الفصل الرابع والعشرون

عطيل

١

إن شخصية ياجو … تنتمي إلى طبقة من الشخصيات الشائعة عند شيكسبير، والمقصورة في الوقت نفسه عليه، وهي شخوص تتسم بنشاط ذهني كبير، يصاحبه الافتقار التام إلى المبادئ الخُلقية، ومن ثم فهو يعرض قوته ويزهو على حساب الآخَرِين دائمًا، كما يسعى إلى طمس الفوارق العملية بين الصواب والخطأ، بإحالتها إلى معيار حدسي للرقي والتهذيب بولغ في الضغط عليه. ويميل بعض الناس، ممن يَتَّسِمون بقدر من الرِّقة يفوق حكمتهم، إلى القول بأن شخصية ياجو كلها غير طبيعية. ولكن شيكسبير الذي كان يجيد التفكير الفلسفي إجادته قرض الشعر، يختلف معهم؛ إذ كان يعرف أن حب السُّلطة، وهو اسم آخر لحب الضرر، أمر طبيعي في الإنسان. وكان يعرف ذلك أيضًا، أو بصورة أفضل من إثباته له برسوم بيانية منطقية، بمجرد مشاهدة الأطفال يخوضون في مياه قذرة أو يقتلون الذباب بدافع اللهو. ولنا أن نسأل الذين يظنون أن شخصية ياجو غير طبيعية عن سبب ذهابهم إلى المسرح ليشاهدوا أداءها، إلا أن يكون دافعهم إثارته لاهتمامهم، وشحذ الحد القاطع لفضولهم وخيالهم؟ ولماذا نذهب لمشاهدة المآسي عمومًا؟ ولماذا نقرأ دائمًا في الصحف تفاصيل الحرائق الفظيعة وأحداث القتل الشنيعة، إلا أن يكون ذلك لهذا السبب نفسه؟ ولماذا ترتاد أعداد كبيرة من الناس مواقع إعدام الأشخاص ومحاكمتهم؟ أو لماذا يبتهج أفراد الطبقة الدنيا في كل مكان تقريبًا بمشاهدة الألعاب الهمجية وألعاب القسوة على الحيوان، إلا إن كان في النفس ميل طبيعي إلى الإثارة الشديدة، ورغبة في إثارة ملكاتها وتنبيهها إلى أقصى درجة ممكنة؟ وحيثما كان هذا المبدأ مُتحرِّرًا من السيطرة الإنسانية، أو الإحساس بالالتزام الخلقي، فلن تكون أمام النفس ضروب شذوذ وتطرف تمتنع عن إنشائها وارتكابها بنفسها، من دون معونة من أي دافع آخر، سواء كان يتمثل في عاطفة مشبوبة أو مصلحة ذاتية. وليس ياجو إلا حالة متطرفة من هذا النوع، أي من النشاط الذهني المريض، مضافًا إليه لامبالاة محكمة تقريبًا بالخير الأخلاقي أو الشر، أو بالأحرى تفضيل الشر؛ لأنه أقرب اتفاقًا مع الميول الأثيرة لديه، فهو يزيد من حمية أفكاره ويوسع من نطاق أفعاله. ولأَقُل أيضًا (خصوصًا للذين يدعون إلى قياس جميع الأفعال البشرية بالحِكَمِ والأمثال التي وضعها روشفوكوه) [كاتب وأمير فرنسي ١٦١٣–١٦٨٠م اشتهر بموقفه المحايد من الأخلاق] إن ياجو لا يبالي قط، أو لا يبالي تقريبًا بقدره مثلما لا يبالي بأقدار الآخرين، فهو يتعرض لجميع المخاطر من أجل مزية تافهة ومشكوك فيها، كما أنه يقع فريسة للخداع وضحية لعاطفته المشبوبة — وهو وَلَع مُحال إصلاحه بإحداث الأذى والضرر — فهو ظمأ لا يرتوي لأفعال من أصعب الأنواع وأشدها خطرًا. إن «حامل الراية» المذكور فيلسوف، يتوَهَّم أن الأكذوبة القاتلة أفعل في النَّفْس من السجع أو الطباق، ويظن أن العُدْوان الفَتَّاك على سلام أسرة ما شيء أفضل من مُتابَعة الخفقات في قلب برغوث في مضخة هوائية، وهو يدبر تدمير أصدقائه باعتبار ذلك تدريبًا لقدرته على الفهم ويطعن الرجال في الظلام حتى يمنع الملل.

وليم هازلت

وما دامت المأساة مأساة عطيل، حتى إن كانت مسرحية ياجو (لا يبدو أن هاملت نفسه أو إدموند نفسه قد كتب مثل هذا القدر من درامتيهما) فنحن في حاجة إلى استعادة بعض الإحساس بكرامة عطيل ورفعة شأنه في البداية. إن بعض التقاليد النقدية الحديثة السيئة التي انطلقت من ت. س. إليوت، وف. ر. ليفيز حتى النقد الجديد الحاضر، قد جَرَّدت البطل من بهائه، وقامت في الواقع بعمل ياجو، بحيث، كما يقول عطيل نفسه «ذهبت وظيفة عطيل.» فمنذ نحو ١٩١٩م وقادة الجيش يفقدون المكانة السامية في نظر النخبة، وإن لم يفقدوها دائمًا بين المتفرجين الفقراء. ولقد أخضع شيكسبير نفسه بسالة الفرسان للانتقاد الفكاهي الفائق من جانب فولسطاف؛ إذ إنه لم يحافظ على جانب يُذكَر من الحنين للشجاعة الحربية. ولكن فولسطاف، على الرغم من أنه لا يزال يشغل ركنًا في وعي هاملت، يغيب عن عطيل.

ولا يخطو المهرج فوق خشبة المسرح في عطيل، وإن كان المُهرِّج في الملك لير، والحارس السكران عند الباب في مكبث، وبائع التين والثعابين في أنطونيو وكليوباترا يحافظون على استمرار التراجيديكوميدي عند شيكسبير بعد هاملت. ولا تستبعد الضحك إلا عطيل وكوريولانوس، كأنما ابتغاء قائدين عظيمين من المنظور الفولسطافي. وعندما يريد عطيل، وهو لا شك أمهر لاعب بالسيف بين أبناء مهنته، أن يفض مشاجرة في الشارع، لا يحتاج إلا إلى النطق بسطر رهيب الوقع يتضمن تهديدًا مضمرًا هو:
فَلْتُغْمِدُوا المَصْقُولَ مِنْ نِصَالِكمْ كَيْلَا يُصِيبَهَا النَّدَى بالصَّدَأِ!
لكن مشاهدة عطيل في إهاب مجده قبل السقوط، داخل المسرحية، يتعذر بعض الشيء؛ لأنه سرعان ما يستجيب، فيما يبدو، لخدعة ياجو. ومثلما فعل شيكسبير من قبل في هنري الخامس الجزء الأول، وبعدها مباشرة في الملك لير، يحملنا مسئولية استنباط ما يتصدر الأحداث هنا. وفي بداية المسرحية نجد أن ياجو يؤكد لرودريجو المخدوع، أنه يكره عطيل، ويقدم الدافع الأوحد للكراهية، وهو ما يسميه إبليس في الفردوس المفقود لميلتون، الإحساس «بعدم تقدير منزلته.» ويعتبر إبليس (على نحو ما لم يكن ميلتون يريد أن يعرف) الابن الشرعي لياجو؛ إذ أنجبه شيكسبير من ربة الشعر عند ميلتون. فالذي حدث هو أن ياجو كان حامل الراية لعطيل (أي الثالث في المراتب القيادية) مدة طويلة وتخطاه عطيل في الترقية بأن عين كاسيو نائبًا له. ونحن لا نعرف أية أسباب لقرار عطيل، فما زال عطيل يحترم «ياجو الأمين»، والمحارب الشديد البأس في «الحروب الكبرى» التي خاضها عطيل، والواقع أن موقع ياجو، باعتباره أعلى الضباط رتبة، الذي أقسم على ألا يسمح للأعداء على صعيد المعركة أن يستولوا على راية من رايات عطيل، والموت من دون ذلك، يشهد على مدى الثقة التي يوليها إياه عطيلُ ومدى ولاء ياجو السابق لقائده. ومن المفارقات أننا نستطيع أن نستنبط أن هذه العبادة نصف الدينية لرب الحرب عطيل من جانب ياجو المؤمن به كانت سبب تخطي ياجو في الترقية. وقد أصاب هارولد جودارد في إدراكه أن ياجو في حالة حرب دائمة؛ إذ يعاني من الولع بالنار معنويًّا بحيث يشعل الحرائق في الواقع برمته. وأما عطيل صاحب البراعة المهنية الذي يحافظ على نقاء استعمال السلاح، أي استعماله حيث ينبغي وحسب، وبذلك يفصل معسكر الحرب عن مخيم السلم، فإنه تبين أن حامل الراية الشجاع وذا الحماس المتقد شخص يمكن أن يحل محله لو قُتل أو جُرح، أي إن ياجو لا يستطيع التوقف عن القتال ومن ثم لا يمكن تفضيله على كاسيو الذي يفتقر نسبيًّا إلى الخبرة (فهو من ضباط أركان الحرب) ولكنه مهذب ودبلوماسي ويعرف حدود الحرب.
وعلى الرغم من سلامة الحكم الحربي بوضوح عند عطيل، فإنه لم يكن يعرف ياجو ذلك الفنان الذي يتمتع بحرية بالغة في ذاته. والفاجعة التي تتصدر مسرحية شيكسبير يمكنني أو أريد أن أسميها سقوط ياجو، وهي التي تمثل سقوط إبليس عند ميلتون. فإن إله ميلتون، مثل عطيل، يُخفض برجماتيًّا مرتبة أشد المخلصين له حماسًا، فيتمرد إبليس الذي جُرح. ولما كان عاجزًا عن إسقاط الكيان الأعلى فإن إبليس يدمر آدم وحواء، ولكن ياجو ذو خبث ودهاء يجعلانه يتفوق على إبليس، فلما كان ربه الوحيد عطيل نفسه، فإن سقوطه يصبح الانتقام المناسب من فقدان كيانه نتيجة نبذه، وهو ما يثير حنقه بوضوح، إذ قد تتضمن عواقبه عجزًا جنسيًّا، وإحساسًا مؤكدًا بالعدم؛ أي إنه لم يَعُد ما كان عليه يومًا ما. ويعتبر ياجو أعظم دراسة شيكسبيرية في الغياب من زاوية الوجود اللاهوتي (ontotheological) أي ذلك الشعور بالخَوَاء اللاحق للخواء عند هاملت، والسابق مباشرة لما نشهده عند إدموند من دخول محدود، وإن يكن أشد في خوائه العاطفي، في غرائب العدمية. لقد كان عطيل كل شيء في نظر ياجو؛ لأن الحرب كانت كل شيء له، وحين نُبِذ ياجو أصبح لا شيء، وفي حربه ضد عطيل تصبح حربه موجهة ضد الأنطولوجيا.

ليست الدراما التراجيدية ميتافيزيقية بالضرورة ولكن ياجو الذي يقول إنه لو امتنع عن النقد أصبح عدمًا، يشعر بأنه عدم أيضًا إن لم يكن ميتافيزيقيًّا. فإن قولته المتباهية «لست ما أنا عليه.» تنقض عمدًا قول القديس بولس «بنعمة من الله أنا ما أنا عليه.» ويتمكن شيكسبير بفضل ياجو من العودة إلى المكيافيل ولكن ليس إلى هارون مغربي آخر، أو إلى ريتشارد الثالث، وكلاهما نسخة من باراباس، يهودي مالطة، بل إلى شخصية تبعد بمسافة سنوات ضوئية عن مارلو. فالفرحة بالذات عند باراباس، وهارون، وريتشارد الثالث، في غمار ما يرتكبونه من شر، تبدو طفولية إذا قُورِنَت بزيادة كبرياء ياجو وإحساسه بالفخر بمنجزاته السيكولوجية والدرامية والجمالية (أول صورة حديثة لها) أثناء تأمله الدمار الهائل لرب الحرب عطيل، بعد أن ينهار فيصبح أشتاتًا قتَّالة. وإنجاز ياجو في تراجيديا الثأر يتفق كثيرًا مع تنقيح هاملت لمسرحية مقتل جونزاجو وتحويلها إلى مصيدة الفئران. تأمل ما أنجزه ياجو: إن عبقريته من دون مساعدة قد رسمت هذه الحبكة الليلية، وكانت أفضل ما رسم. لسوف يُعَذَّبُ حتى يموت، في صمت، لكنه يكون قد خلَّف واقعًا مشوهًا كأنه نصب يحيي ذكراه.

يقول أودين في مقال نقدي يبعث على الحيرة الشديدة إنه وجد في ياجو تمجيدًا لممارسة «المقالب» الفكهة، وهو الذي لا أستطيع تفسيره إلا إذا أدركت أن ياجو عند أودين هو ياجو عند فيردي؛ أي نص بويتو (Boito) تمامًا مثلما يجعل أودين فولسطاف شخصية أوبرالية لا درامية. ينبغي ألا يضع المرء حدودًا لعبقرية ياجو، فهو فنان عظيم وليس يلهو ويلعب. إن إبليس الذي رسمه ميلتون لاهوتي فاشل، وشاعر عظيم، ولكن ياجو يتألق تألقًا معادلًا باعتباره لاهوتيًّا عدميًّا يقول بموت الإله وشاعرًا دراميًّا نابِهًا. ولقد وهب شيكسبير هاملت وفولسطاف وروزالند وحدهم لماحية وفكرًا أكبر مما وهبه ياجو وإدموند، وأما من حيث الحساسية الجمالية فلا يتفوق إلا هاملت على ياجو. فإذا منحت ياجو هوس الفكرة المتسلطة على آهاب [في رواية موبي ديك للمؤلف ميلفيل] بحيث يصبح عطيل الحوت موبي ديك الذي لا بد من صيده، فسوف تجد أن أبرز سمة لياجو هي حريته وما أبشعها! إنه يجيد الارتجال، ويعمل بحماس وإحكام في التوقيت، ويعدِّل خطته حتى تلائم الثغرات التي يستطيع النفاذ منها، وإذا قدر لي أن أتولى إخراج مسرحية عطيل فسوف أوصي ممثل دور ياجو بأن يبدي دهشة وثقة تتزايدان في الفن الشيطاني. فعلى عكس باراباس ونسله، يتسم ياجو بأنه يقوم بالابتكار والتجريب، وبأنه على استعداد دائم لتجربة طرائق لم تكن معروفة حتى تلك اللحظة. ويقول أودين في لحظة إلهام أشد توفيقًا إن ياجو عالِم لا رجل مقالب فكهة. ونحن نرى إبليس في الفردوس المفقود يستكشف السبل البهمة في الهوة السحيقة بروح ياجو الحقيقية. من ذا الذي سبق ياجو في الأدب أو في الحياة إلى إحكام فنون تقديم المعلومات الخاطئة، والتوجيه إلى طرق مُضلِّلة، وإيجاد الخبل؟ إن هذه جميعًا تتضافر في البرنامج العظيم الذي وضعه ياجو للهدم والإفناء، حيث يعيد عطيل إلى العماء الأصلي، أي إلى الظلام والخواء اللذين جئنا منهما.١
وإذا أَلْقَينا ولو نظرة سريعة على مصدر شيكسبير في إحدى روايات شنثيو (Cinthio) الإيطالي [ت. ١٥٧٣م] لاكتشفنا مدى ما يدين به ياجو أساسًا إلى ابتكار شيكسبير، ولرأينا أنه ليس اقتباسًا من صورة الخبيث حامل الراية في القصة الأصلية. فإن حامل الراية عند شنثيو يحب دزدمونا حبًّا مشبوبًا، ولكنها تصده؛ لأنها تحب المغربي. ويُقرِّر حامل الراية الذي لا يسميه المُؤلِّف أن فشله يرجع إلى حب دزدمونا لضابط لا يسميه (كاسيو عند شيكسبير) ومن ثم يعقد العزم على إزالة المنافس المُفترَض، بإثارة الغيرة في قلب المغربي، والتآمر معه على قتل دزدمونا والضابط المذكور. ووفق رواية شنثيو، يضرب حامل الراية دزدمونا ضربًا مُبَرِّحًا ينتهي بقتلها، والمغربي يَشهدُه راضيًا عمَّا يفعل. ولكن المغربي يعلن توبته ويَشعر بشوق شديد إلى زوجته التي قُتِلَت ظلمًا، وعندها يُطرَد حامل الراية، الذي يبدأ كراهيته للمغربي ورئيسه في الجيش. وقد غَيَّر شيكسبير بناء القصة تمامًا بأن أعطاها وأعطى ياجو نقطة بداية جديدة مختلفة، يتصدرها حَنَق ياجو بسبب تَخَطِّيه في الترقية. والصدمة الأنطولوجية التي يتلقاها ياجو نتيجة تجاهله تعتبر ابتكارًا أصيلًا من جانب شيكسبير، وهي الصدمة النفسية التي تخلق ياجو حقًّا وصدقًا؛ إذ إنه ليس مجرد حامل للراية ذي خبث، بل عبقري شرير ينجح في «توليد» ذاته من السَّقْطَة الكبيرة.
إن صورة إبليس عند ميلتون تدين بجانب كبير منها إلى ياجو إلى الحد الذي يغري المرء بأن يرى الصورة المسيحية لسقوط آدم مُمثَّلَة في فاجعة عطيل، وأن يجد في تدهور الملاك الأكبر لوسيفر الذي تَمرَّد فأصبح إبليس مفتاحًا لنشأة ياجو. ولكن على الرغم من أن المغربي عند شيكسبير مسيحي، فإن مسرحية عطيل ليست دراما مسيحية إلا بمقدار ما تُعتَبر هاملت تراجيديا مذهبية عن الإثم والخطيئة والكبرياء. إن ياجو يستلهم «أرباب الجحيم» بنبرة التَّفكُّه، ولكنه ليس مجرد داعية شيطاني. إنه الحرب السرمدية (كما أدرك جودارد) وهو يبث في نفسي الإحساس نفسه بنوع من الرهبة والخوف الذي يثيره القاضي هولدن، الذي يصوره كورماك ماكارثي، كلما أعدت قراءة روايته: خط الزوال الدامي أو احمرار المساء في الغرب (١٩٨٥م). وهذا القاضي هو الحرب المجسدة، وإن كانت صورته تستند إلى الحقيقة التاريخية لقرصان كان يذبح الهنود الحمر ويسلخ فروة رأس من يقتله في الفترة التي تلت الحرب الأهلية في الجنوب الغربي والمكسيك. ومن يقرأ تصريحاته الرهيبة يجد لاهوتًا مُصغَّرًا عن مشروع ياجو، ومجموع هذه التصريحات المنشورة قد يوحي بتأثير ياجو في رواية الزوال الدامي التي تعتبر من السلالة الأمريكية للروائِيَّين اللَّذَين أسكرهما شيكسبير، وهما ملفيل وفوكنر؛ إذ يقول القاضي «الحرب أصدق صورة للكهانة … الحرب إله.» لأن الحرب هي اللعبة العليا للتقارع بين إرادتين. وياجو يمثل عبقرية الإرادة التي وُلِدَتْ من جديد نتيجة استخفاف الحرب بالإرادة، وتخطيه وترقية كاسيو بدلًا منه يعني قهر إرادته التي أصبحت عدمًا، وانتهاك إحساس الذات بالقوة أو السُّلطة. ومن ثم فإن انتصار الإرادة يتطلب استعادة القوة، والقوة عند ياجو لا تعني إلا القدرة الحربية على تمزيق الأوصال، والقتل، والإذلال، وتدمير ما يُمثِّل صورة الإله في شخص آخر، وهو رب الحرب الذي تنكر لعبادته والثقة به. والقاضي هولدن عند كورماك ماكارثي يُمثِّل بَعْث ياجو أو عودته، عندما يعلن أن الحرب هي اللعبة

الذئاب تنبذ الضعيف منها يا صاح. مَنْ مِنَ المخلوقات الأخرى يستطيع ذلك؟ أَلَمْ يزد طبع الافتراس في الجنس البشري إلى الآن؟ إن سُنَّةَ الدنيا أن تُورقَ وتزهر وتموت ولكن لا يوجد ذبول في شئون البشر، والقمر بتعبيره مؤشر على قدوم الليل. وروحه تُستهلك في ذروة إنجازه. وخط الزوال عنده إظلامه ومساء نهاره. هل يحب الألعاب؟ فليلعب للفوز بِرِهان مُعيَّن.

