الملك لير
١
تشترك مسرحية الملك لير مع هاملت في إثارة الحيرة آخِر الأمر لدى المعلقين؛ إذ يبدو فيهما، أكثر مما يبدو في مسرحيات شيكسبير كلها، نطاق لا نهائي ربما يتجاوز حدود الأدب. فإن الملك لير وهاملت تعلنان، مثل النص الرباني (كاتب السفر الأول من أسفار التوراة) وإنجيل مرقس، بداية الطبيعة الإنسانية والمصير الإنساني ونهايتهما. وقد يبدو هذا القول مبالغًا فيه بعض الشيء، ولكنَّه الحقيقة المُجرَّدة وحسب. فالنصوص الرفيعة مثل الإلياذة، والقرآن الكريم، والكوميديا الإلهية التي كتبها دانتي، والفردوس المفقود التي كتبها ميلتون، هي النصوص المنافسة الوحيدة في التراث الذي لا نَزال قادرين على وصفه بأنه يمثل التقاليد الغربية، ويعني هذا أن هاملت والملك لير أصبحتا تُعْتَبران إما نوعًا من الكتب المقدَّسة العلمانية، وإما نوعًا من الأساطير. وهذان مصيران غريبان لمسرحيتين اتَّسَمتا على الدوام بالنجاح التجاري.
ويحس من يقرأ الملك لير خصوصًا إحساسًا بالِغ الغرابة؛ إذ إننا نشعر في آنٍ واحد بالاغتراب والائتناس القَلِق، وأرى أنا، على الأقل، أن خبرة قراءتها في عزلة، خبرة لا مثيل لها على الإطلاق. وأنا أؤكد القراءة، تأكيدًا شديدًا؛ لأنني شاهدتُ عروضًا مسرحية كثيرة للملك لير، ودائمًا ما كنتُ أشعر بالأسف لمشاهدتها؛ إذ إن هذه المسرحية قد هزَمَت مُخرِجِينا وممثلينا، وأجدني أتَّفِق في حُزن مع تشارلز لام الذي يوصي بتكرار القراءة للملك لير وتَجنُّب صورها الممسوخة على المسرح. وهكذا أجد أنني أُعارِض النقد الأكاديمي في هذا القرن [العشرين]، وجميع الذين أعرفهم من أهل المسرح، ولكن المُعارَضة في هذه المسألة تعني الصداقة الحقة. علينا أن نعتقد أن إمكان القيام بدور لير يعود بفائدة خالصة على النظرية، فإذا لم نستطع أداء هذا الدور فالعيب فينا، أي في التدهور الحقيقي لثقافتنا المعرفية والمكتوبة. إن آذاننا الباطنة والظاهرة تتعرض للهجوم من جانب السينما والتلفاز والحاسوب، وغدَت تجد صعوبة في تَفهُّم دقائق أفكار شيكسبير التي تروغ من الذهن. وما دمنا نستطيع أن نرجح أن تراجيديا الملك لير تمثل ذروة الخبرة الأدبية، فنحن لا نملك فقدان قدرتنا على مواجهتها. وضروب عذاب الملك لير تشغل مكانة أساسية داخلنا أو عند معظمنا، ما دامت أحزان صراع الأجيال عالمية بالضرورة.
(ينزع لير تاج الأعشاب والزهور من رأسه.)
