨-١٥٨٩م إلى ١٦٠٠-١٦٠١م) عاد شيكسبير إلى القيام بدور الشبح في هاملت. ولكننا لا نعرف بالقطع عن هاملت الأولى إلا أنها كانت تتضمن شبح والد هاملت، وأظن أن شيكسبير حذف أجزاءً كبيرة من هذا الدور أثناء التنقيح، ويقول حدسي إن الشبح كان أهم في المسرحية الأولى من الثانية؛ لأن زيادة التحليل الباطني عند هاملت استَوْلَت على المساحة التي كان يشغلها، ولكنَّ ذلك لا يعني إطلاقًا أن المسرحية كانت يومًا ما مسرحية الشبح، فإن شيكسبير كان يعتبر «ممثل شخصية»، وفق مصطلحنا المعاصر [بمعنى تخصصه في تمثيل نوع واحد من الشخصيات]، وربما لم يكن مُولَعًا بالتمثيل الوَلَع الكافي للقيام ببطولة مسرحية ما. لماذا قام بدور الشبح؟ من الواضح أن شيكسبير كان متخصصًا في القيام بأدوار كبار السن، بما في ذلك أدوار الملوك، «وإن كان الدور الوحيد الذي نعرفه يقينًا، إلى جانب شبح هاملت الوالد، هو آدم الشيخ في مسرحية كما تحب». هل من المُحتمَل أن تمثيل دور الشبح كان يمثل استثمارًا شخصيًّا له؟ إن ستيفن ديدالوس، الشخصية التي رسمها جيمز جويس، يقول بذلك، في الفانتازيا المُتألِّقة عن هاملت في مشهد المكتبة في رواية يوليسيز، ويصر ريتشارد إلمان على أنها سوف تظل دائمًا تفسير جويس الجاد للمسرحية. أعتقد أننا نحتاج إلى أن نبدأ من فترة سابقة. كيف نستطيع أن نفهم تسمية شيكسبير لابنه على اسم آمليت عند بيلفوريست، أو بالأحرى هاملت الرجل الأخضر كما أصبح يُسمَّى في الفولكلور الإنجليزي؟
عندما كان شيكسبير غلامًا، انتحرَت امرأة غرقًا في نهر آفون، وكان اسمها كيت هاملت أو هامنت، بالقرب من ستراتفورد، وقيل إن ذلك بسبب حب فاشل. وأية علاقة بينها وبين أوفيليا لن تستند إلا إلى الحدس، ولكن أية علاقة بينها وبين هامنت شيكسبير لا تتجاوز المصادَفة؛ إذ من المستبعَد أن يُسمَّى باسمها. والظاهر أنه سُمِّي باسم صديق شيكسبير هامنت أو هاملت سادلر، ولكن أي هامنت/هاملت إنجليزي يُسمَّى آخر الأمر على اسم آمليت الأسطوري كما لا بد أن شيكسبير الصغير المُولَع بالكتب كان يعرف. كان آمليت مَضرِب الأمثال في قدرته على التحايل، والبله الذي اشتهر به، وهو الذي كان الأساس الذي بُنِي عليه انتصاره الساحق. هل كانت هاملت الأولى تراجيديا على الإطلاق؟ هل مات الأمير، أم أن ذلك لم يحدث إلا فيما بعد، ثمنًا لتقديسه باعتباره وعيًا فكريًّا؟ وتقول قصة آمليت التقليدية، التي يرويها بلفوريست، إن آمليت يَتزوَّج ابنة ملك بريطانيا، وبعد ذلك ينتقم لأبيه من عمه. وهكذا يصبح بطلًا بريطانيًّا من نوع ما، وللمرء أن يتخيل أن شيكسبير كان يكتب هاملت الأولى، ببعض الآمال المرتبطة بابنه الصغير، الذي كان في الثالثة أو الرابعة من عمره. وعندما كُتبت هاملت الناضجة، كان هامنت شيكسبير قد تُوفِّي من أربع سنوات، وشبح الغلام ابن الحادية عشرة ليس في المسرحية قطعًا. ولكن جويس/ستيفن لا يتفق مع هذا تمامًا؛ إذ يرى أن هاملت الدنماركي وهامنت شيكسبير توءمان، وأن شيكسبير ممثل الشبح هو الوالد، من ثم، لأشهر شخصية رسمها.

ولكن هل الشبح مؤلِّف المسرحية؟ إن شيكسبير يَتوخَّى أشد الحرص، بل والدهاء، في رسم صورَتَي والدٍ وولدٍ يختلفان اختلافًا كاملًا فيما بينهما، أي فيما بين هاملت الأب والأمير. أما الملك هاملت فنعرف أنه كان محاربًا صنديدًا وقائدًا في حومة الوغى، وأنه كان يرتبط بزوجته بحب «أو شهوة» شديدة. ولا يبدو أن هذا المقاتل كان يتمتع بأية صفات أدَّت إلى ذيوع صيت الأمير. كيف تمكن هاملت وجيرترود من إنجاب فتًى بَلغَت طاقة تفكيره حدًّا يحول دون إدراجه في أي سياق، حتى في سياق مسرحية شيكسبير؟ الواقع أن الأمير لا يحمل أوجه شبه بأبيه أكثر مما يحمل من شبه بعمه الغاصب. كما يمنحه شيكسبير والدًا برجماتيًّا بالتَّبنِّي هو يوريك، مُضحِك الملك؛ لأن هاملت نفسه لا يتوقف عن التَّفكُّه، ولا يبتعد إلا خطوة واحدة عن أشد المُتفكِّهين خطرًا، ياجو.

لا نعرف إن كان الانتقال الغامض من الفصل الرابع إلى الفصل الخامس في هاملت يُشكِّل وداع شيكسبير لشبابه، ولكنه وداع مُؤكَّد لهاملت ابن شبابه. فالاسم آمليت مشتق من اللغة النرويجية القديمة بمعنى الأبله، وكان يُطلَق على المُهرِّج صاحب الحِيَل والتحايل الذي يتظاهر بِالْبَلَه. وتظاهر هاملت بالجنون يختفي تمامًا بعد مشهد المدفن، بل إن الجنون فيه يَتحوَّل إلى تورية عميقة ساخرة مُوجَّهة إلى الصور الغليظة للموت. لماذا كتب شيكسبير مشهد المدفن، ما دام استلهام يوريك لا يدفع حدث المسرحية على الإطلاق؟ ولا يكتسب هذا السؤال أهمية إلا إذا طَبَّقناه على عدد من المشاهد الأخرى في هذا العمل العجيب، وهو الذي يَحُولُ طولُه البالغ أربعة آلاف سطر دون تقديمه على المسرح. «ونحن نشك في أن المسرحية قد عرضت كاملة في لندن أيام شيكسبير، وإن كانت العروض التي قيل إنها قُدِّمَت في أوكسفورد وكيمبريدج لم تَحذِف شيئًا على الأرجح من النص.»

وتبقى إمكانية يعتبرها جميع الباحثين المُحدَثين في شيكسبير تقريبًا من قبيل الهرطقة؛ إذ تقول إن شيكسبير — في هذه المرة دون سواها — كان يكتب مدفوعًا إلى حدٍّ ما بحافز شخصي قهري محض، مُدرِكًا أنه سيكون عليه أن يحذف أجزاءً من النص عند كل عرض. وقد يفسر هذا الاختلاف بين طول طبعة الكوارتو الثانية، البالغة ٣٨٠٠ سطر وحذف ٢٣٠ سطرًا منها في طبعة الفوليو الأولى. واحتواء طبعة الفوليو الأولى على ٨٠ سطرًا إضافيًّا لا تتضمنها طبعة الكوارتو الثانية قد يدل على أن شيكسبير لم يتوقف عن تنقيح هاملت بعد عام ١٦٠٤-١٦٠٥م، عام صدور طبعة الكوارتو الثانية. وأتصور أن طبعة الفوليو ربما كانت تُمثِّل آخر نسخة تمثيل وضعها شيكسبير، وإن كان طولها البالغ ٣٦٥٠ سطرًا أطول مما ينبغي للعرض على مسارح لندن. وهاملت الكاملة التي بين أيدينا، وتبلغ ٣٨٨٠ سطرًا، تمتاز بتذكيرنا بأن المسرحية ليست فحسب «موناليزا الأدب» بل أيضًا الفيل الأبيض عند شيكسبير، أو العمل الفذ بين أعماله.

وأود أن أؤكد أن شيكسبير لم يتوقف عن إعادة كتابتها، من النسخة المبكرة، في نحو عام ١٥٨٧–١٥٨٩م حتى وقت انسحابه عائدًا إلى ستراتفورد تقريبًا. ونحن نفترض أن طبعة الكوارتو الثانية قد طُبِعَت مباشرة عن مَخطوطه، وأن طبعة الفوليو الأولى تتضمن النص الذي يمثل الدلالة النهائية للمسرحية التي كانت تسكن ذاكرة زملائه الممثلين الباقين في قيد الحياة. إن الانشغال إلى حدِّ الهَوس لا شك توحي به هذه المسرحية ذات الطابع الشخصي وأشد مسرحيات شيكسبير التسع والثلاثين إلحاحًا. ربما كان شيكسبير، الذي يسميه كيركجارد أستاذ السخرية، يستمتع ساخرًا بالظاهرة العجيبة التي تقول إن مسرحية التراجيديا الإسبانية التي كتبها توماس كيد، والتي يقول الباحثون إنها أَثَّرت في هاملت كانت تحظى وحدها بنجاح جماهيري، يضارع نجاح هاملت ومسرحيات فولسطاف.

وتُعْتَبر التراجيديا الإسبانية اليوم مسرحية ميتة، إلا بين الباحثين، فلم أشهد عرضًا واحدًا لها، ونادرًا ما سمعتُ عن عرض ما، وأشك في قدرتي على احتمال مُشاهَدة أي عرض لها، على الرغم من صمودي لعدة عروض لمسرحية تيتوس أندرونيكوس التي كتبها شيكسبير. أما هاملت فقد تمكنت من البقاء على الرغم من كل شيء، أي على الرغم من بيتر بروك نفسه، كما أن خلود فولسطاف يتجاوز حتى أفضل أوبرات فيردي. هل نستطيع أن نحدس شيئًا مما كان هاملت يعنيه لشيكسبير؟

٢

من المحتمل ألا يقوم أحد بتحديد المشاعر الدينية لشيكسبير، في بواكير حياته أو آخرها، فلقد كان يختلف عن والده الكاثوليكي في الحفاظ على غموضه المعتاد في هذا المجال الخطر، فليست مسرحية هاملت عملًا بروتستانتيًّا أو كاثوليكيًّا، كما تبدو حقًّا لا هي مسيحية أو غير مسيحية؛ إذ إن شكوك هاملت لا تزيد وحسب عمَّا يمكن أن يكون أصلًا لها عند مونتانيْ، بل إنها تتحول إلى شيء حافل وغريب في الفصل الخامس، شيء لا اسم له عندنا. فالجمهور لا يريد أن ينازع فورتنبراس الذي يقود موسيقى الجنود وطقوس الحرب، ولا هوراشيو الذي يستلهم تحليق الملائكة. فإلى من ينتمي هاملت الجندي، ولماذا تُعْتَبر معونة الملائكة غير مناسبة؟ إن المسرحية تُخْتَتَم بلحظة إشراق علمانية شديدة الأصالة؛ إذ يبدو أن بهاءً تعاليًّا ينبثق فياضًا من الذروة التي يحمل فيها الجنود جثمان هاملت، ونرى في الخلفية مُحاوَلة انتحار هوراشيو التي تفزعنا، وهي التي يوقفها هاملت لا لسبب إلا لكي يتمكن هوراشيو من إحياء ذكراه وتضميد الجرح الذي أصاب اسم الأمير. ولكن الذي يمنح الكلمة الأخيرة ليس هوراشيو بل فورتنبراس وهي «أطلق النار». ستكون الطلقة جزءًا من طقوس الحرب، احتفالًا بهاملت، ربما باعتباره فورتنبراس آخَر. من الصعب أن نعتقد أن شيكسبير لا يختتم المسرحية بسخرية مناسبة تمامًا لهاملت، وهو الذي لم يكن فقط صاحب سخرية بل أيضًا سببًا في لجوء الآخَرين إلى السخرية. ولكن هوراشيو ليس ساخرًا، وليس فورتنبراس ساخرًا هو الآخَر، ويتركنا شيكسبير؛ إذ نشعر ببعض الأسف لعدم وجود هاملت الذي كان يمكن أن يقدم تعليقًا ختاميًّا على ما يبدو ساخرًا ولكنه ربما يتجاوز السخرية حسبما نعرفها.

كنت ولا أزال أقول إن ما يصفه بعض النقاد مثل إمبسون وجراهام برادشو بأنه يمثل «إدماج مشكلات» [في نص المسرحية] لن يُلقِي الضوء على هاملت؛ لأن شيكسبير لم يكن يضيف شيئًا إلى نصٍّ كتَبَه كيد ويعتبر ميلودراما، بل كان يُنقِّح مسرحية كتَبَها من قبل. ومنذ ما كتبه ج. م. روبرتسون [١٩٢٠م] إلى الآن، تأثَّرَت التَّخرُّصات بشأن هاملت الأصلية (مهما يكن كاتبها) ولم تتكاثر بشأن هاملت المبكر. وحتى إن كانت المسرحية الأصلية من إبداع شيكسبير، فإن الأمير في عام ١٥٨٧م أو ١٥٨٨م لم يكن إلا صورة بالخطوط العريضة وحسب، إن قورن بهاملت عام ١٦٠٠م أو ١٦٠١م. كانت مشكلة شيكسبير لا تتعلق بوضع هاملت في سياق غير مكافئ له، بل برسم صورة رهيفة لهاملت داخل صورته الغليظة. ومن المعقول فيما يبدو أن نفترض أن هاملت الأول عند شيكسبير كان قريب الشبه بآمليت عند بلفوريست؛ أي إنه كان صاحب تحايُل مُوفَّق طبقًا لمعايير البطولة القديمة، من دون تأمُّل كثير في نفسه بقدر تأمُّله للمَخاطر التي كان عليه أن يتفاداها. وأما هاملت الثاني أو المُنقَّح فليس مقيمًا في وعاء غير مكافئ له، لكنه، على الأقل، كائنان اثنان معًا: الأول كائن فولكلوري وُهِبَ حياة مديدة، والثاني مُعاصر لمونتانيْ، وذلك كله إيجابي، فإن السحر اللانهائي لهاملت يذيب الفوارق بين ساكسو جراماتيكوس وبين مقالات مونتانيْ. وسواء كانت هذه فكاهة شيكسبير الخاصة (أو الشخصية) فأمر لا نستطيع البَتَّ فيه، ولكنها نَجحَت ولا تزال تنجح.

وهاملت، في عام ١٦٠١م، لا يبدو لنا في صورة من يُحتَمَل أن يكون منتقمًا؛ لأن حريته الفكرية، وروحه المديدة، يتناقضان، فيما يظهر، مع المهمة التي فرضها عليه الشبح. وقد تكون هذه اللحظة مناسبة لأن نسأل إن كانت فكرة قيام شيكسبير بتنقيح مسرحيته المُبكِّرة لن تساعدنا في حل معضلة دائمة في المسرحية النهائية. إن هاملت في الفصول الأربعة الأولى من مسرحية شيكسبير، يشبه صورته عند بلفوريست، باعتباره شابًّا في العشرين من عمره أو أقل، فهو طالب في جامعة ويتنبرج، ويريد أن يعود إليها، حيث يوجد أصدقاؤه ومن بينهم هوراشيو، وروزنكرانتس وجيلدنستيرن اللذان ساء مصيرهما. وينتمي لايرتيس نفسه، إلى الجيل نفسه، ويظهر أنه يريد العودة إلى جامعة باريس. ولكن هاملت في الفصل الخامس (الذي تقع أحداثه بعد فترة لا تزيد على بضعة أسابيع) في الثلاثين من عمره (وفق ما يقوله حفَّار القبر) على الأكثر، ويبدو على الأقل في سن شيكسبير الذي كان في السابعة والثلاثين. فعندما عاد شيكسبير إلى مسرحيته القديمة، قد يكون قد بدأ بهاملت قبل أن يبلغ سن الرشد (مثل هاملت عند بلفوريست، وفي هاملت الأصلية التي كتبها شيكسبير) ولكن عملية التنقيح ربما أَثْمَرت هاملت الناضج في الفصل الخامس. ولما كان مرتبطًا إلى حدٍّ ما بصورة هاملت في المسرحية المُبكِّرة، ترك شيكسبير، واثقًا، ذلك التناقض قائمًا. وعندما أطلق على ابنه اسم هامنت، كان شيكسبير نفسه لم يَتعدَّ الحادية والعشرين، وكان في الخامسة والعشرين أو نحوها (على أكثر تقدير) عندما كتب هاملت الأصلية. كان يريد الجمع بين أمرين لا يجتمعان: أن يستمسك برؤيته الشبابية لهاملت، وتصوير هاملت وقد تجاوز النضج في الختام.

وفي عام ١٨٧٣م أصدر نيتشه كتابه مولد التراجيديا حيث نجد فَهْمه لهاملت فهمًا لا يُنسى؛ إذ يرى أنه ليس رجلًا يفكر أكثر مما ينبغي بل رجل يفكر خيرًا من المعتاد:

إن النَّشوة التي تأتي بها الحالة الديونيسية التي تنفي حدود الوجود وقصوره تتضَمَّن، طالما استمَرَّت، عنصرًا من الخمول الذي تغرق فيه جميع خبرات الماضي الشخصية. وتفصل هوة النسيان المذكورة عالَم الواقع اليومي عن عالَم الواقع الديونيسي. ولكن ما إن يَعُدْ هذا الواقع اليومي إلى دخول الوعي حتى يشعر المرء بحقيقته مصحوبًا بالاشمئزاز، وتنشأ حالة نفسية من الزهد النافي للإرادة ثمرة لهذه الحالات.

وبهذا المعنى يشبه الإنسان الديونيسي هاملت: فكلاهما قد نظر ذات يوم نظرة حقيقية في جوهر الأشياء، فاكتسب المعرفة، والاشمئزاز يكبح الفعل؛ إذ إن فعلهما لا يستطيع تغيير أي شيء في الطبيعة السرمدية للأشياء؛ وهما يشعران أنه من السخرية أو المهانة لهما أن يُطلب منهما تصحيحُ حال عالمٍ انفصمت عُراه، فالمعرفة تقتل الفعل، والفعل يتطلب ستائر حاجبة من الأوهام. هذا هو مبدأ هاملت، لا مبدأ الحكمة الرخيصة لفلان الحالم الذي يبالغ في التأمل، فتزداد الإمكانيات أمامه زيادة تمنعه من القيام بأي فعل٢. ليس التأمل إذن، كسلًا، بل إن المعرفة الصادقة، أي البصيرة التي تكشف الحقيقة الرهيبة، هي التي ترجح الكفة المقابلة لأي دافع للفعل، سواء عند هاملت أو عند الرجل الديونيسي.