والذي كان يمثل في نظر ياجو دين الحرب، عندما كان يَعبُد عطيل باعتباره رَبَّ الحرب، أصبح الآن لعبة الحرب، على أن يلعبها في كل مكان عدَا ميدان القتال. وهكذا يصبح موت العقيدة ميلادًا للابتكار، والضابط الذي تخطته الترقية يصبح شاعر المشاجرات في الشارع، وتوجيه الطعنات في الظلام، ونشر البيانات المغلوطة، وقبل كل شيء تفكيك خَلْق عطيل، وتفتيت (sparagmos) القائد العام العظيم حتى يمكن إعادته إلى الهوة الأصلية، إلى العماء الذي يوازي ياجو بينه وبين الأصول الإفريقية للمغربي. وليست هذه نظرة عطيل (ولا نظرة شيكسبير) إلى تراثه، ولكن تفسير ياجو يفوز، أو يكاد يفوز، ما دمت سوف أقيم الحجة على أن خُطْبَة عطيل التي اختتمها بانتحاره، وهي التي كَثُر منتقدوها دون وجه حق، تقترب إلى حدٍّ كبير من استعادة الوقار وترابط المعنى، وإن لم تكن توحي باسترداد العظمة المفقودة. وإذا كان تَفهُّم ياجو دائمًا ما يستعصي على عطيل، فإنه لا يستعصي علينا؛ لأننا أقرب شبهًا بياجو من شبهنا بعطيل؛ إذ إن آراء ياجو في الحرب، وفي الإرادة، وفي جماليات الثأر، تفتتح نهجنا البرجماتي لفهم الإنسان.

لا نستطيع أن نصل إلى تقدير منصف لعطيل إذا أبدينا استهانة بقيمة ياجو، وهو الذي يمكنه أن يتمتع بعظمة النفس، ولكن ياجو يتفوق عليه تفوقًا لا مراء فيه من حيث الذهن ومن حيث الهمة. وقد قال أ. سي برادلي ذات يوم إن هاملت كان يمكنه أن يتخلص من ياجو بيُسر بالِغ؛ إذ إن هاملت كان يستطيع، في خطبة أو خطبتين، إدراك حقيقة ياجو، ثم دفعه إلى الانتحار بمحاكاة ساخرة وتهكم كالبرق الصاعق. وقد يلجأ فولسطاف وروزالند إلى ما يقترب كثيرًا من هذا، أما فولسطاف فيسخر منه بضجيج وعجيج، وأما روزالند فتتهكم عليه برقة ولطف. فالفكاهة وحدها هي القادرة على الصمود أمام ياجو، وهذا سبب استبعاد شيكسبير للكوميديا بشتى أشكالها من عطيل، باستثناء مرح ياجو البذيء. وحتى من هذه الزاوية يظهر لنا اختلاف مُعيَّن، فإن باراباس والذين يحاكونه عند شيكسبير يشركون الجمهور في رنة انتصارهم، على عكس ياجو، وهو الأول بين أقرانه، الذي يبدو كأنما يرسل إلينا بطاقات من داخل البركان، فهو بعيد عنَّا بُعْده عن ضحاياه. إنه ينظر إلينا نظرة تقول «أنت التالي» فيكتسي وجهنا أمارات الألم. ويقول سوينبيرن عن ياجو «إنه، على الرغم من مواهبه الشعرية، لا يتسم بضعف شعري.» إن ياجو نبي «الاستياء»، وهو يرهص ببعض الشخصيات التي نجدها عند دوستويفسكي؛ مثل: سميردياكوف، وسفيدريجايلوف، وستافروجين، وجميع من يَتميَّزون بالزُّهد الروحي الذي ينعيه نيتشه.

ولكن شخصية ياجو أكبر كثيرًا من ذلك، فإنه يسمو على جميع الأشرار في الأدب بفضل امتياز أصيل يرفعه إلى قمة من قمم الشر لا يستطيع أحد فيما يبدو تَجاوُزَها. وأما إدموند، الوحيد الذي يكاد ينافسه، فإنه يتوب إلى حدٍّ ما وهو يُحتضر، وهو فعل أكثر غموضًا من اختيار ياجو الصمت في النهاية. ولكن المواهب الذهنية والفنية العظمى لا تستطيع وحدها أن تصعد بياجو إلى مكانة الشر البطولي؛ إذ إنه يتمتع بطاقة سلبية تتجاوز القدرات المعرفية والإدراكية. فلقد أوحت الحياة العامة لمارلو بشخصية «جايز» في مسرحية مذبحة باريس [اسم الشخصية دوق دي جيز (Duc de Guise) ولكنه يحتفظ بالنطق الإنجليزي عند مارلو]، وأما جايز فيُعْتَبر مُجرَّد عفريت صغير إذا وضع بجانب ياجو، بل إن الشيطان نفسه — عند ميلتون، أو مارلو، أو جيته، أو دوستويفسكي، أو ملفيل، أو أي كاتب آخر — لا يستطيع منافسة ياجو، وأما ذُرِّيَّته في أمريكا فتتراوح ما بين تشلينجويرث عند هوثورن، وكلاجارت عند ميلفيل، و«الغريب الغامض» عند مارك توين، وشرايك عند ناثانيل وست، والقاضي هولدن عند كورماك ماكارثي. ولم يتجاوز الأدب الحديث ياجو، الذي لا يزال يعتبر شيطان الغرب الكامل، فهو فائق باعتباره عالمًا نفسيًّا، وكاتبًا مسرحيًّا، وناقدًا دراميًّا، ولاهوتيًّا سلبيًّا. وقد دفعت الغيرة من شيكسبير برنارد شو إلى أن يقول إن شخصيته «غير متسقة على الإطلاق» فهو في آن واحد «وغد فظ» ومهذب ودقيق.
ولا يكاد يتفق أحد مع شو، وأما الذين يطعنون في قدرة ياجو على الإقناع فهم يميلون إلى القول بأن تصوير عطيل أيضًا يتسم ببعض العيوب. وأما أ. سي برادلي، الناقد الرائع في كل حالة، فيقول إن فولسطاف وهاملت وياجو وكليوباترا «أروع» شخصيات شيكسبير، وإذا كنت أستطيع أن أضيف روزالند ومكبث حتى تكتمل لنا الأعجوبة السداسية، فسوف أعلن اتفاقي مع برادلي، فهؤلاء أعظم ما ابتكر شيكسبير، وكل منهم يدفع الطبيعة البشرية إلى بعض حدودها، من دون انتهاك هذه الحدود. فلماحية فولسطاف، والتكثيف العميق وإن يكن كاريزميًّا عند هاملت، ونبل الروح عند كليوباترا، تجد لها خصائص منافسة في المخيلة القارئة للمستقبل عند مكبث، والتحكم في جميع المنظورات عند روزالند، وعبقرية ياجو في الارتجال. فإن ياجو لا يقتصر على الفظاظة ولا على الدقة، بل هو دائمًا ما يعيد خلق شخصيته الإنسانية وشخصيته الأدبية تحت شعار «لست أنا ما أنا عليه». وأما الذين يتشككون في قدرة ضابط محترف في الثامنة والعشرين من عمره على أن يتسم بهذه العبقرية السلبية الرفيعة، فقد يكون من حقهم أيضًا أن يتساءلوا: كيف تأتَّى لمُمثِّل مُحترِف في التاسعة والثلاثين من عمره، مثل شيكسبير، أن يَتخيَّل الوجود المُقْنع «لنصف الشيطان» المذكور (وهو الوصف الذي يطلقه عطيل أخيرًا على ياجو). ونحن نعتقد أن شيكسبير هجر العمل بالتمثيل قُبَيْل تأليف عطيل، ويبدو أنه قام بآخر أدواره في العبرة بالخاتمة. هل توجد علاقة بين التَّخلِّي عن دور الممثل وابتكار شخصية ياجو؟ الواقع أن شيكسبير كتب، في الفترة الواقعة بين كتابة العبرة بالخاتمة وكتابة عطيل، مسرحية دقة بدقة، باعتبارها الوداع للكوميديا المسرحية. ففي دقة بدقة نجد شخصية دوق فنشنتيو الغامضة، على نحو ما سبق أن ذكرت، وهي التي تتضمن، فيما يبدو، بعض صفات ياجو، وقد ترتبط أيضًا بتخفف شيكسبير من عبء الأداء المسرحي. والواضح أن شيكسبير كان ممثلًا قديرًا متنوع القدرات، لكنه لم يلعب أدوار البطولة قط، وربما كان آنئذٍ يحتفل برؤية جديدة لطاقات الممثل في حالات الارتجال عند فنشنتيو وياجو.

وربما كان برادلي في تمجيده لفولسطاف وهاملت وياجو وكليوباترا متأثرًا بطابع التمسرح الواعي إلى حدٍّ بعيد والمضفر في أدوارهم. فإن فولسطاف، الذي يتمتع شخصيًّا باللماحية، يحفز الآخرين عليها من خلال أدائه، وهاملت — المحلل التراجيدي — يناقش كل من يقابله، دافعًا إياهم إلى الكشف عن ذواتهم، وأما كليوباترا فهي دائمًا فوق خشبة المسرح — تعيش وتحب وتموت فوقها — وسواء كانت تتوقف عن الأداء المسرحي، عندما تنفرد بصحبة أنطونيو، أو لا تتوقف، فلن نستطيع أن نعرف أبدًا لأن شيكسبير لا يصورهما وحدهما قط، إلا مرة واحدة وبالغة القصر. ربما كان ياجو، قبل رفض عطيل له، لم يكتشف بعد عبقريته الدرامية، فإنها تبدو أكبر العواقب البرجماتية للسقوط، بمجرد انتهاء تعرض إحساسه بالعدم للصدمة الأولية. وعندما نسمعه أول مرة في بداية المسرحية، نجد أنه يتمتع فعلًا بحرية الممثل أي بالتمسرح:

لا تَقْلَقْ يا صَاحِ فإنِّي أَتْبَعُهُ كي أَثْأَرَ مِنْه!
لا يستطيعُ كلُّ النَّاسِ أن يكونوا سَادَةً.
أو يستطيعُ كُلُّ سَيِّدٍ أنْ يَضْمَنَ الإخلاصَ في أَتْبَاعِهِ!
انظرْ تشاهدْ كَمْ مِنَ الأتباعِ يَحْني رُكْبَتَيْهِ خَانعًا
وَلَهُ وُلُوعٌ بالخُشُوعِ وطَاعَةِ الرِّقِّ الذَّلِيلَة.
حَتَّى لَيُفْنِي عُمْرَهُ مثلَ الحِمَارِ فلا ينالُ إلا ما يُقِيمُ أَوَدَهْ
من صاحِبِهْ! وعندما يُصِيبُهُ الهَرَمْ … يُحَالُ لِلتَّقَاعُدْ!
أَقْبِحْ بِهِمْ مِنْ مُخْلِصِينْ!
لكنَّ ثَمَّةَ آخَرين يُظْهِرُونَ الانْصِيَاعَ والخُضُوعَ في شتَّى الصُّوَرْ.
وقُلُوبُهُمْ دَوْمًا بِحُبِّ ذَوَاتِهِم مُفْعَمَةٌ!
كلُّ الذي يُبْدونَهُ هو مظهرُ الخِدْمَاتِ لِلأَسْيادِ حتَّى يَغْتَنُوا.
فإذا اكْتَسَوْا حُلَلَ الثَّرَاءِ بالخِدَاعِ أَسْقَطُوا القِنَاعْ
وقَضَوْا مَصَالِحهَمْ وحَسبْ! نُفُوسُ هَؤُلاءِ حَيَّةٌ جَسُورَةٌ.
ولا أُخْفِيكَ أَنِّي واحدٌ منهم!
(١ / ١ / ٤٠–٥٤)

ويؤكد لنا ياجو أن الممثل وحده هو الذي لديه «بعض الروح»، وأما سائر الناس فيفصحون عن مشاعرهم ولا يكتمونها. ولكن هذه هي البداية وحسب لحياة الممثل العملية، ففي هذه اللحظة المُبكِّرة نجد أن ياجو لا يبغي إلا إحداث الضرر؛ إذ يثير برابانتيو، والد ديزدمونا، ويخلق مشاجرات في الشارع. إنه يعرف أنه يستكشف عملًا جديدًا، لكنه لا يكاد يدري بما يَتمتَّع به من عبقرية. وفي هذه الأثناء، أي بينما يَستجْمِع ياجو قُوَّته، يركز شيكسبير على تصوير عظمة عطيل «المتأرجحة»، والقيمة الإنسانية الفائقة لدزدمونا، وقبل أن أتحول إلى المغربي وعروسه أَودُّ أن أزيد من الصدارة التي أمنحها لياجو، الذي يَتطلَّب بذل جهد استنباطي مساوٍ للجهد المبذول مع هاملت وفولسطاف.

إن كلًّا من ريتشارد الثالث وإدموند له والد، ولكن شيكسبير لا يقدم لنا أي أسلاف لياجو. ونحن نستطيع أن نحدس علاقة حامل الراية السابقة بقائده الفائق، فما الذي نستطيع استنباطه عن زواجه بإميليا؟ إننا نسمع الخطأ الغريب الذي يرتكبه ياجو عندما يذكر كاسيو أول مرة، قائلًا: «يكاد أن تصيبه قرينة جميلة باللعنة.» ولا يبدو أن هذا القول خطأ شيكسبير بل رمز لانشغال ياجو إلى حَدِّ الهَوَس بالزواج باعتباره لعنة، ما دامت بيانكا خليلة لكاسيو وليست حليلة. وأما إميليا فنحن نشهد صورتها الصادقة، وسوف تكون الأداة التي تهدم رنة ياجو بالنصر على ما في هذا من مفارقة، وهو ما يكلفها حياتها نفسها. وأما عن العلاقة بين هذين الزوجين الفريدين فإن شيكسبير يتيح بعض التلميحات اللاذعة. إذ يقول لنا في وقت مبكر في المسرحية شيئًا لا يصدقه ولا نصدقه، لا بسبب أي إجلال لإميليا؛ بل لأن عطيل أرفع من أن يفعل ذلك:

فالظَّنُّ الشَّائِعُ أَنَّ الرَّجُلَ قَضَى في فَرْشِي وَطَرَهْ!
لا تَأْكيدَ لَدَيَّ إذا كانَ الظَّنُّ صَحِيحًا … لكِنَّ الشُّبْهَةَ في
هذا الأَمْرِ دَلِيلٌ كافٍ في نَظَرِي لا يُعْوِزُهُ الإِثْبَاتْ.
(١ / ٣ / ٣٨٦–٣٨٩)

وفي وقت لاحق يعبر ياجو في جملة اعتراضية عن «مُجرَّد الاشتباه» نفسه في كاسيو قائلًا: «فإنني أشك أن كاسيو قد ارتدى ثياب مضجعي كذلك.» ولنا أن نحدس أن ياجو ربما أصبح يعاني من العجز الجنسي نتيجة حنقه لتخطيه في التَّرْقِية، فغدَا على استعداد للاشتباه في أن إميليا وَطِئها كل ذَكَر في المسرحية، من دون اهتمام كبير من أي نوع. وعندما تقوم إميليا بالتسرية عن دزدمونا بعد أول سَوْرة غضب بدافع الغيرة من جانب عطيل، تُلَخِّص زواجها الخاص أيضًا قائلة:

لا يَمْضِي عامٌ أو عامانْ … حتى يَسْقُطَ كُلُّ قِنَاعٍ يَلْبَسُهُ الرَّجُلُ!
ما الرَّجُلُ سِوَى مَعِدَة … والمَرْأَةُ لا تَعْدُو بَعْضَ طَعَامٍ
يَأْكُلُهُ في نَهَمٍ حتَّى يَشْبَع … فإذا امْتَلأَ إذا هُوَ يَلْفِظُهُ لَفْظًا!
(٣ / ٤ / ١٠٤–١٠٧)
هذه هي الرؤية الجنسية لمسرحية طرويلوس وكريسيدا وقد نُقلت إلى ساحة أكبر، وإن لم تكن أقل عفونة؛ لأن عالم مسرحية عطيل ينتمي إلى ياجو. ولن نقتنع بقول القائل إن عطيل رجل سويٌّ وياجو غير سويٍّ، فإن ياجو عبقرية زمنه ومكانه، وكيانه إرادة خالصة. ورغبته المشبوبة في التدمير هي العاطفة الخلاقة الوحيدة في المسرحية. ومثل هذا الحكم بالضرورة حالكٌ مُدلَهمٌّ، ولكن الواقع أن هذه أشد مسرحيات شيكسبير إيلامًا. وتتسم مُسرحِيَّتا الملك لير، ومكبث بدياجير أثقل وطأة، ولكن ظلامهما ظلام الرِّفْعة السلبية. والرِّفْعة الوحيدة في عطيل رفعة ياجو، وتصور شيكسبير له نهائي قاطع حتى إن تنقيحه للنص ما بين طبعة الكوارتو وطبعة الفوليو يوسع إحساسنا ويشحذه بإميليا في المقام الأول، وبعطيل ودزدمونا ثانيًا، لكنه لا يكاد يمس ياجو. وكان شيكسبير على حق في عدم الحاجة إلى تنقيح دور ياجو، فهو يمثل الكمال في إرادة الشر وعبقرية الكراهية. ولا مراء في أن ياجو يشغل المكانة الأولى في المسرحية، فهو يلقي ثمانية مونولوجات وعطيل يلقي ثلاثة.
إن إدموند يَتفوَّق في الذكاء وفي التآمُر على كل شخص آخَر في الملك لير، ولكنه يندحر بفضل الصمود المصابر لإدجار الذي يتطور من ضحية صديقه إلى مُنتَقم جبار شديد البأس. وأما ياجو الذي يُعتَبر السيد المسيطر سيطرة كاملة على هذه المسرحية، فتَهزِمه آخِرَ الأمر إميليا، التي نقح شيكسبير دورها فأكسبها شجاعة الصناديد؛ إذ تُبدِي استعدادها للموت حفاظًا على السمعة الطيبة لدزدمونا القتيلة. وكان لدى شيكسبير انشغال تراجيدي بفكرة السُّمعة الطيبة التي تحيا بعد موت الأبطال، فإن هاملت، على الرغم من قوله إن أحدًا لن يعرف قط أي شيء مما خلَّف وراءه، يحث هوراشيو على مواصلة العيش حتى يدافع عمَّا يمكن أن يصيب اسم الأمير المجروح. ولسوف نسمع عطيل وهو يحاول استعادة بعض سمعته الطيبة أو إنقاذها في خطاب انتحاره؛ إذ إن الأحكام النقدية يتعذر إصدارها تمامًا بعد هذا الخطاب. وإذا كانت المرثية الجنائزية ﻟ «وِلْ بيتر» من تأليف شيكسبير فعلًا (وأنا أرجح ذلك) فإن الشاعر المسرحي كان في عام ١٦١٢م، قبل وفاته في الثانية والخمسين بأربع سنوات، مشغولًا إلى حدٍّ كبير باسمه الذي حاقَتْ به وصمة واضحة.

ويُعْتَبر انتصار إميليا على ياجو من أعظم المَشاهد القائمة على التورية الساخرة عند شيكسبير، وهي تشكل بحق أعظم اللحظات المدهشة في المسرحية:

إميليا : يا إِلَهي! يا إِلَهَ السَّمَاءْ!
ياجو : أَقْسَمتُ أَمْسِكي لِسَانَكْ!
إميليا :
الحقُّ سَيَظْهَرُ حَتْمًا! هلْ أَسْكُتُ عَنْهُ الآنْ؟ كَلَّا!
بَلْ أَتَكَلَّمْ! وبِحُرِّيَّةِ أَنْسَامِ الجَوِّ! فَلْتَحْكُمْ بالعَارِ عَلَيَّ
سَماءُ الكَوْنِ وأَهْلُ الأَرْضِ مِنَ الإِنْسِ أَوْ الجِنِّ!
لكنِّي سَوْفَ أَبُوحْ!
ياجو : كُوني عَاقِلَةً! عُودِي لِلْمَنْزِلْ!
إميليا : كَلَّا!

(ياجو يجرد سيفه ويحاول طعن إميليا.)