وقد انقسمت المملكة بعد سليمان، على نحو ما حدث بعد لير، وإن كنتُ لا أظن أن شيكسبير يقيم بناء شخصية لير على سليمان الذي تَقدَّمَت به السن، بسبب المصائب الخاصة بالممالك. بل كان شيكسبير يسعى إلى ما لا نميل إلى توكيده في أوصافنا للير، ألا وهو نموذج العظمة. وأنا أبدأ هذه الأيام، عندما أقوم بتدريس المسرحية، بالإصرار على إيلاء الصدارة لأسس العظمة التي يقوم عليها لير؛ لأن تلاميذي قد لا يدركون وجودها في البداية، فالسُّمُو الذُّكوري لم يَعُد طرازًا بالغ الشيوع الآن. إذ إنَّ لير يجمع في وقت واحد بين كونه والِدًا وملكًا وربًّا بشريًّا من نوع ما: فهو صورة سلطة الرجل، وربما يكون أقصى تمثيل للذكر الأوروبي الأبيض الذي مات. وقد امتد حُكْمُ سليمان خمسين سنة، وكان النمط الفطري الذي يتمناه الملك جيمز الأول، فهو باهر وحكيم وغني، حتى ولو كانت عواطفه المشبوبة للنساء مقصورة عليه ولا يشاركه فيها جيمز الذي كانت ميوله الجنسية غامضة. وليس لير على الإطلاق صورة لجيمز، فهذا الملك الذي كان يرعى شيكسبير يبدي التعاطف مع لير، دون أن يشاركه نفسيًّا تقسيم المملكة. ولكن لا بد أن جيمز كان يهتم بعظمة لير؛ إذ إنه يرى أنه ملك قلبًا وقالبًا، وأظن أنه كان يرى في لير المُسِنِّ سليمانَ المُسِنَّ، فكل منهما تجاوز الثمانينيات، وكل منهما يحتاج إلى الحب ويريده، وكل منهما جدير بالحب.
والواقع أنني أجد نفسي مضطرًّا، عندما أبدأ تدريس الملك لير، إلى تذكير طلابي بأن لير، على الرغم من نفورنا الظاهر منه في الفصلين الأولين، يتمتع بقدر كبير من حب كورديليا، والمهرج، وأولباني، وكنت، وجلوستر، وإدجار — أي بكل شخص صالح في المسرحية — مثلما يلقى الكراهية والخوف من جانب جونريل، وريجان، وكورنوول، وأوزوالد، أي صغار الأشرار في المسرحية. وأما الشرير الأكبر في المسرحية، إدموند، فهو فائق وغريب، بارد كالثلج، لا يأبه للير مثلما لا يأبه حتى لأبيه جلوستر ولا لأخيه غير الشقيق إدجار، أو لخليلتيه جونريل وريجان. ومن آيات عبقرية شيكسبير أنه لا يدع لير وإدموند يتبادلان الحديث ولو بحرف واحد على امتداد المسرحية؛ لأنهما متضادان تضادًّا مُطلَقًا، فالملك كله مشاعر وإدموند عاطل من كل عاطفة. والتصوير الأساسي للمسرحية، اللازم لفهمها، إدراكُنا أن لير شخص لطيف المَعْشر، ذو قلب ودود، ويحبه حبًّا جمًّا كل من هو جدير بحبنا ورضانا.
ومن الطبيعي أنك، مهما تكن، يمكن أن تكون محبوبًا ومحبًّا ثم تطلب المزيد. فإذا كنتَ الملك لير، ولم تعرف نفسك إلا لمامًا في يوم من الأيام، فستشعر بحاجة شبه خارقة في طلبك للحب، وخاصة من ابنتك التي تحبك بحق، وهي كورديليا. ويتضمن تصدير المسرحية، إلى جانب صلاح لير واستياء جونريل وريجان اللتين أرهقهما تفضيل كورديليا عليهما، عنصرًا ذا أهمية حاسمة، وهو العناد البالغ من جانب كورديليا في مواجهة التوسلات المتكررة بالتعبير عن حب كامل يتجاوز حتى اعتزازها الأصيل بوالدها ذي العواطف الجامحة. كما تُعْتَبر وعورة الشخصية الإنسانية لكورديليا رَدَّ فعل إزاء عاطفة والدها الدَّفَّاقة الغَلَّابة. ومن الخصائص الكثيرة للحبكة المزدوجة التي وضعها شيكسبير، على الرغم من أهميتها المطلقة للير نفسه أن كورديليا، لا تبلغ أهميتها في المسرحية الأهمية الأساسية لنظيرها إدجار. ويَتخطَّى شيكسبير عددًا كبيرًا من الملوك في الفترة التالية لموت لير حتى يجعل إدجار الملك الذي يخلفه على عرش بريطانيا. وكانت الأساطير الشائعة حتى في عصر شيكسبير تنسب إلى الملك إدجار امتيازًا مؤسيًا وهو أنه خلص بريطانيا من الذئاب التي تَسلَّطَت على الجزيرة بعد موت لير.