لم يكن غريبًا (وإن يكن مصدر إيضاح) أن نطبق فكرة نيتشه على رجل ديونيسي آخَر، المنافس الشيكسبيري الوحيد لهاملت في شمول الوعي وحدة الذهن؛ السير جون فولسطاف. الواضح أن فولسطاف كان قد نظر في جوهر الأشياء، قبل وقت طويل من لقائنا به، أي إن المُحارب المخضرم قد كشف حقيقة الحرب، ونبذ شرَفها ومَجْدَها باعتبارهما أوهامًا خبيثة، ووهب نفسه بدلًا من ذلك لنظام «اللعب». وهو يختلف عن هاملت في أنه اكتسب المعرفة من دون أن يدفع الثمن اشمئزازًا، والمعرفة عند فولسطاف لا تكبح الفعل بل تزيح الفعل جانبًا باعتباره ليس ذا صلة بالعالم اللازَمني «للعب»، وهوتسبير يُعَبِّر عن هذا بدقة:

أيْنَ ابْنُهُ المَجْنُونُ مُسْرِعُ الأَقْدَامْ
أعْنِي أَمِيرَ وِيلْزَ والَّذينَ في صُحْبَتِهِ
مَنْ أَعْطَوا الدُّنْيا ظُهُورَهُمْ حتى تَمُرَّ مِنْ وَرَائِهِمْ؟٣
(هنري الرابع، الجزء الأول، ٤ / ١ / ٩٤–٩٧)

وهاملت مثل فولسطاف نادرًا ما يتوقف عن اللعب، على الرغم من أن هاملت ذو وحشية وفولسطاف على الرغم من شدة صخبه رقيق الحاشية. والنقاد الماركسيون يخلطون بين مذهبهم المادي ومادية السير جون، وهكذا يرون أن صاحب اللماحية العظيمة انتهازي. ولكن استثمار فولسطاف، على عكس هاملت، استثمار في اللماحية من أَجْلِها وحسب. ولْنُقارن بين الاثنين في أعظم لحظاتهما، هاملت في المدفن، وفولسطاف في الحانة:

هاملت : هذه الجمجمة كان لها لسان، وكانت تستطيع يومًا ما أن تُغنِّي، فانظر كيف يقذف بها الوغد إلى الأرض، كأنها عظمة الفك التي ارتكب بها قابيل أول جريمة قتل؟ وقد تكون رأس سياسي أو دَسَّاس يتحكم فيها هذا الحمار الآن، وقد يكون داهية يحاول أن يخادع الله جل شأنه! أفلا يحتمل ذلك؟
هوراشيو : بل محتمل يا مولاي!
هاملت : أو رأس أحد رجال القصر، رأس يقول طاب صباحك يا مولاي! كيف حالك مولاي الأكرم؟ ولعله رأس النبيل فلان بن فلان، الذي أَثْنَى على حصان علان بن علان، وهو يريد أن يستوهبه إياه. ألا يحتمل ذلك؟
هوراشيو : بلى يا مولاي!
هاملت : بل يجوز حقًّا! قد أصبح الرأس دون فك للسيدة النبيلة دودة هانم! وأصبح الحفار يقذفها بجاروفه أنَّى يشاء! ليتنا نستطيع أن ندرك اكتمال دورة القدر فيما نشهد! هل تستحق هذه العظام أن يلعب الناس بها كالكرة، بعد ما تَكلَّفَت ما تكلفت في النشأة والتربية؟
إن عظامي تتوجع حين أتأمل ذلك!
(٥ / ١ / ٧٤–٩١)
فولسطاف : إيه يا أخي؟ ماذا أدخل الكتاب المُقَدَّس هنا؟ أنت تفسد القديس. والله أنت أفسدتني تمامًا يا هال. سامحك الله. قبل أن أعرِفُك كنتُ بريئًا يا ابني. أما الآن فأقول لك الحق أصبحتُ في عِداد الشريرين. لا بد أن أُغَيِّر طريقة حياتي. سأغيرها حتمًا، والله إن لم أفعل أكن نذلًا. لا. لن أدخل جهنم من أجل ابن أي ملك في دنيا النصارى.٤
(هنري الرابع، الجزء الأول، ١ / ٣ / ٨٨–٩٥)
كيف نضع العبارة التالية «قبل أن أعرفك يا هال، لم أكن أعرف شيئًا! وها أنا ذا الآن! إن كان للمرء أن يقول الحق، لستُ بالكاد أفضل من أحد الأشرار» إلى جانب العبارة التالية «هذه دورة القَدَر الجميلة ولدينا مهارة إدراكها»؟٥ هذه لماحية فائقة تقارع لماحية فائقة أخرى، ولكن ما أقل ما تشتركان فيه! فعبقرية الكوميديا عند فولسطاف تَرُد توجيه سهم الفكاهة إليه، ومع ذلك فهي تتجاوز ذلك الرد بهجوم رائع على ادعاء القداسة البيوريتاني. والمَرَح المحض عند فولسطاف يقابله التَّفكُّه المُدلَهِم الغريب الذي يسخر من الفناء البشري وجميع ادعاءاتنا في وقت واحد. ففي لماحية فولسطاف نسمع الأمر القائل «لا بد أن تُقدِّم السرور.» ولكننا نسمع عند هاملت «لا بد من التغيير، ولا يوجد إلا شكل واحد نهائي للتغيير.»
إن هاملت الأصلية المنسوبة إلى توماس كيد، ذلك الشبح الحقيقي للبحوث الشيكسبيرية، لم يَعثُر عليها أحد قط؛ لأنها لم تُوجَد قط. وقد كتب توماس ناش، في نبذة عن صديقه السيئ الحظ روبرت جرين، فقرة غامضة أساء معظم الباحثين قراءتها؛ إذ عجزوا عن إدراك أن ناش كان يهاجم ما لا بد أنه كان (وهو وجرين صديقه) يعتبرونه «مدرسة مارلو»، وهي التي تضم مارلو وشيكسبير وكيد. وهذه هي الفقرة:
سوف أعود إلى أول نص من الدراسات الممتعة وأتحدَّث قليلًا بروح الصداقة مع بعض مترجمينا التافهين. لقد جَرَت العادة هذه الأيام بين نوع من رفقائنا المتنقلين إلى حدٍّ ما، وهم الذين يمارسون كل حرفة ولا يزدهرون في أي منها، على أن ينبذوا صنعة العلم أو التعلم التي وُلِدوا في كنفها، وأن يَشغَلوا أنفسهم بجهود فنية لا تستطيع تصحيح نَظْمِهِم اللاتيني إذا احتاجوا لذلك. ومع ذلك فإن الترجمة الإنجليزية لسينيكا، إنْ قرأتَها على ضوء الشموع يمكن أن تأتيكَ بجُمل جميلة كثيرة؛ مثل: الدمُ شَحَّاذٌ وهلم جرًّا، وإذا توسَّلْتَ إليه توسلًا حسنًا في صباح من الزمهرير فسوف يقدم إليك مسرحيات كاملة من هاملت، وينبغي لي أن أضيف «وحفنة من الخُطب التراجيدية». ولكن وا أسفا! ويا للزمن ملتهم الأشياء! (Tempus edax rerum) ما الذي عساه أن يظل إلى الأبد؟ إن البحر الذي يزفر قطرة قطرة سوف يجفُّ يومًا ما، وسينيكا الذي يُفْصَد دمه سطرًا سطرًا وصفحة صفحة لا بد آخِر الأمر أن يموت على خشبة مسرحنا، وهو ما سيجعل أتباعه الذين يَتضَّورون جوعًا يحاكون قصة كيد [the kid = الغلام؟ الجدي؟ أم توماس كيد kyd؟] عند إيسوب٦ الذي وقع في غرام البِدَع الجديدة عند الثعالب، فتخلَّى عن كل رجاء في الحياة حتى يثب إلى داخل عمل جديد. وهؤلاء الرجال الذين فَقَدوا كل إمكانية لتقديرهم أو إطرائهم يعمدون إلى الترجمة عن الإيطالية، وما أضعف أداءهم في هذا الصدد (مثل من لا يجيدون اللهجة البروفنسالية أو يميزون حروف الجر)، ولْيَقُم جميع السادة الذين لا يأبهون وسافروا وتكلموا بتلك اللغة بِالْبَتِّ في القضية في كُتيِّبات رخيصة.
وفيما يلي التعليق الحكيم الذي كتبه بيتر ألكسندر على هذا الغموض المتعمد:

من الصعب استنباط أية معلومات دقيقة من هذا الهَرْج والمَرْج، ولكن الواضح، فيما يبدو، وجود مسرحية تُدْعَى هاملت بين نواتج كُتَّاب المسرح غير العلماء والدارسين، وأنها تبدو للكاتب، ناش، مَدينة بالكثير إلى ترجمات سينيكا، وكذلك أن أحد كُتَّاب المسرح المذكورين هو كيد؛ إذ إن ناش يَدُسُّ الاسم دسًّا بغض النظر عن عدم وجود حالة موازية مُقْنِعة للمَثل الذي يضربه، لا عند إيسوب ولا عند سبنسر (وهو الذي يشير إلى قصيدة الربيع الواردة عنده في روزنامة الرعاة). أما أن نستنتج من هذا، كما فعل الكثيرون، أن كيد كان مُؤلِّف هاملت المُبكِّرة، فهذا افتراض لا يبرره النص وتثير الأدلة اللاحقة شكوكًا فيه. إن ناش يشير إلى «نوع»، أي إلى مجموعة، من الكُتَّاب الذين كان من بينهم كيد، وإلى أن مسرحية عنوانها هاملت كانت من بين ما كتبوه، وذلك أقصى ما يمكن أن تفيدنا به هذه الفقرة التي تتعمد إغاظتنا.

واستنادًا إلى هذا الأساس أريد أن أقترح شكلًا آخر لرؤيتنا للحياة العملية لشيكسبير. ويقدم لنا ليدز بارول في كتابه السياسة والطاعون ومسرح شيكسبير: سنوات أسرة ستيوارت الحاكمة (١٩٩١م) تحذيرًا مفيدًا من تحديد تواريخ مسرحيات شيكسبير طبقًا لإشارات مُفترَضة لأحداث عصرية، ويقول إن شيكسبير في مرحلته الأخيرة لم يكن يُؤلِّف إلا حين تكون المسارح متاحة، وكان يتعرض بالتناوب لفترات جفاف وفترات نشاط فَوَّار وسريع، بما في ذلك الإنجاز المذهل؛ حيث كتب الملك لير، ومكبث، وأنطونيو وكليوباترا في أربعة عشر شهرًا متوالية فقط.

كما يطعن بارول أيضًا في الأسطورة المنتشرة بين الباحثين والقائلة «بتقاعد» شيكسبير بعد كتابة العاصفة عام ١٦١١م، ولم يكن قد تجاوز السابعة والأربعين من عمره. والواقع أن شيكسبير عاش خمس سنوات أخرى وساعده جون فلتشر على كتابة ثلاث مسرحيات أخرى بحلول عام ١٦١٣م (هنري الثامن، والمسرحية المفقودة فيما يظهر وعنوانها كاردينيو، والنبيلان القريبان). والواضح أن شيكسبير كان يرفض عندما بلغ الخمسين مزيدًا من الكتابة للمسرح، ولا شك أننا نستطيع أن نعتبره قد تقاعد في العامين ونصف العام في آخِر حياته. أما ما قَتَل شيكسبير في الثانية والخمسين من عمره فلا نعرفه، وإن كان أحد المصادر المعاصرة يقول إن السبب المباشر كان الإسراف في الشراب في ستراتفورد بصحبة صديقيه القديمين بن جونسون ومايكل درايتون، وهو ما يبدو متفقًا مع طابع شخصيته المرح الفولسطافي. وتتحدث التقاليد أيضًا عن مرض طويل سابق، وربما كان مرضًا تناسليًّا، وهو أمر مُحتَمل. وربما أدَّت وطأة المرض إلى إضعاف الإرادة المهنية للتأليف، ومهما يكن سبب التوقف، فإن حجة بارول لا تتأثر؛ أي إن العاصفة لم تكن عمل وداعٍ، ولم يكتب شيكسبير كتابة أفضل من القطع التي كتبها ﻟ «النبيلان القريبان» وهي التي غدت عَرَضًا عمله الأخير.

وأقترِح بروح بارول إلى حدٍّ ما إعادة النظر (وإن تكن جذرية إلى درجة أكبر) في معرفتنا ببدايات شيكسبير في الكتابة للمسرح. لا يبدو أن هاملت الأصلية قد كُتِبَت بعد أوائل عام ١٥٨٩م، وربما في ١٥٨٨م. ومن ثم كانت تسبق كل نشاط له في اكتساب الصنعة، بما في ذلك ثلاثية هنري السادس (١٥٨٩–١٥٩١م)، وريتشارد الثالث (١٥٩٢-١٥٩٣م)، وتيتوس أندرونيكوس (١٥٩٣-١٥٩٤م). والواقع أننا لا نعرف متى كَتب كيد التراجيديا الإسبانية، ولكن ذلك قد يكون ما بين ١٥٨٨م و١٥٩٢م. ولم أستطع قطُّ أن أفهم كيف ولماذا يَعتبِر باحثو شيكسبير أن التراجيديا الإسبانية كان لها تأثير جاد في هاملت. فعلى الرغم من الإقبال الجماهيري الذي حَظِيَت به التراجيديا الإسبانية فإنها مسرحية فظيعة، مكتوبة كتابة بشعة، بل إن القُرَّاء العاديين، حتى البلهاء منهم، سوف يدركون ذلك إن بدءُوا قراءتها. لن يستطيعوا تَجاوُز افتتاحيتها، وسوف يجدون من الصعب تصديق القول بأنها بهرت شيكسبير. أما الافتراض الأكثر عقلانية فهو أن هاملت الأولى التي كتبها شيكسبير أثَّرَت في التراجيديا الإسبانية، وأن أي تَشابُه بين الميلودراما الحقيرة التي كتبها كيد وبين هاملت الناضجة كان يعني أن شيكسبير كان يَسترِد وحسب ما كان قد كتبه أصلًا.

ربما لن يستطيع أحد أبدًا أن يثبت أن بيتر ألكسندر كان على حقٍّ في قوله إن شيكسبير هو الذي كتب هاملت الأصلية ولكن الأدلة الظرفية تُدعِّم حدس ألكسندر. فعندما التحق شيكسبير بالفرقة التي أصبح اسمها فرقة اللورد تشيمبرلين في عام ١٥٩٤م، كانت المسرحيات الثلاث التي أضيفت إلى ريبرتوار الفرقة هي: ترويض الشرسة، وتيتوس أندرونيكوس، وهاملت. ولم تُقدِّم الفرقة إطلاقًا التراجيديا الإسبانية، ولا أية مسرحية أخرى كتبها كيد. لا نعرف ما كانت هاملت الأولى تتضمنه باستثناء الشبح، ولكن شيكسبير قبل تيتوس أندرونيكوس لم يكن، على وجه الدقة، شيكسبير «بعد فولسطافي»، وأتصور أن مسرحية هاملت المبكرة يمكن أن تُحيِّرنا كثيرًا. ولا بد أن شيكسبير كان يشعر بشجن عميق حين عاد إلى المسرحية التي كان يمكن أن تكون أولى مسرحياته، كما ذكرتُ آنفًا، والإشارات المعاصرة تقول إن صيحة الشبح «انتقم يا هاملت!» كانت قد أصبحَتْ مثار سخرية عامة. والأهم من ذلك أن نسأل ما الذي اجتذب شيكسبير أصلًا إلى قصة هاملت.
كان أول مؤرخ لهاملت هو ساكسو جراماتيكوس، في كتابه الذي كتبه باللاتينية في القرن الثاني عشر وعنوانه التاريخ الدنماركي، وكان متاحًا في طبعة باريسية اعتبارًا من عام ١٥١٤م. وليس من المحتمل أن شيكسبير قد قرأ ساكسو، لكنه بدأ قطعًا بالقاصِّ الفرنسي بلفوريست، في كتاب عنوانه قصص تراجيدية، ويتضمن المجلد الخامس منه (١٥٧٠) أسطورة هاملت، بعد إضافة تفصيلات إليها استنادًا إلى قصة ساكسو. وتقول القصة إن الملك هورونديل قَتَل ملك النرويج في مبارزة فردية، ففاز بابنة ملك الدنمارك، جيروثا، وأنجبَ منها ولدًا يُدعى آمليت. ويقوم أخو هورونديل الغيور، واسمه فينجون باغتيال هورونديل والزواج من جيروثا، وهو ما يمثل جريمة غشيان المحارم. ويضطر آمليت حفاظًا على حياته إلى ادعاء الجنون، ويقاوم امرأة أُرسِلَت لإغوائه، ويطعن أحد أصدقاء فينجون الذي كان مختبئًا في غرفة نوم جيروثا، وينتقد أمه حتى يُجبِرها على التوبة، ثم يرسله فينجون إلى إنجلترا حتى يُقْتَل. وأثناء الرحلة يُغَيِّر آمليت خطاب فينجون، وهكذا يُرسِل حارسيه المصاحِبَين له حتى يُقتَلا. ويعود آمليت إلى الوطن فيقتل فينجون بسيف المُغتصِب نفسه، ثم يُنَادَى به ملكًا مؤيدًا بأصوات الشعب الدنماركي.

ولا يرتبط آمليت عند بلفوريست بأوجه شبه كبيرة، باستثناء النَّسق المذكور للحبكة، بهاملت عند شيكسبير، ولنا أن نفترض أن هاملت كان يواصل ابتعاده عن مصدره «الوحشي» كلما ازداد شيكسبير تنقيحًا للنص. ومهما يكن ما اجتذب شيكسبير أولًا إلى شخصية آمليت/هاملت، فقد بدأ مبكرًا؛ لأن كاتبنا المسرحي أطلق اسم هامنت على ابنه عام ١٥٨٥م، والمفترض أن ذلك كان يتضمن إشارة ما إلى البطل الدنماركي. وما دمت أومن إيمانًا ثابتًا بأن بيتر ألكسندر على حق في نسبة كتابة هاملت الأصلية إلى شيكسبير، فإن التساؤل عمَّا اجتذب والد الرضيع هامنت إلى الحبكة والشخصية قبل أن يبدأ حياته العملية كاتبًا للمسرح يكتسب أهمية كبرى.

يتمتع آمليت عند بلفوريست بسعة حيلة مثالية؛ إذ يصعب قتله، ويثابر على تنفيذ مشروع انتقامه، ويفوز آخر الأمر بعرش الدنمارك. ولكن شدة البأس المذكورة لا تكفي، فيما يبدو، لإطلاق اسمه على ابن وحيد وربما يكون قد فاتَنَا شيء هنا.

إن آمليت عند بلفوريست يحمل، على الرغم من عراقيله، نسخة بدائية أو شمالية من البركة أو روح «المزيد من الحياة» وهي التي تتحول برجماتيًّا إلى حريته. وربما كان شيكسبير قد أدرك في آمليت وجود نسخة شمالية من الملك داود في الكتاب المُقَدَّس، وهو البطل ذو الكاريزما الذي عليه أن يبدأ بمكابدة أهوال جسام في طريقه إلى العرش والبركة. ولكن الملك شاول ليس فينجون، وداود في الكتاب المُقَدَّس أقرب إلى هاملت عند شيكسبير منه إلى آمليت الأسطوري، الذي يتمتع بلماحية وشجاعة أصليتين ولكنهما جروتسك، وأسطورة إيدا [(Edda) الإسكندنافية] تُحلِّق في الخلفية. وربما كان شيكسبير، ذو الحساسية الدائمة لفقدان المكانة الاجتماعية، قد سمَّى ابنه هامنت باعتباره طلسمًا أو تميمة تُبشِّر باستعادة منزلة الأسرة، معتبرًا آمليت نموذجًا للمثابرة في السعي للظفر بشرف الأسرة وتبرير العلاقة بين الآباء والأبناء.

ولنا أن نفترض قطعًا أن هاملت الأول الذي كتبه شيكسبير في عام ١٥٨٨-١٥٨٩م، كان قريبًا من آمليت عند بلفوريست، فهو طالب ثأر روماني أو على غرار أبطال سينيكا في سياق شمال أوروبا. وتصوير السرائر والدخائل في مسرحيات شيكسبير لا يكتسب قُوَّته المميزة قبل الانتصار الكوميدي الذي يحرزه فولسطاف، وإن كانت تُوجَد آثار لاذعة له عند بوطوم، ونسخة جروتسك تتضمن عنصرين مُتضادين في شايلوك. ولا حاجة بنا لافتراض أن هاملت الأصلي عند شيكسبير كان مفكرًا تعاليًّا. إذ إن شيكسبير، بعد فولسطاف، وهال، وبروتوس قد اختار أن يعود عودة تنقيحية إلى جذوره باعتباره كاتبًا مسرحيًّا، وربما كان ذلك إحياءً لذكرى وفاة ابنه هامنت. وتتسم هاملت الناضجة بنبرة رثاء عميقة، وهي النص الذي ربما كان قد تعرض للتنقيحات الأخيرة بعد وفاة والد شيكسبير في سبتمبر ١٦٠١م. وقد نسمع أصداء نعي هامنت وجون شيكسبير في نعي هوراشيو «ونعي الجمهور» لهاملت. ولغز هاملت، ومسرحية هاملت، يدور حول النَّعي باعتباره نموذجًا تنقيحيًّا، وربما حول التنقيح نفسه باعتباره نوعًا من النعي للذات المبكرة لشيكسبير. فعندما بلغ السادسة والثلاثين، ربما تَبيَّن أنه وصل إلى ذروة روحية، وأن جميع مواهبه قد انصهرت معًا، وهو ينكبُّ على عمل تنقيحي أكبر مما حاوله قبل ذلك أو بعده.