جراتيانو : تبًّا لَكَ! هَلْ تَشْهَرُ سَيْفَكَ ضِدَّ امْرَأَةٍ؟
إميليا :
يا لَبَلادَةِ عَقْلِكَ يا ابْنَ المَغْرِبْ! أمَّا المِنْدِيُلُ المَذْكُورْ
فَلَقَدْ كُنْتُ عَثَرْتُ عَلَيْهِ — ومُصَادَفَةً — ودَفَعْتُ إِلَى زَوْجِي بِهْ!
إذْ ما أكثرَ ما طَالَبَنِي بِحَمَاسٍ لا يَتَّفِقُ
وقيمةَ هذَا المِنْدِيلِ التَّافِهِ أنْ أَسْرِقَهُ لَهْ!
ياجو : عاهرةٌ شِرِّيرَة!
إميليا :
هل قُلْتَ إنِّها أَعْطَتْهُ (لكاسيو)؟ لا والله وَا أَسَفَا!
إنِّي كنتُ عَثَرْتُ عَلَيْه … وَأَنَا أَعْطَيْتُ المِنْدِيلَ لِزَوْجِي!
ياجو : هذا كَذِبٌ يا قَذِرَة!
إميليا :
بَلْ أُقْسِمُ باللهِ هُوَ الصِّدْقُ! إنِّي صَادِقةٌ يا سَادَة!
يا قَاتِلْ! يا أَبْلهْ! ما شَأْنُ غَبِيٍّ مِثْلِكْ
بامْرَأَةٍ صَالِحَةٍ طَاهِرَةٍ حَقًّا؟
عطيل :
أَلَيْسَ في السَّمَاءِ مِنْ صَوَاعِقٍ تَرْمي الحِجَارَة —
إلَّا بِمَا تَأتي الرُّعُودُ بِهِ؟ وَغْدٌ لَئِيمْ!

(يهجم على ياجو لكن ياجو يطعن إميليا.)

جراتيانو : المَرْأَةُ تَتَهاوَى! قَدْ قَتَل ولا شَكَّ امْرَأَتَهْ!
إميليا : نَعَمْ! أَرْجُو الرُّقَادَ في جِوَارِ مَوْلَاتِي!

(يخرج ياجو.)

جراتيانو : لقد هَرَبْ! مِنْ بَعْدِ قَتْلِ زَوْجته!
(٥ / ٢ / ٢١٦–٢٣٦)

المشهد يدهشنا ولكنه يصدم ياجو، بل إنه أول خيبة له منذ تَخطِّي كاسيو له في الترقية. كيف تأتَّى لإميليا أن تفقد حِكْمتها الدنيوية وتصبح حرة مثل ريح الشمال؟ ذلك هو الاحتمال الوحيد الذي لم يستطع ياجو التَّنبُّؤ به. وعجزه عن فَهْم أفضل جانب من جوانب زوجته — أي حبها لدزديمونا واعتزازها بها — هو الخطأ الوحيد الذي لا يستطيع أن يصفح لنفسه عنه. وهذا هو اللحن الدفين في السطور الأخيرة التي سوف يسمح لنفسه بقولها على الإطلاق، وهي موجهة إلينا مثلما يوجهها إلى عطيل أو إلى كاسيو:

عطيل :
أَرْجُوكُموُ أنْ تَسْأَلُوا الشَّبِيهَ بالشَّيْطَانِ إيضَاحًا
لِمَا حَدَاهُ لِلإِيقَاعِ بي جِسْمًا ورُوحًا في حَبَائِلِهْ
ياجو :
لا تَسْأَلُونِي أي شيء! فَمَا عَرَفْتُمُوهُ قَدْ عَرَفْتمُوُهْ
ولَنْ أَفُوهَ بَعْدَ الآنَ مُطْلَقًا بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ!
(٥ / ٢ / ٢٩٨–٣٠١)

ترى ما الذي نعرفه أكثر مما يعرفه عطيل وكاسيو؟ إن التورية الدرامية الفائقة عند شيكسبير تتجاوز حتى ذلك السؤال لتشمل قضية أدق وهي السماح لنا بأن نعرف شيئًا عن ياجو لا يستطيع حامل الراية، على الرغم من عبقريته، أن يعرفه. فإن ياجو حانق؛ لأنه لم يستطع أن يتوقع، بخياله الدرامي، غضب زوجته الشديد لا بسبب مقتل دزديمونا وحسب بل بسبب احتمال تلويث سمعتها إلى الأبد. إن الشبكة التي نسجها ذلك الفنان تتسم بكل ما تتسم به الحرب، مثل اللعبة، من سحر، ولكنها لا مكان فيها لغضب إميليا الصادق. فحيثما كان ينبغي أن يثبت أعظم فطنة له — أي داخل زواجه — أصاب ياجو الخواء والعمى. أي إن العالِم النفسي الفائق الذي استطاع تفكيك عطيل، وتمكَّن من التلاعب، بمهارة، بدزديمونا وكاسيو ورودريجو والآخَرين جميعًا، يقع غاضبًا في المصير الذي دَبَّره لضحيته الأولى، المغربي، ويصبح قاتل زوجة آخر. لقد أضرم النار في نفسه أخيرًا.

٢

ما دامت الدنيا [في المسرحية] تنتمي إلى ياجو، فليس من المحتمل أن أكون قد انتهيتُ من عرض شخصيته بل سوف أعود إلى فحصها في إطار النظرة الشاملة إلى المسرحية، ولكن بعد تأمُّل الألغاز الكثيرة عند عطيل. فإذا كان شيكسبير قد منح هاملت، ولير، ومكبث فصاحة مُستمِرة وتكاد تكون خارقة، فقد اختار، بدلًا من ذلك، أن يمنح عطيل طاقة تعبير تتسم بالاختلاط الغريب، فهي متميزة ولكنها مُنقسِمة، وبها عَوار مقصود. فالتمسرح عند ياجو فائق، ولكن تمسرح عطيل يتسم بوعورة مُعيَّنة. فالمغربي يقول لنا إنه قضى حياته مقاتلًا منذ أن كان في السابعة من عمره، وهي على الأرجح مُبالَغة وإن كانت تدل على أنه يدرك إدراكًا تامًّا أنه لاقى الصعاب والمشقة في الوصول إلى العظمة. أي إن وعيه الذاتي بمهنته عميق بصورة فذة، وهذا محتوم من جانب مُعيَّن، ما دام يعتبر من «المرتزقة» من الزاوية التقنية، بمعنى أنه جندي أسود يطلب الثراء، ويخدم دولة البندقية بشرف وإخلاص. ومع ذلك فإن إحساسه العميق بسمعته يشي بما يمكن أن يوصف بأنه قلقٌ أحيانًا ما يَتجلَّى في الأبنية الباروكية ذات الفخامة في لغته، وهي التي يهجوها ياجو واصفًا إياها «بالكنايات التي يثقلها/بالكثير الملتوي من كل أوصاف الحرب».

إننا نسمع هذا القائد الحربي القادر على تشبيه حركات ذهنه «بالتيارات الباردة المندفعة في البحر الأسود بحوافز لا تهدأ» فندرك أن عطيل لا يستطيع أن يرى نفسه إلا في صور ذات جلال وهيبة، فهو يقدم نفسه باعتباره أسطورة حية أو خرافة تمشي على قدمين، وأنبل من أي روماني عريق. ويقول الشاعر أنطوني هيكْت إن شيكسبير يريدنا أن نتبين «غرورًا مضحكًا متوترًا» عند عطيل، ولكن مهارة شيكسبير في ضبط المنظور تتجنب مثل هذا «التبين» المفرد. فإن عطيل يتسم بسمة من سمات يوليوس قيصر عند شيكسبير، فالغموض في هذا وذاك يجعل من بالغ الصعوبة رسم الخطوط التي تفصل بين الخيلاء والجلال. فإذا كنت تؤمن برب الحرب قيصر (مثلما يؤمن أنطونيو) أو برب الحرب عطيل (كما كان ياجو يؤمن به ذات يوم) فلن تتوافر لك الراحة اللازمة لتأمل عيوب الرب. لكنك إن كنت كاشياس، أو ياجو بعد السقوط، فسوف تكابد حتى تشهد نقاط الضعف المُقَنَّعَةَ بالربانية. ويميل عطيل، مثل قيصر، إلى الإشارة إلى نفسه بضمير الغائب، وهي عادة مزعجة إلى حدٍّ ما، في الأدب وفي الحياة. ومع ذلك فإن عطيل، مثل يوليوس قيصر أيضًا، يؤمن بأسطورته الخاصة، وإلى حدٍّ ما، لا بد لنا أن نؤمن بها أيضًا؛ لأن لغة روحه تتميز بنبل صادق. ولا نستطيع أن ننكر انعدام شفافيتها أيضًا، وتكمن مأساة عطيل، على وجه الدِّقَّة، في أن ياجو يعرف المغربي خيرًا مما يعرف المغربي ذاته.

إن عطيل قائد عظيم، وهو يعرف الحرب وحدود الحرب، ولكنه لا يكاد يعرف غير ذلك، ولا يستطيع أن يعرف أنه لا يعرف. وإحساسه بذاته عريض شاسع، وذلك لأن نطاقها بالِغ الاتساع، ولكنه يرى نفسه من مسافة بعيدة، إن صح هذا التعبير؛ إذ إنه إذا اقترب وجد أنه لا يستطيع مواجهة الفراغ في مركز كيانه. وتصور ياجو لتلك الهوة السحيقة يُشَبَّهُ أحيانًا بتصور مونتانيْ، لكنني أشبهه بتصور هاملت؛ لأن ياجو يشبه عنصرًا واحدًا من عناصر أمير الدنمارك ذي التنوع اللانهائي، وهذا العنصر هو أن ياجو قد تجاوَز مذهب الشك وعَبَر الحدود إلى العدمية. ويتمتع ياجو ببصيرة نفاذة تقول إنه إن كان قد انخسف فأصبح عدمًا بسبب تَخطِّي كاسيو له في الترقية، فما مدى الضعف الذي لا بد أن يكون عليه عطيل، وهو الذي يفتقر إلى ذكائه وإرادة لعب الألعاب لديه! أي إن ياجو يرى أن أي شخص يمكن سحقه، وهو في هذه الدراما على حق. فلا يوجد في المسرحية من يتمتع بالذكاء والسخرية اللتين تستطيعان وحدهما التصدي لياجو: فعطيل واعٍ بتمسرحه لكنه بلا حس فكاهي على الإطلاق، ودزدمونا معجزة من الصدق والإخلاص. ويرجع الإيلام الرهيب في مسرحية عطيل إلى أن شيكسبير لا يدرج فيها أية قوة مناوئة لياجو. وفي الملك لير لا يواجه إدموند أيضًا أي شخص يتمتع بالذهن القادر على مقاومته، حتى ينتهي إلى العدم من خلال مُفارَقة رهيبة، وهي خلقه للمنتقم الذي لا اسم له، والذي كان من ضحايا خداعه يومًا ما، ألا وهو إدجار. والواقع أن عطيل، أولًا وأخيرًا، لا حول له في مواجهة ياجو، وهذا العجز هو أشد العناصر إيلامًا في المسرحية، ربما باستثناء العجز المضاعف عند دزدمونا، فيما يتعلق بياجو وزوجها معًا.

من المهم توكيد عَظَمة عطيل، على الرغم من نقاط ضعفه في اللغة وفي الروح. ويحتفل شيكسبير، بأسلوب خفيٍّ، بعطيل باعتباره عملاقًا أي بوجوده وحسب، أي إنه كيان أنطولوجي رائع، ومن ثم فهو إنسان طبيعي رفع ذاته إلى قمة حقيقية وإن تكن متأرجحة. وحتى لو كنا نشك في إمكانية نقاء الأسلحة، فربما يكون عطيل مثالًا لذلك المثل الأعلى المفقود. ففي لحظة مُعيَّنة يكون نقيض شعار ياجو «لست أنا ما أنا عليه» وذلك حتى يبدأ التَّفتُّت تحت تأثير ياجو.

من الواضح أن دزدمونا أساءت اختيار زوجها، ومع ذلك فإن هذا الاختيار يشهد ببهاء عطيل، وفي هذه الأيام التي يعتنق فيها عدد كبير من النُّقاد الأكاديميين «الموضة» الفرنسية الحديثة لإنكار وجود الذات، يُسعد بعضهم أن يشيروا إلى عطيل باعتباره مثالًا مناسبًا. إذ يستهينون بالدقة التي يمكن أن يتصف بها فن شيكسبير، فقد يكون عطيل حقًّا، مبررًا، للملاحظة اللاكانية [أي التي تستند إلى آراء جاك لاكان] التي قدمها جيمز كولدروود:
بدلًا من وجود «جوهر للذات» يمكن اكتشافه في مركز كيان عطيل، فإن كلمة «أنا» التي يقولها عطيل تبدو نوعًا من الفرقة الداخلية لمسرح الربيرتوار، أي «نحن».٢
لو كان عطيل، في بداية المسرحية أو في ختامها، يقتصر كيانه على مجموع أوصافه الذاتية، لأمكن الحكم عليها حقًّا بأنه نزهة فعلية من مجموع نفوس (souls)، ولكن علاقته بضمير الغائب الذي يحيلنا إلى صورته الخاصة للذات (self) لا تشهد بوجود ضمير الجمع «نحن» بل برومانسية دائبة في رؤية نفسه (himself) ووصفها. ويعتبر إلى حدٍّ مُعيَّن ساحرًا ذاتيًّا، إلى جانب كونه ساحرًا لدزدمونا. إن عطيل يريد باستماتة، ويحتاج بشدة، إلى أن يصبح بطلًا لمسرحية شيكسبيرية غرامية، لكنه للأسف البطل الضحية في هذه التراجيديا الشيكسبيرية العائلية الدموية البالغة الإيلام. ويقدم جون جونز ملاحظة جميلة تقول إن لير في نسخة الكوارتو شخصية رومانسية، وبعد أن نقح النسخة شيكسبير أصبح الشخصية التراجيدية التي نعرفها في طبعة الفوليو. وكان عطيل باعتباره ضحية خداع ياجو يمثل مشكلات كبيرة في تمثيله. كيف يمكننا أن نؤمن بالبطولة الأساسية، والضخامة والطبيعة المحبة لمثل هذا البطل ذي النهاية الفاجعة، وما دامت دزدمونة تُمثِّل أروع صورة للحب عند شيكسبير، فكيف نتعاطف مع الرجل الذي يدمرها بصورة يزداد عدم اتساقها، والذي يجعلها أسوأ الزوجات حظًّا؟ إن الرومانس [بمعنى الحب] في الأدب وفي حياة الإنسان، يعتمد على معرفة جزئية أو ناقصة. وربما لا يتجاوز عطيل هذا القدر قط، حتى في خطابه النهائي، ولكن شيكسبير يدرج بحصافته حب عطيل في داخل تراجيديا عطيل، ومن ثم يحل مشكلة التمثيل المتعاطف.

ليست عطيل «قصيدة غير محدودة» تتجاوز النوع الأدبي، مثل هاملت، ولكن عناصر الرومانس في شخصياتها الرئيسية الثلاث تجعلها بالقطع تراجيديا غير مألوفة إلى حدٍّ بعيد. فإن ياجو انتصار؛ لأنه موجود في المسرحية المناسبة على وجه الدقة لشرير ذي وجود لاهوتي، والكريمة دزدمونة مناسبة إلى حدٍّ بعيد لهذه الدراما أيضًا. وعطيل لا يناسبها تمامًا، ولكن هذه معضلته السياسية الاجتماعية، ما دام المغربي البطل يقود القوات المسلحة للبندقية، وهي التي بلغت مرحلة رواقية في الانحلال، آنذاك والآن. ويمزج شيكسبير الواقعية التجارية بالرومانس المثالي في تصويره لعطيل، وكل مزيج لا بد أن يكون غير ثابت حتى في يدي أعظم المبدعين جميعًا. لكننا نظلم عطيل إذا قَدَّمْنا له مظهر العنف، سواء بحرمانه من التمتع بذات إنسانية أو بخفض قيمة خيره وصلاحه. وعلى الرغم من ميل ياجو الدائم إلى الانتقاد فإن لديه إدراكًا عميقًا لطبيعة عطيل بل أعمق مما يقدر معظمنا اليوم على تحقيقه:

ابْنُ المَغْرِبِ ذُو طَبْعٍ حُرٍّ وصَفَاءِ طَوِيَّة.
يُؤْمِنُ بِنَزَاهَةِ مَنْ يُبْدِي مَظْهَرَهَا لَا أَكْثَرْ.
لا يوجد كثير من الأشخاص عند شيكسبير، أو في الحياة، ممن يتمتعون «بطبع حُرٍّ وصفاء طَوِيَّة» وأما افتراض أننا سوف نجد عطيل هُزَأة أو تافهًا فيعني أننا نُسِيء فَهْم المسرحية إساءة فاحشة. بل إنه يثير الإعجاب، وهو طود بين الرجال، لكنه سرعان ما يصبح طودًا محطمًا، وإذا كان بعض من يصورهم شيكسبير، مثل هكتور ويوليسيز وأخيليس في طرويلوس وكريسيدا، لا يزيدون عن المحاكاة الساخرة لأصولهم عند هوميروس (في ترجمة جورج تشابمان) فإن عطيل هوميروسيٌّ تمامًا، وأقرب ما كان شيكسبير يريده من الوصول إلى أبطال تشابمان. ويعتبر عطيل، في حدوده الواضحة «نبيلًا» حقًّا، فإن وعيه، قبل سقوطه، يخضع للسيطرة الكاملة، والإنصاف، ويتسم بوقار هائل، ويتميز بكماله الخاص. وللناقد رويبين براور مقولة رائعة عن عطيل؛ إذ يقول: «إن بساطته البطولية كانت أيضًا عماه البطولي. وذلك أيضًا جزء من «البطل» المثالي، أي جانب من جوانب استعارة شيكسبير.» وأما الاستعارة فلم تَعُد هوميروسية تمامًا، ولا بد من توسيعها لتشمل الطابع المهني لرجل عسكري عظيم من المرتزقة، ولبطلٍ أسودَ يخدم مجتمعًا أبيض منحلًّا إلى حدٍّ بعيد. والطابع المهني الفائق لعطيل يمثل في آنٍ واحد قُوَّته الفَذَّة وحرية سقوطه التراجيدي. والحب بين دزدمونة وعطيل حب حقيقي، ولكنه كان يمكن أن يكون فاجعًا حتى في غياب العبقري الشيطاني ياجو. ولا يوجد في شخص عطيل ما يُؤهِّله للزواج، فإنه يجد في حياته العملية العسكرية تحقيقًا كاملًا لذاته، ونحن نقتنع ببراءة دزدمونا بأعلى معاني البراءة؛ إذ تقع في حب المقاتل الخالص في شخصية عطيل، وهو يقع في حب حُبِّها له، ما دامت تَتجلَّى فيه صورة حياته العملية الأسطورية. وحبهما حبه القائم سلفًا، والزواج لا يغيره ولا يستطيع تغييره، على الرغم من أنه يغير علاقته بدولة البندقية بمفارقة عليا وهي أنه يزيد من عدم انتمائه زيادة أبدية.

لقد عانت شخصية عطيل الهجمات التي شنها عليه ت. س. إليوت، وف. ر. ليفيز وشتى أتباعهما، ولكن «موضات» النقد الشيكسبيري دائمًا ما تختفي، وقد نجا المغربي النبيل ممن قَلَّلوا من شأنه. ومع ذلك فإن شيكسبير يمنح عطيل اللغز الحقيقي الذي يجعله بطلًا يَتَّسم بعيب جذري، كأنما هو آدم ذو الحرية الشديدة التي تَحُول دون سقوطه. ويعتبر عطيل من بعض جوانبه أكبر تمثيل شيكسبيري جارح لغرور الذَّكَر والخوف من الحياة الجنسية للأنثى، وبذلك يصبح جارحًا للمُعادَلة الذكورية التي تَجمَع بين الخوف من خيانة المرأة وجعله ديوثًا، وبين الخوف من الموت، بحيث يصبحان ضفيرة رهيبة واحدة. ويعتبر ليونتيس في حكاية الشتاء من جانب مُعيَّن دراسة في النزعة الجنسية المثلية المكبوتة، ومن ثم فإن غيرته الفتَّاكة تنتمي لنوع مختلف عن غيرة عطيل. ونحن نشعر بالألم حين يقول عطيل في دفاعه الختامي إنه شخص لا يشعر بسهولة بالغيرة، ونعجب من عماه. ومع ذلك فنحن لا نشك قط في بسالته، وهذا من غرابة لحاقه على الأقل بليونتيس في جنون الغيرة. وأعظم نظرة شيكسبيرية في الغيرة الذكورية الجنسية تقول إنها قناع يخفي الذعر من الإخصاء بالموت. فالرجال يتصورون أنه من المحال أن يتوافر لهم ما يكفي من الزمن والمكان، وهم يرون في مصير الديوث، الحقيقي أو المتخيل، صورة لاختفائهم نفسه، أي تَبيُّنهم أن الدنيا سوف تستمر من دونهم.