في تراجيديا الملك لير أربعة أدوار عظمى، وإن لم تكن تستطيع أن تعرف ذلك من معظم العروض المسرحية لها، وليست كورديليا، على الرغم مما تثيره من الإشفاق والحَزَن، أحد هذه الأدوار، ولا تَتمتَّع جونريل وريجان بدورين لهما امتيازهما الدرامي مثل دوري لير والمُهرِّج. وأما إدموند وإدجار، الأخوان غير الشقيقين، فهما يتطلبان ممثلين يتمتعان بالمهارة والقوة، وهو ما يتطلبه دورا لير والمهرج. ولقد شاهدتُ عددًا من الممثلين الذين أجادوا أداء دور إدموند، وكان أحسنهم جميعًا جوزيف وايزمان، منذ سنوات بعيدة في نيويورك، فهو الذي أنقذ عرضًا لولاه لأصبح بشعًا، وكان الذي يقوم بدور لير الممثل لويس كالهيرن، الذي كان يذكرني كيف كان ناجحًا في دور هزلي هو دور السفير ترنتينو في المسرحية الهزلية حساء البط للإخوة ماركس. وكان وايزمان يجمع في أدائه بين ليون تروتسكي وبين دون جوفاني، ولكن هذا الجمع نجح ببراعة، كما توجد مبررات كثيرة في نص المسرحية لهذا المزج الغريب.
مستر ويليم شيكسبير. روايته التاريخية الحقيقية لحياة. وموت الملك لير وبناته الثلاث. مع حياة إدجار التعسة، ابن اللورد جلوستر ووارثه، وتظاهره بلعب شخصية وقورة هي توم المجنون.
وصفة «الوقار» عند شيكسبير توحي بقوة بمعنى المُصاب بالسوداء أو الاكتئاب، وكانت تلك تُمَثِّل نوع الجنون الذي تَظاهَر به إدجار في دور توم المجنون. ويتنكر اللورد كنت في دور كايوس، حتى يخدم الملك لير. وعندما يفر إدجار، مثل كنت، فإنه يحط من قدر ذاته حتى يهبط إلى منزلة تقل عن الدرك الأسفل في المجتمع. لماذا يعمد إدجار إلى اتخاذ أحط تنكر ممكن؟ هل يعاقب نفسه على سهولة خداعه، ومشاركته والده العجز عن اكتشاف خدع إدموند الباهرة؟ إن إنكار إدجار لذاته على امتداد المسرحية يتضمن نشازًا عميقًا إلى الحد الذي يدفعنا إلى افتراض وجود عناد لديه شبيه بعناد كورديليا وإن يكن يزيد عن عنادها كثيرًا. وسواء كان إدجار يمثل دور المجنون أو الفلاح الفقير، فإنه يرفض هويته الحقيقية لأسباب تزيد عن أغراضه العملية. وأنصع ما يتجلى فيه هذا الرفض نصاعة فذة إصراره على عدم الكشف عن حقيقة ذاته لأبيه، جلوستر، حتى حين ينقذه بعد فقدان البصر من القتل على أيدي الحقير أوزوالد، ومن الانتحار، بعد هزيمة لير وكورديليا. وهو لا يكشف عن ذاته إلا عندما يقف على شفا استعادة مكانته الحقة، قُبَيل تَحدِّي إدموند لمبارزته حتى الموت؛ إذ يخبر أباه جلوستر بحقيقته ابتغاء الحصول على مباركته له في المبارزة، ومَشهد التَّعرُّف على إدجار، الذي يقتل فيه جلوستر، من أعظم المشاهد التي لم يكتبها شيكسبير، بل يقتصر على رواية إدجار ما حدث لأولباني، بعد أن جرح إدموند جرحه الذي قضى عليه. لماذا اختار شيكسبير عدم تصوير الحادثة دراميًّا؟