كان شبح مارلو قد أُخْرِجَ منذ فترة طويلة، وعندما انتهى شيكسبير من هاملت في ١٦٠٠-١٦٠١م، كان قد أصبح خليفة ذاته، وإذا به لا يكتفي بتنقيح هاملت الأصلية، بل نقح كل ما أتى بعدها حتى يوليوس قيصر. فالدراما الباطنة في دراما هاملت تنقيحية. أي إن شيكسبير يعود إلى ما كان يتجاوز طاقاته الأولية، ويمنح نفسه شخصية رئيسية تطورت حين وصلت إلى الفصل الخامس فأصبحت ذات صلة بهاملت في الفصل الأول حيث تتمتع بموازاة دقيقة مع صلة الكاتب بهاملت الأصلية. إذ إن إعادة رؤية هاملت لذاته تحل محل مشروع الثأر. والثأر الصحيح الوحيد في هذه المسرحية هو ما أسماه نيتشه مُنَظِّرُ التنقيح، انتقام الإرادة من الزمن، ومن كلمة الزمن «كان». وهكذا يستطيع شيكسبير أن يوحي بعبارة «هكذا أردت الأمر.» حتى وهاملت تَتحوَّل إلى نموذج مضمر لرأي نيتشه في كتابه نحو أنساب الأخلاق. أي إن أشد تحقيق شيكسبيري لرأي نيتشه هو هاملت الخالص: إننا نستطيع أن نجد كلمات فقط لما سبق أن مات في قلوبنا، وهكذا يوجد بالضرورة نوع من الاحتقار في كل فعل من أفعال التكلم. ولا يبقى سوى الصمت، فالكلام إثارة، وخيانة، وقلقلة، وعذاب للذات وللآخرين. وهكذا فإن شيكسبير يصل بهاملت إلى مأزق لا يزال فعالًا في الليلة الثانية عشرة حيث يعتبر فسته وريث هاملت.

لا يوجد هاملت «حقيقي» مثلما لا يوجد شيكسبير «حقيقي»، فالشخصية مثل الكاتب صفحة ماء عاكسة، مرآة شاسعة لا بد أن نرى فيها أنفسنا. فإن سمحتَ لهذا الكاتب بتلاقي الأضداد، فسوف يريك كل الناس ولا أحد في الوقت نفسه. ولا خيار لنا إلا أن نسمح بكل شيء لشيكسبير وهاملت المنتمي إليه، بسبب عدم وجود منافس لأي منهما.

وتقول آن بارتون: إن هاملت تدين لمسرحيات شيكسبير السابقة بالقدر الذي تدين به على الأقل لهاملت الأصلية. وحتى لو كان بيتر ألكسندر على حق (على نحو ما أُصر أنا عليه) وكانت هاملت الأصلية أحد هذه الأعمال السابقة، فإن مسرحية هاملت وشخصية هاملت يدينان لمسرحيتي هنري الرابع ولفولسطاف بأكثر مما يدينان لهاملت التي كانت في طور الجنين. وتعتبر الحياة الباطنة التي تمثل صورة من صور الحرية من أجمل ما يتمتع به هاملت الناضج، على الرغم من معاناته، وتصبح اللمَّاحية اسمًا آخر لتلك الحياة الباطنة وتلك الحرية، عند فولسطاف أولًا ثم عند هاملت. بل إننا نجد هذا النزوع إلى تصوير الحياة الباطنة في بواكير أعماله، أي في مسرحيات هنري السادس، وإن كان نهجه يتسم بسذاجة شديدة تحول دون إحكام ذلك التصوير. ولم يستطع مارلو أن يساعد شيكسبير على إبداع فن باطني (على الرغم من كون باراباس وحشًا رائعًا، وهو الدور المسرحي الوحيد الذي دائمًا ما أشتاق إلى أدائه). وكان تشوسر قادرًا على ذلك وأنجزه بالفعل: فشخصية غافر الذنوب لديه هُوَّةٌ إنسانية عميقة بلا قاع، ويتمتع بالحياة الباطنة مثل ياجو أو إدموند. وشخصية «الزوجة بنت بلدة باث» تعتبر نموذجًا اتبعه فولسطاف، وربما كانت شخصية غافر الذنوب نموذجًا اتبعه ياجو. ولكننا لا نجد عند تشوسر شخصية ساعدت شيكسبير على تشكيل هاملت، أي رسم الصورة التي نعرفه بها الآن، على الرغم من أن التورية الساخرة عند هاملت في النص المكتوب في ١٦٠٠-١٦٠١م تتضمن عناصر تشوسرية. ومكونات التورية الساخرة المذكورة تساعد في إغذاء التأثير الغريب الذي يقارنه جراهام برادشو بتأثير بيرانديلو؛ إذ يبدو لنا هاملت في صورة شخص حقيقي اقتنصَتْه إحدى المسرحيات بصورة ما، ومن ثم أصبح عليه أن يُؤدِّي الدور المنوط به وإن لم يكن يريد ذلك. ولما كان برادشو نفسه قد وقع في شَرَك التقاليد الفاسدة التي تقول بأن كيد هو الذي كتب هاملت الأصلية، فهو يُرجع هذا الإحساس الغريب إلى رَدِّ فِعْل جمهور مسرح الجلوب إزاء مسرحية كيد القديمة التي لا تهدف إلا إلى الربح. ويزداد ذلك التأثير المنسوب إلى بيرانديلو (ناهيك بالتأثير المنسوب إلى بيكيت في مسرحية نهاية اللعبة مثلًا) زيادة كبيرة، إذا كان البطل الجديد عند شيكسبير قد وقع في شَرَك أُولَى مسرحيات شيكسبير، فإذ به يتفكك بحيث يسمح بوجود أقوى صورة باطنة رسمها عمل أدبي على الإطلاق.
وتشغل فكرة اللعب (play) موقعًا رئيسيًّا عند فولسطاف يماثل موقع اللعبة [أي التمسرح] the play عند هاملت. وليست الفكرتان مترادفتين؛ فإن فولسطاف يميل إلى اللعب إلى درجة أبعد كثيرًا من ميل هاملت إلى اللعب، وميل الأمير إلى التمسرح أكبر كثيرًا من ميل الفارس البَدين إليه. فإن هاملت الجديد ذو وعي ذاتي بالتمسرح، والمُفترَض أن هاملت القديم (كما يقول برادشو) غارق إلى أذنيه في التمسرح الميلودرامي. ولنا أن نقول إن هاملت المُثقَّف المُمارِس للتورية الساخرة واعٍ إلى حدٍّ ما بضرورة التخلص من صورته الساذجة القديمة. بل إن لنا أن نقول بوجود ازدواجية غريبة؛ فإن هاملت مضطرٌّ إلى التعامل مع الشبح وحسب بل أيضًا مع شبح الشبح الأول، ومع شبح هاملت الأول. وهو يَتفوَّق في هذا على بيرانديلو بأسلوب بيرانديلو نفسه، ويفسر ذلك لنا امتناع هاملت الذي يطعن في كل شيء، عن الطعن في قضية الانتقام، حتى ولو كان بطبيعته غير مُتحمِّس، برجماتيًّا، لهذه القضية.

ولكن ذلك طبع يتميز به وعي هاملت؛ إذ إن للأمير ذهنًا يتمتع بالقوة التي تتيح لأشد المتناقضات من المواقف والقيم والأحكام أن تتعايش في داخله بدرجة كبيرة من الاتساق، بل إن الاتساق قد بلغ حدًّا يجعل من هاملت، تقريبًا، كل شيء لجميع الرجال وبعض النساء. أي إن هاملت يُجسِّد قيمة الشخصية الإنسانية، مع التنحي عن قيمة الحب. فإذا كان هاملت يمثل فولسطاف الخاص به (وهي الصيغة الجميلة التي وضعها جودارد) فإنه فولسطاف الذي لا يحتاج إلى هال، تمامًا مثلما لا يحتاج إلى أوفيليا المسكينة، أو حتى هوراشيو، إلا باعتباره الباقي في قيد الحياة الذي سوف يَقصُّ قصة الأمير. والعنصر المُشترَك الذي يجمع بين تلاعب فولسطاف الرائع وتمسرح هاملت هو استخدام اللماحية العظمى لمناهضة المكيافيلية، ودفاعًا ضد افتئات عالَم فاسد.

ونحن نجهل مدى تلاعب شيكسبير نفسه، ولكننا نعرف مسرحياته، وهكذا نستطيع أن نعثر عليه من جديد وبيُسْر في بعض ملاحظات هاملت أكثر مما نستطيع ذلك بالنسبة لفولسطاف. فنحن لا نستطيع أن نتصور فولسطاف وهو يُقدِّم الإرشادات للممثلين، أو حتى وهو يشاهد مسرحية ما؛ إذ إن الواقع كان مسرحًا في عيني السير جون. ونحن نستمتع بتمثيل فولسطاف دور الملك هنري الرابع ثم دور هال، ولكننا لن نقبل أن يمثل فولسطاف دور فولسطاف؛ لأنه يتمتع بوحدة كبيرة في شخصيته. ومن بين بواعث الحيرة الكثيرة لدينا في حالة هاملت أننا لا نستطيع القطع قط فيما إذا كان يمثل دور هاملت متظاهرًا بالجنون أو غير متظاهر. فالمحاكاة؛ أي محاكاة الممثل لشخص ما، قضية تشغل بال هاملت، ولكنها من المُحال أن تُمثِّل مشكلة لفولسطاف. وعلى الرغم من فظاظة هال في معاملة فولسطاف، وهي التي لا يمكن أن نَتصوَّرها عند هاملت «فمن المحال لهاملت أن ينبذ هوراشيو مثلًا»، فإنه يشترك مع هاملت في اهتماماته التمثيلية، وهو أيضًا يدعو إلى القيام بمسرحيات صغيرة داخل المسرحية، وإن تكن تتسم بنفاق يحتقره هاملت. ولكنْ لو قُدِّرَ لهاملت أن يصبح ملكًا فلن يصير فورتنبراس ذا اللماحية الفائقة؛ أي صنوًا لهنري الخامس. فباعتبار أن هاملت يُمثِّل فولسطاف الخاص به، نفترض أنه سوف يمارس في هذه الحال «اللعب» السامي أي فن التمثيل. ونعود بهذا إلى المفارَقة التي تقول إن هاملت كان يمكنه كتابة مسرحية هاملت على عكس فولسطاف الذي يرى أن تأليف مسرحية فولسطافية لا ضرورة له، فإن فولسطاف ذو وجود مُلازِم للحياة من حوله بل إن وجوده فياض، على عكس ياجو وإدموند اللذين لا يتمتعان بهذه الخصيصة الكاملة. أي إن فولسطاف مثال لتدشين معنًى جديد، كما ذكرتُ آنفًا، على عكس هاملت الذي يتميز بالسلبية واللماحية معًا فيصد المعنى أو يوقعه في حيرة، إلا فيما يتجاوز التعاليَّة.

كان أودين، ذو اللماحية المسيحية، يفضل فولسطاف تفضيلًا شديدًا على هاملت، ويقول إنه يرى أن فولسطاف «رمز كوميدي لنظام الخير والإحسان الخارق» وهو اكتشاف يورثني قلقًا بالغًا؛ لأن أودين يبالغ في نظرته فيقول إنه يجد دلالات مسيحية مضمرة لفولسطاف الذي تلفظه الدنيا. ولك أن تفضل دون كيخوته على هاملت، مثل أودين، إذا شئت أن تتبع تفضيل كيركجارد للرسل على العباقرة. ومع ذلك فمن الغريب أن يرى أودين أن فولسطاف أقرب إلى الرسل منه إلى العباقرة؛ لأننا لا نجد رسلًا في شيكسبير. وكيركجارد دنماركي لمَّاح يُنادِم الأشجان مثل هاملت، لكنه ليس شخصية شيكسبيرية ما دام ينتمي حقًّا إلى الرسل، ويسعدنا عدم انتماء أودين إليهم، بل كان يتمتع بقدر من الروح الفولسطافية يكفي للصفح عن اختطافه السير جون وضمه إلى مذهب الخير والإحسان المسيحي.

هل يوجد عند شيكسبير أشخاص آخرون يتمتعون بالاستقلال؛ مثل فولسطاف وهاملت؟ إن الرصد الشامل لأعظمهم لا بد أن يتضمن بوطوم، وشايلوك، وروزالند، وياجو، ولير، ومكبث، وكليوباترا، وبروسبرو، ولكن هؤلاء على الرغم من قدرتهم على إثارة التأمل واستمراره، يعتمدون على عوالم مسرحياتهم أكثر من اعتماد هاملت وفولسطاف. لا شك أن فولسطاف أفلت زمامه من يد شيكسبير، لكنني أميل إلى القول بأن شيكسبير لم يستطع الفرار من هاملت، وهو الذي بُني على أسس باطنة، وأما فولسطاف فبدأ باعتباره بِناءً خارجيًّا ثم تحول إلى الباطن، ربما ضد الرغبة الأصلية لشيكسبير. وأظن ظنًّا أن هاملت يمثل إرادة شيكسبير؛ إذ أطال تأمله، على عكس فولسطاف الذي تشكل بمصادَفة مُوفَّقة. فإذا كانت عند شيكسبير شخصيات تشغل المكان كله فهي هذان الشخصان، وإن يكن هاملت وحده هو الذي رُسِمَ له هذا الدور عمدًا. فاغتصاب خشبة المسرح هو الدور الوحيد المنوط به، وهو، على عكس فولسطاف، ليس متمردًا على فكرة الزمن وفكرة النظام. ويشعر فولسطاف بالسعادة في وعيه بذاته وبالواقع، ولكن هاملت ليس سعيدًا بهذا أو ذاك. وهما يشغلان معًا قلب ابتكار الشخصية الإنسانية عند شيكسبير.

٣

من السمات الغريبة الخاصة بانتصارات شيكسبير أن أشد الأعمال الأدبية أصالة في الأدب الغربي، وربما في الأدب العالمي، قد أصبح اليوم مألوفًا إلى الحد الذي يجعلنا نشعر أننا قرأناه من قبل، حتى عندما نقابله أول مرة؛ إذ لا يزال هاملت باعتباره شخصية (أو دورًا مسرحيًّا إن أحببت) يَتمتَّع بالأُلفة وبالأصالة تَمتُّع مسرحيته نفسها. وكان الدكتور جونسون لا يكاد يرى أية مشكلة في مسرحية هاملت، وكان يمتدحها بسبب ما تمتاز به من «تَنوُّع»، وهي صفة تَصدُق على بطل المسرحية، فالأمير يقف مثل المسرحية على مبعدة من سائر أشخاص «وأعمال» شيكسبير، ربما لأن العادة لم تنتقص من تنوعه اللانهائي، فهو بطل يمكن وصفه برجماتيًّا بأنه شرير، فهو بارِد وقاتِل ومُنْكَبٌّ على ذاته، وعدمي، ومتلاعب. ونحن نستطيع أن نتعرف على ياجو بهذه الصفات، لا على هاملت؛ لأن الاختبارات البرجماتية لا تنطبق عليه. والوعي خصيصته البارزة، فهو أشد الشخصيات التي تَصوَّرها الإنسان وعيًا ومعرفة، بحيث نَتوهَّم أن هذا الشخص الخيالي من المحال أن يفوته إدراك شيء ما، فهاملت يشبه هنري جيمز، غير أنه بارع في الضرب بالسيف، وفيلسوف يُتوقَّع له اعتلاء العرش، ونبيءٌ ذو حساسية تسبق ما لدينا، في حقبة مقبلة.

وعلى الرغم من أن شيكسبير كتب ست عشرة مسرحية بعد هاملت، وهو ما يضعها بُعَيْدَ منتصف حياته العملية، فالواضح لنا أن من زاوية مُعيَّنة أن هذه الدراما تمثل ألفه وياءه معًا؛ إذ يوجد فيها شيكسبير برمته، ففيها التاريخ والكوميديا والهجاء الساخر والتراجيديا والرومانس، وقد يغدو المرء مثل بولونيوس إذا أراد المرء تحديد نوع هذه «القصيدة غير المحدودة». والواقع أن كل ما كان بولونيوس يعنيه أن مثل هذه المسرحية الشعرية لا حاجة بها للالتزام بقاعدة الكلاسيكية الجديدة عند بن جونسون بخصوص وحدتَي الزمن والمكان. وهاملت تتولَّى، بما في هذا من مُفارَقة، تدمير أية فكرة متسقة عن الزمن بصورة جذرية تفوق ما سوف نراه حتى في مسرحية عطيل. ولكن صفة «القصيدة غير المحدودة»، على نحو ما كان شيكسبير يعرف، فيما يبدو، أفضل عبارة متاحة تصف النوع الأدبي الذي تنتمي إليه مسرحية هاملت المكتملة، وهي التي تُعْتَبر ولا تُعْتَبر في آنٍ واحد مأساة الأمير. ومسرحية فاوست التي كتبها جيته، تدين بدين أكبر مما ينبغي لمسرحية هاملت، ويُعْتَبر جيته فيها خير معلم لنا لما يمكن أن تكون عليه «القصيدة غير المحدودة». والرؤيا الشيطانية التي تمثل القسم الثاني من فاوست «غير محدودة» إلى درجة فاضحة، ومع ذلك فإنها تفقد قدرًا كبيرًا من هالتها الرائعة إذا وضعت مباشرة بجوار هاملت. وأنا أزعم أن «القصيدة غير المحدودة» التي وضعها شيكسبير، تتسم بأنها ذات طابع شخصي وهوائي وتَعسُّفي مثل القسم الثاني من فاوست، وبأنها ذات رحابة مديدة غريبة أكثر من عمل جيته الغريب. ولا شك أن مسرحية هاملت الأصلية «المفقودة» كانت تراجيديا ثأر شيكسبيرية تُضارِع تيتوس أندرونيكوس، أو يوليوس قيصر (إذا أردنا أن نعتبر أن هذه المسرحية انتقام مارك أنطونيو) ولكن مسرحية هاملت الظافرة دراما كونية عن قدر الإنسان وتُخْفِي دافعها الأساسي بقناع الثأر. لنا أن ننسى «تَردُّد» هاملت و«واجبه» الذي يقضي بقتل عَمِّه الملك المُغتصِب للعرش. والواقع أن هاملت يستغرق بعض الوقت حتى ينسى كل ذلك، ولكنه ما إن يبدأ الفصل الخامس حتى نجد أنه لم يَعُد في حاجة إلى التذكُّر؛ لقد مضى الشبح، والصورة الذهنية للوالد قد فَقَدت سلطانها، وبدأنا نرى أن التردد والوعي مترادفان في هذه المسرحية الشاسعة. ويجوز لنا أن نتكلم عن لحظات التردد في الوعي نفسه؛ إذ إن هاملت يعلن مولد دراما الهوية العميقة، وهي التي لم يستطع أحد، حتى بيرانديلو وبيكيت، إلا تكرارها، ولو كان ذلك بنغمة أشد يأسًا، كما حاول بريخت عبثًا أن يهدمها. والواقع أن الدافع الماركسي عند بريخت قد غدا الآن مُجرَّد تكرار، على نحو ما فعل توني كوشنر في مسرحيته ملائكة في أمريكا [١٩٩٢م] وهي التي تسعى لإثبات عدم وجود أفراد مستقلين بالمعنى المعروف، وهي لا تحقق التعاطف الصادق إلا عندما يصعد روي قون، بطلها الشرير، على خشبة المسرح، وتَتبدَّى عزلته مثل أي وعي مُعذَّب وفق التقاليد الهاملتية.

لا نكاد نستطيع أن نتصور أننا ذوات منفصلة من دون أن يخطر هاملت على بالنا، سواء كنا ندرك أو لا ندرك أننا نتذكره، وهو ليس، في المقام الأول، عالم اغتراب اجتماعي، ولا غيابًا (أو حضورًا) للإله. فالواقع أن عالمه هو الذات الباطنة المتنامية، وهو أحيانًا يحاول نبذها، ولكنه يحتفل بها بصفة مستمرة تقريبًا، وإن يكن ذلك مضمرًا. وليس اختلافه عن ورثته، أي عنا نحن، أمرًا تاريخيًّا؛ لأنه من هذه الزاوية أيضًا يسبقنا، فهو دائمًا يوشك أن يكون. والطابع المؤقت هو السمة الغريبة الخاصة لوعيه الذي ما تفتأ براعمه تتفتح بلا نهاية، وإذا لم يكن في طوقه أن يعرف نفسه، معرفة كاملة، فما ذاك إلا لأنه موجة تتكسر من الحساسية والفكر والشعور، أو قل موجة يدفعها نبضها إلى الأمام. وقد أدرك أوسكار وايلد أن هاملت لم يكن يرى في الطابع الجمالي إلغازًا وتعمية بل كان يرى أنه يشكل العنصر المعياري أو الأخلاقي الوحيد في الوعي. وقال وايلد إن العالم أصبح حزينًا بسبب هاملت، فإن الوعي الذاتي عند هاملت يزيد الأشجان على حساب المشاعر الأخرى.