ويرى عطيل العالَم مسرحًا لصيته المهني، وهذا الجندي المِقدام لا يخشى الموت الفعلي في حَوْمَة الوَغى؛ إذ لن يؤدي ذلك إلا إلى زيادة مجده. أما أن يصبح ديوثًا على يدي زوجته نفسها، ومع مرءوسه كاسيو باعتباره المُذْنِب الآخَر، فسوف يرى في ذلك مجازيًّا صورة الموت في الحياة؛ إذ لن تنجو سمعته من هذه الوصمة، خصوصًا بسبب رؤيته الخاصة لصيته الأسطوري. إن شيكسبير ذو لمسة شيطانية رفيعة هنا، وبأسلوب يتجاوز حتى عبقرية ياجو؛ إذ يجعل ضعف عطيل متفقًا بدقة مع الجرح الذي تَلقَّاه احترام ياجو لذاته عندما تَعرَّض للتخطي في الترقية. وإذا كان ياجو يقول «لست أنا ما أنا عليه.» فقد يُصْبِح فقدان عطيل للكرامة الوجودية أكبر من هذا لو أن دزدمونا «خانته» (وأنا أضع الكلمة بين علامات تنصيص لأن الاستعارة المُضْمَرة هنا تُمثِّل انتصارًا للغرور الذكوري). لقد خاطر عطيل بإحساسه بوجوده بوعي ذاتي كامل، بعد أن اكتسبه بمشقة، بزواجه من دزدمونا، وهو يرى المستقبل بدقة، خشية الوقوع في هوة العماء لو أدَّتْ مخاطرته إلى كارثة:

عِفريتةٌ مُمْتَازَة! فَلْيُكْتَب الهَلَاكُ لِي
إنْ لمْ أكُنْ أُحِبُّكْ! ويَوْمَ يَنْتَهي هذَا الغَرَامُ
يَعُودُ لِلْكَوْنِ العَمَاءْ!
(٣ / ٣ / ٩٠–٩٢)

وتوجد إشارة سابقة إلى القلق الذي يساور عطيل، وهي من أدق لمسات المسرحية:

ولْتَعْلَمْ يا «ياجو»
أنِّي لَوْلا حُبِّي لِسَلِيلَةِ بَيْتِ المَجْدِ «دزدمونا»
ما كنتُ لأَقْبَلَ وَضْعَ قُيُودٍ تَحْبِسُ حُرِّيَةَ ذَاتي
حتَّى لَوْ أُعْطِيتُ كنوزَ بِحَارِ الأَرْضِ جَمِيعًا!
(١ / ٢ / ٢٤–٢٨)

ولا بد للجمهور أن يتولَّى إعادة بناء «التركيب» النفسي لعطيل مستندًا إلى أنقاضه إن صح هذا التعبير؛ لأن شيكسبير لا يُقدِّم لنا «الصدارة» الكاملة له، فهو يلمح لنا أنه لولا دزدمونا ما تزوج عطيل قط، بل إنه يصف بنفسه نشأة الغرام والخطبة التي كان دوره فيها سلبيًّا بصفة أساسية:

وشاقَ أنْ تُصْغِي لِذَاكَ «دِزْدِمُونا»
لكنَّ شُغْلَ المَنْزِلِ الكثير كانَ يقتضي انْصِرَافَها
فَتَنْتهي مِنْهُ بِأَقْصَى سُرْعَة.
كَيْمَا تعودَ لالْتِهَامِ ما أَقُصُّهُ بِأُذْنٍ نَهِمَة!
وعندما لاحظتُ ذاكَ رُمْتُ سَاعَةً مُنَاسِبَة.
وآنَذَاكْ — جَعَلْتُها تَسْأَلُني بكلِّ صِدْقٍ واشْتِيَاقٍ
أنْ أَقُصَّ رِحْلَتِي عليها كامِلَة.
بَدلًا من الشَّذَرَاتِ والنُّتَفِ التي
سَمِعَتْ بِهَا في تِلْكُمُ الأَثْنَاءِ دُونَ تَسَلْسُلٍ!
أَجَبْتُ سُؤْلَها وكمْ نَزَحْتُ الدَّمْعَ من عَيْنِ الفَتَاةِ
حينَ قَصَصْتُ بعضَ ما عانَيْتُ في صَدْرِ الشَّبَابِ مِنْ مِحَنْ!
وعِنْدَمَا فَرَغْتُ منْ رِوَايَتِي
أَخَذْتُ أَجْرًا سَابِغًا … بَحْرًا من الزَّفَرَاتِ والآهاتِ!
بل أَقْسَمَتْ بأَنَّها حقًّا لَقِصَّةٌ غَرِيبةٌ … جِدُّ غَرِيبة!
وإنها تُذْكي مَكَامِنَ الشُّجونِ والأَسَى!
وقالتْ ليتَ أَنِّي ما سَمِعْتُها، لكنَّها تَمَنَّتْ
لوْ أنَّ رَبَّ الكَوْنِ أَبْدَعَ خَلْقَهَا رَجُلًا كمِثْلي!
وبعد أنْ أَزْجَتْ إليَّ الشُّكْرَ قالتْ إنَّها تَرْجُو
إنْ كنتُ أعرِفُ صَاحِبًا يُحِبُّها
فَمَا عَليَّ إلَّا أنْ أُعَلِّمَهْ
كيفَ يَقُصُّ قِصَّتي وسوفَ تَرْضَى بالزَّوَاجِ مِنْه!
وعندَها أَفْصَحْتُ عن مَشَاعِري
لَقَدْ أَحَبَّتْني لِمَا شَهِدْتُهُ من المَخَاطِرِ
أما أَنَا فَعَشِقْتُ ما أَبْدَتْهُ منْ عَطْفٍ وإشْفَاقٍ عَلَيَّ!
(١ / ٣ / ١٤٦–١٦٩)

وما أبْدَتْه دزدمونا يزيد في الواقع عن «التلميح» ويكاد يُشَكِّل خطبة مباشرة جسورة، من جانب دزدمونا. وما دام المنافسون من أبناء البندقية يقتصرون بوضوح على أمثال رودريجو، فإن دزدمونا تستجيب طائعة لغواية «الرومانسة» القوية للذات، التي تتسم بالقوة على سذاجتها، والمثيرة «لعالَم من القُبَل». فالمغربي ليس نبيلًا وحسب، ولكن أسطورته تجعل فتاة «لم تعرف يومًا معنى الجرأة» (شهادة والدها) «تَعْشَق من تخشى أن تبصر وجهه.» ولكن دزدمونا، الرومانسية الرفيعة التي تسبق عصرها بقرون، تستسلم إلى سِحْر المطلب، إن كانت كلمة تستسلم يمكن أن تكون الكلمة الصحيحة التي تصف موقفها الإيجابي في الاستسلام، ولا يصور شيكسبير علاقة حب لا يرجحها الخيال ويتحتم أن تنتهي بفاجعة مثل هذه العلاقة. بل كيف يمكن أن يصبح هذا الحب غير المُتوقَّع ذا أُلْفَة «منزلية» في البندقية وفي قبرص التي غاب عنها ياجو؟ وها هي ذي لحظة العاصفة المشبوبة العليا بين عطيل ودزدمونا عند اجتماع شملهما في قبرص:

عطيل : زوجتي الجميلة المُحَارِبَة!
دزدمونا : زوجي عطيل الحبيب.
عطيل :
لا يَعْدِلُ دَهْشَتيَ البالغةَ سوى فَرَحِي الطَّاغِي
لِوُصُولِكِ قَبْلي! آهٍ يا فَرْحَةَ رُوحي!
لو أَعْقَبَ كُلَّ عَوَاصِفِنَا هذا الصَّحْوُ الصَّافِي
لَرَجَوْتُ هُبُوبَ الرِّيحِ إلى أنْ تُوقِظَ مَوْتَانَا
ورَجَوْتُ السُّفَنَ الجاهدةَ بأنْ تَصْعَدَ أَعْلَى جَبَلٍ في المَوْجِ
كِمثْلِ الأُوليمبْ ثُمَّ تعودُ لِتَهْوِي في قَاعِ المَوْجَةِ
مثلَ السَّاقِطِ من فِرْدَوْسٍ لَحِضِيضِ سَقَرْ!
لوْ حَانَ الموتُ الآنَ لكنتُ بِهِ أَسْعَدَ أَهْلِ الأَرْضْ!
فأَنَا أَخْشَى بعدَ هَنَائِي المُطْلَق في هَذِي اللَّحْظَةِ
ألَّا يتلوه هَنَاءٌ يَعْدِلُهُ في أيدي مَجْهُولِ الأَقْدَارْ!
دزدمونا :
لا قَدَّرَ اللهُ إلَّا أنْ يَكْبُرَ الحُبُّ والسَّعْد
في قَابِلِ الأَيَّامْ!
عطيل :
أَقُولُ آمِينَ يا إِلهي!
لا أَسْتطيعُ أنْ أقولَ ما مَدَى سَعَادَتِي
فإنَّها تكادُ أنْ تُمْسِكَ أنفاسي!
قد زَادَتِ الفَرْحَةُ عن حُدُودِها! وهَذِهِ وهَذِهِ [يُقَبِّلها].
لَعَلَّها تكونُ غايةَ النَّشَازِ بين مُوسِيقى القُلُوبْ!
(٢ / ١ / ١٨٠–١٩٦)

إذا بلغ المرء هذه القمة في «العبادة» فلن يكون أمامه إلا الهبوط، حتى إن لم تكن الجوقة التي ترد عليه تتكون من ياجو الذي يقول جانبًا إنه سوف يرخي أوتار المزهر ذات الأنغام المنضبطة حتى يبدأ النشاز. فشيكسبير (كما ذكرت آنفًا، مُتَّبِعًا مُعَلِّمي الدكتور جونسون) كان يكتب الكوميديا ومسرحيات الحب بيُسر تمليه طبيعته، لكنه كان يكتب التراجيديا بعنف وبالتباس الدلالات. وربما كانت عطيل مُؤلِمة لشيكسبير مثلما جعلها مُؤلِمة لنا. فإن وضع النبل المتأرجح عند عطيل والرومانسية الهشة عند دزدمونة على خشبة مسرح واحدة مع المذهب الجمالي الصادي عند ياجو (سلف جميع نقاد الأدب المُحْدَثين) كان في ذاته عملًا جسورًا أصاب الشاعر والكاتب المسرحي بجرح مُعيَّن. ويسعدني أن أحيي الآن الحدس الرومانسي الذي غدَا الآن موضع سخرية، والذي يقول إن شيكسبير كان يشعر بألم شخصي، قل إنه جرح غرامي جنسي، وإنه حمله معه في التراجيديات الرفيعة، وخصوصًا عطيل. ولكن شيكسبير ليس بطبيعة الحال اللورد بايرون، الذي كان يستعرض بصورة فاضحة أمام أوروبا الصورة الجذابة لقلبه الدامي، ولكن الألم الذي لا يُصدق والذي نكابده ونحن نشهد عطيل وهو يقتل دزدمونا يغذوه عمق خاصٌّ وعمق عامٌّ معًا. وهكذا فإن مقتل دزدمونا يُمثِّل المَعْبَر من الكون المُتدفِّق في هاملت إلى الخواء الكوني عند لير ومكبث.

٣

إن مسرحية هاملت وذهن هاملت يقفان على حافَّة هُوَيَّةٍ مُعيَّنةٍ، ما دام كل شيء يحدث لأمير الدنمارك يبدو من قبل كونه الأمير نفسه، ولا نستطيع أن نقول إن ذهن ياجو ومسرحية عطيل يتسمان بالتَّوحُّد؛ لأن ضحاياه يمتازون بعظمتهم الخاصة. ولكن الحدث الدرامي ينتمي إليه حتى تسقطه إميليا، وأما مأساة تراجيديا عطيل ودزدمونا فتنتمي إليهما. وحدث في عام ١٦٠٤م، أن كَتَب قَصَّاص مجهول تعليقًا يقول: «إن تراجيديات شيكسبير يَركَب فيها الكوميدي جواده والتراجيدي يقف على أطراف أصابع قدميه.» وكانت هذه المُلاحظة خاصة بالأمير هاملت الذي «أرضى الجميع»، ولكنها تلقي الضوء بأسلوب أدق على مسرحية عطيل؛ حيث يركب شيكسبير بصفته الكوميدية ياجو، حتى حين يقف الكاتب الدرامي على أطراف أصابع قدميه حتى يُوسِّع من حدود فَنِّه الشديد الإيلام. ونحن لا نعرف مَنْ مِنْ أعضاء فرقة شيكسبير قام بدور ياجو أمام بيربيدج الذي كان يؤدي دور عطيل، لكنني سوف أُدْهَش لو لم يكن المُهَرِّج العظيم روبرت آرمين، الذي كان قد قام ولا شك بدور البواب السَّكْران عند المدخل في مكبث، ودور المهرج في الملك لير، وحامل الثعبان في أنطونيو وكليوباترا. والصدمة الدرامية في عطيل تَتمثَّل في ابتهاجنا برنَّة الانتصار ذات الحيوية الفياضة عند ياجو حتى ونحن نخشى عواقب شروره. ويبدو لنا أن باراباس الذي يبتهج بذاته عند مارلو، والذي نسمع أصداءه عند هارون المغربي، وريتشارد الثالث، مُجرَّد صورة مكيافيلية ساذجة عندما نقارنه بياجو الراقي، وهو الذي يضيف إلى باراباس بعض جوانب هاملت حتى يزيد من مذهبه الباطني المتنامي. ونحن في هاملت نواجه الذات الباطنة التي ما تفتأ تنمو، ولكن ياجو لا يتمتع بذات باطنة، بل بِهُوَّة عميقة خصبة، تشبه على وجه الدقة ما عند سليله إبليس عند ميلتون، الذي كان يجد في قاع كل بحر بحرًا أسفله ينفتح انفتاحًا أكبر. واكتشاف إبليس يورثه الألم المُبَرِّح، ولكن اكتشاف ياجو يفعمه بفرحة شيطانية. أي إن شيكسبير يبتكر في ياجو شاعرًا فكاهيًّا ذا صادية غَلَّابة، فهو حاكم عدمية أكبر، يسعده أن يُعِيد ربَّ الحرب الذي كان يَعبُده إلى ليل لم يُخْلَق بعد. هل يمكنك أن تبتكر ياجو ولا تبتهج بما ابتكرتَه، حتى كما نبتهج نحن في استقبالنا الملتبس الدلالة لياجو.

وليس ياجو أكبر من مسرحيته، فهو يناسبها تمامًا، على عكس هاملت الذي يعتبر أكبر حتى من أشد المسرحيات تجاوزًا للحدود. ولقد سبق أن أشرتُ إلى أن شيكسبير أدخل تنقيحات مُهمَّة لكل ما يقوله عطيل ودزدمونا وإميليا، (بل وروديريجو) باستثناء ياجو، فكأنما كان شيكسبير يعرف أنه أصاب تصوير ياجو من أول مُحاوَلة. ولن تجد في الأدب كله شريرًا ينافس ياجو في كمال الصورة، بمعنى أنه لا يحتاج إلى تحسين. ويمتاز وصف سوينبيرن إياه بالدقة «إنه أكمل شر وأقوى نصف شيطان.» وهو «انعكاس بنيران الجحيم لشخصية بروميثيوس.» وقد يبدو بروميثيوس الشيطاني، للوهلة الأولى، صورة رومانسية مبالَغًا فيها، ولكن ياجو المصاب بولع إضرام النار يحث روديريجو قائلًا:

صِحْ واصْرُخْ صَرَخَاتِ الهَلَعِ بِرنَّاتِ الفَزَعِ
كأنَّك شاهَدْتَ حَرِيقًا أَشْعَلَهُ الإهْمالُ بِبَهْمَةِ هذا اللَّيْلِ
بِبَعْضِ المُدُنِ المَأْهُولَة!
(١ / ١ / ٧٤–٧٦)
تقول الأساطير إن بروميثيوس يسرق النار ليحرِّرَنا، ولكن ياجو يسرقنا حتى نصبح علفًا جديدًا للنار. فهو بروميثيوس أصيل، وإن يكن سلبيًّا؛ إذ من ذا الذي يستطيع أن ينكر أن نيران ياجو شاعرية؟ فالأشرار الأبطال عند جون وبستر وسيريل تيرنر (Tourneur) مُجرَّد أسماء على الصفحة إذا قارناهم بياجو، فهم يفتقرون إلى نار بروميثيوس. ومن عند شيكسبير، باستثناء هاملت وفولسطاف، ذو موهبة خلَّاقة مثل ياجو؟ إن هؤلاء الثلاثة وحْدَهم يستطيعون قراءة ما في نفسك، وقراءة كل مَن يقابلونه. ربما كان ياجو هو التعويض الذي طلبه القطب السالب لإحداث التوازن مع هاملت وفولسطاف وروزالند. فاللماحية العظمى، مثل أرفع ضروب التورية الساخرة، تَتطلَّب انضباطًا داخليًّا حتى لا تحرق كل شيء آخر. إن لدى هاملت لا مبالاة، ولدى فولسطاف حياة دافقة، ولدى روزالند كرم نفس ورقة، وليس لدى ياجو أي شيء على الإطلاق، إلا الانتقاد، ومن المحال وجود انضباط داخلي عندما تكون النفس هوة سحيقة. ولدى ياجو حب أوحد وهو الاستمتاع الشديد الذي تزداد إثارته عند اكتشافه عبقريته في الارتجال.

ولما كانت حبكة عطيل في صلبها حبكة ياجو، فإن ارتجال ياجو يُشكِّل قلب التراجيديا ومركزها، والتعليق الذي كَتَبه هازلت على أداء إدموند كين لدور ياجو عام ١٨١٤م، الذي اقْتُطِفَت منه مقدمة هذا الفصل، لا يزال يمثل أبدع تحليل لعبقرية الارتجال عند ياجو، وهو يبلغ قمة التفوق حين يقول إن: «ياجو يطعن الرجال في الظلام ليمنع الملل.» وهذه البصيرة النبوئية تتقدم بياجو إلى عصر بودلير ونيتشه ودوستويفسكي، وهو عصر يظل من عدة جوانب عصرنا الحالي. وليس ياجو من المُستائين الإيطاليين اليعقوبِيِّين؛ أي أحد أفراد سلالة المكيافليين عند مارلو، بل ترجع عظمته إلى أنه يسبقنا بمراحل، على الرغم من أن كل صحيفة وكل نشرة أخبار تحمل إلينا أنباء تلاميذه العاملين على شَتَّى المستويات والنطاقات، من الجرائم الفردية «الصادوماسوكية» إلى الإرهاب والمذابح الدولية. أي إن أتباع ياجو في كل مكان، ولقد لاحظت باهتمام كبير أن عددًا كبيرًا من تلاميذي السابقين، في مستوى مرحلة الليسانس والدراسات العليا، يمارسون حياة عملية «ياجوية» داخل الجامعات وخارجها. وكبار المُفكِّرِين الذكور عند شيكسبير (في مقابل روزالند وبياتريس من بين نسائه) لا يزيدون عن أربعة فقط: فولسطاف وهاملت وياجو وإدموند. ومن بين هؤلاء، يَتميَّز هاملت وياجو بأنهم أصحاب ذائقة جمالية ووعي نقدي ذي قوة شِبْه خارقة، ولكن صاحب الحس الجمالي لا يسود إلا عند ياجو، بتحالف وثيق مع العدمية والصادية.

وأنا أؤكد بصفة خاصة عبقرية ياجو المسرحية والشعرية؛ لأن تقدير ياجو الذي أثق فيه سوف يكون جماليًّا من دون أن يكون كذلك «صادوماسوكي»؛ إذ إن ذلك الخطر دائمًا ما يختلط بأي استمتاع للجمهور بما يكشف عنه ياجو لنا. لا توجد شخصية رئيسية عند شيكسبير يستبعد أن نتماهى معها أكثر من ياجو، ومع ذلك فإن ياجو يتجاوز الرذيلة مثلما يتجاوز الفضيلة وهي ملاحَظة جميلة أدركها سوينبيرن. وكان روبرت ب. هايلمان الذي قد يكون ظالمًا لمكانة عطيل (البطل لا المسرحية) يَستعيض عن ذلك بتحذيرنا بعدم وجود طريق واحد للنفاذ إلى داخل ياجو «فإن الفقر الروحي عند ياجو يجعله عالميًّا، أي إنه أشياء كثيرة معًا، وفي أوقات كثيرة في آنٍ واحد.» وربما كان سوينبيرن متأثرًا بالصادوماسوكية المعتادة عنه، حين بالغ في تقدير مكانة ياجو؛ إذ يتنبأ بأن وقوف ياجو في الجحيم ستكون مثل وقفة فاريناتا [المُهَرْطِق الإيطالي] إذ يقف منتصبًا في قبره «كأنما كان يُضْمِر احتقارًا شديدًا للجحيم». ولا تكاد توجد في جحيم دانتي حلقة لا يمكن أن ينزل فيها ياجو، فإن طاقته على الشر هائلة.