قد تقول الإجابة «المسرحية» إن تعقيدات الخطة المزدوجة بدت لشيكسبير أكبر من أن تحتمل المزيد من التعقيد، فكف عنه، لكنني أشك في صحة هذه الإجابة بسبب [ما أعرفه] عن شجاعة شيكسبير. إذ يصحو لير وقد استعاد رُشْده وتَصالَح مع كورديليا، وهو مشهد يبهجنا جميعًا، كما يتصالح إدجار مع جلوستر، ولو أن الحب الجارف يقتل المكابد الأعمى، وهو مشهد لو صوره شيكسبير على المسرح لتسبب في ألم أكبر. وعلى الرغم من أننا نميل إلى إبراز المهرج، والمغوي المخيف إدموند، إلى حدٍّ كبير، فإن العنوان الفرعي للمسرحية يوجهنا التوجيه الصحيح إلى إدجار، الذي سوف يرث المملكة المخربة. وهكذا فإن إنكار الذات الدرامي عند شيكسبير الذي جعله يتحاشى كتابة المشهد الذي يكشف فيه إدجار عن نفسه لجلوستر يُؤدِّي بالضرورة إلى زيادة توكيد دور إدجار عن دور أبيه الذي يُصغي إلى ما يقصه إدجار عليه. بل ونحن نعرف المزيد عن شخصية إدجار الأدبية والإنسانية بسبب مقتضيات حبكة شيكسبير، وإن كنا قد عرفنا الكثير من قبل عن دور إدجار الذي يمثل الشفقة وقيمة حب الابن لأبيه بصورة أشمل كثيرًا مما تَستَطيعُه كورديليا، ومن ثَمَّ فإنَّني أعود إلى الاستغراق الشديد طوعيًّا في المَهانة التي يُرغِم إدجارُ نَفْسَه على التَّعرُّض لها.
إذا استطعنا أن نَتكلَّم عن مركز شِعْري لا درامي للتراجيديا، فقد نختار اللقاء بين الملك لير، المجنون، وجلوستر الأعمى في الفصل ٤، المشهد ٦، السطور ٨٠–١٨٥، ويقول السير فرانك كيرمود محقًّا إن اللقاء لا يدفع بالحبكة إلى الأمام على الإطلاق، وإن كان يُعتبر ذروة فن شيكسبير فعلًا. ونحن، المشاهدين والقُرَّاء، نركز على لير وجلوستر، ومع ذلك فإن إدجار هو جوقة هذا «الفاصل»، كما أنه حدَّد نغمة الفصل الرابع، في سطوره الافتتاحية التي تقول: «لا يخشى التغيير سوى من بلغ الذروة/أما عند القاع فإن التغيير يصير إلى فرح وسرور.» ويؤدي دخول والده الأعمى إلى إظلام راحة اليأس المذكورة، فيضطر إدجار إلى تنقيح نظرته، قائلًا: «من يستطيع أن يقول إنه/في أسوأ الأحوال حقًّا؟ فالآن زاد سوء حالي.» ولن يصير أسوأ الأحوال إلا عندما يموت في قلوبنا «أسوأ» الأحوال. فإن جلوستر الذي سُمِلَت عيناه ونُبِذ نبْذًا، صورة أبوية توحي بما يكفي لإلقاء الضوء على جنون لير المنبوذ، فإذا بالجنون والعمى يصبحان مزدوجًا عميق الصلة بالمأساة والحب، أي المزدوج الذي يربط أجزاء المسرحية بعضها ببعض، إذ يجتمع الجنون والعمى والحب والمأساة في ساحة حيرة شاسعة.
ويتساءل الشاعر ييتس في قصيدته «عيد الفصح ١٩١٦م» قائلًا: «فلنفرض أن الإفراط بهذا الحب/أوقعهم في الحيرة حتى ماتوا.» ومهما يكن انطباق ذلك على ماكدوناه، وماكبرايد، وكونولي وبيرس، فإن تساؤل ييتس ينطبق على لير نفسه. فالحب، سواء كان حب لير لكورديليا، أو حب إدجار لوالده جلوستر، وللير الذي كان عرَّابًا له، يعتبر ضياعًا في هذه المأساة التي يفوق أساها جميع المآسي. ولا تحظى الشهوة بقدر أكبر من النجاح، فعندما يقول إدموند في نفسه، ساعة أن جاءه الموت إنه، على الرغم من كل شيء، كان معشوقًا، فإن قدرته المفاجئة على الحب تدهشنا، لكننا نود أن نختار كلمة أخرى غير «العشق» للدلالة على العاطفة المشبوبة القتالة عند جونريل وريجان.