لن يصف أحدٌ هاملت يومًا ما بأنه «الدنماركي المَرِح»، ولكنَّ الوعي الحيَّ بهذه الصورة المستمرة، وفي جميع الأحوال، لا يمكن تصنيفه في فئة الشجو والشجن والحزن، فإن حزن هاملت، حتى في أحلك لحظاته، يتسم بشيء مؤقت في داخله. فإذا قلنا «الحداد المتردد» كنا نَبنِي تناقضًا ظاهريًّا، ومع ذلك، فإن جوهر هاملت لا يتسم بالالتزام الكامل قط بأي موقف أو نظرة أو مهمة أو أي شيء في الواقع على الإطلاق. وتكشف لغته عن ذلك في كل ما ينطق به. ولا يوجد في الأدب كله شخص يغير من «طابع اللياقة» في لغته بمثل هذه السرعة. فلنقل إنه ليس له مركز أو محور خاص، فإن لعطيل «عمله» وهو القتال الشريف، ويتمتع لير بالجلال الذي يكفله له كونُه ملكًا من ناصية رأسه لأخمص قدمه، ولدى مكبث مُخَيِّلة ترنو إلى المستقبل وتثب فتسبق ما يطمح إليه. ولكن هاملت أذكى من أن يقتصر على دور واحد وحسب، والذكاء في ذاته يتزحزح عن المركز عندما يشتبك مع حياد الأمير آخِر الأمر، فمن المحال فعليًّا تصنيف هاملت. أما فولسطاف الذي يُعْتَبر من الزاوية البرجماتية معادلًا لهاملت في الذكاء فهو يقول إنه يتماهى مع حرية اللَّماحية، ومع اللعب. وأما هاملت فإن أحد جوانبه يتمتع بالحرية، ويمتع نفسه بلماحية مريرة، وبتمثيل له غاية مريرة، ولكن له جوانب أخرى مقيدة، ولا نستطيع أن نجد التوازن.

لو كانت المسرحية مسيحية، أو حتى غير مسيحية، لاستطعنا القول إن هاملت يتمتع بالبركة، مثل داود، ويوسف، ويعقوب ذوي المهارة، عليهم السلام جميعًا وفق قول الكتاب المقدس. الواقع أن هاملت يتفوق على فولسطاف، أو كليوباترا في الكاريزما بل إنه ذو الكاريزما العظمى عند شيكسبير، ولكنه يحمل البركة كأنما كانت لعنة. ويقول كلوديوس، في حسرة: إن هاملت يتمتع بحب الشعب الدنماركي، ومعظم الجماهير تشاركه هذا الحب. وتنشأ المشكلة عندما يصبح معنى البركة «زيادة حياة في زمن بلا حدود»، وإذا كان هاملت يُجسِّد مثل تلك الحيوية البطولية، فإنه يمثل الموت أيضًا، ذلك البلد غير المستكشف الذي يحده الزمن. ولقد خلق شيكسبير هاملت من جدلية بين صفات متضادة، من المحال تسويتها حتى بموت البطل. وليس من المبالَغة أن نقول إن هاملت هو قوة شيكسبير الإبداعية؛ أي فن كاتب المسرح الشاعر الذي هو الطبيعة في ذاته. وهاملت أيضًا موت شيكسبير، ابنه المُتوفَّى ووالده الراحل. وقد يبدو هذا القول من نسج الخيال ولكنه واقعيٌّ من الزاوية الزمنية. فإذا قمتَ بتمثيل الفن الحي لمؤلِّفك ومستقبل الفَناء الذي ينتظره، فمن المحتمل أن تلعب أشد أدوارك الْتِباسًا وأكثرها تعددًا للدلالات، ألا وهو دور الشرير البطل. ويعتبر هاملت بطلًا تعاليًّا، ونوعًا جديدًا؛ إذ يرهص إرهاصًا مباشرًا بياجو وإدموند، أو قُل إنه الشرير في ثياب كاتب المسرح الذي يستخدم في الكتابة الألفاظ وحيوات الآخَرِين معًا. وقد يكون من الأفضل وصف هاملت بأنه البطل الشرير؛ لأن صفة التعالِيَّة عنده تنتصر أخيرًا على الرغم من أنه تَسبَّب برجماتيًّا في موت ثمانية، وهو من بينهم. وهكذا نشهد آخِر الأمر مسرحًا خاليًا، ليس به إلا هوراشيو الذي لا لون له، وفورتنبراس اليافع البلطجي، وأوزريك المتغندر، يمثل العاقبة التي خلفها هاملت البرجماتي.

يَصعُب وصَفُنا بالمبالغة في الإطراء إذا أثنينا على وَقْدة ذكاء شيكسبير في تأليف هاملت باعتباره تفاعلًا بين عدد من المتناقضات، حتى ولو كانت نتيجة ذلك قراءات مخطئة للنص على امتداد أربعة قرون، وتعتبر كثير منها إبداعية إلى حدٍّ بعيد في ذاتها. ما أكثر ما نجد ما يضلل الباحث في بحار الحبر التي تمثل تفسيرات هاملت؛ فلقد قيل إنه الرجل الذي يفكر أكثر مما ينبغي، أو الذي لم يستطع أن يحسم أمره، أو الذي كُلِّف بمهمة أقل من قدراته أو عاش في عالم لا يتطلب كل هذه القدرات. فلقد مَرَّت بنا صورة هاملت ذي الرومانسية الرفيعة، وهاملت المنتمي إلى الحداثية الخفيضة، ونشهد الآن صورة هاملت وفق نظرة فوكوه، وهاملت الذي يمثل الهدم والاحتواء، وذروة صورة هاملت الفرنسية عند مالارميه، ولافورج، وت. س. إليوت. وكانت هذه الصورة الزائفة لهاملت سائدة في شبابي، في عصر إليوت النقدي. فلْتُسَمِّه هاملت المسيحي الجديد، واقفًا فوق أسوار إلسينور «أو جامعة ييل» لمواجهة الشبح باعتبار ذلك حنينًا يذكرنا بالروحانية المفقودة. وهذه بوضوح سخافة. إلا إذا سَلكتَ مذهب إليوت الذي يرى أن الشيطان أفضل من الفقدان العلماني للمعنى. كان أودين أكثر حكمة حين قال (بلمسة نفور معينة) إن هاملت عبقري التعاليَّة العلمانيَّة، وهو ما يقترب كثيرًا من صورة المفكر الملغز عند شيكسبير، والذي يتسم بفساد يدق على الإدراك ويزيد عن العفن الذي يحزنه في البلاط الملكي وفي الدولة. ويعتبر ازدواج الموقف المذكور من وضع شيكسبير نفسه، فهو علمانيٌّ وتعاليٌّ، كما نلحظه في السونيتات، وهو ذو طابع شخصي، يثير الغرابة في هاملت ويزيد عن أشكال العفن الرائعة في ثلاثية طرويلوس وكريسيدا، والعبرة بالخاتمة، ودقة بدقة. ربما يكون فولسطاف أقرب إلى قلب شيكسبير (مثلما ينبغي أن يكون قريبًا من قلوبنا) ولكن هاملت كان بوضوح أمرًا ذا طابع شخصي أكبر في نظر من أبدعه. ولنا أن نحدس أن هاملت يمثل وعي شيكسبير الخاص (مع بعض التحفظات) من دون أن نخشى أن نكون من بين تلك الكيانات الفظيعة أي عُبَّاد شيكسبير المنتمين إلى الرومانسية الرفيعة.

لن يفعل هاملت شيئًا قبل موعده، فإن في باطنه شيئًا يصمم على عدم العناد. ويكمن جانب من حريته في عدم التعجل، أو عدم التبكير. فهل يدلنا هذا على أن شيكسبير كان يشعر بأسف ساخِر لأنه كتب هاملت الأصلية على عجلة بل في وقت قريب من نشأته الأولى باعتباره شاعرًا مسرحيًّا؟ وسواء صَدَّقْنا أو كذَّبْنا أنه كَتب الخطاب العظيم الذي يلقيه ممثل دور الملك (٣ / ٢ / ١٨٦–٢١٥)، فهل يجوز اعتباره ذا علاقة بمسرحية موت جونزاجو وبهاملت الأصلية؟ إن ضروب نفي ذلك تحطم كل شيء. ربما كان ذلك تعليقًا، إذن، على فشل شيكسبير الكاسف في هاملت المبتسرة. وتُعتَبر قراءة هاملت الناضجة أو مشاهدتها على المسرح باعتبارها عملًا مُنَقَّحًا يوازي تقبل جانب من جوانب هاملت نفسه باعتباره شخصًا يعيد النظر في ذاته. ما أعظم سحر مفارقات التاريخ الأدبي التي ربما بَدَت لعيني شيكسبير! وأظن أن هاملت [الأولى] التي كتبها شيكسبير سَبقَت كتابة توماس كيد لمسرحية التراجيديا الإسبانية وساعدت على وضبعها، بحيث يعتبر شيكسبير مُبتكِر تراجيديا الثأر والمُنقِّح العظيم لها. ومن المفارقات اللطيفة الأخرى أن بن جونسون الذي بدأ حياته العملية ممثلًا، واصل ذلك العمل فأدى دور هيرونومو المنتقم في التراجيديا الإسبانية، الدراما التي ألَّفَ لها فيما بعد بعض التنقيحات. وقام شيكسبير بدور شبح هاملت الأب في مسرح الجلوب «وربما أيضًا دور الممثل الملك». تُرى هل شعر بامتعاض وهو يؤدي دور الشبح في مسرحية هاملت الأصلية، وترديده النداء الذي سخر الناس منه وهو «هاملت! الثأر!»؟

ويمكننا أن ننظر نظرة بَالغة الاختلاف إلى المذهب التنقيحي في هاملت إذا لم يكن شيكسبير ينقح المسرحية المزعومة خطأً أي هاملت التي كتبها كيد بل مسرحيته المُبكِّرة هاملت. وأسلوب هاملت نفسه هو التنقيح الذاتي، فهل فُرِضَتْ عليه فرضًا بسبب المواجهة المتسمة بدرجة كبيرة من الوعي الذاتي بين شيكسبير وبين بداياته العرجاء في كتابة التراجيديا؟ فإلى جانب جوانب المحاكاة الساخرة لتيتوس أندرونيكوس — في مواجهاتها لتوماس كيد ومارلو — نجد ابتعادًا، في هذه المسرحية التي يكثر فيها القتلى، عن أي تماهٍ متعاطف مع أي فرد على خشبة المسرح. والواضح أن «التغريب» البريختي قد تعلمه «السارق الأكبر» من تيتوس أندرونيكوس التي يبعدنا بطلها عنها من البداية بتضحيته الرهيبة بابن تامورا، ويعقبها بذبح ابنه نفسه. والأرجح أن يفضل أي مُشاهد أو قارئ هارون المغربي على تيتوس؛ لأن هارون وحشيُّ التفكه، وتايتوس وحشيُّ الآلام.

وأظن أن شيكسبير كان يرد في كتابته لا على مارلو وكيد فقط، بل أيضًا على تعاطفه مع هاملت الذي نفترض أنه كان منتقمًا شديد الدهاء. ويكمن جانب من جوانب لغز هاملت [في صورته النهائية] في حب الجمهور والقراء له، مثل عموم أبناء الشعب في الدنمارك، في المسرحية. فحتى الفصل الخامس، نرى أن هاملت يحب والده الراحل (أو بالأحرى صورته) ولكنه لا يقنعنا بأنه يحب (أو كان يحب يومًا ما) أي شخص آخر. ولا يشعر الأمير بالندم على قتله بولونيوس، وهو من باب القتل الخطأ، ولا على تقريعه الشديد لأوفيليا دافعًا إياها إلى الجنون والانتحار، أو على إرساله روزنكرانتس وجيلدنستيرن، دونما ضرورة، إلى الموت الذي لا يستحقانه. ونحن لا نصدق هاملت في جعجعته عن حبه لأوفيليا، لأخيها لايرتيس، ما دامت الطبيعة الكاريزمية، فيما يبدو، تستبعد الندم، إلا بشأن ما لم يُفعل بعد. إن جمجمة يوريك المسكين لا تثير الحزن بل التَّقزُّز، ووداع الابن لأمه المتوفاة عبارة باردة الإحساس تقول «إلى اللقاء يا مليكة شقية.» كما نسمع الثناء المبالغ فيه على هوراشيو المحب والمخلص، ولكن الثناء ينهار عندما يمنع هاملت في غضب صديقه الحزين من الانتحار، لا بسبب الحب بل حتى يكلفه بمهمة قص قصة الأمير، خشية أن يحمل هاملت اسمًا مجروحًا إلى الأبد. لا شك قطعًا في وجود حيثيات «إدانة لهاملت»، وهي حيثيات لا يستهان بها، وأحدث من قدمها أليستير فاولر، ولكن حتى إن كان هاملت شريرًا بطلًا، فإنه يظل البطل الغربي للوعي.

وتعتبر صورة الذات الباطنة من أعظم مبتكرات شيكسبير، خصوصًا لأنها جاءت من قبل أن يكون أحد على استعداد لها، ولا شك أن البروتستانتية تنص على وجود ذات باطنة، ولكننا لا نجد عند لوثر ما يهيئنا لتَقبُّل لغز هاملت، وسوف يظل تصوير دخيلة نفسه قائمًا. يقول هاملت «لكنَّ بقلبي ما يقصر عنه الظاهر»، وقد يكون شيكسبير قد تَعلَّم من هاملت الأولى التي كتبها، ألا يقدم صورة درامية مباشرة قط لجوهر هاملت. وبدلًا من ذلك فإنه يقدم إلينا المونولوجات السبعة الفذة، والتي أبعد ما تكون عن الابتذال، وإن تكن سيئة الإخراج وحسب، وسيئة التمثيل وسيئة القراءة. وكان أعظمها الذي يستهله السؤال «نكون يا تُرى أم لا نكون» قد تَسبَّب في حرج شديد للمخرج وللممثل في أحدث عرض شاهدتُه لمسرحية هاملت، وهو المسخ الذي قام فيه رالف فينيس بدور هاملت؛ إذ نطق معظم سطوره مغمغمة خارج المسرح ثم دخل المسرح ليلقي الباقي بأقصى ما يستطيع من سرعة. ومع ذلك فإن هذا المونولوج يشغل قلب هاملت، وهو كل شيء ولا شيء في آن واحد، وهو امتلاءٌ وخَوَاءٌ يتبارزان. وهو الأساس لكل شيء تقريبًا يقوله في الفصل الخامس، ويمكننا أن نصفه بأنه «خطاب الموت مقدمًا»، والإرهاص بالتعالية عنده.

من بالغ الصعوبة التعميم حول هاملت، فعلى كل ملاحظة أن تعترف بضدها، فهو نموذج للحزن ولكنه يعبر عن الحداد بنشاط فذ، ولماحيته المستمرة ذات تأثير برجماتي يجعله يبدو ذا روح معنوية عالية لا تنتهي، حتى وهو ينعي، ويعتبر هذا، في جانب منه، نتيجة للطاقة اللغوية التي تنافس طاقة فولسطاف. وأحيانًا ما أنشد التسرية بأن أتصور أن شيكسبير قد دبر المواجهة بين فولسطاف والأمير هاملت بدلًا من الأمير هال. ولكن هارولد جودارد يبدي ملاحظة طريفة، كما سبق أن ذكرتُ، تقول إن هاملت يعتبر فولسطاف الخاص به، ومن المذهل أن نحاول أن نتصور فولسطاف في دور هوراشيو. ومع ذلك فإن فولسطاف يبدو لي الآن الجسر الذي عبره شيكسبير في انتقاله من هاملت الأصلي إلى هاملت؛ إذ إن نجاحه في خلق فولسطاف، من ١٥٩٦م إلى ١٥٩٨م، هو الذي مَكَّنَه من تنقيح هاملت (سواء كانت من تأليفه أو من تأليف غيره) في نحو عام ١٥٨٨م فأصبحَت هاملت المنتمية إلى ١٦٠٠-١٦٠١م. ويقول سوينبرن: إن فولسطاف وهاملت يتمتعان بأشمل وعي عند شيكسبير، أو عند غيره، فكل منهما يربط ما بين أقصى ما يصل إليه الوعي بما كان الشاعر و. ب. ييتس يمتدحه عند وليم بليك، ويصفه بأنه «أجمل الكلام الضاحك». وأما الفرق فهو أن فولسطاف كثيرًا ما يضحك بقلبه كله، واضعًا ثقته في اللغة وفي نفسه، وأما ضحك هاملت فقد يثبطنا؛ لأنه يصدر من الافتقار الكامل إلى الثقة، سواء في اللغة أو في نفسه. وأما الشاعر و. ﻫ. أودين، الذي كان يكره هاملت إلى حدٍّ ما، فيما يبدو، فيقدم رأيًا ربما كان يمثل أقوى إدانة لأمير الدنمارك، قائلًا:

يفتقر هاملت إلى الإيمان بالله وبنفسه. ومن ثَمَّ فلا بد أن يُعَرِّفَ وجوده من خلال الآخرين، فيقول مثلًا إنني الرجل الذي تَزوَّجَتْ أمُّه عَمَّه الذي قَتل أباه. وهو يود أن يصبح مثالًا للبطل التراجيدي اليوناني؛ أي الشخص الذي يخلقه موقف مُعَيَّن. وهذا ما يتسبب في عجزه عن الفعل؛ إذ إنه لا يستطيع إلا أن «يمثل» أي أن يلعب بالإمكانات.

هذا رأي ذو حذق «وحشي»: بمعنى أن هاملت قد يود أن يصبح أوديب أو أوريستيز، لكنه (على الرغم مما يقوله فرويد) لا يشبه أيًّا منهما إطلاقًا. ومع ذلك فيصعب عليَّ أن أتصوَّر أن هاملت شخص «يخلقه موقف مُعيَّن»؛ لأن الآخَرِين لا يكاد يكون لهم وزن في نظر بطل الحياة الباطنة المذكور. وهذا هو ما يفسر عدم وجود مشهد مركزي أو فقرة مركزية في هاملت، ذلك أن هاملت، باعتباره أشد الفنانين الذاتيين حرية في جميع ما كتبه شيكسبير، لا يعرف قط معنى الانحباس في أي ظرف طارئ، حتى ولو فرضه عليه الشبح. وعلى الرغم من تصريحه بأنه ليس حرًّا، فكيف نستطيع تصديق ذلك (أو أي شيء آخر) من صاحب وعي يبدو أنه يسترق السمع إلى نفسه حتى وإن لم يأبَه بأن يتكلم؟ وما دام هاملت يُحيِّرنا بأن يتغير مع كل عبارة ينطقها تقريبًا، فكيف يمكننا التوفيق بين هذه التحولات والقول بأنه «من خلق موقف مُعيَّن»؟ الواقع أن أودين يتوخَّى الدِّقة في تعبيره إذ يقول إن هاملت يود أن يصبح مثل هذا الشخص، ومن ثَمَّ فالمُفترَض أنه لا يحقق ذلك، على الرغم من أن رغبته المذكورة تختزله فيقتصر على القيام بدور ممثل. ولكن هل يختزل هاملت على هذا النحو؟ وينتهي ريتشارد لانام إلى أن الوعي الذاتي عند هاملت لا يمكن التَّمييزُ بينه وبين طابع «التمسرح» عند الأمير، وهو رأي يصعب تفنيده إلى حدٍّ كبير، مثل قول أودين، كما أن قبوله مُؤلِم ألمًا شديدًا «بالنسبة لي على أية حال». إن ياجو وإدموند «في الملك لير» ممثلان عظيمان قَتَّالان، ولكن هاملت شيء آخر، وإن يكن قَتَّالًا من الزاوية البرجماتية. فالمسرحية التي لا ينجو من شخوصها إلا هوراشيو، وفورتنبراس وأوزريك، تَتضمَّن ما يكفي من سفك الدماء، ويتعذَّر إلى حدٍّ بعيد اعتبارها تمثيلًا وحسب. وعندما يبدأ الفصل الخامس يكون هاملت قد توقَّف عن التمثيل، ويكون قد كبر في السن عشر سنوات عندما عاد من رحلته البحرية، وإذا كان وعيه الذاتي لا يزال متمسرحًا، فإنه يتبع نوعًا مختلفًا من المسرح، يَتميَّز بالتعاليَّة الغريبة والسمو الخاص، قل إنه المسرح الذي يقيم جسرًا فوق الهُوَّة التي تَفصِل تمثيل شخصية ما عن كون المرء هذه الشخصية.