وما دمتُ أُفسِّر شخصية ياجو بأنه عبقرية قادرة على ارتجال الدمار للآخَرِين، وهي الوصية التي وُلِدَت من رحم تشتيته الوجودي على يدي عطيل، فإنني أخاطر إلى حدٍّ ما بتصوير ياجو في صورة لاهوتي سلبي، ربما يقترب أكثر مما ينبغي من صورة إبليس عند ميلتون، وهو الذي أثر فيه. وكما حاولتُ أن أؤكد في كل مكان في هذا الكتاب، لا يكتب شيكسبير دراما مسيحية أو دينية، فليس كالديرون (إذا استشهدت بشعراء مُسرحِيِّين أقل منزلة) ولا بول كلوديل، ولا ت. س. إليوت. بل وليس شيكسبير (أو ياجو) مُجدِّفًا في الدين من أي نوع، وأجدني أشعر بالحيرة حين يتجادَل النُّقَّاد حول انتماء شيكسبير إلى البروتستانتية أو الكاثوليكية، ما دامت المسرحية لا هذا ولا ذاك. إن لدى ياجو عناصر غُنُوصِيَّة مُهَرْطِقة، كما سوف يكون عند إدموند وعند مكبث، ولكن شيكسبير لم يكن غُنُوصيًّا، أو هِرْمسيًّا [من أرباب السحر القديم أو السيمياء] أو من دعاة علوم الغيب في الأفلاطونية الجديدة. بل كان، بأسلوب فَذٍّ، ذا قطوف عالمية بَالغة الغرابة، وربما أيضًا بعض المذاهب الروحانية الخاصة أو السِّرِّية، ولكنه حتى في هذا المجال كان في المقام الأول أيضًا مبتكرًا أو مكتشفًا. وعطيل مسيحي؛ إذ اعتنق المسيحية، ودين ياجو الحرب، الحرب في كل مكان، في الشوارع، في المعسكر، وفي هُوَّتِه السحيقة. والحرب الشاملة دين، وأفضل لاهوتي أدبي يمثلها هو الرجل الذي استشهدتُ به آنفًا، القاضي هولدن، في رواية كورماك ماكارثي المخيفة خط الزوال الدامي. فالقاضي يحاكي ياجو بعرض لاهوت للإرادة، والتعبير الأقصى له الحرب، ضد كل فرد. ويقول ياجو إنه لم يُقابِل رجلًا قط يعرف كيف يحب نفسه، وهو ما يعني أنَّ حُب النفس هو ممارسة الإرادة في قتل الآخَرِين. وهذا هو التعليم الذاتي عند ياجو فيما يتعلق بالإرادة، ما دام لم يبدأ عمله بالقصد الواضح لارتكاب القتل. ففي البداية كان يعاني حنقًا لفقدانه الهوية، تصاحبه رغبة في طور التشكيل للانتقام من الرَّب الذي كان ياجو يَعبُده.

وأبدع إنجاز حقَّقه شيكسبير في عطيل يَتمثَّل في التحوُّلات الفَذَّة عند ياجو، وهي التي حَفَّزه إليها استراقُه السَّمْع لصوته أثناء انتقاله ما بين المونولوجات الثمانية، إلى جانب أقواله الجانبية التي تُؤيِّدها. ويتطور ياجو من الحوافز المُؤقَّتة التجريبية إلى مُكتشَفات مثيرة؛ إذ يتحول مساره إلى زحف انتصار لا ينتهي إلا بالتدخل البطولي من جانب إميليا. ويَكمُن جانب كبير من العظمة المسرحية لعطيل في رنة الانتصار المذكور التي نشارك فيها على الرغم منا، وإذا أُحْسِنَ أداء عطيل على المسرح فينبغي أن تشكل صدمة مُؤقَّتة للجمهور. والملك لير ذات فاجعة موازية، حيث ينتصر إدموند بانتظام حتى مبارزته مع إدجار، ولكن مسرحية الملك لير شاسعة الأبعاد، مُعقَّدة التركيب، منوعة الخيوط، ولا يقتصر ذلك وحسب على حبكتها المزدوجة. ففي عطيل نرى ياجو دائمًا في مركز الشبكة، ولا يتوقف عن نسج أكاذيبه، واقتناصنا بشراك السحر الغامض. ولا يقارن به إلا بروسبرو، المجوسي المستنير الذي يعتبر في أحد جوانبه رد شيكسبير على ياجو.

لك أن تحكم على ياجو، في الواقع، بأنه أساء قراءة مونتانيْ، على عكس هاملت الذي يرى أن مونتاني مرآة الطبيعة. ويقول كينيث جروس بحصافة: «إن ياجو، على الأقل، صورة جاثومية من مذهب الشك الكامل عند مونتانيْ، والذي يتميز بالانتباه الشديد ومراعاة الإنسانية.»

وأما مذهب الشك الجذري [البيرونية (Pyrrhonism)] فإن هاملت يحوله إلى لا مبالاة، وياجو يحوله إلى حرب ضد الوجود، وانطلاق يسعى إلى القول بأنه لا يوجد سبب لوجود أي شيء على الإطلاق. وتمجيد الإرادة، عند ياجو، ينبع من نقص أنطولوجي كبير إلى الحد الذي لا تستطيع معه أية عاطفة بشرية أن تملأه على الإطلاق:
الفِطْرة؟ تخريف! بأيدينا أن نصبح ما نريد! أجسامُنا
حدائقُنا، وإرادتُنا هي البُسْتاني! وهكذا، إذا أَرَدْنا، زَرَعْنا
القُرَّاص الشائك، أو بَذَرْنا بُذُورَ الخَسِّ، فَغَرَسْنا الزُّوفا
ونزعنا أعشاب الزعتر! أي إنَّ لنا أنْ نَقْصِرَ ما فيها على نوعِ
واحد، أو نجعلَها حافلة بأنواع كثيرة؛ ولنا أنْ نجعلها قاحلةً
إنْ أهملْنَاها، أو مزدهرةً إنِ اجْتَهدْنا فكان الاجتهادُ سمادَها!
تأمَّلْ معي! إنَّ طاقةَ الخِصْبِ تكمنُ في إرادتنا، وهي القادرة
على التحكُّم والتصحيح! إذا لم يكنْ في مِيزان حياتنا كِفَّةٌ
للعقلِ تقابل كِفَّةَ الشَّهْوَة، فإنَّ نوازعَ الجَسَد المنحطَّة في فِطْرَتِنا
قد تُفْضي بنا إلى أَوْخَمِ العواقب. ولكن لدينا العقل الذي
يبرِّدُ من فورةِ نوازعنا، ورغباتنا اللاسعة، ويكبحُ جماح
شهواتنا. وعلى هذا فإن الذي تسميه حبًّا لا يزيد عن كونه
فرعًا أو غصنًا من الأغصان المُطَعَّمةِ بعُصَارَةِ ذلك النَّبات!
(١ / ٣ / ٣٢٠–٣٣٣)

و«الفطرة» هنا تعني شيئًا مثل «قوة الرجل»، ولا يعني ياجو «بالعقل» إلا الغياب عنده لأية عاطفة يُعتَدُّ بها، وهذه القطعة النثرية هي المركز الشعري في مسرحية عطيل؛ إذ تُنبِئ بما سيفعله ياجو من تحويل قائده إلى رؤية مختزلة مريضة للحياة الجنسية. لا نستطيع أن نشك في أن عطيل يحب دزدمونا، وقد يوحي شيكسبير أيضًا بأن عطيل متردد في أن يبني بزوجته، وهو ما نعجب له، وعندما أقرأ نص المسرحية ألاحظ أن الزواج لم يتحقق جنسيًّا قط، على الرغم من رغبات دزدمونا الجارفة. وياجو يسخر من «الأداء الضعيف» عند عطيل، وهو ما يبدو أنه يلمِّح إلى العجز الجنسي عند ياجو لا عند عطيل، ولكنني لا أجد فيما يقوله القائد العام المغربي أو فيما يفعله شيئًا يدل على اشتهاء حقيقي لدزدمونا. ولا شك أن هذا يساعدنا في إيضاح غضبته القاتلة، عندما يثير ياجو الغيرة عنده، كما أنه يجعل الغيرة أقرب للقبول المنطقي، ما دام عطيل لا يعرف دون مُبالَغة إن كانت زوجته عذراء أم لا، وربما كان يخاف أن يكتشف ذلك، بطريقة ما. وأنا أشارك هنا رأي الأقلية الذي يمثله جراهام برادشو وقلة قليلة من النقاد، ولكن هذه المسرحية تعاني أكثر من مسرحيات شيكسبير الأخرى جميعًا من سوء القراءة الضعيفة، ربما لأن الشرير فيها أعظم أستاذ لسوء الفهم عند شيكسبير أو في الأدب. ولماذا تزوج عطيل إذن إذا لم يكن يرغب جنسيًّا في دزدمونا؟ لا يستطيع ياجو مساعدتنا هنا، وشيكسبير يسمح لنا بحل المشكلة بأنفسنا، من دون أن يقدم لنا قط المعلومات الكافية للبت في المسألة. ولكن برادشو بالقطع على حق حين يقول إن عطيل يشهد آخر الأمر بأن دزدمونا ماتت عذراء:

الآنَ كيفَ تَبْدُو طَلْعَتُكْ؟
يا مَنْ وُلِدْتِ تَحْتَ طَالِعِ نَحْس! شَاحِبَةٌ بِلَوْنِ سُتْرَتِكْ!
وعِنْدَمَا تُلَاقِينِي غَدًا يَوْمَ الحِسَابِ سَوْفَ تُلْقِي طَلْعَتُكْ
رُوحي إلى أيدي الشَّياطِين التي تَتَخَاطَفُ الأَرْوَاحَ إنْ
طُرِدَتْ مِنَ الجَنَّة! كَمْ أَنْتِ بارِدَةٌ حبيبتي! كَمِثْلِ مَا
لَدَيْكِ من عَفَافْ!
(٥ / ٢ / ٢٧٠–٢٧٤)

إذا لم يكن عطيل يهذي وحسب، فعلينا على الأقل أن نعتقد أنه يعني ما يقول، أي: إنها لم تَمُتْ مُخلِصة له وحسب بل «باردة … كمثل ما لديك من عفاف.» ومن الصعب بعض الشيء أن نعرف ما يقصد شيكسبير أن يعنيه عطيل، إلا إن كانت ضحيته لم تصبح زوجته قط، حتى في الليلة الوحيدة التي كان من الممكن أن يبني بها فيها. وعندما يقسم عطيل إنه «لن يسفك دمها» فإنه لا يعني إلا أنه سوف يخنقها حتى تموت، ولكن التورية الساخرة المخيفة قائمة هنا أيضًا، أي لا هو ولا كاسيو ولا غيرهما قد أنهى عذريتها على الإطلاق. ويجد برادشو في هذا «محاكاة ساخرة تراجيكوميدية رهيبة للموت بمعنى ذروة الجماع» وأن المسألة مناسبة لإنجاز ياجو المسرحي.

وأريد أن أتحول من التركيز على رأي برادشو لأتساءل عن أمر لم يكن لياجو فيه تأثير يذكر. لماذا كان عطيل عازفًا منذ البداية عن إتمام الزواج جنسيًّا؟٣ ففي الفصل الأول، في المشهد الأول، عندما يوافق الدوق على الزواج بين عطيل ودزدمونا ثم يأمر بالإبحار إلى قبرص لقيادة المدافعين عنها ضد الغزو التركي المُتوقَّع، لا يطلب المغربي إلا استضافة زوجته في مكان يحفظ كرامتها وبه سُبل الراحة أثناء غيابه. ولكن دزدمونا الزوجة ذات العاطفة المشبوبة تطلب مُرافَقة زوجها:
يا أَرْبَابَ العِزَّة! إنِّي إنْ أَمْكُثْ في الدَّارْ
مِثْلَ فَرَاشَاتِ السِّلْمِ اللَّاهِيَةِ وأَتْرُكْ زَوْجِي
يَذْهَبُ لِلْحَرْبٍ وَحِيدًا … فَلَسَوْفَ أكونُ سُلِبْتُ
شَعَائِر ما أَحْبَبْتُ الرَّجُلَ بِسَبَبِهْ
فَأُكَابِدُ زَمَنًا مُرَّ غِيَابٍ يَصْعُبُ أن أَتَحَملَّهُ
أَرْجُوكُمْ أَنْ أَمْضِيَ مَعَهُ!
(١ / ٣ / ٢٥٦–٢٦٠)
ونحن نفترض أن كلمة «شعائر» إتمام الزواج جنسيًّا، لا شعائر الحرب،٤ وعلى الرغم من أن عطيل يُؤيِّدها، فإنه يصر بلا مبرر على أن رغبته الجنسية فيها ليست على وجه الدقة ملتهبة عنده:٥
أَصْوَاتكمُو يا سَادَة! أَتَوَسَّلُ أنْ تَرْضَوْا
بِإِجَابَةِ ما تَطْلُب! لكني لا أَبْغِي ذَلِكَ
كي أُشْبِعَ أي شَهِيَّة
أَوْ أُرْضِيَ رَغَبَاتِ شَبَابِ غَرَبَتْ
وَلَو أَنَّ الإرْضَاءَ طَبِيعيٌّ لي
بلْ أنْ تَتَمَازَجَ رُوحَانَا خَيْرَ تَمَازُجْ
لا قَدَّرَ رَبُّ الكَوْنِ إذَنْ أَنْ يَحْسِبَ أَحَدٌ أنِّي
قد أُهْمِلُ أو أَتَهَاوَنُ في أَمْرِكُمُو ذي الخَطَرِ الأَكْبَرْ
لِوُجُودِ السَّيِّدَةِ معي! كلَّا! لَنْ يُفْلِحَ خَفْقُ جَنَاحَيْ
رَبِّ الحُبِّ بِكُلِّ الرِّيشِ المُزْدَانِ بِهِ
أن يَخْدَعَ فِكْرِي وحَوَاسِّي
أو أَنْ يَصْرِفَني عن ذَاك الوَاجِبِ والعَمَلِ الجَادِّ.
أمَّا إنْ أَفْسَدَ باللَّهْوِ الفَارِغِ والمُتْعَةِ ما كُلِّفْتُ بِهِ
فَلْتَجْعَلْ رَبَّاتُ المَنْزِلِ منْ خُوذَتِي الصُّلْبَةِ بَعْضَ إنَاءٍ للطَّهْي
ولْتَتَلَطَّخْ سُمْعَتِي الغَرَّاءُ بكُلِّ صِفَاتِ الخِسَّةِ والعَارْ!
(١ / ٣ / ٢٦١–٢٧٥)

والملاحَظ أن هذه السطور، التي لا تمثل «عطيل» في أفصح حالاته، تَتجاوَز حدود اللياقة تجاوزًا كبيرًا، وهي ليست «في صالح» دزدمونا. فعطيل يسهب ويطنب، وهو لا يحسن موقفه عندما يحثه على ترك المسرح والمضي معه:

هيَّا إذَنْ يا «دِزْدِمُونَهْ»!
لم تَبْقَ إلَّا سَاعَةٌ للحُبِّ أو لأُمُورِ دُنْيَانَا وتَجْهِيزاتِ هَذِي الرِّحْلَة
ولَسَوْفَ أَقْضِيهَا مَعَكْ! الوَقْتُ يَأْمُرُنا …
لا بُدَّ مِنْ طَاعَتِهِ!
(١ / ٣ / ٢٩٩–٣٠١)
إذا فهمنا «الساعة» حرفيًّا، فسوف يكون من حسن حظ الحب أن يفوز بعشرين دقيقة من وقت هذا الجنرال البالغ الانشغال. فإذا كان غزو الأتراك لقبرص وشيك الوقوع حقًّا، فلن تبخل الدولة على القائد العسكري الأكبر بساعة أو ساعتين يعانق فيهما زوجته مبدئيًّا. وعندما يصل إلى قبرص، حيث يجد أن دزدمونا قد وصلتْ قَبْلَه، يقول لنا عطيل: «قد انتهَتْ حروبنا وأغرقت سفائن الأتراك». ويبدو أن هذا يتيح وقتًا كافيًا للأمر المؤجل الخاص بالجماع مع زوجته، خصوصًا بعد ما أصدر الأمر بإقامة الحفلات العامة. ولكن ربما يكون من الأنسب الانتظار إلى المساء، وهكذا يأمر عطيلُ كاسيو بقيادة الحرس، ويقول ما ينبغي لدزدمونا: «أحبيبةَ قلبي هيا!/نحن قضينا الوطر وتتلوه الفاكهة الآن/وأشاركك الثمر الطيب حالًا!» ويخرج معها. ويفتعل كاسيو شغبًا تحت تأثير الخمر يضم كاسيو، ورودريجو، ومونتانو حاكم قبرص، وفيه يجرح كاسيو مونتانو. ويستيقظ عطيل على دقات ناقوس، ويدخل إلى المسرح بعد ذلك بقليل. ولا يقال لنا إن كان قد مر أثناء هذا الشجار زمن يسمح «بالشعائر» ما بين عطيل ودزدمونا،٦ ولكن عطيل يستدعيها للعودة إلى الفراش، ولكنه يعلن أيضًا أنه سيضمد جرح الحاكم بنفسه.٧ ما الذي يتمتع بالأولوية؟ لا نعرف على وَجْه الدِّقَّة، ولكن الواضح أن القائد العام أراد الوفاء بالالتزام الذي فرضه على نفسه تجاه الحاكم مُفضِّلًا إياه على التزامه الزوجي.

لم تكن أول تلميحات يبديها ياجو بشأن العلاقة المفترضة بين دزدمونا وكاسيو تكتسب أي تأثير لو كان عطيل يعرف أنها عذراء، وجهله بذلك يجعله في موقفِ ضعفٍ شديد. إنه يهتف قائلًا «لماذا تَزوَّجت؟» ثم يشير إلى قرني الديوث عندما يقول لدزدمونا: «لديَّ وجع في جبهتي هنا.» وزوجته البريئة المسكينة تقول إنه بسبب سهره طول الليل على راحة الحاكم، قائلة: إنه «بسبب السهر.» وتحاول أن تربط موقع الوجع ربطًا محكمًا بالمنديل المشئوم، وهو الذي يبعده عنه، ومن ثم تعثر إميليا عليه. وآنذاك يكون ياجو قد استولى على عطيل، فجعله عاجزًا عن البَتِّ في شكوكه بالطريق المعقول الوحيد أي بمضاجعة دزدمونا أخيرًا.

وهذه متاهة تَتسبَّب في حيرة الجمهور وكثيرًا ما لا يتصدى لها مخرجو مسرحية عطيل بصورة سافرة؛ إذ يتركوننا نشك في تفسيراتهم، أو ربما لا يدركون وجود صعوبة تتطلب التفسير، والواقع أن شيكسبير كان أحيانًا ما يبدو مهملًا، لكنه من المحال أن يتخلى عن الدقة في أمر حاسم مثل هذا، فإنه المحور الذي تدور حوله التراجيديا كلها. إن دزدمونا وعطيل لا يعرف أحدهما الآخر، للأسف، ولا يعرف أحدهما الآخر جنسيًّا على الإطلاق. والإيحاء الجسور الذي يقدمه شيكسبير هو أن عطيل كان يساوره خوف شديد أو خجل كبير لانتهاز فرصة أول ليلة يقضيها في قبرص، وكان يتحاشى أو يؤخر المحنة بالتفرغ لتضميد جرح مونتانو. والإيحاء الآخر هو أن ياجو، الذي يفهم عطيل، أثار المشاجرة عمدًا لكي يصرف قائده عن إتمام الزواج، فلولا ذلك لما نجح في تحقيق أغراض تلاعبه. وهذا الإيحاء يعني أن ياجو كان ذا بصيرة فذة كشفت له عطيل، ولكن مثل هذا التقييم ينبغي ألا يدهش أحدًا. ولنا أن نتساءل عن السبب الذي منع شيكسبير من إلقاء مزيد من الضوء على هذه المسألة كلها، إلا أن علينا أن نتذكر أن جمهوره كان أقدر كثيرًا منا على الفهم بالأُذُن، فكان أفراده يعرفون كيف ينصتون، ومعظمنا لا يعرف، في ثقافتنا التي تعتمد اعتمادًا متطرفًا على البصر. ولم يكن شيكسبير، قطعًا، يتفق مع بليك في قوله إن ما يمكن إيضاحه للأبله لا يستحق أن يهتم به، ولكنه كان قد تعلم من تشوسر، خصوصًا، فن الدهاء المناسب.