تتسم مسرحية هاملت بوجود وعي مركزي، كما هو الحال في مسرحية مكبث، وفي مسرحية عطيل يوجد على الأقل عدميٌّ واحدٌ مهيمن، ولكن مسرحية لير منقسمة على نفسها انقسامًا غريبًا، فإن وعي لير قبل جنونه يتجاوز الفهم اليسير؛ إذ إن جهله بذاته، الممتزج بسلطته المهيبة، يحرمنا القدرة على معرفته، ويبعث لير الحائر حيرته فينا، بعد ذلك، فإذا به يبدو ربًّا ساقطًا أكثر مما يبدو وعيًا بشريًّا؛ إذ يشبه سليمان — عليه السلام — في إحساسه بفقدان المجد، ويشبه يهوه في سرعة غضبه. وأما الوعي المركزي في المسرحية فهو حتمًا وعي إدجار، فهو الذي يزيد عدد السطور التي يتكلمها عن أي شخص آخر باستثناء الملك لير نفسه. وأما إدموند الذي يعتبر أكثر تألقًا حتى من ياجو، وإن يكن أقل منه قدرة على الارتجال وأمهر منه في تدبير مكائد الشر، فإنه يغوص في العدمية أكثر من ياجو، وإن لم يكن في تراجيديا لير أي وعيٍ مهيمن، لبطل أو لشرير. إن شيكسبير، على عكس دعاوى المذهب التاريخي، القديم منه والجديد، يتوهج في كل سياق، ولكن توهجه في هذه المسرحية يفوق كل توهج آخر، وثيمة التَّطرُّف أو الغلو لا تبتعد قط عن نص شيكسبير، باستثناء إدموند، فكل شخص إما يتطرف في الحب وإما يغالي في الكراهية.
وتصل رحلة إدجار في إنكار ذاته إلى ذروة تتمثل في الانتقام، لكنه ينتهي نهاية من غلبه حبه العاجز؛ إذ ظل هذا الحب ينمو باطراد في نطاقه وفي عمقه، ولم يكن نتيجته البرجماتية إلا أن جاء إليه، باعتباره الملك الجديد، بالمزيد من المعاناة. وأما إدموند المستميت في محاولة فعل من أفعال الخير، على الرغم مما كان يصر على اعتباره طبيعته الخاصة، فينقل إلى خارج المسرح ليموت، دون أن يعرف إذا ما كانت كورديليا قد أُنْقِذَت أم لا، ولن يصبر ناقد شكلي أو تاريخي على سؤالي التالي: في أي حال من أحوال معرفة الذات يجد إدموند نفسه أثناء احتضاره؟ إن إحساسه بهُوِيَّته الذي ظل قويًّا حتى غلبه إدجار يتأرجح في مشهد الاحتضار الطويل. لقد اشترك لير وإدجار في ضروب حيرة رهيبة في الهوية، وهي أقرب، فيما يبدو، إلى أن تكون تجليات للتطرف في الحب. والخاطر الذي يعبر عنه شيكسبير يقول إن الحب الحقيقي الوحيد هو الحب القائم بين الآباء والأطفال، ولكن العاقبة الأولى لهذا الحب ليست إلَّا الدمار. إننا لا نستطيع توكيد أي معنى من المعنيين المُتضادَّيْن للطبيعة، عند لير وعند إدموند، بالفحص الدقيق للتغيرات التي يمر بها البطلان في الفصلين الرابع والخامس. فإن قول إدجار: «النضج كل شيء.» يُساء فَهْمُه إذا فسرناه باعتباره مصدر عزاء رواقي، ناهيك بأن يكون سلوانًا مسيحيًّا من نوع ما. إن شيكسبير يردد عمدًا صدى قول هاملت «الاستعداد كل شيء.» وهو في ذاته عكس ساخر لمظاهر النعاس التي بدت على سايمون بيتر، الأمر الذي جعل يسوع — عليه السلام — يقول «الروح جاهزة ولكن الجسم ضعيف.» [«إن الروح نشيط؛ أما الجسد فضعيف.» (مَتَّى ٢٦: ٤١، كتاب الحياة ٢٠٠٣م)]؛ أي إذا استطعنا أن نتحمل الذهاب من هنا قدر تحملنا للقدوم إلى هنا، فإن عبارة «النضج كل شيء.» تحذرنا من مقدار صَغَارِ «كل شيء». ولن يلبث إدجار أن يقول بعد هنيهة، كما يقول و. ر. إلتون: «إن التحمل والنضج ليسا كل شيء.» وحكمته الأخيرة تتمثل في «التسليم والاستسلام لأثقال هذا الزمن الحزين.» وهو استسلام يتضمن أن يلبس التاج على مضض، وأن يقوم بالمهمة التاريخية الفظيعة، وهي التخلص من الذئاب التي كانت قد استولت على بريطانيا.