ويعود بنا هذا إلى حيث يمضي بنا هاملت الناضج دائمًا؛ أي إلى خطوات التنقيح الذاتي، وإلى التَّغيُّر باستراق السمع إلى ما يقوله المرء، ثم إلى إرادة التَّغيُّر. إن شيكسبير يشير إلى ما نسميه «الذات» بكلمة «نفس الشيء»، ومسرحية هاملت، مهما كان شكل نسختها الأولى، تُعتَبر إلى حدٍّ بعيد تلك الدراما التي يُنقِّح فيها البطلُ التراجيدي مفهومَه لنفس الشيء. وليس هذا تشكيلًا للذات بل تنقيح للذات؛ إذ يقول فوكوه: إن الذات تتشكل، ولكن شيكسبير يرى أن لها وجودًا أصيلًا، تخضع بعده لضروب التَّغيُّر. والموضوع الأعظم عند شيكسبير، أو الموقع العام، هو التَّغيُّر: فالأشرار الكبار عنده، من ريتشارد الثالث، إلى إدموند، وياجو، ومكبث، يعانون جميعًا تغييرات مُدهِشة قبل أن تنتهي حياتهم العملية. ولن نَعثُر أبدًا على هاملت الأصلية؛ لأنها راسخة في أرضية هاملت النهائية. إذ يُعتبر التَّهكُّم على الآخَرِين وعلى الذات نهجًا حاسمًا عند هاملت، وهو يَتهكَّم على الثأر تهكمًا شديدًا إلى الحد الذي يجعل من المُحال لنا التمييز بين تراجيديا الثأر وبين الهجاء الساخر. ويُدرِك هاملت أن حزنه يتناقض مع عبقريته الكوميدية، حتى تأتي لحظة طمسهما معًا أثناء ركوب البحر. وهو لا يثير الضحك ولا الأشجان في الفصل الخامس، فالاستعداد أو الإرادة كل شيء. وهكذا فإن شيكسبير ينزع السلاح من يد النَّقد الأخلاقي، وينجح بذلك في تبرئة هاملت من إثم المجزرة الأخيرة. أما مَقتَل جيرترود، ولايرتيس، وكلوديوس وهاملت نفسه فيرجع إلى خداع كلوديوس، على عكس موت بولونيوس، وأوفيليا، وروزنكرانتس، وجيلدنستيرن، وتلك الوفيات الأولى يمكن أن تنسب إلى نزعة التمسرح الفتاكة عند هاملت، أي إلى مزيجه الغريب بين دوري الكوميديان والمنتقم، وأما مقتل كلوديوس فليس عملًا ثأريًّا، بل هو النتيجة الطبيعية النهائية وحسب للخدعة المدبرة.

لا يوجد إذن أساس لاتهام هاملت بالمسئولية عن المشهد الذي يقتل فيه، ويشعر الجمهور بهذا الخلاص التنقيحي باعتباره موسيقى تعاليَّة، وهوراشيو يدعو الملائكة إلى الترانيم، وفورتنبراس يأمر باتباع الطقوس الحربية [في دفن القتلى]. هل من قبيل الوهم الكامل أن نقول إن شيكسبير، أثناء تنقيح نصه، كان يعرف أيضًا نظام الخلاص من الحِدَاد على ابنه المتوفَّى هامنت؟ لقد علمني المرحوم كينيث بيرك أن أسأل دائمًا: ما الذي يُحاوِل الكاتب أن يفعله، رجلًا كان أو امرأة، من أجل نفسه بكتابة هذا العمل؟ وكان بيرك يقصد بتعبير «نفسه» الشخصية الإنسانية في المقام الأول، لا الكاتب، ولكنه تَقبَّل بصدر رحب تنقيحي لهذا السؤال. كما علمني أيضًا أن أطبق على هاملت مقولة نيتشه القوية المأثورة: «إن الذي نستطيع أن نجد له ألفاظًا شيء مات من قبلُ في قلوبنا، ففِعْل التَّكلُّم يتضمن دائمًا نوعًا من الاحتقار». لا يمكن أن نجد قولًا أقرب من هاملت، وأبعد عن فولسطاف من هذا. فالذي يجد فولسطاف الألفاظ له لا يزال حيًّا في قلبه، ولا يوجد أي احتقار في نظره في فعل التَّكلُّم. ويمتلك فولسطاف اللماحية خشية أن يفنى من الحقيقة؛ وأما لماحية هاملت، فهو يَتخلَّص منها أثناء انتقاله إلى الفصل الخامس، ويُقصيها عن خشبة المسرح، ومن ثم يصبح هاملت الشخصية الإنسانية السامية التي لا بد أن يكون قدَرُها أن تفنى بسبب الحقيقة. وعندما قام شيكسبير بتنقيح هاملت، خلَّص نفسه من هاملت واستعاد حريته في أن يصبح فولسطاف مرة أخرى.

يوجد شيء مختلف في نص هاملت المكتمل (إذا صح هذا التعبير) يفصل بينه وبين المسرحيات الشيكسبيرية السِّت والثلاثين الأخرى. وربما كان الناس يشعرون دائمًا بذلك الاختلاف، ولكن السِّجل الذي يشير إليه يبدأ في عام ١٧٧٠م، عندما أكَّد الناقد هنري ماكنزي «الحساسية المتطرفة للذهن» عند هاملت. وكان ماكنزي يرى أن هاملت يمثل «جلال الأشجان». ويبدو أن الدكتور جونسون كان يرى أن تأثير أوفيليا أكبر من تأثير هاملت، ويبدي مُلاحَظة لا انفعال فيها تقول إن الأمير «على امتداد المسرحية كلها أقرب إلى أن يكون أداة من أن يكون فاعلًا». وليست هذه الملاحَظة بالضرورة مُناقِضة لما كان الرومانسيون الألمان والإنجليز يرونه في هاملت، ولكن جونسون بعيد كل البُعد عن الصورة الرومانسية لهاملت. فإننا أثناء احتضاننا، بحماس مُتطرِّف، لهاملت الرومانسي، بطَل التَّردُّد الذي تسيطر صورته المذكورة على النقد من جيته وهازلت، إلى إمرسون وكارلايل، ثم إلى أ. سي برادلي وهارولد جودارد، كنا نُبْدِي استعدادًا أكبر مما ينبغي لكَفِّ أبصارنا عن غرابة هاملت الدائمة، وتُفرُّده المستمر، على الرغم من جميع من حاكَوْه. ومهما تَكُن علاقة هاملت على وجه الدقة بشيكسبير، فإن علاقته بالشخصيات الأدبية والدرامية تماثل علاقة شيكسبير بالكتَّاب الآخَرِين؛ فهو يشغل طبقة لا يشاركه فيها أحد؛ إذ يفصله عن الجميع سطوع نجمه معرفيًّا وجماليًّا. فالأمير والشاعر عبقرِيَّتَا التغيير، وهاملت، مثل شيكسبير، فاعِل لا أداة للتغيير. وهو ما غفل عنه الدكتور جونسون.

قد يجد من يقضي عمره في مشاهدة المسرحيات بعض أوجه الشبه أو التماثل في أداء دور الملك لير أو عطيل أو مكبث، ولكن كل ممثل يؤدي دور هاملت يختلف اختلافًا يكاد يكون عبثيًّا عن جميع الآخَرِين، وأشد أدوار هاملت تعلقًا بذاكرتي الدور الذي أداه جون جيلجود، وأذكر أنه أصاب في تصوير نبالة الأمير الكاريزمية، ولكنه ربما زادها عمَّا ينبغي على حساب الطابع الفكري القلق عند هاملت. وسوف يختلف أداء هاملت دائمًا باختلاف المُمثلِين والمُخرجِين والمُشاهدِين والقراء والنُّقاد. ولقد نطق هازلت بحقيقة أكثر من رومانسية عندما قال: «إنما نحن هاملت». و«نحن» عنده تتضمن قطعًا دوستويفسكي، ونيتشه، وكيركجارد، وفي زمن لاحق جويس وبيكيت. فالواضح أن هاملت قد اغتصب الوعي الأدبي الغربي، عند أشد عتباته وعيًا ذاتيًّا، وهي أبواب لم نَعُد نستطيع ولوجها إلى مناطق «المابعد» التعاليَّة. ومع ذلك، فإن مُعظَمنا ليسوا من ذوي الحدس والإبداع والخيال الجامح، حتى ولو كنا نشترك في ثقافة أدبية أساسًا (وهي التي تُحتضر الآن في جامعاتنا وربما حان حينها قريبًا في كل مكان). وأما ما يبدو الطابع العالمي الأول عند هاملت فهو نوع حداده وكرم معدنه. ويتركز هذا الطابع بدايةً في نَعْي الوالد الراحل والوالدة الخاطئة، ولكننا ما إن نصل إلى الفصل الخامس حتى يصبح مركز الحزن في كل مكان، ويختفي محيط الدائرة أو يصبح لا نهائيًّا.

وكانت لدى شيكسبير بطبيعة الحال أحزانه الخاصة، وربما كانت تزيد في عام ١٦٠٠-١٦٠١م، عام استكمال هاملت عمَّا كانت عليه في الفترة ١٥٨٧–١٥٨٩م التي ربما شَهدَت أول تأليف مُؤقَّت لها. ومع ذلك فإذا كان حِداده الرئيسي يدور حول وفاة الطفل هامنت شيكسبير، فلقد تَحوَّل تحولات غَيَّرت صورته تمامًا في شجو هاملت وأشجانه. ويرجع جانب من سِحر هاملت لنا إلى إهماله [بمعنى عدم اكتراثه] وعلى الرغم من أن هذا الطابع بالقطع وعيٌ أتى به التنقيح، فإنه يبدو في الفصل الخامس كله؛ طافيًا على صفحة نهر يمضي به، نهر من اللامبالاة والخمود، كأنما كان يريد أن يقبل كل تحول في ذاته نفسها ويرفض إرادة التغيير. وكان شيكسبير باعتباره كاتبًا مسرحيًّا يتسم بنوع خاص به من الإهمال [أو عدم الاكتراث] ظاهريًّا، ولكن ذلك، كما في حالة هاملت، أقرب إلى الموقف المنفتح على التغيير منه إلى هَجْر الفن. والتوازي قائم من جديد بين صورة هاملت «العالمية المبعثرة»، وبين إنجاز الكاتب الدرامي للعالمية إنجازًا كاملًا بالرجوع إلى عمل مبكر كان قد هزمه وربما كان أول جهد يبذله. ولقد كانت هاملت دائمًا، وفق خبرتي الخاصة، تلبي فكرة شيكسبير عن المسرحية، أو عن مسرحيته الخاصة، وليس من قبيل المصادَفات، فيما يبدو، أن نجاح تنقيح هاملت قد فتح أمام شيكسبير الطريق إلى التراجيديات العظمى التي تلتها، وهي عطيل، والملك لير، ومكبث، وأنطونيو وكليوباترا، وكوريولانوس. إن في طبيعة هاملت نزعة انتصارية شرسة، على الأقل قبل الفصل الخامس، ويبدو أن التمجيد التراجيدي للأمير قد أطلق نزعة انتصارية معينة عند شيكسبير الشاعر المسرحي. وقد تمكن هاملت بصورة ما من إصابة المرمى من خلال الأسلوب الرفيع لموته، والواضح أن شيكسبير نجح أخيرًا في إصابة المرمى أيضًا فيما يتعلق بمسرحية هاملت «وشخص هاملت» وحرر نفسه لكتابة التراجيديا.

كان ابن شيكسبير الوحيد ووالد شيكسبير، قد تُوفِّيَا عند تأليف هاملت الناضجة، ولكن المسرحية لا تبدو لي مشغولة بقضية الموت أكثر من سائر أعمال شيكسبير، قبلها وبعدها. كما لا يبدو أن هاملت مشغول بالموت مثل الأبطال الشيكسبيريين الآخَرين، فإن من قتلهم، كما يقول هوراشيو أخيرًا، «قتلهم عرضًا». وإذا كانت هاملت تختلف عن كتابات شيكسبير المبكرة (بما في ذلك نسخة هاملت الأولى المفترضة) فإن التغيير يكمن في التغيير نفسه؛ لأن هاملت يجسد التغيير. والصورة النهائية للتغيير هي الموت، وقد يكون هذا هو سبب ميلنا إلى الظن بأن مسرحية هاملت تتسم بعلاقة فردية بالغة بالموت. ونحن لا نملك إلا أن نشعر بالحيرة إزاء شخص درامي يتغير كلما تكلم، ومع ذلك فهو ذو هوية متسقة بحيث لا يمكن الخلط بينه وبين غيره عند شيكسبير.

والملاحَظ أن محاولات حدس الشكل الذي كانت عليه هاملت الأصلية تتعثر في جميع الحالات تقريبًا بسبب افتراض أن توماس كيد مؤلفها، ومن ثم يُنظَر إلى تلك المسرحية كأنما كانت تراجيديا إسبانية أخرى. ولكن ما دام شيكسبير هو الذي كتب تلك المسرحية، وكانت أولى مسرحياته، فإن أفضل ما يعيننا في هذا المسعى هو كتابات شيكسبير المبكرة، باستثناء الكوميديات، ألا وهي الرباعية التي تتكون من الأجزاء الثلاثة لهنري السادس، وريتشارد الثالث، وتيتوس أندرونيكوس أيضًا، التي ربما كانت تُمثِّل التمرد بالمحاكاة الساخرة ضد الرباعية المشار إليها والتي كانت تظهر التأثر الشديد بمارلو. ولا يتمتع بالتذكار في هذه المسرحيات الخمس إلا شخصان: ريتشارد وهارون المغربي في تيتوس، وكلاهما نسخة من باراباس المكيافيلي، الشرير البطل في مسرحية يهودي مالطة لمارلو. وأظن أن اليافع شيكسبير كان مبهورًا بمسرحية تمبرلين [أي تيمورلنك] بجزأيها، والتي كانت تُقدَّم على المسرح في أواخر عام ١٥٨٧م، فبدأ كتابة هاملت في عام ١٥٨٨م باعتبارها محاكاة لتمبرلين، ثم استوعب الصَّدمة الكبرى التي أحدثتها يهودي مالطة عام ١٥٨٩م، ومن ثم أكمل هاملت الأصلية في ظل باراباس. وقد سبق لي أن بينت أن هارون المغربي يعتبر بوضوح محاكاة ساخرة من باراباس، وعلى الرغم من أن كثيرًا من النقاد يختلفون معي في هذا الصدد، فإن مسرحية تيتوس أندرونيكوس برمتها مواجهة بشعة لمارلو. والبطل هاملت، حتى في ١٦٠٠-١٦٠١م يعتبر إلى حدٍّ بعيد شريرًا بطلًا، يبشر بياجو، ومن المحتمل أنه كان في ١٥٨٨-١٥٨٩م يحاكي دهاء باراباس، وإن يكن ذلك في غمار سعيه المشروع للحفاظ على روحه والانتقام.

٤

هل كانت هاملت الأولى التي كتبها شيكسبير تراجيديا؟ هل نجا هاملت وانتصر، على نحو ما يحدث في القصص القديمة، أم تراه مات، مثلما مات عام ١٦٠١م؟ لا نستطيع أن نعرف، ولكنني أتصور أن هذه النسخة الأولى من هاملت كان يمكن أن تُسمَّى انتقام هاملت، بدلًا من التاريخ التراجيدي لهاملت أمير الدنمارك. وقد لا تختلف الحبكة اختلافًا يذكر ما بين هاملت الأولى وهاملت النهائية، باستثناء نهاية هاملت، وأما الاختلاف الكبير فكان يمكن أن يكون في شخصية هاملت نفسه. فكان يمكن ألا يزيد في ١٥٨٨-١٥٨٩م عن كاريكاتير رسمه مارلو، قريب من ريتشارد الثالث وهارون المغربي. وفي ١٦٠٠-١٦٠١م فإن هاملت يصبح وريث الحياة الباطنة الشيكسبيرية، وذروة السلسلة التي بدأتْ بالنغل فوكونبريدج، في الملك جون، وريتشارد الثاني، ومركوشيو، وجوليت، وبوطوم، وبورشيا، وشايلوك، ووصلت إلى أول تمجيد لها في شخصية فولسطاف. وبعد ذلك قام هنري الخامس، وبروتوس، وروزالند بتمهيد الطريق للتمجيد الثاني في شخصية هاملت، وهو الذي أدَّى بدوره إلى إمكان رسم شخصية فسته، ومالفوليو، وياجو، ولير، وإدجار، وإدموند، ومكبث، وكليوباترا، وإيموجين وبروسبرو. وإحساسُنا بأن هاملت أكبر مما تَتَّسع له مسرحيته قد يرجع إلى التغيير الهائل في شخصية البطل، وإلى التغييرات الضئيلة نسبيًّا في حبكة الفصول الأربعة الأولى. وأما الفصل الخامس فمن المُحتمَل أنه لم يكن يشبه ما كان عليه عام ١٥٨٩م، وهو ما يساعد أيضًا على إيضاح سبب إحساسنا بأن المسرحية تختلف عمَّا كانت عليه في الفصول الأربعة الأولى.

ويقول هاري ليفين: إن «الخط الفاصل بين المسرحيات التاريخية وبين التراجيديات لا يلزم تحديده بالدِّقَّة التي نلحظها في تصنيفات طبعة الفوليو.» وهاملت النهائية تراجيديا بلا مِراء، ومهما يكن تعريفنا للتراجيديا، فلا بد من وَصْف مقتل هاملت بأنه تراجيدي. ولما كان آمليت الذي يصوره التاريخ والفولكلور مخادِعًا، أو مُهرِّجًا يَتصنَّع البلاهة حتى يُحقِّق لنفسه البقاء في قيد الحياة أولًا، وحتى ينجح بعد ذلك في استعادة مملكته، فإن تحويله إلى بطل تراجيدي كان يقتضي تحويرًا هائلًا، وأشك في أن شيكسبير الذي لم يكن تجاوز الخامسة والعشرين من عمره كان قادرًا على القيام بمثل هذا التحوير الحاسم بعيدًا عن مارلو. ولنا أن نتصور قصة ثأرية تتميز بنبرات كوميدية قوية، ينتصر فيها هاملت، الذي كان في ميعة الصبا، بذكائه الوقاد على أعدائه، ثم ينتهي بإحراق القصر الملكي في إلسينور، ويحظى من ثَمَّ بخاتمة سعيدة، على عكس الغاصب ريتشارد الثالث وصاحبيه المكيافيليين، باراباس اليهودي، وهارون المغربي. ولكن هاملت الأول المذكور كان، ولا شك يدين بالكثير إلى باراباس وإلى تمبرلين. أما دَيْنه إلى باراباس فيتمثل في استمتاعه الصفيق بذاته، وأما دَيْنه إلى تمبرلين فيتمثل في بلاغته، والمقصود مستوى رفيع من اللغة ذات الجبروت التي تُعْتَبر في ذاتها نوعًا من الفعل؛ أي «الإقناع الشعري»، أي ذات القدرة المُؤكدة على استمالة الأعداء أو قهرهم.

ولا يزال ريتشارد الثالث وهارون المغربي يحتفظان ببعض جاذبيتهما الشريرة لنا، وإن كانَا يَقِلَّان عن باراباس في الحميَّة والانفلات الرفيع. وربما بدَا لنا هاملت الأول ذا إشكالية إلى حدٍّ ما، فلا بد أنه كان ذا بطولة (كما نراه في بلفوريست)، مضافًا إليها بعض دهاء أبناء شمال أوروبا، وهم الأبطال ذَوُو الغَشَمْشَمة الذين نُصادفهم في أسطورة إيدا، والأدب الشعبي الإسكندنافي. ومن شأن جسارة تمبرلين التي يقتحم بها كل مُقدَّس أن تمتزج امتزاجًا فعالًا بخبث باراباس لتشكيل الدهاء المذكور. وأما الذي كان من المُحتمَل نقصانه في هذه الصورة فلا يقل عن كل ما نقرنه تقريبًا بشخصية هاملت؛ أي الوعي الرئيسي الذي أضاء لنا الطريق على امتداد القرون الأربعة المنصرمة. وهاملت النهائي ينتمي إلى ما بعد فولسطاف، كما يأتي بعد روزالند وبروتوس، وكلهم يرهص بالسُّلطة الفكرية للأمير. وربما كان هاملت الماكر المُخادِع يَتَّسم ببعض صفات بَكْ [العفريت الصغير المُولَع بالمقالب في حلم ليلة صيف]، وبأنه كان يقارع قوات خارقة أكثر من كفاحه ضد كلوديوس، وبأنه يعرف أن الفساد يوجد في داخله بقدر ما يوجد في دولة الدنمارك، وبأنه تجاوَز كثيرًا مرحلة اللماحية والاستمتاع بذاته. لا شيء يبدو أغرب في أسماعنا من القول بأن هاملت، أيًّا كان شكله، بدأ ظهوره في أول مسرحية كتبها شيكسبير؛ لأن العمل العظيم الملغز الذي كُتب عام ١٦٠١م يبدو أقرب إلى كونه عملًا نهائيًّا من كونه تنقيحًا لعمل أصلي.