وقبل أن أتحول أخيرًا إلى «انتصارية» ياجو، أجدني ملزمًا بإجابة سؤالي الخاص وهو: لماذا تَزوَّج عطيل ما دام حبه لدزدمونا لا يمثل إلا استجابة ثانوية لولعها المشبوب الأولى به؟ إن هذه مُقدِّمة للمأساة، ويبدو، منطقيًّا أن نردها إلى جهلها — إذ لم تكن قد تَخطَّت مرحلة الطفولة مثل جوليت تقريبًا — وإلى الذهن المشوش عند عطيل. فهو يقول لنا إنه كان يقيم في البندقية تسعة أشهر متواصلة، بعيدًا عن ميادين القتال والمعسكرات، ومن ثم فلم يكن ذاته الطبيعية. ولو كان منشغلًا بعمله انشغالًا تامًّا لكان ذا حصانة تنجيه من دزديمونا المفتونة به، والتي تفيض بعاطفة خاصة لهذه الأسطورة الحية. ومثاليتهما المشتركة هي أيضًا وَهمُهما المتبادَل: فالمثالية جميلة، ولكن كان من الممكن أن ينقشع الوهم حتى لو لم يتخط عطيل ياجو في الترقية، ولو ظل يتمتع بتقديس ياجو له، بدلًا من كراهية الانتقام في قلب حامل الراية. وسوف يُعَلِّمُ ياجو، الذي سقط من عليائه، عطيل أن عجز القائد عن معرفة دزدمونة، جنسيًّا وإنسانيًّا، يرجع إلى أن عطيل لم يكن يريد أن يعرف. والملاحَظة الباهرة التي يقدمها برادشو تقول إن عبقرية ياجو تَتمثَّل في أنه «استطاع إقناع الآخَرِين أن ما لم يَجُل بخاطرهم شيء لم يريدوا له أن يجول بخاطرهم.» وبعد أن أُلْقِيَ ياجو في فراغ كوني [وجودي] يكتشف أن الذي كان يعبده باسم امتلاء الكيان الحربي عند عطيل كان في جانب منه فراغًا آخر، وانتصار ياجو يتمثل في توسيع هذا الجانب حتى يشمل تقريبًا كيان عطيل كله.

٤

وتعتبر عظمة ياجو الرهيبة (وهل نستطيع وصفه بأية صفة أخرى؟) انتصارًا لشيكسبير على كريستوفر مارلو، وهو الذي كان قد رسم شخصية باراباس، يهودي مالطة، التي أثرت في شيكسبير تأثيرًا شديدًا، ونلاحظ أن ياجو يتجاوز باراباس، مثلما يتجاوز بروسبرو صورة الدكتور فاوستوس عند مارلو. ولكن إحدى صفات باراباس لا تزال قائمة عند ياجو، وإن كان قد مسخها الشرير الأبهى الذي رسمه شيكسبير، ألا وهي صفة الابتهاج بالذات. وسواء كانت فرصة الوجود عند السير جون فولسطاف تعبر عن دَفْقَة الحيوية أو الاحتفاء بها، فإننا نجد محاكاة ساخرة لها في مظاهر الاحتفال السلبية عند ياجو، وإن كانت ترمي إلى تحقيق أغراض كبرى. فبعد أن يتعرض ياجو لإفراغ وجوده من معناه، ينطلق مدفوعًا بالضر الذي لحق بمرتبته الشخصية لتحقيق إنجازات جديدة يزهو بها ويفخر، في التأليف المسرحي، وفي علم النفس، والنقد الجمالي، والتَّجَلِّي الشيطاني، وفي العلاج المعكوس و«تفكيكه» لخلق قائده العام، أي إعادة عطيل الرائع إلى الهيولي الأصلي، ولا يزال ذلك أعظم عمل سلبي في تاريخ الأدب الغربي؛ إذ يتفوق كثيرًا على جهود تلاميذه عند دستويفسكي، مثل سفيدريجايلوف، وستافروجين، وتلاميذه الأمريكيين، كلاجارت في رواية بيلي بَدْ، لميلفيل، وشرايك في رواية ميس لونلي هارتس لناثانيل ويست. وينحصر أقرب المنافسين لياجو في بعض تلاميذه أيضًا، وهم إبليس عند ميلتون، والقاضي عند كورماك ماكارثي في رواية خط الزوال الدامي. فإذا قورن إبليس بياجو، وجدنا أن إبليس يعوقه اضطراره للعمل على نطاق هائل يشمل الكون كله؛ إذ إن الطبيعة نفسها تسقط مع آدم وحواء وأما القاضي عند ماكارثي — الشخصية الوحيدة في الأدب الحديث التي تُخيفني فعلًا — فإن إسرافه في سفك الدم يحول دون إجراء المقارنة بياجو. إن ياجو يطعن رجلًا أو اثنين في الظلام، ولكن القاضي يسلخ فروة رءوس المئات من الهنود الحمر وأبناء المكسيك. وتركيز ياجو الشديد على ضحيته الأولى يجعله «الشيطان في صورة مصارع الثور»، وأفضل ذواقة لعمله، فهو ناقد في المقام الأول — وأول ممثل من الطراز الأول يؤدي ياجو شاهدته كان بوب هوسكنز؛ إذ تغلب على نقائص المخرج جوناثان ميلر في عرض عطيل الذي قدمه تليفزيون اﻟ «بي بي سي» عام ١٩٨١م، وفيه سقط أنطوني هوبكنز في دور عطيل فلم يحدث أدنى تأثير بسبب التزامه بتعليمات ميلر المبنية على آراء ليفيز (أو إليوت). وأما هوسكنز الذي دائمًا ما يبدع أداء رجال العصابات الإجرامية، فإنه عبر عن الكثير من نبرات الكبرياء التي تميز هؤلاء الرجال، والتي نجدها عند ياجو في دهائه الخارق، وقد أظهر بين الفينة والفينة ما يمكن أن يكون عليه التطويب السلبي، وذلك في مُتعَة تدمير رئيسه في مجال العنف المنظَّم. وربما كان أداء هوسكنز لدور ياجو أقرب قليلًا لروح مارلو من روح شيكسبير، كأنما كان هوسكنز (أو ميلر) يستوحي مسرحية يهودي مالطة إلى حدٍّ ما، ولكن ياجو يتمتَّع بالرُّقِّي الذي يتجاوز ذلك التطرف الهزلي.

وتعتبر «الانتصارية» [أي رنة الإحساس بالنصر] أشد أساليب ياجو مدعاة للإحباط والانقباض على الرغم من جاذبيته. فإن مونولوجاته وأحاديثه الجانبية تتصاعد إلى عزف موسيقى فكرية لا يضاهيها عند شيكسبير إلا بعض جوانب هاملت، وبعض اللحظات النادرة التي يهبط فيها إدموند إلى الاحتفال الذاتي. والطبيعة الباطنة عند ياجو، والتي أحيانًا ما ترجع أصداء هاملت، تزيد من حدة نفورنا من سحره: كيف يتأتى لخواء عقلاني أن يشبه التيه إلى هذا الحد؟ ورصد مراحل أسلوب ياجو في إيقاع عطيل في الفخ كفيل بالإجابة عن جانب من هذا السؤال على الأقل. ولكنني أتوقف هنا حتى أنكر أن ياجو يمثل شيئًا بالِغ الأهمية في عطيل، ألا وهو الزعم الذي جاء به الكثير من المفسرين، وإدوارد سنو أكثرهم إقناعًا. إذ إن سنو يقدم قراءة تتطرف في اعتمادها على الميثولوجيا الروحانية الفرويدية، قائلًا إنه يجد عند ياجو الروح السافرة التي تعتبر دفينة عند عطيل: أي الرعب الذكوري العالمي من الحياة الجنسية للأنثى، ومن ثم كراهية النساء.

إن عصر فرويد يذوي ويذبل، ويرتبط عند عدد كبير من النقاد اليوم بعصر الاستياء، فالقول بأن جميع الرجال يخافون المرأة والحياة الجنسية ويكرهونهما لا هو من أقوال فرويد ولا هو صحيح، وإن كان النفور من الغيرية [أي من الآخر] شائع إلى حدٍّ بعيد، عند النساء والرجال. والعشاق عند شيكسبير، رجالًا ونساءً، منوعون إلى حدٍّ كبير، وليس عطيل، للأسف، من أعقلهم. ويقول ستيفن جرينبلات إن اعتناق عطيل للمسيحية قد زاد من ميل المغربي إلى الاشمئزاز من الجنس، وهي قراءة معقولة للصدارة [أي لما يقع قبل بداية المسرحية] في المسرحية. ويبدو أن ياجو يتبين هذا، حين يحدس عزوف عطيل عن إتمام الزواج، ولكن ذلك لا يعني أن ياجو عنصر باطني من عناصر نفس عطيل، منذ البداية. فلا شيء يفوق قوة التأثير عند ياجو حين يشرع حقيقةً في حملته، ومن ثم فالأصدق أن نقول إن عطيل يتحول إلى تمثيل ياجو من اعتبار ياجو عنصرًا من عناصر عطيل.

وفن شيكسبير، حسبما يَتجلَّى في تدمير ياجو لعطيل، يتسم في بعض جوانبه بدقة تحول دون أن يشرحه النقد. فإن ياجو يوحي بخيانة دزدمونة بأن يمتنع في البداية عن الإيحاء بها؛ إذ يُحلِّق حولها وبالقرب منها:

ياجو :
إنِّي أَتَوسَّلُ يا مَوْلَاي إِلَيْك!
وبِرَغْمِ كثيرٍ من شَطَحَاتِ الحَدْسِ الآثِمَةِ لَدَيَّ …
(بلْ إنِّي أَعْتَرِفُ بأنَّ بِطَبْعِي مَيْلًا غَيْرَ حَمِيدٍ
لِتَقَصِّي أَخْطَاءِ البَشَرِ! وكثيرًا ما يَدْفَعُني حَدَبِي
أَوْ يَدْفَعُنِي الشَّكُّ إلَى إِيجَادِ عُيُوبٍ وَهْمِيَّة!)
أَتَوسَّلُ يا مَوْلاي إليْكْ، وبِأَلْفَاظِ فمٍ يُكْثِرُ صاحِبُهُ
من شَطَحَاتِ الظَّنِّ الشَّائِهَةِ بألَّا تَلْتَفِتَ إلى أَلْفَاظِي
أو تَنْسِجَ شَيْئًا مما لَحَظَتْهُ العينان بِأَشْتَاتٍ من صُوَرٍ غَيْر وثيقَة!
لَنْ يُفْضِيَ إفْصَاحِي عَنْ أَفْكارِي لَكَ لِهُدُوءِ البَالِ لَدَيْكَ وَلَنْ
يأتي مِنْه الخيرُ على الإِطْلَاقْ! بلْ لا يَجْمُلُ بِرُجُولَتِي وشَرَفي أوْ
حِكْمَةِ ذِهْنِي أنْ أُفْصِحَ عَنْه!
عطيل : قسمًا … أقسمُ …
ياجو :
حُسْنُ السُّمْعَةِ للرَّجُلِ ولِلْمَرْأَةِ يا مَوْلَاي الأَكْرَمُ أَثْمَنُ جَوْهَرَةٍ
للنَّفْس! منْ يَسْرِقْ كيسَ نُقُودِي يَسْرِقْ بَعْضَ نِفَايَة!
هُوَ شيء لكنْ لَا شيء! مِلْكُ يَمِيني بالأَمْس … وبِأيدي غَيْرِي اليَوْم!
بَلْ مَرَّ بأيدي آلَافٍ قَبْلِي أو قَبْلَهْ! أمَّا من يسرقْ
حُسْنَ السُّمْعَةِ منِّي … فَلَقَدْ جَرَّدَني منْ شيء
لا يُغْنِيهِ فَتِيلًا … وتَسَبَّبَ في إِفْقَارِي حَقًّا!
عطيل : باللهِ سوفَ أَعْرِفُ الذي يُخَالِجُكْ!
ياجو :
لا تَمْلِكُ ذَلِكَ لوْ كانَ فُؤَادِي في أَيْدِيكْ
والواجبُ ألَّا تَعْرِفَ ما دامَ فُؤَادِي بَيْن يَدَيَّ!
مولاي حَذَارِ من الغَيْرَة! ذَلِكَ مَخْلُوقٌ شَائِهْ
يَتَحَلَّى بِعُيُونٍ خُضْرٍ لكنْ يَسْخَرُ مِمَّنْ يَنْهَشُ كَبِدَهْ!
الدَّيُّوثُ يَعِيشُ ويَنْعَمُ بِحَيَاتِهْ
وإذَا أَدْرَكَ ما آلَ إِلَيْهِ انْقَلَبَ فَأَبْغَضَ مَنْ خَدَعَتْه!
أما مَنْ يَهْوَى ويَشُكُّ ويَشْتَبِهُ وما زَالَ مُحِبًّا
فالوَقْتُ يَمُرُّ كَئِيبًا وعَصِيبًا حتَّى تَلْسَعَهُ كُلُّ دَقِيقَة!
عطيل : يا لَشَقَائِهْ!
(٣ / ٣ / ١٤٧–١٧٣)

كان من الممكن أن يكون هذا فظيعًا لو لم يكن التراشق بين ياجو وعطيل يَتمتَّع بكل هذا الإقناع؛ إذ يتلاعب ياجو بعطيل مستغلًّا ما يشترك المغربي فيه مع الإله الغيور لليهود والمسيحيين والمسلمين، ألا وهو الإحساس الذي لا يكاد يُكْبَت بالتعرض للخيانة. ويشترك يهوه مع عطيل في صفة [التعرض للخيانة] لأنهما خاطَرا بتمديد وجودهما وتوسيعه، فمد يهوه وجوده لليهود، ومد عطيل وجوده لدزدمونا. ولما كان شعار ياجو «لست أنا ما أنا عليه» فإنه سوف ينتصر بأن يبث هذه السلبية في عطيل، حتى ينسى عطيل تمامًا أنه إنسان ويغدو غيرة مجسدة، وهي محاكاة ساخرة لإله الانتقام. ونحن نستهين بمكانة ياجو إذ اقتصرنا على اعتباره مؤلفًا مسرحيًّا للنفس، وأحد علماء النفس العباقرة؛ إذ إن أعظم سلطة له يمارسها باعتباره لاهوتيًّا وجوديًّا سلبيًّا، أي إنه نبي شيطاني رسالته التدمير. أي إنه ليس الشيطان المسيحي ولا صورة ساخرة منه، ولكنه فنان حر للذات، مؤهل تأهيلًا فريدًا بالخبرة والعبقرية، حتى يوقع في الأشراك أرواحًا أعظم منه، بحيث يأسرهم أسرًا قائمًا على عيوبهم الباطنة. فإذا حدث أن وُجد في مسرحية تتضمن عبقرية مضادة لعبقريته — مثل هاملت أو فولسطاف — فلن يصبح إلا من الناقمين المحبطين. ولما كان ياجو يواجه عالمًا من المغفلين والضحايا — عطيل، ودزدمونا، وكاسيو، ورودريجو، بل وإيميليا حتى يغيرها الغضب — فإنه ليس في حاجة إلى ممارسة النطاق الكامل للمواهب والطاقات التي ما فتئ يكتشفها في نفسه؛ إذ إن في باطنه نارًا موقدة على الدوام، والنفاق الذي يكبت كثافة سخرية هجائه في تعامله مع الآخرين يكلفه، بوضوح، معاناة شديدة.

ولا بد أن يكون هذا سر إحساسه بالراحة، بل بالنشوة، في مونولوجاته الفذة وعباراته الجانبية، حيث يثني على أدائه. وعلى الرغم من أنه يستوحي «ربوبية جهنم» بلاغيًّا، فلا يوجد ما يدعوه أو يدعونا إلى الاعتقاد بأن أي عفريت يُصغي إليه. وعلى الرغم من أنه متزوج ويتمتع برتبه حامل الراية الرفيعة، ويشتهر «بالأمانة»، فإن ياجو شخص يعاني العزلة مثل إدموند، ومثل مكبث بعد أن تصاب ليدي مكبث بالجنون. فالمتعة عند ياجو «صادوماسوكية» محضة، على عكس عطيل الذي يجد متعته في الوعي الحق بالقيادة. فعطيل يحب دزدمونا، ولكن حبه في المقام الأول يمثل ردًّا على حبها لوعيه بالنصر. وحين يشعر ياجو بتخطيه في الترقية، ومن ثم بتحويله إلى عدم، يصمم على تحويل «صادوماسوكيته» إلى انتصارية مضادة (countertriumphalism) بالسيطرة على قائده، ثم تحويل رَب الحرب الذي كان يعبده يومًا ما إلى صورة ممسوخة للربوبية. والعماء [أي فوضى الهيولي] الذي كان عطيل يخشاه إذا توقف عن حب دزدمونا، وهو مُحِق في هذه الخشية، يمثل الجو الطبيعي لياجو منذ ترقية كاسيو. ومن داخل هذا العماء يبزغ نجم ياجو باعتباره ربًّا تنفيذيًّا جديدًا (demiurge) [وفق المذهب الغُنُوصِي] أي أستاذًا في تفكيك الخلق.

وأنا أعتمد في القول بأن ياجو لديه لاهوت وجودي، على توكيد أ. سي برادلي «للاستياء» الذي يشعر به حامل الراية، وأضيف إلى ما يقوله برادلي فكرة تقول إن الاستياء يمكن أن يصبح طريق التحرر الوحيد أمام حالات الإنكار الكبرى التي نجدها عند تلاميذ ياجو الذين صورهم دوستويفسكي، سفيدريجايلوف وستافروجين، وقد يبدو هذان من المجانين إن قُورِنَا بياجو، ولكنهما قد وَرِثَا وضوحه الغريب، ومذهبه الاقتصادي القائم على الإرادة. وأما رينيه جيرار، صاحب نظريَّتَي الحسد وكبش الفداء، فيقول إنه يشعر بأنه مضطر إلى تصديق ياجو، ومن ثم يرى أن ياجو يغار جنسيًّا من عطيل. وهذا معناه أن نقع في شَرَك ياجو مرة أخرى، ويضيف تورية ساخرة لا لزوم لها إلى مذهب جيرار في اختزال شيكسبير كله في «مسرح الحسد». وكان تولستوي الذي ينفر نفورًا شديدًا من شيكسبير، يشكو من ياجو، قائلًا: «إن لديه دوافع كثيرة، ولكنها جميعًا غامضة.» ويبدو لي أن التَّعرُّض لخيانة رَب ما، سواء كان مارس أو يهوه، والرغبة في رد الاعتبار لصورة الذات المجروحة، أدق دافع من دوافع أي شرير، فما عليك إلا أن تعيد إلقاء الرَّب إلى الهوة التي ألقى فيها المرء. ويعني هذا أن مسيحية تولستوي العقلانية الغريبة لم تكن تستطيع إعادة تخيل المسيحية السلبية عند ياجو.

إن ياجو من أشد الممثلين تألقًا عند شيكسبير، وهو يُعادِل إدموند ومكبث، ولكنه يقل قليلًا عن تألُّق أداء روزالند وكليوباترا، وهاملت وفولسطاف، بسبب ما يتمتعون به من كاريزما فائقة. وتعتبر الكاريزما السلبية موهبة غريبة، ويمثلها ياجو تمثيلًا فريدًا عند شيكسبير، ومعظم نماذج تجسيدها في الأدب، والتي شهدناها منذ كتابة عطيل تدين بجانب كبير منها إلى ياجو. فإن إدموند، على الرغم من طبيعته، يحمل في نفسه عنصرًا من دون جوان، أي الانفصال والتحرر من النفاق الذي يعتبر فتاكًا للمنافقِتَين العظيمَتَين جونريل وريجان. وأما مكبث فإن مُخَيِّلته النبوئية ذات قوة عالمية، وهو يثير تعاطفنا، مهما تبلغ بشاعة أفعاله السفاكة للدم. وأما جاذبية ياجو لنا فتكمن في القوة السلبية، فهذه تشكله كله ولا تشكل إلا جانبًا واحدًا من هاملت. إن لنا جميعًا أربابنا الذين نعبدهم ولا نستطيع أن نقبل منهم رفضًا لنا. والسونيتات تدور حول رفض مؤلم، للشاعر من جانب الشاب النبيل، وهو رفض يَتجاوَز الطابع الجنسي، ويبدو أنه يَتجلَّى في الفضيحة العلنية لفولسطاف أثناء تتويج هال ملكًا. وتصور الموقف القائم في صدارة عطيل يتطلب منا أن نتصور إحساس ياجو بالمَهانة عند اختيار كاسيو [نائبًا للقائد] وهكذا نسمع الأصداء الكاملة.