يقول الدكتور جونسون إنه لا يطيق الفصل الخامس من المسرحية؛ لأنه يطعن في العدالة الإلهية، ومن ثَمَّ فَقَد آذى حسه الخلقي، ولكن الناقد العظيم ربما أخطأ في تحديد رد فعله، فالذي تطعن فيه الملك لير بحق هو تأليهنا العالمي لقيمة الحب الأسري، أي قيمة الحب الشخصية وقيمة الحب الاجتماعية. ويتجلَّى في المسرحية كربٌ عميق فيما يتعلق بالحياة الجنسية البشرية، ويأس قائم على التعاطف فيما يتعلق بالتدمير المتبادل للحب الأبوي للأبناء وحب الأبناء للآباء. وأما الحب الأموي فهو مستبعد من التراجيديا. كأنما كان الحب الطبيعي في أقوى صورة له أشد من أن يحتمل، حتى في هذه الصورة السلبية من السمو والرفعة. فإذا افترضنا وجود الملكة، زوجة الملك لير «فإذا لم تكن من نوع زوجة أيوب التي تقول باقتضاب إن على لير أن يلعن الآلهة ويموت» فإنها كان يمكن أن تضيف عبئًا لا يحتمل إلى دراما تنحر في مشاعرنا نحرًا لا حد له.
وكان هازليت يرى أيضًا أنه من المحال تقديم وصف للمسرحية نفسها أو لتأثيرها في النفس. ومن العجيب إلى حدٍّ ما، بالنسبة لهذا الناقد النفساني الفائق، أن يقول «كل ما نستطيع أن نقوله لا بد أن يقصر كثيرًا عن الموضوع، أو حتى ما نتصوره نحن عن الموضوع». ويمس هازليت هنا أغرب جانب في مسرحية الملك لير، وهو شيء نتصور أنه يُحلِّق خارج نطاقنا التعبيري. وأعتقد أن هذا التأثير ينبع من الجرح الإنساني العام الذي تحدثه المسرحية في قيمة الحب الأسري. فالإلحاح على هذه القضية مؤلم، ولكن كل شيء عن تراجيديا الملك لير مُؤلِم، ولنستعر من نيتشه قوله: لا نقصد أن الألم له معنى بل إن ذلك المعنى نفسه يصبح مؤلمًا في المسرحية، أي إننا نظلم تحولات لير إذا قلنا إنها شافية وتأتي بالخلاص، فمن المحال أن يتوافر بعث جديد حين يتماهى الحب نفسه مع الألم، فكل محاولة لتخفيف ظلمة هذا العمل كذبة نقدية طوعية. وعندما يقول إدجار عن لير «ذاك يعاني من أنجب، وأعاني من أنجبني» فهو يضغط التراجيديا في هذه الكلمات القليلة.
فإذا فككت هذا الضغط الشيطاني فماذا تجد؟ لن تجد، في ظني، موازاة بين براءتين (براءة لير وإدجار) وإثمين (إثم ابنتي لير الكبيرتين وجلوستر) لأن إدجار لا يرى أن أباه مُذْنِب، فعبارة «من أنجب … و… من أنجبني» لا تشير إطلاقًا إلى جونريل وريجان، ولكن إلى المُوازاة وحسب بين علاقة لير بكورديليا، وعلاقة إدجار بجلوستر. فالحب قائم بين هؤلاء الأربعة، ولا شيء إلا الحب يربطهم، ومع ذلك فالتراجيديا قائمة، ولا شيء إلا التراجيديا يربط بينهم ويقيم علاقة من طرف خفي بين بأسه وقوة شكيمته وبين ما يميز كورديليا من هاتين الخصيصتين.