وترجع الحيرة التي نشعر بها إزاء شخصية هاملت إلى أن إيحاءاته لا نهاية لها. هل تُوجَد حدود له؟ إن حياته الباطنة أشد أصالة جذرية عنده، فذاته الباطنة تنمو على الدوام، كما يُمثِّل حلم الوعي اللانهائي، وهما خصيصتان لم يَسْبِق تصويرهما تصويرًا أكمل. فشخصيات شيكسبير العظمى قبل هاملت المُنقَّح، إبداعات كوميدية، وسبق لي أن قلتُ في هذا الكتاب إن شايلوك وهنري الخامس من بينها. وهاملت نفسه كوميديان عظيم، كما توجد في تراجيديا هاملت بعض عناصر هزلية تراجيدية، ومع ذلك فإن هاملت يصر على امتداد المسرحية كلها تقريبًا على اعتبار نفسه فاشلًا، بل على أنه بطل تراجيدي فاشل، وربما كان كذلك عندما بدأ، في نظر شيكسبير. والوهم أو التخيل الذي يكاد يكون عالميًّا ويقول إن هاملت ينافس شيكسبير، على نحو ما نراه في كتابة المسرحية، قد يَتجلَّى فيه كفاح شيكسبير مع بطله الذي يصعب كبح جماحه.

كيف تتأثر رؤيتنا لشيكسبير إذا تَصوَّرنا أنه بدأ عمله بالكتابة بما يعتبره هو والخبراء مسرحية هاملت فاشلة، ثم بنجاحه في تحقيق المجد الجمالي بمسرحية أخرى لهاملت، بعد نحو اثني عشر عامًا؟ لن تتأثر رؤيتنا تقريبًا، من زاوية مُعيَّنة؛ لأن ذلك يعني أننا نشهد شيكسبير الذي اضطر إلى أن يتطور بدلًا من مجرد الكشف عما لديه. ولكن المسألة مهمة، أي كون شيكسبير قد بنى هاملت الناضجة على أساس ما كان يعتبره هزيمة سابقة. ومن ثم فإن في المسرحية شبحًا آخر، وهو روح مسرحية هاملت الأولى. لكم نحب نصف الحقيقة التي تقول بأن شيكسبير كان ذا طابع تجاري خالص؛ أي الكاتب الذي نال الأجر المادي ولم يكترث للصيت، والواقع أن شيكسبير كان، مثل صديقه الصدوق بن جونسون، يُدرِك أن الفن الرفيع عمل شاقٌّ، ومن ثَمَّ كان على الصديقين أن يَتحدَّيَا القدماء حتى وهُمَا يسيران في الطُّرُق التي شَقُّوها. كانت الكوميديا العظيمة تأتي بيُسر معقول إلى قلم شيكسبير، وربما كان فولسطاف قد هبط عليه في لحظة وعي موفَّقة، ولكن مسرحيتي هاملت والملك لير تَشكَّلَتا من جهود تنقيحية جبارة، وهي الجهود التي رحلَت فيها ذات قديمة، ووُلِدَت فيها ذات جديدة. والأدلة على هذا الكيان الجديد يقتصر على المسرحيات التي كتبها شيكسبير بعد هاملت، وهي سلسلة من الإنجازات التي استُبْعِدت منها الكوميديا الخالصة. فإذا مات هاملت ضَحِيَّة للقوى التعاليَّة، فلقد كانت هذه القوى تنتمي إلى شيكسبير نفسه، أو بالأحرى أصبحَت تنتمي إليه، في مُقابِل اللامبالاة التراجيدية عند هاملت.

٥

يقول هاملت إن «الدنمارك سجن»، ولكننا لا نجد في كل ما كتب شيكسبير شخصًا يتمتع بحرية دفينة تفوق حرية الأمير ولي عهد الدنمارك. ولقد ذكرت آنفًا أن هاملت يتميز من بين جميع شخصيات شيكسبير الذين يعتبرون «فنانين أحرارًا في ذواتهم» (كما يقول هيجيل) بأنه أكثرهم حرية. فإن مسرحية شيكسبير تعتبر مجازيًّا قيدًا على بطلها وتحريرًا له في آنٍ واحد؛ إذ يشعر أحيانًا أنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا في إلسينور، ويخشى أيضًا أن يفعل أكثر مما ينبغي، خشية أن يصبح مثل نيرون، ويجعل جيرترود [والدته] مثل أجريبينا، والدة وعشيقة وضحية. والواقع أن عدد الحريات المتاحة لهاملت كبير إلى درجة محيرة، فله أن يتزوج أوفيليا، وله أن يعتلي العرش بعد كلوديوس إذا استطاع الصبر، وله أن يقتل كلوديوس في أي وقت تقريبًا، وله أن يرحل إلى جامعة وتينبرج من دون استئذان، وله أن يدبر انقلابًا يتولَّى عن طريقه الحكم «ما دام الشعب يحبه»، وله حتى أن يتفرغ لتأليف مسرحيات غير مُحْكَمة لعرضها في المسارح. وله أن يحاكي والده فيصبح قائدًا حربيًّا، يشبه الشاب فورتنبراس، أو ربما اختار أن يستغل ذكاءه الشديد في التأمُّلَات المنهجية القائمة على الحدس، سواء كانت فلسفية أو هرمسية [خاصة بالسحر وألغاز الكون] بتركيز أكبر مما اعتاد عليه [في دراسته الجامعية]. وتصفه أوفيليا أثناء نعيها لجنونه بأنه كان جنديًّا وباحثًا ومن رجال البلاط، ومثلًا أعلى في الشكل والسلوك لجميع أبناء الدنمارك. إذا كانت تراجيديا هاملت، أمير الدنمارك تعتبر «قصيدة غير محدودة»، تتجاوز النوع الأدبي وقواعده، فإن بطلها يُعْتَبر شخصية غير محدودة، يتجاوز حتى من أرهصوا به مثل داود — عليه السلام — في الكتاب المُقَدَّس، وبروتوس في التاريخ القديم. ولكن ما مدى الحرية التي يمكن أن تتاح لهاملت في مسرحية تراجيدية؟ وأي مشروع يمكن أن يكون بالضخامة التي تناسبه؟ إن القضاء على كلوديوس لا يَتطلَّب مَقدرة يتسم بها مثل هاملت، والانتقام كما هو معروف دافع قاصر، على أية حال، للبطل الرئيسي في الوعي الغربي. ترى ماذا كان في طوق شيكسبير أن يفعل إزاء نوع جديد من البشر، نوع لا يرعاه أحد حقًّا مثل هاملت؟

يتحدث نيتشه، في ظل هاملت، عن انتقام الإرادة من الزمن، وعلى قول الزمن «كان». ومثل هذا الانتقام لا بد له من تنقيح الذات، وأن يمنحها ما يسميه هارت كرين «طفولةً مُحَسَّنَةً». وطفولة هاملت، مثل طفولة كل فرد، تحتاج إلى تحسين كبير، والواضح أن الأمير سوف يَلْقى الموت بعد أن قبَّل يوريك، مضحك الملك، ووالده البديل، قُبلات أكثر من قُبلاته، على الأرجح، لجيرترود [والدته] أو أوفيليا، ناهيك بوالده المقاتل المهيب. وحكم هاملت على أبيه يقول إنه «كان الرجل الأمثل» (Take him for all in all) وهو ما يوحي ببعض التحفظات،٧ وإن كنا واثقين من أن هاملت لن يبصر وجهًا مثل وجه أبيه مرة أخرى. من الذي أنجب هاملت؟ ما طول الفترة الزمنية التي قضتها جيرترود في ظل «غشيان المحارم»؟ ومتى بدأت جريمة «الزنا»؟ ما دامت المسرحية ترفض أن تفيدنا (وإن كان يحتمل أنها كانت أقل غموضًا في نسختها الأولى) فنحن نجهل ذلك مثلما يجهله هاملت. والواقع أن كلوديوس قد تبنَّى ابن أخيه، فأصبح ابنه بالتبني، مثلما تبنَّى الإمبراطور الروماني كلوديوس نيرون عندما تزوج أجريبينا. هل يخشى هاملت، على أي مستوى، أن يكون قَتْلُه كلوديوس قتلًا لأبيه الطبيعي؟ إن هذا يمثل جانبًا من جوانب الحجة الدقيقة التي يسوقها مارك شِلْ في كتابه أطفال الأرض (١٩٩٣م)، قائلًا: «الأمر الْفَرِيد حقًّا في حالة هاملت لا يتمثَّل في رغبته اللاواعية بقتل الأب وغشيان أمه، ولكن رفضه الواعي لارتكاب ذلك القتل وغشيان أمه.» إذ إن جيرترود تموت مع هاملت (ومع كلوديوس ولايرتيس) ولكن العجيب أن هاملت يرفض أن يقتل كلوديوس حتى يعلم أنه هو أيضًا يُحتضر وأن أمه قد ماتت فعلًا.

وبعد أن يستبعد أ. د. ناطول بتلطف آراء كل الذين يصرون على أن هاملت ليس شخصًا بل سلسلة من الصور، يقول: «إذا واجه كاتب مسرحي جمهورًا كاملًا يصر أفراده إصرارًا عنيدًا على قمع أية استنباطات والتهليل لأنساق الصور فمن حقه أن ييأس.» وإذا خطوت خطوة قصيرة تالية لما يقوله ناطول، قلت إن فن شيكسبير، منذ هاملت المكتوبة في ١٦٠٠-١٦٠١م، وحتى النهاية، كان يعتمد على أسلوب استنباط جذري أعمق مما كان يُستخدم حتى ذلك الحين، وليس على أيدي كتاب المسرح وحدهم. ويمكننا تعريف حرية هاملت بأنها حرية الاستنباط، ونحن نتعلم هذه الحرية الفكرية بالإصغاء إلى هاملت. فالاستنباط في الحياة العملية لهاملت نهج رفيع من الحدس، وهو مَجازي؛ لأنه يَثِب إلى الأمام مع كل تَغيُّر في الظروف، بحيث يصبح الاستنباط طريق الجمهور إلى وعي هاملت. فنحن نَسبر أغوار ظروفه، ونَثِق في دوافعه بمقدار ثقته فيها تقريبًا، ومن ثم نحدس عظمته، واختلافه عنا كمًّا وكيفًا. فإن هاملت يزيد عن مجموع فولسطاف والأمير هال إذا انصهرَا معًا، وهو يضيف إلى هذا الصَّهْر نوعًا من الاستنباط الإنكاري الذي سوف يحوله ياجو وإدموند إلى الطريق المؤدي إلى الهبوط والخروج، ولكنه عند هاملت يتخلى عن الإرادة، ولذلك فهو حر.

ويبدو لنا هاملت الآن أكثر تَخيُّلًا من مونتانيْ؛ إذْ تَولَّت أربعة قرون إثبات وجود هذين معًا باعتبارهما شخصيتين إنسانيتين حقيقيتين، وذلك إلى حدٍّ ما مثلما يظهر لنا أن فولسطاف حقيقة تاريخية مثل رابيليه، وإذا كانت الثقافة الغربية تريد أن تنجو من كراهيتها الذاتية في الوقت الحاضر فعليها أن تزيد من تماثلها مع هاملت. فليس لدينا صورة للمعرفة البشرية معادلة له في القوة والنفوذ وقد دُفع بها إلى أقصى حدودها، وسقراط الذي يصوره أفلاطون أقرب ما يكون لها. وكلاهما تَحُول جَودَة تفكيره دون بقائه، فإن سقراط، على الأقل عند مونتانيْ، يكاد يصبح البديل البرجماتي ليسوع عليه السلام، وعلاقة هاملت بيسوع — عليه السلام — لغز، ما دام شيكسبير، في كل حالة، يروغ من الإيمان ومن الشك. وما دام يسوع في إنجيل مرقس، مثل يهوه عند كاتب التوراة، شخصية أدبية تُعبد الآن مثل الإله (وأنا أتكلم من الزاوية البرجماتية فقط) فإننا نواجه اللغز الذي يقول إن هاملت من الممكن مناقشته ببعض الطرائق التي قد نستخدمها في الحديث عن يهوه أو سقراط أو يسوع — عليه السلام. وأساتذة الجامعة الذين يُدَرِّسون ما كنا نسميه «الأدب» ذات يوم، لم يعودوا يعتبرون الشخصيات الدرامية والأدبية أشخاصًا «حقيقية»؛ وليس هذا بمهم على الإطلاق، ما دام القراء ومرتادو المسرح العاديون «والمؤمنون من العامة» يواصلون مُحِقِّين سعيهم في سبيل الشخصية الإنسانية. ومن العبث تحذيرهم من أخطاء التماهي مع هاملت، أو يسوع — عليه السلام — أو يهوه. وأعظم ما يدعو للدهشة من منجزات شيكسبير، مهما يكن غير مقصود، يتيح لنا في هاملت نموذجًا عالميًّا لإرادة التماهي أو الهوية عندنا؛ إذ إن هاملت يقدم لبعضنا الأمل في تحقيق تعاليَّة علمانية خالصة، ولكنه يقدم لبعض الآخرين أفكارًا عن بقاء الروح بطرائق تقليدية. ربما يكون هاملت قد حل محل سقراط عند أفلاطون ومونتانيْ باعتباره المسيح الفكري. ولم يكن أودن يوافق على هذا ويفضل قيام فولسطاف بهذا الدور، ولكنني لا أستطيع أن أرى السير جون، عاشق الحرية، يكفِّر عن ذنوب أي أحد.

وأكبر ألغاز هاملت هالة التعاليَّة التي تنبثق منه، حتى في أشد لحظاته عنفًا، وهوائيةً، وجنونًا. ولقد تمرد بعض النقاد على هاملت، مؤكدين أنه، في أفضل الحالات، شرير بطل، لكنهم يذرون حبات الرمل في عكس اتجاه الريح، فتعيدها الريح ثانية. فأنت لا تستطيع حل لغز هاملت؛ إذ استمر سحره القوى زمنًا أطول من المعتاد، وهو يتمتع بموقعه وسط الشخصيات المتخيلة، وهو موقع شيكسبير نفسه بين الكُتَّاب، أي مركز المراكز. ولم أشهد ممثلًا — حتى ولو كان جون جيلجود — استطاع اغتصاب ذلك الدور لنفسه واستبعاد كل الآخَرِين. فهل تعتبر هذه المركزية مُجرَّد تشكيل استرجاعي للتاريخ الثقافي أم إنها مضمرة في نص شيكسبير؟ لقد أصبح هاملت والوعي الذاتي الغربي شيئًا واحدًا لمدة تَقترِب من قرنين من الحساسية الرومانسية. ونرى من الدلائل ما يشير إلى أن الوعي الذاتي العالمي يزداد تماهيه مع هاملت، حتى في آسيا وإفريقيا. وربما لم يَعُد ذلك ظاهرة ثقافية، بمعنى أن موسيقى الروك وسراويل البلوجينز تشكل ثقافة دولية، لقد أصبح الأمير هاملت أكثر مما أصبحت مسرحية هاملت أسطورة خرافية، أو قل إن الحديث المتناقل حوله وصل درجة النضج فأصبح أسطورة تاريخية.

وكما هو الحال بالنسبة لفولسطاف نستطيع أن نتحدث عمَّا لا يمثله هاملت بصحة أكبر من الحديث عما يُمثِّله. فهو ينتهي بصورة الرجل ذي الرضى [الديني] أكثر من صورة صاحب الإيمان الفعال، ولكن سلبيته في ذاتها قناع يخفي ما لا يمكن التعبير عنه وإن كان يمكن الإيحاء به. وليست تلك عدميته المبكرة. وهي التي تتصدر المسرحية، وإن لم تكن مغرضة، حتى في التمثيل. فخشبة المسرح، عند انتهاء المسرحية، مفروشة بالدلائل وجثث الموتى معًا. لماذا يبدي هاملت الحرص على سمعته بعد الوفاة؟ إن أشد لحظاته انفعالًا لحظة توصية هوراشيو أو أمره بأن يظل في قيد الحياة، لا من أجل المتعة ورغم مكابدة البقاء، بل ليكفل ألا يحمل الأمير اسمًا مجروحًا. كما أننا لا نتبين حتى النهاية اهتمام هاملت بالجمهور، فهو يطلب منا إضفاء الشرف والمعنى على موته، وينبغي قص قصته، لا على فورتنبراس وحده، كما ينبغي أن يحكيها هوراشيو، فهو الوحيد الذي يعرفها حق المعرفة. هل يفهم هوراشيو إذن ما لا نفهمه؟ إن هاملت في ساعة موته لا يحب أحدًا — لا أبَاه ولا أمه ولا أوفيليا ولا يوريك — لكنه يعرف أن هوراشيو يحبه. أي إن القصة يجب أن يقصها من يقبل هاملت قبولًا شاملًا، يتجاوز الحكم عليه. وعلى الرغم من الاحتجاجات الأخلاقية من جانب بعض النقاد، فلقد فرض هاملت إرادته. إننا نحن هوراشيو، واتفق أغلب الخلق على حب هاملت، على الرغم من جرائمه وأخطائه الفاحشة، وعلى الرغم حتى من معاملته الغاشمة، القاتلة برجماتيًّا، لأوفيليا. إننا نصفح عن هاملت، على وجه الدقة، مثلما نصفح عن أنفسنا، على الرغم من أننا نعرف أننا لسنا هاملت، ما دام وعينا من المحال أن يتسع السعة التي اتسعها وعيه. ولكننا نعبد (بالمعنى العلماني) هذا الوعي الذي يكاد يكون لا نهائيًّا، والذي نطلق عليه اسم الرومانسية، والذي ولَّده هاملت، وإن اقتضى الأمر أن ينقضي قرنان قبل أن يصبح الوعي الذاتي للأمير سائدًا في العالم، وثلث قرن تقريبًا قبل أن يؤكد نيتشه أن هاملت كان يملك «المعرفة الحقيقية والبصيرة التي كشفت له الحقيقة الرهيبة»، ألا وهي الهوة العميقة التي تفصل ما بين الواقع الدنيوي وبين النشوة الديونيسية للوعي المنطلق بلا نهاية. ولقد كان نيتشه أساسًا على حق، فهوراشيو رواقي، ولكن هاملت ليس رواقيًّا. فالجمهور، مثل نائبه هوراشيو، مسيحي إلى حدٍّ ما، وربما يكون أقرب كثيرًا إلى الفكر الرواقي أيضًا. ويستخدم هاملت، قرب النهاية، بعض المفردات المسيحية، لكنه يتحول من الاطمئنان المسيحي إلى الوعي الديونيسي، وتصبح استشهاداته من العهد الجديد قراءات خاطئة للتفاسير البروتستانتية والكاثوليكية للنص. ويقول هاملت إنه لو أتيح له الوقت اللازم لأخبرنا … بماذا؟ الموت يتدخل هنا، لكننا نتَلقَّى المفتاح اللازم للفهم في الكلمة اللاحقة: «فليكن!»

لقد أصبحت كلمة «فليكن» الكلمة المتواترة على لسان هاملت، وهي تتمتع بقوة رِضًى ذات إيحاءات غريبة. وهو يعزف عن الإفضاء بما في قلبه في صورة ألفاظ، ما دام يملك الأفكار فقط لا الغايات من ورائها. ومع ذلك ففي قلبه شيء أبعد ما يكون عن الموت، شيء يُبدِي الاستعداد أو الإرادة، وله قوة لا يساندها ضعف الجسد. وعندما تَلطَّف يسوع — عليه السلام — في حديثه إلى سمعان بطرس الذي يهوى النعاس، فإنه لم يقل إن الاستعداد كل شيء؛ إذ كان موقف يسوع — عليه السلام — موجهًا إلى يهوه وحده، ويهوه وحده كل شيء. وأما هاملت فليس عنده إلا الاستعداد، وهو الذي نترجمه بأنه الاستعداد لتَقبُّل وجود كل شيء، لا بسبب الثقة في يهوه بل بسبب الثقة في وجود وعي نهائي. وهذا الوعي يُنحِّي جانبًا الثقة الفريسية التي يقول بها يسوع عن بعث الأجساد، وكذلك مبدأ الواقع القائم على الشك والقائل بالعدم أو الفناء. وهكذا فإن كلمة «فليكن» تعني التنحية، فلا هي إنكار أو إثبات. فالذي كان يمكن لهاملت أن يخبرنا به هو الوعي الذي ظفر به بما يُمثِّله هو نفسه، ألا وهو خوف الكاتب المسرحي من معنى تجسيد التراجيديا التي لا يستطيع المرء تأليفها.