وهكذا تَرَى بأنني — على بُغْضِي لَهُ بُغْضِي لآَلام السَّعِيرْ —
تَضْطَرُّني ضَرُورةُ الحَيَاةِ حَاليًّا لأنْ أُبْدِي لَهُ دَلَائِلَ المَوَدَّة
أو رَفْعَ رَايَتِها فَحَسْبْ!
(١ / ١ / ١٥٢–١٥٥)

أي إن حامل الراية الذي كان يمكن أن يُقتل، مُخْلصًا، للحفاظ على راية عطيل، في ميدان القتال، يعرب عن نبذه لدينه السابق في سطور تشغل موقعًا مركزيًّا في المسرحية. فليس حُبُّ رب الحرب الآن إلا راية، حتى ولو كان الانتقام حتى هذه اللحظة يمثل طموحًا أكثر مما يمثل مشروعًا. إن رب الحرب، على الرغم من ضخامة منزلة عطيل، كيان لا يبلغ جبروته جبروت رَب اليهود أو المسيحيين أو المسلمين، ولكن الغريزة الأنطولوجية عند ياجو تربط غيرة أحد الأرباب بغيرة الرب الآخَر:

لَسوفَ أُلْقِي ذَلِكَ المِنْدِيلَ في غُرْفَةِ «كاسيو»
بحيثُ يَعْثُرُ الفَتَى عَلَيْه! إنَّ التَّوافِهَ التي تُماثِل الهواءَ خِفَّةً
تبدو لِعَيْنِ مَنْ يَغَارُ بُرْهَانًا مُؤَكَّدًا
كأنَّهُ التَّنْزِيلُ أوْ آيُ الكِتَابْ! وقد يكونُ لِلْمِنْديل فَائِدَة!
بَدأَتْ سُمُومِي في عُرُوقِ المغربي تَسْتَثِيرُهُ وتُقْلِقُهْ!
وكُلُّ وَهْمٍ خَطِرٍ بِطَبْعِهِ كالسُّمِّ نَاقِعْ.
عنْدَ المَذَاقِ أوَّلًا قد لا نَرَى في الطَّعْم ما يُكْرَهْ
لكنَّه إن ما جَرَى مَجْرَى الدِّمَاءِ بِنَا لِيَفْعَلَ فِعْلَهُ
يَغْدُو أَتُونًا حَارِقًا كالنَّارِ بالكِبْريتِ مُتَّقِدَة
هذا الذي تَوَقَّعْتُهْ!

(يدخل عطيل.)

(٣ / ٣ / ٣٢٤–٣٣٢)

والتشبيه يصلح لو عكسناه، فبراهين الكتاب المُقَدَّس، في عين الرَّب الغيور، توكيدات قوية، ولكن أتفه التوافه يمكن أن تستثير غضبة يهوه؛ إذ يقودُ بني إسرائيل في سفر العدد عَبْر البرية. إن عطيل يصاب بالجنون، وكذلك تبلغ غضبة يهوه مَبلغها في سفر العدد، والتفاخر الرائع في قول ياجو «هذا الذي توقعته!» يُؤدِّي إلى موسيقى نقدية جديدة حتى عند شيكسبير، وهي التي سوف تُولِّد المذهب الجمالي عند جون كيتس، وولتر باتر. إن عطيل أصبح أسيرًا لهوس الغيرة ويَتعثَّر عند دخوله المسرح، ويحييه ياجو بأعظم انفجار للرنة «الانتصارية»:

انْظُرْ! فَهَا هُوَ قَدْ أَتَى!
هَيْهَاتَ أنْ تَهْنَا بِنَوْمٍ ناعِم أبدًا مثل الذي صاحَبْتَهُ في البارحة!
حتَّى وإنْ تَنْشُد عِلَاجًا في عَقَاقِيرٍ مُخَدِّرَةٍ قَوِيَّة
بل في الحَشِيشِ وشَرْبَةِ الأَفْيُونْ!
(٣ / ٣ / ٣٣٣–٣٣٦)

لو كان هذا مُجرَّد احتفال فرح صاديٍّ، لما تَلقَّينا منه مثل ذلك الجرح الخالد، فالحنين الماسوكي يختلط بالرضى عن تفكيك الخلق، ما دام ياجو يُحَيِّي إنجازه الخاص والوعي الذي لن يتمتع به عطيل مرة أخرى على الإطلاق. ونرى هنا أن فن شيكسبير الدقيق الذي يشبه ياجو قد وصل إلى الذروة؛ إذ نفهم هنا أن عطيل لا يعرف؛ لأنه على وجه الدقة لم يعرف زوجته. ومهما يكن من عزوفه السابق عن إتمام زواجه، فإنه الآن يُدرِك أنه أصبح عاجزًا عن ذلك، ومن ثم لا يستطيع أن يعرف الحقيقة الخاصة بدزدمونا وكاسيو:

لوْ دامَ لي جَهْلِي لَدَامَتْ لي سَعَادَتي!
ولَوْ تَمتَّعَ الجميعُ تَحْتَ إمْرَتي
لا بَلْ أحطُّ جُنودِ جَيْشِي كُلِّهم بِجِسْمِها الغَضِّ الجَمِيلْ!
أمَّا بِحَالِي هَذِهِ فَقُلْ وَدَاعًا يا طُمَأْنِينَة! إِلى الأَبَدْ!
وقُلْ وَدَاعًا لِلرِّضَا ولِلْكَتَائِبِ التي تَزْهُو رُءوسُهَا
بِكُلِّ خُوذَةٍ علاها الرِّيشْ! ولِلْمَعَارِكِ الكُبْرى التي
يَزْهُو الطُّمُوحُ بها فَيَبْدُو كالفَضِيلَة! وقُلْ وَدَاعًا للأَبَدْ!
لِلصَّاهِلَاتِ من خُيُولِنَا والصَّادِحَاتِ من أَبْوَاقِنَا
وحافِزَاتِ النَّفْسِ من طُبُولِنَا والزَّاعِقَاتِ مِنْ مَزَامِيرِ الجِلَادِ في آذَانِنا!
لِلْخَافِقَاتِ من رَايَاتِنَا المَلَكِيَّة … وكُلِّ ما يَزِينُ الحَرْبَ مِنْ
مَجْدٍ ومِنْ شَجَاعَةٍ وكِبْرِيَاءَ أو تَفَاخُرٍ بالمَظْهرِ البَرَّاقْ!
وأَنْتِ يا مَدَافِعِي الفَتَّاكَة! ذاتَ الحُلُوقِ الواسِعَة —
تلكَ التي تُحاكي في الهَدِيرِ ذَلِكَ الرَّعْدَ المُدَوِّي
منْ فَمِ الخَالِدِ (جوبيتر)! هذا وَدَاعِي لِلْجَمِيعْ!
قدِ انْتَهى اشْتِغَالُ صَاحِبِكُمْ عُطَيْل بالحُروبْ!
(٣ / ٣ / ٣٤٨–٣٦٠)

ويتميز هذا الوداع للحروب الطاحنة الشبيه بوداع همنجواي بالمزج الدقيق عند همنجواي بين أسلوب الذكور في اصطناع مواقف مُعيَّنة أو التَّظاهر بها وبين الخوف الذي يكاد يبين من العجز الجنسي. لم تُتَح الفرصة منذ عقد القران، سواء في البندقية أو في قبرص، للجماع بين دزدمونا وعطيل، ولكن كاسيو كان الوسيط بينهما في صدارة المسرحية. ووداع عطيل هنا في جوهره وداع لأية إمكانية لمثل هذا الجماع، فالموسيقى المفقودة للمجد الحربي تتضمن لحنًا باطنًا تعني فيه آلات الحرب ما يزيد على هدير المدافع. فإذا كان اشتغال عطيل بالحروب قد انتهى، فقد انتهت أيضًا رجولته، وذهب معها أيضًا كل كبرياء ورُواء وبَهاء، وهي الصفات التي أثارت عاطفة دزدمونا المشبوبة تجاهه، فالمظهر البراق ليس مظهرًا وحسب. إن العماء يعود، أثناء اختفاء الهوية الأنطولوجية لعطيل، وفق أحلى انتقام من جانب ياجو، وهو الذي يتميز بالسؤال الإنكاري من جانب الشرير «هل ذاك ممكن مولاي؟» وما يلي يمثل اللحظة الحاسمة في المسرحية، حيث يدرك ياجو، للمرة الأولى، أن دزدمونا لا بد أن يقتلها عطيل:

عطيل :
انْتَبِهْ يا وَغْدُ لي! لا بد أنْ تُثْبِتَ لي أنَّ حَبيبتي أنا … عَاهِرَة!
بل لا مَنَاصَ منْ ذلكْ! جِئْنِي بِبُرْهانٍ أُشَاهِدُهُ بِعَيْني
هذا وإلَّا! أَصْلَيْتُكَ الذي يَهُبُّ منْ شُوَاظِ غَضْبَتي
حتَّى لتَرْجو أنْ تكونَ قدْ خُلِقْتَ كَلْبًا!
ياجو : هل وَصَل الأمْرَ إلى هذا الحدِّ؟
عطيل :
أَرِني ذَلكَ رَأي العَيْن! أو فَلْتَأْتِ — إذا اسْتَعْصَى ذَلِكْ —
بِدَلِيلٍ لا يَسْمَحُ بِشَوَائِبَ منْ شَكٍّ أو خَلَلٍ في الإِثْبَاتْ
ذاكَ وإلَّا ذُقْتَ الوَيْلَ وأَدْرَكْتَ نِهَايَةَ عُمْرِكْ!
ياجو : مولاي أيُّها النَّبِيلْ —
عطيل :
إنْ كُنْتَ تَقَوَّلْتَ عَلَيْها لِتُعَذِّبَني لا أَكْثَرْ
فَتَأَكَّدْ أن صَلَاتَكَ لَنْ تَشْفَعَ أَو تَنْفَعَ بعدَ الآن! بلْ لَنْ يُجْدِي
النَّدَمُ أو التَّوْبة! فَلَسَوْفَ أَصُبُّ الرُّعْبَ على
رَأْسِ الرُّعْبِ بِقَلْبِكْ! بل أَفْعَلُ ما قد يَجْعَلُ مَنْ في المَلأِ الأَعْلى
يَبْكُونَ عَلَيْكَ! ويَشلُّ الأرضَ من الرَّهبَةِ من جُرْمِكْ!
إذْ لَنْ تَلْقَى في الآخِرَةِ عَذابًا أَقْسَى وأَشَدَّ نَكالًا مما أُنْزِلُهُ بِكْ!
(٣ / ٣ / ٣٦٢–٣٧٦)

كانت ارتجالات ياجو حتى الآن ترمي إلى تدمير هوية عطيل، وهي الجائزة التي حددها ياجو لمهمته، ولكن ياجو يواجه فجأة تهديدًا خطيرًا يعتبر أيضًا فرصة سانحة؛ إذ يدرك أنه لا بد من موت أحدهما، هو أو دزدمونة، وبحيث تعتبر عواقب موتها تكليلًا لتدمير عطيل. كيف يمكن تحقيق رغبة عطيل في برهان يراه رأي العين؟

ياجو :
لَكَ هذا! لَكِنْ كَيْف؟ كيفَ يكونُ رِضَاكَ؟ وأي دَلِيلٍ تَبْغيه؟
أَتُرِيدُ بأن تَشْهَدَ ما يَجْرِي بِعُيُونِكَ أَثْنَاءَ مُبَاضَعَةٍ ما؟
عطيل : الموتُ والهَلَاكُ! وَاهًا لِي!
ياجو :
يَصْعُبُ، في ظَنِّي، تَدْبِيرُ الأمْر! أي أنْ آتِيَ بِهِمَا
في هَذِي الحالْ! إذْ يَتَعَذَّرُ أنْ يَنْظُرَ إنْسَانٌ آخَرُ فِعْلَهُما
وهما في المَضْجَعِ — لَعَنَهُمَا الله إذا كانا في تِلْكَ الحَالْ!
ماذا نَفْعلُ بل كيفَ يكونُ التَّدْبيرُ إذَنْ؟ ماذا يُمْكِنُني قَوْلُه؟
أَيْنَ دَلِيلُكَ ورِضَاكْ؟ فَمُحَالٌ أنْ تَشْهَدَ ذلك حتَّى لو كانا
في فِسْقِ الماعِزِ أو شَهْوةِ ذِئْبٍ أو شَبَقِ القِرَدَة!
حتَّى لو كانَا في حُمْقِ الجَهْلِ ونَشْوَةِ مَن شَرِب كثيرًا
حتَّى غابَ عنِ الوَعْي! لكنْ دَعْني أَذْكُرْ
أنَّ دَلِيلَكَ مُحْتَمَلٌ إنْ سَنَحَتْ أَحْوَالٌ تُرْجِحُ
ما اتَّجَهَ إليْه الظَّنُّ وتَدْفَعُنا دَفْعًا لِوُلُوجِ البَابِ
إلى ما كانَ حَقِيقَة!
(٣ / ٣ / ٣٩٧–٤١١)

إن البرهان بالشهادة العينية الممكنة هي الشيء الوحيد الذي لن يحاول عطيل الحصول عليه، على نحو ما يفهم ياجو كل الفهم؛ إذ لن يختبر المغربي عذرية زوجته. ويبين لنا شيكسبير أن الغيرة عند الرجال ترتكز على نوعين من الهوس، أولهما بصري والثاني زمني؛ لأن الذَّكَر يخشى ألا يُتاح له ما يكفي من الزمن والمكان. ويلعب ياجو الآن بقوة على النفور الرهيب عند عطيل من ولوج الباب الوحيد للحقيقة القادر على إرضائه، وهو دخوله بدزدمونا. لا يمكن أن يتفوق التحكم السيكولوجي على سيطرة ياجو على عطيل، فحامل الراية يختار هذه اللحظة، على وجه الدِّقَّة، لتقديم «منديل/رأيته — لا شك أنه منديل زوجتك — شاهدته هذا النهار/إذ يمسح كاسيو لحيته به». والسيطرة الدرامية لا يمكن أن تفوق استغلال ياجو للحركة المسرحية من جانب عطيل، أي ركوعه كي يقسم على الثأر:

عطيل :
ذاكَ إِذَنْ شَأْنُ خَوَاطِرِيَ الفَتَاكَة!
إذْ تَنْطَلِقُ بِعُنْفٍ لا تَنْظُرُ أَبدًا لِلْخَلْف!
لا تَهْبِطُ أو تَسْتْسَلِمُ لِغَرَامِ وَدَاعْ
حتَّى يَبْتَلِعَ الحَمْأَةَ ثَأْرٌ جَبَّارٌ شَاسِعْ!
أُقْسِمُ بِسَمَاءٍ صَافِيَةٍ كالمَرْمَرِ هَذَا القَسَمَ
وأَقْطَعُ هذا العَهْدَ على نفسي بِصَفَاءِ جَلَالَتِهِ وقَدَاسَتِهِ!
ياجو :
رُوَيْدَكَ لا تَنْهَضِ الآن!
(يركع ياجو.)
ألا فاشْهَدِي يا نُجُومَ السَّماءِ التي تَتَوَهَّجُ من فَوْقِنَا لِلأَبَدْ!
وأنتِ عَنَاصِرَ هذي الطَّبِيعَةِ مِنْ حَوْلِنَا! ألا فاشْهَدِي
أنَّ «ياجو» يُكَرِّسُ أَقْصَى ذكاءٍ لَدَيْهِ وسَاعِدَهُ وفُؤَادَهْ
لإحْقَاقِ حَقِّ عُطَيْلٍ وإنصافِهِ بعدمَا جَاءَهُ مِنْ أَذَى!
وسوفَ أكونُ مُطِيعًا بِكلِّ التَّعَاطُفِ والإشْفَاقِ
لأي أَوَامِرَ مِنْهُ ولَوْ كانَ أَمْرًا بِسَفْكِ الدِّمَاءْ!

(ينهضان.)

عطيل :
أَشْكُرُكَ على هَذَا الحُبِّ …
لا شُكْرًا أجْوَفَ بل بِعَطَاءٍ مَمْدُودٍ وسَخِيٍّ!
ولسوفَ أُكَلِّفُكَ الآن بما يُثْبِتُ هذا الحُب!
دَعْنِي أَسْمَعُكَ تقولُ خِلَالَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
إن المدعو «كاسيو» قد وافاهُ الأَجَلُ المَحْتُومْ
ياجو :
إنَّ صَديقي ماتْ! وسأَقْتُلُهُ تَنْفيذًا لِلأَمْر!
لكنْ أَتَمَنَّى لوْ أَبْقَيْتَ عليها!
عطيل :
فَلْيَلْعَنْها الله! الدَّاعِرَةُ الشَّهْوَانِيَّة! فَلْيَلْعَنْها الله!
هيَّا حتَّى نَنْفَرِدَ بِأَنْفُسِنا. ولَسَوْفَ أكونُ بِخَلْوَة
حتَّى أَنْتَقِيَ الأُسْلُوبَ الأَمْثَلَ والأَسْرَعَ
لهَلَاكِ الحَسْنَاءِ الشَّيْطَانَة! قَدْ أَصْبَحْتَ مُلازمِيَ الآنْ
ياجو : أنا مِلْكُ يَمِينِكَ لِلْأَبَدِ!
(٣ / ٣ / ٤٦٠–٤٨٢)

إنه مسرح خلَّاب المنظر، وياجو هو المخرج، «رويدك لا تنهض الآن!» وهو كذلك لاهوت مضاد، يتجاوز أية صفقة عقدها فاوست مع الشيطان، ما دامت النجوم وعناصر الطبيعة أصبحت شاهدة على عقد للقتل العمد، وهو يمثل ذروة عكس مسار تخطى ياجو في الترقية، في صدارة المسرحية. وقول عطيل «قد أصبحتَ ملازمي الآن.» يعني شيئًا بالِغ الاختلاف عمَّا يستطيع عطيل أن يفهمه، وأما «أنا ملك يمينك للأبد.» فتمثل القطع في مصير عطيل وفق الطوالع وعناصر الكون، ولا يبقى بعد ذلك إلا الهبوط والخروج لكل من يشارك في هذه المسألة.

٥

يخلق شيكسبير عندنا إشفاقًا رهيبًا بسبب عدم إِطْلاعنا على دزدمونا بطبيعتها الكاملة وبَهائها الأخَّاذ، حتى اللحظة التي نعرف فيها أنها مقضيٌّ عليها. لقد وجد الدكتور جونسون أن موت كورديليا لا يُحتمل، وأنا أرى، على ضوء خبرتي قارئًا ومرتادًا للمسرح، أن موت دزدمونا أشد وطأة. ويرسم شيكسبير المشهد في صورة تقديم ضحية [أو قربان] وهو يقوم على اللاهوت المُضاد مثل العدمية الناشئة عند ياجو من تَخطِّيه في الترقية، وغيرة عطيل التي تشبه «غيرة الأرباب». وعلى الرغم من إعلانه دزدمونا في شجوها أنها مسيحية، فإنها لا تموت شهيدة لتلك العقيدة، بل تصبح وحسب ضحية أخرى لما يمكن أن نسميه دين «مولوخ»، ما دامَتْ تُعْتَبر قربانًا لرب الحرب الذي كان ياجو يعبده يومًا ما، أو قل عطيل الذي جعله ياجو يفتقد المنطق فيما يقول. «قد ذهبت مهنة عطيل»، والرفات المنتثر لعطيل يقتل باسم تلك المهنة؛ إذ إنه لا يجيد مهنة أخرى، وأصبح شبحًا يسير على قدمين لما كانه يومًا ما.