فلولا عناد كورديليا في البداية ما كانت لدينا مأساة، ولكن كورديليا في هذه الحال لن تصبح كورديليا، ولولا إنكار الذات والتحمل العنيد من جانب إدجار، لم يكن ملاك الانتقام الذي يطرح إدموند أرضًا بقادر على الظهور بهذه الصورة التي تمثل تحوله من صورة البريء الساذج. ولنا أن نعجب من عمق تحقير النَّفس وامتداده الزمني، ولكن لولا ذلك لما أصبح إدجار الشخص الذي نعرفه. ولا يوجد جزاء وفاق؛ إذ تُقتل كورديليا، ويُوَطِّنُ إدجار نفسه، مستيئسًا، على تَحمُّل عبء الجلوس على العرش.
ويتخذ النقاد موقفًا أقرب إلى الرجاء، حين يقولون بقدرة الحب على تحقيق الخلاص، وبأن العدالة الشديدة البأس لم يَفْلِت من يدها أي شرير في المسرحية. والوحوش في الأعماق سوف يُحقِّقون جميعًا خواتيم سيئة تناسبهم؛ فإن إدجار يضرب أوزوالد ضربًا يقتله، والخادم المُدافع عن جلوستر يجرح كورنوول جرحًا يودي بحياته، وجونريل تقتل ريجان بالسُّم، ثم تطعن نفسها منتحرة، ويقتل إدجار إدموند بالصورة التي يعرف الجمهور بها أن ذلك قدر إدجار. ولكننا لا نجد أي رضى في هذا القتل للأشرار، فإن القتل يَتَّسِم بهمجية تَحُول دون تَقبُّله، إلا في حالة إدموند، بل إن إدموند، على الرغم من جاذبيته، يَستَحِق مثل الآخَرِين أن يُحاكم على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وقتل هؤلاء لا معنى له، حتى قتل إدموند؛ إذ إنَّ تَغيُّرَه الذي تأخر يعجز عن إنقاذ كورديليا. والواقع أن موت كورديليا، الذي يُؤلِمنا ألمًا يفوق الوصف، لن يكون له معنى لولا ذلك الألم. وقد نُفَاجأ بأن لير وجلوستر يموتان فرحًا أكثر مما يموتان حزنًا، وإن يكن الفرح الذي يقتل لير وهمًا خادعًا، فالواضح أنه في حالة هلوسة، وهو ينظر إلى كورديليا لا باعتبارها ماتت بل باعتبارها بُعِثَت. وفرح جلوستر قائم على الواقع، فإن التطرف في الفرح والتطرف في الحزن اللذين يقتلانه لا يختلف أحدهما عن الآخر من الزاوية البرجماتية: «من أَنْجَبَ ومن أَنْجَبَني» أي إن لير وجلوستر يقتلهما حُبُّهما الأبوي، أو قُل عمق ذلك الحب وصدقه. انظر إلى الحرب بين الأشقاء؛ إلى خيانة ابنتين وابن طبيعي للأبوين؛ وسوء الفهم المعذب لابن مُخلِص وابنة كالقديسة من جانب أبوين نبيلين، والنبذ الكامل لجميع أشكال التلاقي الجنسي باعتبارها عهرًا، وسَلْ ماذا تُخَلِّفه لنا هذه المأساة حتى نتحدث بلا انتهاء عن الأخلاق؟ لا يوجد إلا شكل واحد من الحب الصحيح، ولا يوجد سواه، ألا وهو الحب القائم بين لير وكورديليا، وبين جلوستر وإدجار. وقيمته — إذا نحينا الأحكام الأخلاقية التعاليَّة غير المتصلة بالقضية — قيمة أقل من سلبية: قد يكون أقوى من الموت، لكنه لا يؤدي إلا إلى الموت، أو إلى «الموت في الحياة» عند إدجار الفذ، أعظم ناجٍ بين الناجين عند شيكسبير.