٦

يبدو أن فولسطاف كان يتمتع في حياة شيكسبير بحب جماهيري يفوق حتى حب هاملت، وأما القرون المنصرمة منذ ذلك الحين فقد اتَّسمَت بتفضيل الأمير لا على الفارس البدين فقط بل على جميع الشخصيات الأدبية المُتخيَّلة. وعالمية هاملت، فيما يبدو، أكبر دليل على لغز شخصيته الإنسانية، فكلما قَلَّ اهتمامه بأي أحد، بما في ذلك جمهور المسرح، زاد حُبُّنا له. وذلك فيما يبدو أغرب علاقة غرامية في العالم، فإن يسوع — عليه السلام — يبادلنا الحب ولكن هاملت لا يستطيع. ويتجلَّى في انحباس عواطفه — الذي يعتبر أُودِيبيًّا وفق تشخيص الدكتور فرويد — رضًى تعاليٌّ يسعدنا ألا يتوافر لدينا عنوان له. إذ إن هاملت يتجاوزنا، ويتجاوز كل شخص آخَر عند شيكسبير أو في الأدب، إلا إذا وافقتني في اعتبار يهوه الذي يصوره كاتب التوراة ويسوع — عليه السلام — في إنجيل مرقس من الشخصيات الأدبية. وعندما نصل إلى لير نفهم أن حقيقة تَجاوُز هاملت تتعلق بلغز المَلكِيَّة، الذي كان قريبًا من قَلْب الملك جيمز الأول، راعي شيكسبير. ولكننا نجد صعوبة في رؤية هاملت في صورة مَن يمكن أن يصبح مَلكًا، ويندر أن نجد بين القراء ومرتادي المسرح من يتفق مع حكم فورتنبراس بأن الأمير كان يمكن أن يلحق بهاملت الأب وبفورتنبراس نفسه باعتباره ملكًا عظيمًا آخر يحطم رءوس البشر. فالواضح أن سمو هاملت مسألة تَتعلَّق بالشخصية الإنسانية، وذلك ما فَهمَتْه أربعة قرون منصرمة. وأدلى أوغسط فيلهلم فون شليجيل في عام ١٨٠٩م بملاحَظة دقيقة تقول إن «هاملت لا يتمتع بإيمان راسخ لا بنفسه ولا بأي شيء آخر.» وأضيف أنا: بما في ذلك الإله واللغة. ويوجد هوراشيو، بطبيعة الحال، الذي ساء ذكر إسراف هاملت في امتداحه، ولكن سبب وجود هوراشيو، فيما يبدو، تمثيل حب الجمهور لهاملت. أي إن هوراشيو هو جسرنا الذي نعبره إلى «المابعد»، أي إلى تلك التعاليَّة السلبية الغريبة، وإن لم تخطئها العين، التي تُختتم بها المسرحية.

ويتعايش مذهب الشك اللغوي عند هاملت مع نطاق لغوي وقدرة على التحكم اللغوي أكبر حتى مما نجده عند فولسطاف؛ لأن مدى هذا النطاق الواسع أكبر مما تلقاه في عمل واحد مهما يكن. ودائمًا ما نُصدم عندما يذكرنا أحد أن شيكسبير استعمل ما يربو على ٢١٠٠٠ كلمة منفصلة، في حين أن عدد الكلمات التي استعملها راسين يقل عن ٢٠٠٠، ولا شك أن أحد الباحثين الألمان قد أحصى نصيب هاملت من الكلمات اﻟ ٢١٠٠٠، لكننا لَسْنا في حاجة إلى أن نعرف عدد مفردات هاملت، فالمسرحية أطول ما كتبه شيكسبير لأن هاملت ينطق بعدد كبير من ألفاظها، وكثيرًا ما كنتُ أتمنى أن يزداد طوله، حتى يتمكن هاملت من الحديث عن قضايا أكثر مما تَحدَّث عنه فيها. وأما فولسطاف، ملك اللَّماحية، فإنه على الرغم من ذلك لا يبلغْ وعي المؤلِّف المستقل بذاته، وأما هاملت فإنه يقتحم هذا الحاجز، ليس فقط عندما يُنقِّح مسرحية مَقْتَل جونزاجو فيجعلها مصيدة الفئران، ولكن بلا استثناء تقريبًا وهو يُقدِّم تعليقاته على كل شيء بين الأرض والسماء. ويقدم ج. ويلسون نايت تشخيصًا رائعًا لهاملت، واصفًا إياه بأنه سفير الموت إلينا؛ إذ لا تتحدث شخصية أدبية أخرى بالثقة المستمدة من ذلك البلد غير المستكشف، باستثناء يسوع — عليه السلام — في إنجيل مرقس. ويُعْتَبر هاري ليفين رائدًا في تحليل ثراء لغة هاملت، وهي التي تنتفع بجميع الموارد، ومن بينها الموارد الفريدة لأبنية اللغة الإنجليزية وألفاظها. ويُؤكِّد نُقَّاد آخرون التَّحوُّلات في الصياغة اللازمة للحفاظ على اللياقة اللغوية في كلام هاملت؛ إذ تتفاوت واثبة وَثبات مدهشة ما بين الرفيع والخفيض، وحالات التغيُّر المعرفي والشعوري. وأنا نفسي كثيرًا ما تدهشني الطرائق المُنوَّعة الدائبة التي يُصْغِي بها هاملت إلى ما يقول. وليست هذه القضية مقصورة على البلاغة أو الوعي بالألفاظ، بل إنها تمثل جوهر أعظم الخصائص الأصيلة لشيكسبير في تمثيل الشخصية الأدبية، والتفكير، والشخصية الإنسانية. فالجو الخلقي، والمنطق والإحساس — وهي الأساس الثلاثي للبلاغة وعلم النفس وعلم الكون — تذهلنا جميعًا في هاملت؛ لأنه يَتغيَّر في كل مرة يسترق السمع فيها لكلامه.

ومن الحقائق الشائعة والقَيِّمة أن تراجيديا هاملت أمير الدنمارك مسرحية ملائمة بصورة غَلَّابة للتقديم على المسرح. بل إن هاملت نفسه أشد وعيًا بطبيعته المسرحية من فولسطاف. ولكن فولسطاف أشد اتساقًا في انتباهه إلى جمهوره، على خشبة المسرح وخارجها، وعلى الرغم من أن فولسطاف يمتع نفسه إمتاعًا كبيرًا، فإن درجة تمثيله تجاه نفسه أقل مما نلحظه عند هاملت. وقد ينشأ هذا الاختلاف من أن طابع اللهو عند فولسطاف أكبر مما يتسم به هاملت؛ أي إن فولسطاف، مثل دون كيخوته وسانشو بانزا، هو الإنسان الضاحك (homo ludens) في حين أن القلق هو المسيطر في حالة هاملت. ومع ذلك فالفَرْق بينهما لا يزال شاسعًا؛ إذ يمكننا أن نصف هاملت المُعادي لمكيافيل بأنه يكاد يكون شخصية مُناهِضة لمارلو، في حين أن فولسطاف يقتصر على أن يسلب نهج مارلو صلته بواقع الحياة وحسب. أما الشرير البطل الذي أفضله عند مارلو، باراباس، يهودي مالطة، فهو غريب الأطوار ويستمتع بذاته، ولكنه ما دام شخصية كرتونية، مثل معظم أبطال مارلو، فإنه كثيرًا ما يتكلم كأنما كتبت كلماته في بالونة كرتونية تطفو فوقه. وأما هاملت فهو شيء جديد جدة جذرية، حتى بالنسبة إلى شيكسبير وعند شيكسبير: فإن طابع التمسرح عنده عدميٌّ ينذر بالخطر، وذلك لأنه يبدو طبيعيًّا له، وفي هذا ما فيه من مفارقة. كما يتصف هاملت، بأكثر مما تتسم به شخصية هام التي تُمثِّل محاكاة ساخرة له في مسرحية نهاية اللعبة لصمويل بيكيت، أي بأنه مصيدة فئران تمشي على قدمين، مجسدًا التَّوقُّعات القلقة التي تجسد علة الإرهاق في إلسينور، وإذا قلنا إن ياجو لا يَحيَا من دون النقد، فإن هاملت هو النقد نفسه، أي المفسر المسرحي لقصته الخاصة. ويبدي شيكسبير دهاءً أدق مما لدى غيره من كتاب المسرح، السابقِين واللاحِقِين، حين لا يتيح لنا أن نعرف على وجه اليقين السطور التي أضافها هاملت إلى مقتل جونزاجو في تنقيحها لتصبح مصيدة الفئران. ويشير هاملت إلى اثني عشر أو ستة عشر سطرًا، لكننا نشتبه في أن العدد أكبر من ذلك، وأن الإضافة تتضمن السطور الفذة التي يلقيها ممثل دور الملك؛ إذ يقول لنا إن الأخلاق ليست شيطانًا، وإن الشخصية ليست قدرية بل عارضة، وإن الحب أصفى الأشياء العارضة. ونحن نعلم أن شيكسبير قام بدور شبح والد هاملت، وقد يكون من باب التيسير أن يقوم الممثل نفسه بأداء دور ممثل الملك، فهو تمثيل آخَر للوالد المتوفَّى، وقد توجد الْتِوَاءة رائعة إذا حدد شيكسبير لنفسه نغمة السطور التي نَتوقَّع أن هاملت قد كتبها:
ما العَزْمُ سِوَى عَبْدٍ يَخْضَعُ للذَّاكرَة وللِنِّسْيانْ.
يُولَدُ مَشْبُوبًا لكنْ لا يَلْبَثُ أنْ يَخْبُوَ في الإنْسَانْ.
كالفَاكِهَةِ الفَجَّةِ قَدْ تَلْتَصِقُ الآن بِغُصْنٍ فَيْنَانْ.
فَإِذَا نَضَجَتْ سَقَطَتْ دُونَ مَسَاسٍ أو هَزٍّ لِلأَغْصَانْ.
والمحتومُ إِذَنْ أَلَّا يَفي الإِنْسَانُ بِشيء قَالَ بِهِ
كَمَدِينٍ يُغْفِلُ تَسْدِيدَ القَرْضِ إذا كانَ الدَّائِنُ جَيْبَهْ!
قدْ نَتَعَهَّدُ أنْ نَفْعَلَ شَيْئًا في فَوْرَةِ عَاطِفَةٍ مَشْبُوبَهْ،
فَإِذَا خَبَتِ العَاطِفَةُ رَأَيْتَ عَزِيمَتنَا الأُولَى مَسْلُوبَهْ.
بلْ إِنَّ تَطَرُّفَنَا في الحُزْنِ أو الفَرْحِ المُنْثَالْ
سَيُدَمِّرُ أَيَّهُمَا مَعَ مَا قَدْ يَأْتِيهِ مِنَ الأَفْعَالْ.
فَنرَى الأَحْزَانَ مَكَانَ الفَرْحِ تَنُوحُ أَشَدَّ نُوَاحْ.
ولأَتْفَهِ أَسْبابٍ نَشْهَدُ فَرْحَ الأَحْزَانِ وحُزْنَ الأَفْرَاحْ!
الدُّنْيَا لَنْ تَبْقَى لِلأَبَدِ وَلَيْسَ لَنَا أنْ نَسْتَغْرِبْ.
أَنْ يَتَغَيَّر حُبُّ القَلْب … بِتَغَيُّرِ أَقْدَارٍ قُلَّبْ!
ما زِلْنَا نَسْأَلُ حَتَّى الآنَ ودُونَ صَحِيحِ جَوَابْ:
أَيُّهُمَا يَتْبَعُ صَاحِبَهُ قَدَرُ الدُّنْيَا أَمْ حُبُّ الأَحْبَابْ؟
إنْ يَسْقُطْ رَجُلٌ ذُو جَاهٍ جَافَاهُ جَمِيعُ الأَصْحَابْ
أو يُثْرِ المُعْدِمُ يَجِدِ الأَعْدَاءَ وقَدْ بَاتُوا أَحْبَابْ.
فَإِلَى هَذَا الحَدِّ يَكُونُ الحُبُّ هُوَ التَّابِعُ لِلأَقْدَارْ.
فَالمُوسِرُ لن يُعْوِزَهُ أبدًا بَعْضُ صَديقٍ بَار
والمُعْدِمُ إنْ يَخْبَرْ يومًا صِدْقَ صَدِيقِ رِيَاءْ
يَجْعَلْهُ — وعَلَى الفَوْرِ — قَرِينًا لِلأَعْدَاءْ.
لَكِنْ فَلأُكْمِلْ قَوْلي مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُ وبِالْمَنْطِقْ
ما أكثرَ مَا يتَعَارَضُ قَصْدُ الإِنْسَانِ مَعَ الأَقْدَارِ فَيُخْفِقْ.
ولِذَا يُحْبَطُ دَوْمًا ما دَبَّرْنَاهُ ويَنْهَارْ.
فالفِكْرُ لَنَا لَكِنَّا لا نَمْلِكُ تَحْقِيقَ الأَفْكَارْ.
(٣ / ٢ / ١٨٣–٢٠٩)

لا أدري كيف يستطيع أي جمهور أن يستوعب هذه الأفكار الميتافيزيقية السيكولوجية المضغوطة في ٢٦ سطرًا بالآذان وحسب، فهي مُكثَّفة ومُثْقَلة مثل أي فقرة أخرى عند شيكسبير، وحبكة مسرحية مصيدة الفئران لا تحتاج إليها، وأفترِض أن هاملت ألَّفها باعتبارها توقيعه الخاص، أو ما كان ذلك الدنماركي ذو الأشجان كيركجارد يسميه «وجهة نظري عملي باعتباري مؤلفًا». وهي ترتكز على السطور الأخيرة:

ما أكثرَ مَا يتَعَارَضُ قَصْدُ الإِنْسَانِ مَعَ الأَقْدَارِ فَيُخْفِقْ.
ولِذَا يُحْبَطُ دَوْمًا ما دَبَّرْنَاهُ ويَنْهَارْ.
فالفِكْرُ لَنَا لَكِنَّا لا نَمْلِكُ تَحْقِيقَ الأَفْكَارْ.
والمقصود بتعبير ما «دَبَّرْنَاه» أغراضنا المقصودة، أي نواتِج إرادتنا، ولكن أقدارنا تتناقض مع شخصياتنا، وما نفكر في أن نفعله ليس مرتبطًا بغاياتنا، والمقصود بالغايات ما انتهينا إليه وأيضًا حصادنا. فالرغبة والمصير متضادان، ومن ثم فعلى كل «فكر» أن يهدم نفسه. وعدمية هاملت بالحق تعاليَّة؛ إذ تتجاوز ما يمكن أن يوجد في الشخصيات الإنسانية عند دوستويفسكى، أو في تَوجُّس السوء عند نيتشه الذي يقول إن ما نجد له ألفاظًا لا بد أن يكون قد مات في قلوبنا، وإن الجدير بالقول فقط هو ما يستعصي على القول. وربما يكون ذلك هو السبب الذي بعث قلقًا شديدًا إزاء شيكسبير عند الفيلسوف فتجنشتاين. ومن الغريب أن يقول فتجنشتاين إن شيكسبير يشبه الأحلام: فهي جميعًا مخطئة، وعبثية، ومركَّبة، فالأشياء ليست كذلك، إلا طبقًا للقانون الذي ينتمي إلى شيكسبير وحده، أو إلى الأحلام وحدها. وكان فتجنشتاين يؤكد أن شيكسبير «لا يقدم حقيقة الحياة»، ويتحاشى فتجنشتاين الحقيقة التي تقول إن شيكسبير أتاح لنا أن نرى ونُفكِّر فيما لم نكن لنراه أو لنفكر فيه لولاه، وهاملت، بكل تأكيد ليس من حقائق الحياة ولكنه ينجح أكثر من أي كيان مُتخيَّل في جعلنا نفكر فيما لم نكن نستطيع أن نفكر فيه لولاه. ومن شأن فتجنشتاين أن ينكر هذا ولكن هذا كان دافعه إلى التشكك كثيرًا في شيكسبير. وينجح هاملت نجاحًا يفوق أي فيلسوف في أن يجعلنا فعلًا نرى الدنيا بطرائق أخرى، وبطرائق أعمق، عما قد نريد أن نراها. ويريد فتجنشتاين أن يعتقد أن شيكسبير، باعتباره خالقًا للغة ما، أوجد كونًا آخر (a heterocosm) أو حلمًا. ولكن الحقيقة هي أن الكون الذي أبدعه شيكسبير أصبح كون فتجنشتاين وكوننا، ولا نستطيع أن نقول عن قلعة إلسينور حيث القصر المَلكي ومَقام هاملت، أو عن حي إيست تشيب الذي ينتمي إليه فولسطاف، إن الأشياء ليست مثل ذلك [أي إن الواقع خارج المسرح يختلف عما يصوره الكاتب]. فإن هذه وتلك فعلًا «مثل ذلك» ولكننا نحتاج إلى هاملت أو فولسطاف ابتغاء إلقاء الضوء على هذا «المثيل»، أي إلى تقديم التفاصيل التي تستكمل التشبيهات. وبالأحرى يصبح السؤال: هل تتفق الحياة مع ما يقوله هاملت أو يقوله فولسطاف؟ قد تتفق في أسوأ حالاتها أحيانًا، وفي أفضل حالاتها أحيانًا، فالحياة تستطيع أن تتفق أو يجوز أن تتفق، وبذلك يصبح السؤال الحقيقي: هل يصدق موقف فتجنشتاين مع حقيقة هاملت، أو يصدق موقف بلوم مع حقيقة فولسطاف؟

وأقر بأنك لا تحتاج إلى اتباع المذهب الشكلي أو التاريخي حتى تقول إن صدق الموقف إزاء هاملت أو فولسطاف مَسعًى لا معنى له. إذا قلت إنك تقرأ شيكسبير أو تشاهد مسرحياته حتى ترفع مستوى جارِك أو مستوى الحي، فإن كلامي يصبح هراءً وأصبح دون كيخوته النقد الأدبي. يُصوِّر المرحوم أنطوني بيرجيس، في رواية رائعة له عن شيكسبير عنوانها لا شيء كالشمس، شيكسبير وهو يدلي بملاحظة جميلة، نيتشية إلى حدٍّ ما تقول: «التراجيديا عَنْزَة وَلُود، والكوميديا رب الإخصاب في القرية، وكلمة الموت جماع الاثنين معًا.» كان يمكن لهاملت أو فولسطاف أن يُعَبِّر عن الفكرة تعبيرًا أفضل، ولكن التورية الجنسية في جماع الموت تنقذ العبارة النثرية، ونحن نتذكر أن شيكسبير لم يلتزم بكتابة أنواع أدبية مُحدَّدة، واستخدام المسكين بولونيوس لتحقير من يلتزمون بها. وقد قال ألدوس هكسلي ذات يوم: إن على التراجيديا ألا تذكر الحقيقة الكاملة، ومع ذلك فإن شيكسبير قد اقترب كثيرًا من إثبات خطل هكسلي. لقد كتب جون وبستر تراجيديا الانتقام، وكتب شيكسبير هاملت. لا توجد شخصيات إنسانية عند وبستر، على الرغم من أن كل فرد ينجح في تَلقِّي الموت بفصاحة تقترب من فصاحة شيكسبير. ولا بد أن تصدق صورة الحياة عند شيكسبير إذا كان للشخصية الإنسانية أن تكون لها قيمة. وأن تكون في ذاتها قيمة. ولا تنجح القيمة والعاطفة في التواصل بيسر فيما بينهما، ولكن مَن غير شيكسبير نجح في تصالحهما هذا التصالح الذي لا يتوقف قط. وعلى أية حال ما الشخصية الإنسانية؟ يقول المعجم إنها الصفة التي تجعل المرء شخصًا، لا شيئًا ولا حيوانًا، أو إنها مجموعة من الخصائص التي تجعل المرء متميزًا بطريقة ما. ولكن ذلك لا يفيدنا، وخصوصًا فيما يتعلق بهاملت أو بفولسطاف، فهذان مُجرَّد دَوْرَين لمُمثِّلَين، كما يقول لنا الشَّكلِيُّون، وربما يقع الممثلون في حب الأدوار، ولكن تُرانا نفعل ذلك إذا قُدِّر لنا يومًا ما أن نصعد على خشبة المسرح؟ ما الذي تعنيه «بشخصية يسوع عليه السلام»، سواء كنا نقصد يهوه أو كاتب التوراة أو الإله الأمريكي، المُولَع ولعًا ساء صيته بالجمهوريين والمحافظين الجُدد؟ وأقول إننا نعقل ما نقول وما نقصده أو نعنيه عندما نتكلم عن شخصية هاملت في مقابل شخصية صديق لنا صدوق، أو عن شخصية أحد المشاهير الذين نحبهم، إن شيكسبير يقنعنا بأننا نعرف شيئًا في هاملت، شيئًا يُعْتَبر أفضل دخائله وأعمق سرائره، وهو شيء غير مخلوق يرجع بنا إلى أبعد من أُولى ذكرياتنا المُبكِّرة عن أنفسنا. إن عند هاملت أنفاسًا تَهُبُّ أو شرارة تَندلِع، وتُمثِّل مبدأه في التَّفرُّد، وهي هوية يمكن التَّعرُّف عليها وتدل عليها لغته الفريدة، وإن لم تكن اللغة بقدر ما هي الألفاظ، ونعني الاختيار المعرفي بين الكلمات، الاختيار الذي يتمثل دافعه الدائم في التوجه نحو التحرر: من إلسينور، ومن الشبح، ومن العالم. ويشبه هاملت فولسطاف في أن تعريفه المضمر للشخصية الإنسانية يقول إنها نمط من أنماط الحرية، وهو أقرب إلى أن يكون رحِمًا للحرية من كونه نتاجًا للحرية. وأما فولسطاف، كما ذكرتُ آنفًا فهو مُتحرِّر إلى حدٍّ بعيد من الأنا العليا اللَّوَّامة، وأما هاملِت فيعاني معاناة بَالِغة الشدة في الفصول الأربعة الأولى منها، لكنه في مرحلة التَّحوُّل التطهيري الجميلة، أي في الفصل الخامس، يكاد يتحرر مما هو فوق الأنا أو أعلى منها، وإن كان الثمن الذي دفعه هو الموت قبل أجله بفترة طويلة.