تقول ميليسينت بِلْ (Bell) [المولودة عام ١٩١٩م] إن مأساة عطيل مأساة معرفية، ولكن ياجو هو صاحب الذهن الوحيد القادر على تبرير مثل هذه الفكرة، ولكن ياجو لا يهتم اهتمامًا كبيرًا بكيفية معرفة ما يظن أنه يعرفه. إن مسرحية عطيل، مثل الملك لير ومثل مكبث، رؤية للشر الجذري، وأما هاملت فهي مأساة المفكر التي أبدعها شيكسبير. وعلى الرغم من أن شيكسبير لم يلزم نفسه قط بمفاهيم مسيحية خاصة، فإنه يقترب من التراجيديا الغُنُوصِيَّة أو المُهَرْطِقة في مكبث، على نحو ما سوف أحاول أن أبين. وليس لعطيل أية جوانب تعاليَّة، ربما لأن دين الحرب لا يسمح بأي منها. وأما ياجو الذي يبرم عهدًا جديدًا مع عطيل عندما يركعان معًا، فقد عاش وحارب في ظل عهد يراه قديمًا مع قائده، حتى شهد تفضيل كاسيو عليه. كان يؤمن إيمانًا لا يتزعزع بنار الحرب، حتى جرَح ربُّه إحساسَه بامتيازه، فنجح في الحط من مكانة ذلك الرب حتى جعله «قاتلًا شريفًا»، وهذه هي الرؤيا الختامية القائمة على تناقض ظاهري لدور عطيل في نظره. هل يمكن لهذا الحط في المكانة أن يسمح بوجود الوقار اللازم للبطل التراجيدي؟

ويرى أ. سي برادلي أن مسرحية عطيل أقل منزلة من هاملت والملك لير ومكبث؛ وذلك في المقام الأول لأنها لا توحي لنا بوجود القوى العالمية التي تتعدَّى على حدود الإنسان. وأظن أن هذه القوى تُحلِّق فوق عطيل، ولكنها لا تتجلَّى إلا في الفجوة التي تفصل بين العلاقة الأولى التي تشغل صدارة المسرحية بين ياجو وعطيل، وبين عملية التخريب التي نتابعها بينهما. إن ياجو شخص جبار بسبب قدراته الغريبة، ومواهبه التي لا تتاح إلا لمؤمن حقيقي تَحوَّلَت ثقته إلى نزعة عَدَمية. ونحن نتصور أن قابيل الذي رفضه يهوه مُفضِّلًا هابيل عليه، يعتبر والدًا لياجو مثلما يُعْتَبر ياجو مرهصًا بإبليس عند ميلتون. إن ياجو يقتل رودريجو، ويتسبب في إحداث عاهة بكاسيو، ومن المحال أن يتصور ياجو، أو نتصور نحن أن ياجو يسعى لطعن عطيل. إذ إنك إذا كنتَ قد تَعرَّضتَ للنَّبْذ من جانب ربك، فأنتَ تهاجمه روحيًّا أو ميتافيزيقيًّا، لا جسديًّا فقط. ويتمثل انتصار ياجو في أن عطيل الخاطئ يُضَحِّي بدزدمونا باسم رب الحرب عطيل، المُحارب المتفرد الذي تَهوَّرَت دزدمونا فوقعت في غرامه. وربما يكون هذا هو السبب الذي يحدو بدزدمونا إلى عدم إبداء أية مُقاوَمة، وتُقدِّم دفاعًا واهيًا إلى حدٍّ بعيد نسبيًّا، أولًا عن شرفها ثم عن حياتها. وهذا يزيد من اكتمال التضحية بها ويزيد من إحساسنا بهول ما أصابها على هذا النحو.

على الرغم من أن النقد الأدبي كثيرًا ما يُعْمِي نفسه عن هذه الحقيقة، فإن شيكسبير لم يكن يُضمِر أي حُب للحرب، ولا للعنف، مُنظَّمًا كان أو غير مُنظَّم. فإن آلات القتل العظمى عنده تنتهي نهايات مُؤسية؛ مثل: عطيل، ومكبث، وأنطونيو، وكوريولانوس. أما المقاتل المُفضَّل في نظره فهو السير جون فولسطاف، الذي كان شعاره «هبني الحياة!» وأما شعار عطيل فيمكن أن يكون «هبني الشرف!» وهو الذي يُبارِك قَتْل زوجة لم يعرفها، قتلًا يُفترض أنه «لا بسبب الكراهية بل بسبب الشرف». وعلى الرغم من عواره الفظيع، بل وما يتسم به من خواء في باطنه، فالمقصود به أن يُعتبر أفضل نموذج مُتاح للمُحارب المحترف المرتزق. والذي كان ياجو يَعْبُده يومًا ما، له وجود حقيقي، لكنه أشد ضعفًا حتى مما كان ياجو يتصور. ويوحي شيكسبير من طرف خفي بأن النُّبْل السابق لعطيل ووحشيته الغاشمة اللاحقة وجهان لِرَبِّ الحرب، ولكنه يظل الرَّب نفسه. لقد انتهَت حياة عطيل العملية لسبب يرجع من جانب ما إلى زواجه. فالاستياء المكبوت، على عكس الشهوة غير المكبوتة، يبث الحياة في عطيل أثناء انتقامه من فقد استقلاله باسم الشَّرَف. وأصدق انتصار يحققه ياجو يلوح لنا في اللحظة التي يفقد فيها عطيل إحساسه بحدود الحرب، ويشترك في حملة ياجو المستمرة ضد الوجود. وعقيدة ياجو التي تقول «أنا لست ما أنا عليه» تصبح صيحة عطيل المضمرة. وسرعة هبوط عطيل وشمول هذا الهبوط يبدو، في آنٍ واحد، ضَعْف المسرحية الأوحد وأشد قوة مُقْنِعة لها، وهي مُقْنِعة إقناع ياجو لنا.

وتموت ديزدمونا ميتة تبعث الأسى الشديد إلى الحد الذي يُخاطِر فيه شيكسبير بمنعنا إلى الأبد من التعاطف مع عطيل:

دزدمونا : أَرْسِلْنِي لِلْمَنْفي يا مَوْلَاي ولَا تَقْتُلْني!
عطيل : هَلَكْتِ يا عَاهِرَة!
دزدمونا : اقْتُلْنِي في الغَدِ واتْرُكْنِي أَحْيَا اللَّيْلَة!
عطيل : كَلَّا ولَوْ جَاهَدْتِ …
دزدمونا : قُلْ نِصْفَ سَاعَةٍ وحَسْب.
عطيل : قد سَبَقَ القَوْلُ ولَنْ نَتَمَهَّلْ …
دزدمونا : حتى أُصَلِّيَ رَكْعَةً وَاحِدَةً!
عطيل : قد فاتَ مَوْعِدُ ذلِكْ.
(٥ / ٢ / ٧٧–٨٢)

وبأسلوب الأوبرا، يمنح شيكسبير دزدمونا كلمات احتضار تحاول تبرئة عطيل، وهي كلمات يصعب تصديقها إذا لم تكن، كما جاء في الشرح الرائع عند ألفين كيرنان، «تعبير شيكسبير عن الحب». إن المؤلِّف يجعلنا نعتقد أن هذه المرأة أقرب اليافعات إلى الطبيعة، ومخلصة لقاتلها إلى الحد الذي يجعل كلماتها المثالية الأخيرة توحي للسامع بأنها ساخرة، نظرًا لما أصاب عطيل من الانحطاط، فهي تقول لإميليا: «أبلغي سلامي للرءوف زوجي … والوداع!» ويصعب علينا إلى أقصى حد، فيما يبدو، أن نقبل رَفْض عطيل لآخِر تعبير لها عن الحب، قائلًا: «لا! بل ذهبت تلك الكاذبة إلى نيران جهنم/فأنا في الواقع قاتلها.» وضروب الهجوم الحديثة على عطيل، بما أحدثته من تأثير كبير، وهي التي شارك في القيام بها ت. س. إليوت، وف. ر. ليفيز، تستند في قبول بعض الناس لها (وإن كانوا قلة) إلى أن شيكسبير يهيل على رأس عطيل كومة من الوحشية والغباء والإثم الذي لا يخفف منه شيء، ولكن شيكسبير يسمح لعطيل بقدر من الشفاء العظيم، وإن يكن غير كامل، في خطاب أخير يدعو للدهشة:

تَمَهَّلُوا! لِي كِلْمَةٌ أوْ كِلْمَتَانْ! قد تَعْلَمُونَ أنِّي
قَدَّمْتُ لِلدَّوْلَةِ خِدْمَاتْ … وهُمْ عَلَى عِلْمٍ بها
وهكذَا فَلَنْ أَزِيدْ! لكنَّنِي أَرْجُو إذَا حانَ الحَدِيثُ في
رَسَائِلَكُمْ عَنِ الذي قَضَتْ بِهِ طَوَالِعُ النُّحوسِ من أَحْدَاثْ
أنْ تَكْتُبوا عَنْها كَما وَقَعَتْ! بِغَيْر تَخْفِيفِ لِشِدَّتِها
أوْ ذِكْرِ ما يُوحي بِسُوءِ النِّيَّة! وَبَعْدَهَا تَحَدَّثُوا عَنِّي وقُولُوا
إنني جَاوَزْتُ حَدَّ العَقْل في حُبِّي … أَسْرَفْتُ فيهِ فَانْفَلَتْ!
وإنَّني لَسْتُ الذي يَغَارُ بالسُّهولَةِ المَذْكُورَة
لكنَّ ما أَثَارَنِي أَلْقَانِي … في هُوَّةِ التَّخَبُّطِ الشَّدِيدِ والبَلْبَلَة
وهكذَا أَلْقَتْ يَدِي في البَحْرِ مثلَ ذلِكَ اليهودي الحَقِيرِ لُؤْلُؤَة
أَثْمَنَ مِنْ قَبِيلَةِ الغَرِيرِ كُلِّها! وإنَّ عَيْني التي أَذَلَّها الأَسَى
حتَّى وإنْ لَمْ تَعْتَد الدُّمُوعَ أَصْبَحَتْ تَذْرِفُها
غَزِيرَةً كَقَطْر أَشْجَارِ العَرَبْ … من صَمْغِهَا الشَّافِي!
فَلْتَكْتُبوا هذَا وقُولُوا بَعْدَهُ إنِّي رَأَيْتُ ذاتَ يَوْمٍ في حَلَبْ
رَجُلًا من الأَتْرَاكِ ذا عِمَامَةٍ وسَيِّئَ الطَّوِيَّة
يَسُبُّ دَوْلَتَنَا ويَضْرِبُ بَعضَ أَهْلِ البُنْدِقِيَّة
وَلمْ أُطِقْ! هَوَيْتُ فَوْقَ الكَلْبِ ذَلِكَ الخَتِينِ أَخْنُقُهْ!
طَعَنْتُه كما تَرَوْنَ هَكَذا!

(يطعن نفسه.)

ونادرًا ما تُؤدِّي هذه الفورة الشهيرة والإشكالية إلى أي اتفاق بين النقاد، ولكن التفسير الذي يقول به إليوت وليفيز وهو الذي يقول إن عطيل يقول ما يقوله أساسًا «لرفع روحه المعنوية» لا يمكن أن يكون صحيحًا. فالمغربي يظل مثالًا مؤكدًا للشخصية المنقسمة على نفسها بين كل ما رسمه شيكسبير من شخصيات، وينبغي ألا نصدق ما يقوله من أنه جاوز حد العقل في غرامه، أو خداع الذَّات في إشارته إلى أنه لا يغار بالسهولة المذكورة، لكننا نستجيب شعوريًّا للحقيقة التي يذكرها، وهي وقوعه في هُوَّة التخبط الشديد والبلبلة، ولاستشهاده باليهودي الحقير، أي الملك هيرود الذي قتل زوجته المكابية، ميريام، التي كان يحبها حبًّا جمًّا. والرابطة ما بين عطيل وهيرود الأكبر تَصدِمُنا؛ لأنها تُمَثِّل حكم عطيل على نفسه، وتتبعها عَبرات عطيل والصورة الشعرية الجميلة للأشجار الباكية. بل ولا ينبغي للناقد المنصف ألا يتأثر بالحكم الذي أصدره عطيل على نفسه، أي إنه غدا عدوًّا للبندقية ومن ثم لا بد من قتله، وليس لانتحاره أية صلة بالطباع الرومانية، بل إن عطيل يصدر الحكم على نفسه ويُنَفِّذه. وعلينا أن نسأل ماذا كانت البندقية فاعلة بعطيل لو أنه سمح لنفسه البقاء في قيد الحياة، وأظن أنه يسعى هنا للحيلولة دون اتخاذ الدولة قرارًا سياسيًّا بالإبقاء عليه فربما نشأ ما يدعو إلى الانتفاع بخبراته مرة أخرى. وكاسيو ليس عطيل، وليس للدولة بديل عن المغربي، والأرجح أنها كانت سوف تستخدمه من جديد، ولو اضطرت بلا شك إلى فرض قدر من السيطرة عليه. ونحن نجد أن جميع الصدوع في شخصية عطيل، التي أدركها ياجو واستغلها، موجودة في هذا الخطاب الأخير، ونجد كذلك رؤية نهائية للحساب، وهي التي يتخلى عطيل فيها عن حنينه وأشواقه للحرب المجيدة، مُعبِّرًا عن سعيه المؤسى للتكفير عمَّا لا يمكن التكفير عنه، ولا يمكن ذلك قطعًا، على الأقل، بأي وداع للسلاح.

١  «الظلام والخواء» في الأصل Toho and Bohu ويقول معجم تشيمبرز (٢٠١٤م) إنهما أصلًا كلمة واحدة هي Toho Bohu التي تعني العماء أو الهيولي (Chaos) أي المادة الظلماء الخاوية قبل أن يتشكل العالم أو يخلق وقبل خلق النور (سفر التكوين، ٢: ١) ويقول إنهما من العبرية thohu wa bhohu بمعنى الخواء والقفر، ولكن المعجم الكبير (OED) ينكر أن الكلمتين عبريتان. والمؤلف يفصل بينهما في النص باعتبارهما اسمين منفصلين.
٢  هذه الجملة الغامضة تستند إلى نظرة ما بعد الحداثية (التي تعتبر النظير الأدبي لما بعد البنيوية، وفقًا لما يقوله ريتشارد وولين) إلى النفس أو الذات، فهي تنكر وجود كيان يمكن أن يسمى النفس أو الذات، وتقول، متأثرة بالنظرات أو الفلسفات المادية الحديثة، إن النَّفْس أو الذات مُجرَّد موقع تتلاقى فيه تيارات اجتماعية وثقافية وتاريخية شَتَّى ولكنها لا تشكل شيئًا واحدًا أو كيانًا يمكن وصفه بالنَّفْس أو الذات. وقد تأثَّر عالم النفس الفرنسي جاك لاكان بهذه النظرة في إعادة تفسيره وتقديمه لفرويد، مصرًّا على أن الموقع المذكور (site) لا يَتَّسم بوجود جوهر بل بوجود أشتات قد تتسق فتُوحي بما يُسمَّى الشخصية، وقد تتضارب فتؤدي إلى الأمراض النفسية المعروفة. وذلك هو ما عارضه يونج مصرًّا على وجود النفس (psyche)، ووجود الروح (soul/spirit) (انظر علم النفس التحليلي عند يونج للمترجِم، القاهرة، ٢٠١٩م). أما معنى العبارة الغامضة فهي أن عطيل لا يتكلم باعتباره فردًا بل باعتباره مجموعة من الأفراد، وفقًا للتعريف الذي وضعته مدرسة ما بعد الحداثية (انظر غواية اللامعقول لريتشارد وولين، وكتاب متاهات للمؤلف نفسه، ٢٠٠٦م و١٩٩٥م)، و«أنا» ترجمة I am، و«نحن» ترجمة We are.
٣  لاحِظْ كيف يفترض المؤلف أولًا، اهتداءً برأي ناقد واحد لا تتبعه باعترافه إلا قلة قليلة، أن الزواج لم يتم جنسيًّا في الليلة الوحيدة التي قضاها العروسان في قبرص، وهذا ما لا يمكن القطع فيه. أي إنه يفترض أن دزدمونا مازالت عذراء، ثم يبني حجته التالية على هذا الافتراض كأنه حقيقة مؤكدة، وهو يفسر كلمة chaste بمعنى ذات العفاف بأنها تفيد العذرية (٥ / ٢ / ٢٧٤) بل إن هذه الكلمة تحديدًا كانت تستخدم في وصف الزوجات اللاتي يمتنعن عن معاشرة غير أزواجهن خصوصًا أثناء غياب الأزواج، ومنها جاء تعبير حزام العفة (chastity belt) وهو حزام له قفل، ومع الزوج مفتاحه، كانت تلبسه الزوجة بأسلوب معين لضمان عدم مساس أحد بالمنطقة السفلى من جسدها. والمؤلف يفرض تفسيرات تتفق مع هذا المفهوم الذي افترضه على كل من دزدمونا وعطيل فيما يلي. هل كان المؤلف يتوقع من شيكسبير أن يصرح بما حدث بين الزوجين في «ليلة الدخلة» الوحيدة؟
٤  «شعائر ما أحببت الرجل بسببه» (The rites for which I love him) تعني طقوس الحرب وأخطارها التي قَصَّها عليها فسَلَب لُبَّها، أما إذا فسرناها جنسيًّا، كما يريد المؤلِّف فسوف يكون معناها خارجًا: أي إنني ضاجعتُه وأحببتُ ما حدث ولا أريد أن أبتعد عَمَّا أحببته عنده، وهو معنى، على عدم احتماله، رغم كلام المؤلف، يؤكد أنها أتَمَّت الزواج عمليًّا.
٥  إن عطيل من باب التأدُّب يتظاهر بأنه يريد صحبة زوجته لا من أجل الفِراش، ولكن المؤلِّف يُصِر على فَهْم المعنى السطحي.
٦  مشكلة تمثيل الزمن على المسرح مشكلة فنية أو تقنية معروفة، ويمكن للكاتب أن يوحي بما يريد من زمن حقيقي بالتلاعب في الزمن المسرحي، والوقت المشار إليه يستغرق ١٤٥ سطرًا إلى جانب عدد من الداخلين، والخارجين، والمشاجَرات، والغناء، والموسيقى، والهرج، والمرج وهو ما لا يقل في النص عن ثماني صفحات تُعادل ما لا يقل عن ٢٤ دقيقة مسرحية بحساب أن الصفحة المكتوبة يستغرق إلقاؤها دون تمثيل (أي دون توقف أو تكرار لأي عناصرها) نحو دقيقتين، فإذا قُدِّمَت على المسرح فعادة ما تتراوح بين ثلاث دقائق وأربع دقائق، ونظرًا لخبرتي الطويلة في العمل مع المُخرِجِين الذين قدموا مسرحياتي المؤلَّفَة والمُترْجَمة على المسرح، فإنني أقول هنا إن الوقت المسرحي (stage time) عادة ما يوحي بزمن حقيقي (real time) أطول، والمؤلِّف يتوسل في هذا بحيل معروفة مثل تقسيم المشهد إلى مشاهد فرعية يحددها دخول الممثلين وخروجهم، وبحيث يوحي كل منها بزمن أطول منه، وتستعيض السينما عن ذلك بالمونتاج (editing) والمخرج المسرحي يقسم المشهد الطويل إلى هذه المشاهد الفرعية ثم يضم بعضها إلى بعض. وهاك تقسيمًا مبدئيًّا لهذا المشهد الطويل إلى عناصره العشرة، وعدد السطور في كل منها:
(١) كاسيو وياجو وحدهما (١٠–٤٣) ويخرج كاسيو. (٢) ياجو وحده (٤٤–٥٣). (٣) يدخل مونتانو وكاسيو وآخرون ويغني ياجو (٥٤–٨١). (٤) أغنية أخرى لياجو ويخرج كاسيو (٨٢–١١٣). (٥) خطاب ياجو وحواره مع مونتانو (١١٤–١٢٨). (٦) يدخل رودريجو ويدفعه ياجو إلى الخروج بعد الاشتباك مع كاسيو ومونتانو ويخرج رودريجو (١٢٩–١٤١). (٧) يعود كاسيو ويضرب رودريجو الذي عاد معه (١٤٢–١٤٧). (٨) يأمر ياجو رودريجو بالخروج والإعلان عن وقوع فتنة (١٤٨–١٥١). (٩) دقات الناقوس وصراخ ياجو (١٥٢–١٥٤). (١٠) دخول عطيل مع رجال مسلحين (١٥٥).
ومعنى هذا أن عطيل وديزدمونا قد قضيَا ساعة أو ساعتين في الفراش، لا كما يقول المؤلِّف إنه يدخل مع ديزدمونا «بعد ذلك بقليل» (soon). فهل يمكن اعتبار هذه الصفحات الثماني وقتًا قليلًا؟ أو هل يمكن أن نُتَرجِم عبارته «وسرعان ما يستيقظ عطيل ويدخل إلى المسرح مع ديزدمونا بعد ذلك»؟ الواقع أن المؤلِّف يظلم النص في سبيل فكرته التي يراها طريفة وهي أن عطيل لم يبن بزوجته وأنها ماتت عذراء.
٧  دزدمونا لا تدخل مع عطيل، ولكنها تدخل بعد مناقشة القضية في مائة سطر (وخمس صفحات) أي في السطر ٢٤٠، والواضح كما يقول عطيل إنها كانت نائمة (بعد أن بنى بها زوجها) «ها هي زوجتنا المحبوبة قد فزعت من مرقدها» (٢ / ٣ / ٢٤١). وبعد أن يطمئنها يقول لها: «هيا الآن معي للمخدع» (٢٤٣).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