في رواية جاتسبي العظيم التي كتبها فيتزجيرالد، يقول نيك كاراواي، الراوي بنهج كونراد: إن الشخصية الإنسانية سلسلة من الأفعال الناجحة، ولا بد أن هذا الوصف كان سيروق لوولتر باتر، ولكنَّ له حدودًا صارمة. ربما كان جاي جاتسبي مثالًا لتعريف كاراواي، ولكن مَن ذا الذي يُغامِر بأن يقول إن الشخصية الإنسانية عند هاملت تتكون من سلسلة من الأفعال الناجحة؟ إن وليم هازلت، كما قلتُ آنفًا، أعطى صوته للحياة الباطنة قائلًا: «إننا نحن هاملت.» وكان هازلت يوحي بأن خشبة مسرح هاملت هي مسرح الذهن والنفس، ومن ثَمَّ فإن أفعال هاملت تصدر من أعمق أعماق الذات الباطنة، وهي التي تعتبر على هذا المستوى الذات الباطنة لكل فرد تقريبًا. وكانت مواجهة هذا التمثيل المحير، الذي يُعتَبر عالميًّا وفرديًّا في آنٍ واحد، هي التي جعلت ت. س. إليوت يُصدِر حكمه العجيب قائلًا: إن هاملت فاشلة جماليًّا. وأفترض أن ت. س. إليوت، بما يكابده من جراح خاصَّة، كان يُقدِّم رد الفعل على العلة الروحية عند هاملت، وهي بالقطع أشد أنواع الهم والغم غموضًا وإلغازًا في الأدب الغربي. وأما الميتافيزيقا الشعرية الخاصة فهي، كما رأينا، أن الشخصية والقَدَر متضادان، ومع ذلك، ففي ختام المسرحية من المحتمل أن نعتقد أن شخصية الأمير كانت قَدَره. هل لدينا إذن دراما عن حرية الشخصية الإنسانية أو عن قدر الشخصية؟ إن ممثل دور الملك يقول إن كل شيء يحدث عرَضًا، ويلمح هاملت في الفصل الخامس إلى عدم وقوع أي شيء عرضًا. مَن منهما عَسانا نُصدِّق؟ إن هاملت في الفصل الخامس يبدو في صورة مَن نجح في علاج ذاته، ويؤكد أن الاستعداد أو الإرادة كل شيء. وأنا أفسر هذا القول بأنه يعني أن الشخصية الإنسانية كل شيء، بشرط أن تكون قد طَهَّرَت نفسها ووُلِدَت من جديد. ومع ذلك فإن هاملت لا تكاد تكون لديه رغبة في البقاء.

تعتمد الرفعة المعترف بها على غرابة تستوعبنا حتى ونحن نعجز إلى حدٍّ كبير عن استيعابها. ما الموقف الذي يتخذه هاملت تجاه الحياة، أو ما موقف هاملت الذي يعود من البحر في بداية الفصل الخامس؟ إن هاملت نفسه يتأرجح تأرجح الدُّوار بين كونه كل شيء وكونه لا شيء، وهو التناوب الذي يسود حياتنا بالقدر الذي يسود أدبنا. ويشبه هاملت شيكسبير في عدم اتخاذ أي موقف، وهذا هو السبب الذي يجعل مُقارَنة أي منهما ﺑ «مونتانيْ» مُضلِّلة إلى حدٍّ بعيد. فنحن نعرف ما نعني عندما نتكلم عن مذهب الشك عند مونتانيْ، ولكننا نميل إلى أن نعني أكثر مما ينبغي وأقل مما ينبغي عندما نُؤكِّد مذهب الشك عند هاملت أو عند شيكسبير. إذ لا يوجد لفظ «أو ألفاظ» تتسم بالدِّقَّة المُطلَقة لوصف مواقف هاملت تجاه الحياة والموت في الفصل الخامس. وللمرء أن يجرب استعمال هذه المصطلحات كلها؛ الرواقية، مذهب الشك، مذهب الرضى، والعدمية، ولكنها لا تنجح النجاح المنشود. وأنا أميل إلى تفضيل مصطلح «اللامبالاة»، لكنني أجد أنني أُعَرِّفُ الكلمة وفقًا لدلالتها عند هاملت وحده. وأما مذهب الرِّضَى فأصبح يعني بعد نصف قرن من كتابة هاملت طريقة إسبانية مُعيَّنة للتصوف الديني، ولكن هاملت ليس متصوفًا أو رواقيًّا بل ولا يكاد يُعْتَبر مسيحيًّا على الإطلاق؛ إذ إنه يدخل مشهد المذبحة الأخير بروح انتحارية، ويمنع هوراشيو من الانتحار بوعي أناني يقول إن هناء هوراشيو [بالموت] سوف يُؤجَّل حتى يتاح لقصة الأمير أن تُرْوَى وتُعاد روايتها. ومع ذلك فهو يبدي الحرص على سمعته أثناء احتضاره؛ إذ ينصب قلقه الأخير على «اسمه المجروح» إن لم يكتب البقاء لهوراشيو حتى يبرئه. فما دام قد قتل بولونيوس، ودفع أوفيليا إلى الجنون ثم إلى الانتحار، وأرسل روزنكرانتس وجيلدنستيرن إلى حيث يُقْتَلان دون مبرر، فإن قلقه لا بد أن يبدو مُبرَّرًا، ولكنه في الواقع ليس لديه وعي بأي ذنب جناه. وخوفه من «اسمه المجروح» لغز آخر، ولا يشير قط إلى قتل كلوديوس ولايرتيس، ناهيك بقتل أمه، وهي التي يوجه إليها تحية وداعٍ ذات برود صادم قائلًا: «إلى اللقاء يا مليكة شقية.» وقلقه ذو طابع مسرحي مناسب، فهو يوجهه إلينا، نحن الجمهور:

وأَنْتُمُو يا مَنْ كَسَاهُمُ الشُّحُوبُ وارْتَعَدُوا لهذَا الخَطْب.
كَأَنَّكُمْ مُمَثِّلونَ صَامِتُونَ أوْ نَظَّارَةٌ إزَاءَ ما يَجْرِي علَى المَسْرَحْ.

ويبدو لي ذلك قَلق مؤلِّف مسرحي، مناسب للمؤلِّف الذي نَقَّح مسرحية مصيدة الفئران، وشخصية ستيفن في رواية يوليسيز لمؤلفها جيمز جويس، لا يكاد يميز في مشهد المكتبة في تلك الرواية بين شيكسبير وهاملت، وكما قلت آنفًا، يؤكد لنا ريتشارد إلمان أن ما يتخيله ستيفن ظل يمثل على الدوام قراءة جويس الجادة للمسرحية. ويبدو هاملت نفسه متحررًا من صدمة الجمهور الذي يرى أن هذا الوعي الشاسع يُقضى عليه في شبكة مُعقَّدة عبثية تقوم على سيف مسموم وكأس مسمومة. فلشد ما يضير حساسيتنا أن نرى بطل الوعي الفكري الغربي يموت في هذا السياق الهزيل إلى حدٍّ كبير، ولكن ذلك لا يضير هاملت الذي سبقت له معاناة أهوال أكبر كثيرًا مما ينبغي. إننا ننعي شخصية إنسانية عظيمة، وربما كانت العظمى، ولكن هاملت قد كف عن النعي في الفاصل بين الفصل الرابع والفصل الخامس، وأعمق أسرار شخصيته الإنسانية متداخلة في طبيعة نعيه العالمي وفي شفائه الذاتي. ولن أتعرض للصور المَجازية الأُودِيبِيَّة، ولن أُقْدِم حتى على رفضها؛ إذ إنني خَصَّصتُ فصلًا كاملًا لهذا الرفض في كتاب عن الأدب الغربي المعتمد، قَدَّمتُ فيه قراءة شيكسبيرية لفرويد. إن اليأس الروحي عند هاملت يتجاوز مقتل والد، وتَعجُّل والدة بالزواج، وجميع الأبخرة العَفِنة المتصاعدة من فساد إلسينور، حتى عندما يتجاوز تمجيده في الفصل الخامس أي زوال لمركَّب أوديب. ويصبح السؤال الحاسم هنا: كيف ينبغي لنا أن نشخص المزاج السوداوي لهاملت في الفصول الأربعة الأولى، وكيف نشرح فراره منه إلى مكان رفيع في الفصل الخامس، وهو مكان ينتمي أخيرًا له وحده تمامًا، إلى جانب ما يشبه طريقة جديدة جدة جذرية في التعاليَّة العلمانية؟

كان الدكتور جونسون يرى أن الامتياز الخاص لمسرحية هاملت يكمن في «تَنوُّعها»، وهو ما يبدو لي أكثر انطباقًا على الأمير منه على الدراما. وأكثر ما يُميِّز شخصية هاملت الإنسانية طبيعته التحولية، بمعنى أن تغيراته من الظواهر المتسقة الثابتة، والتي تستمر حتى بعد التغير «البحري» الذي يسبق الفصل الخامس. والأحجية الدائمة التي نواجهها تقول إن أعظم شخصية إنسانية تتصف بالتكثيف المسرحي عند شيكسبير تتوسط مسرحية ساء صيتها بسبب توقعاتها القلقة، وبسبب حالات التأخير التي لا تتوقف، وهي التي تعتبر أكثر من محاكاة ساخرة للثأر الذي يتأخر بلا نهاية. وهاملت ممثل عظيم، مثل فولسطاف وكليوباترا، ولكن مُخرج مسرحيته، أي المؤلف المسرحي، يعاقب بطل العمل، فيما يبدو، بسبب شروده الذي يُؤدِّي إلى انفلات زمامه، أو قل بأنه جنيٌّ هرب حاملًا طاقة زهر أبولو، ربما لأنه قد راودَتْه شكوك أكبر مما ساور خالقه. وإذا كان هاملت ذا خيال مريض، فإن ذلك يشاركه فيه جميع مَن في المسرحية، ربما باستثناء هوراشيو، الذي ينوب عن الجمهور. فعندما نلاقي هاملت أول مرة، نجده طالبًا جامعيًّا لا يُسْمَح له بالعودة إلى دراسته، ولا يبدو أنه يزيد عن العشرين من عمره، لكننا نراه في الفصل الخامس في سن لا تقل عن الثلاثين، بعد رحلة بحرية لم تستغرق أكثر من عدة أسابيع على أكثر تقدير. ولكنَّ أيًّا من ذلك لا يهمنا، فإنه دائمًا أصغر وأكبر شخصية إنسانية في الدراما، بأعمق معنى لهاتين الصفتين، بل إنه أكثر سنًّا من فولسطاف، فالوعي نفسه قد تسبب في تقدمه في السن، وهو الوعي الفتاك الذي يجلبه المرض الروحي لعالمه، إذ إنه استوعب ذلك المرض في باطنه ولا يرغب في أن يدعوه أحد لعلاجه، ولو اقتصر السبب الحقيقي لطابع التغيير والتغير عنده على انطلاقه نحو الحرية. والنقاد متفقون منذ قرون على أن الجاذبية الفريدة لهاملت تَكمُن في أننا لن نجد بطلًا آخَر من أبطال التراجيديا الرفيعة يتمتع فيما يبدو بحرية هاملت الكبيرة، وهي من المفارقات. فهو لا يكاد يكون موجودًا في المسرحية في الفصل الخامس، فهاملت «النهائي» يشبه ما يسميه ويتمان «أنا الحقيقي» أو «أنا نفسي» في أنه موجود داخل اللعبة وخارجها؛ إذ يتابعها ويَتعجَّب منها. ولكن إذا كان تَغيُّره البحري قد شفاه من مرض إلسينور، فما الذي يدفعه إلى العودة إلى القصر الملكي وإلى الفاجعة النهائية؟ ونحن نشعر أنه لو قدر للشبح أن يحاول الظهور مرة ثالثة في الفصل الخامس، فسوف يزيحه هاملت جانبًا؛ إذ إن هوس انشغاله بوالده المُتوفَّى قد انتهى بصورة قاطعة، وإذا كان لا يزال يعتقد أن أمه المفترى عليها زانية، فإن اهتمامه بهذا الأمر قد ذوَى أيضًا. وهو يسمح لنفسه بعد أن تطهر بأن تخدعه النسخة الإيطالية المُهذَّبة من مَصيدة الفئران التي وضعها كلوديوس، اهتداء بالمبدأ الذي أعلنه وهو «فليكن». وربما يكون أفضل تعليق هو التعديل الذي جاء به والاس ستيفنز والذي يقول: «فليكن الوجود خاتمة الظاهر.» ومع ذلك فإن علينا مرة أخرى أن نعود إلى مرض إلسينور ودواء الرحلة البحرية.

أظن أن كل دارس للصور الشعرية في هاملت قد تأمَّل صورة القرح، أو الخُرَّاج، التي التقطها روبرت براوننج فصاغ منها تورية بديعة، قائلًا: «هذا هو القرح الذي فجرته حتى أريحك من غرورك.» وقد يكون هاملت نفسه الذي أرهص بالكثير من شخصيات أو أقنعة براوننج، يقصد التورية في الإشارة إلى القرحة باعتبارها خُرَّاجًا:

هذا هُوَ القَرْحُ الذي يأتي بهِ فَيْضُ الثَّرَاءِ وطُولُ عَهْدِ سَلَامِ.
فَإِذَا تَفَجَّرَ مَرَّةً مِنْ دَاخِلِهْ،
سَلَبَ الحَيَاةَ بدون أَدْنَى عِلَّةٍ ظَاهِرَةٍ.

ومرض إلسينور ينتمي إلى كل مكان وكل وقت. إذ يوجد عفن في كل دولة، وإن كنت تتمتع بحساسية كحساسية هاملت، فلن تصبر عليه آخر الأمر. ومأساة هاملت أخيرًا مأساة شخصية إنسانية، وصاحب الكاريزما مضطر إلى الخضوع لسلطة الطبيب رغم أنفه، وأما كلوديوس فهو مجرد عرض عارض، وأما العدو المُقْنعُ الوحيد لهاملت فهو هاملت نفسه. عندما ابتعد شيكسبير عن رسم الشخصيات الكارتونية عند مارلو، فأصبح بذلك شيكسبير، كان يعد الهوة السحيقة عند هاملت لنفسه. فإن هاملت يعرف لا أقل من كل شيء عن نفسه، ويعرف أيضًا أن نفسه ليست شيئًا في نفسه. وهو يستطيع أن يذهب، بل ويذهب فعلًا إلى ذلك «اللاشيء» عند البحر، ثم يعود بلا مبالاة، أو بإحساس عدمي، أو بالرضى وحسب، أيًّا كان الذي تفضله. ولكنه يموت شاعرًا بقلق شديد على اسمه المجروح، كأنما يُؤدِّي دخوله مرة أخرى دوامة إلسينور إلى بعض التفكك لتَغيُّره الكبير. ولكن ذلك لا يصيب إلا جانبًا واحدًا؛ إذ إن موسيقى التعاليَّة المعرفية تعلو من جديد في لحن احتفالي في ختام مأساة هاملت، فتحقق الانتصار العلماني في عبارة «لم يبق إلا الصَّمت.» وأما ما لا يخمد، أو ما يستمر قائمًا قبل الصمت، فهو القيمة الخاصة التي تتميز بها الشخصية الإنسانية لهاملت، والتي يطلق عليها اسم آخر هو «الرفعة المقدسة».

١  يعرِّف مجمع اللغة العربية بالقاهرة الاسم transcendcnce بأنه التعالي أو التسامي، المشتق من الفعل transcend أي يَفُوق أو يتجاوز أو يَتعدَّى، ويشترك الاسم مع صورته الأخرى transcendency في هذا المعنى إلى جانب «سُمو الخالِق على العالَم المادي»، ولكن الصفة transcendental يُجيز المجمع تعريبها أي كتابتها بحروف عربية ترنسندنتالي. ويُورِد مجدي وهبة في النفيس عدة معانٍ أولها فلسفة تقول إن إدراك الحقيقة يتوسَّل بالفكر لا بالخبرة وحسب، وهذه هي الدلالة الشائعة، والمعنى الثاني هو الإيمان بالتأثير الإلهي في حياة الإنسان، وهو معنًى خاصٌّ غير شائع، وأما المعنى الثالث فهو أشد تخصُّصًا؛ إذ يشير إلى قدرة المرء على أن يتعالى على آلام الحياة، ولهذا المذهب دُعاة يقولون بأن الإنسان يستطيع أداء تأمُّلات أو تدريبات روحية (أي نفسية) تحقق هذا التعالي وتسمى transcendental meditations. وأما المذهب الفلسفي transcendentalism (الترنسندنتالية) فهو مذهب التعالي الذي وضعه الفيلسوف الأمريكي إمرسون وهو الذي يُؤكِّد المعنى الأول أعلاه، والدلالة الثانية لمذهب التعالي: مذهب الفيلسوف الألماني كانط الذي يقول إن الإدراك الذهني أو المعرفة هي الأصل في كل خبرة، أي إن دور العقل سابق لدور الحواس. ولكن المعنى الأكثر شيوعًا بسبب استخدامه في سياقات عامة هو المثالية المتصوفة. وأصل هذا المعنى الخلاف القديم بين مذهب الحلول (pantheism) أي القول بأن الله يحل في الكون والأشياء، وبين مذهب التعالي بالمعنى الأول الاشتقاقي؛ أي إن الله يتعالى على العالَم المادي. وقد شهد مذهب الحلول تطورًا بعد سبينوزا فجيء بمذهب يفيد الحلول ولا ينفي التعالي وهو panentheism.
والمقصود في هذا السياق تحديدًا هو المعنى الفلسفي الأول الذي يقول بأن الطاقة الذهنية للإنسان إذا كانت تتمتع بالعمق والحِدَّة استطاعت أن تتجاوز عالَم الحواس إلى عالَم الفكر، بحيث تعلو على خبرات المرء في الحياة اليومية وتتطلب قُدرة على التجريد للاستجابة إلى الفكر التعالِيِّ، أي الذي يتجاوز المحسوسات والخصوصيات إلى المجردات والعموميات، وهو ما يتطلب جهدًا في الفهم والمتابعة والتذوق.
٢  المقصود ما يعنيه الشاعر العربي بقوله:
تَكاثَرتِ الظباءُ على خراشٍ
فما يدري خراشٌ ما يصيدُ
٣  ترجمة جديدة.
٤  ترجمة الدكتورة فاطمة موسى، المشار إليها آنفًا.
٥  ترجمتان مختلفتان لإظهار الصياغة في النص المصدر.
٦  يوجد في خرافات إيسوب (Aesop) ذِكْر الجَدْي، الذي يختلط kid عنده بمعنى الغلام في قصة الذئب والجَدْي. ويبدو أن الكاتب يريد الإشارة إلى توماس كيد مُعتمِدًا على فطنة القارئ، وربما كانت توجد قصة مجهولة فعلًا تضم جَدْيًا وثعالب «لا ذئبًا» ولكنني لم أعثر عليها في طبعة خرافات إيسوب، ترجمة ف. س. فيرنون جونز (١٩١٢م) (الطبعة الحديثة ١٩٨٣م).
٧  يعتمد المؤلف على معنى المصطلح الشائع اليوم، وهو «إجمالًا» أو «من باب التعميم»، ولكن المعنى عند شيكسبير مختلف وهو ما أورده هنا. انظر تحقيق المصطلح في ص٣٥٣ من حواشي الترجمة العربية لهاملت، القاهرة ٢٠٠٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