لن نصادف من يقول إن مأساة الملك لير تعتبر انحرافًا في مسار شيكسبير؛ إذ تمثل المسرحية تطويرًا لبعض جوانب هاملت، وطرويلوس وكريسيدا، ودقة بدقة، وعطيل، كما تُعْتَبر بوضوح مُقدِّمة لبعض جوانب مكبث، وأنطونيو وكليوباترا، وتايمون الأثيني. ولا تبدو مسرحية أخرى أقرب من الملك لير لما كان يشغل اهتمام شيكسبير بلا انقطاع سوى هاملت، والواقع أن ما تضمره المسرحيتان من دلالات نهائية يجعل المسرحيتين تتداخلان وتشتبكان. هل يضمر هاملت حبًّا لأحد عند احتضاره؟ إن الهالة التعاليَّة التي تنشئها لحظات احتضاره، أو إحساسنا بحريته الكاريزمية، تستند — على وجه الدقة — إلى كونه متحررًا من الارتباط بأي أحد، والدًا كان أو والدة، أو أوفيليا، أو حتى يوريك المسكين. ولا يذكر هاملت كلمة «أبي» إلا مرة واحدة في الفصل الخامس، وهي تشير إلى خاتم أبيه الملك الذي استخدمه في إرسال روزنكرانتس وجيلدنستيرن إلى الهلاك. وأما الإشارة الوحيدة إلى أبيه باعتباره شخصًا فتأتي عندما يقول إن كلوديوس قد قتل «مَلِكِي» وزنى بوالدته. ووداع هاملت لوالدته «إلى اللقاء يا مليكة شقية» وداعٌ لا ينم على عاطفة ملتهبة، ولكن لدينا هوراشيو بطبيعة الحال الذي يدفعه حبه لهاملت إلى حافة الانتحار، وينقذه هاملت منه، وإن يكن الغرض الأوحد لنجاة فرد ما هو تبرئة اسم هاملت الجريح. ولا شيء على الإطلاق مما يحدث في مأساة هاملت يقدم شيئًا إلى الحب غير اسم مجروح. إن شيكسبير يحول الحب بأية صورة له — أسرية أو عشقية أو اجتماعية — إلى أعظم القيم الدرامية والجمالية، ويتفوق في هذا على أي كاتب آخر. ولكن شيكسبير يتفوق أيضًا على كل كاتب آخر في انتزاعه أية قيم مفترضة في الحب وحده.
لا نستطيع أن نصف المعالجة النقدية المضمرة للحب عند شيكسبير بأنها مذهب تشكك وحسب، وقد تعلمت من الدكتور جونسون أن النقد الأدبي فَنُّ تحويل ما هو مُضْمَر إلى ما هو صريح واضح، وأقبل المخاطرة بالخوض تفصيلًا فيما يراه الكثير بيننا واضحًا كل الوضوح، حين يطلب منا التفكير فيه مليًّا. وقد ذاع عن الشاعر أودين بيت يقول فيه: «لا نَقْدِرُ أنْ نَخْتَارَ حَبِيبًا أَحْبَبْنَاهُ بِحُرِّيَّة.» وقد يكون قد تأثَّر فيه بفرويد، ولكن سيجموند فرويد، على نحو ما تبين ضروب انتقام الزمن لم يكن غير وليم شيكسبير الذي جاء في زمن متأخر، أو «الرجل من مدينة ستراتفورد»، كما كان يحلو لفرويد أن يسميه، تأييدًا لتلك العبقرية المنهوبة، عبقرية لورد أوكسفورد. فلدينا الحب الذي يمكن تجنبه، ولدينا نوع أعمق من الحب، محتوم ورهيب، وأقرب كثيرًا من جوهر ابتكار شيكسبير للشخصية الإنسانية. ومن الأدق فيما يبدو أن نصفها هذا الوصف بدلًا من أن نقول إعادة ابتكار؛ لأن الزمن الذي مر علينا قبل أن يؤثر فينا شيكسبير تأثيره الكامل كان أيضًا «قبل أن تكتمل إنسانيتنا ونعرف أنفسنا» كما صاغ الفكرة والاس ستيفنز ذات يوم. والحب الذي لا إصلاح له، والذي يدمر كل قيمة منفصلة عنه، كان يمثل، ولا يزال، انشغالًا رومانسيًّا يبلغ حد الهوس. ولكن تمثيل الحب في أعمال شيكسبير، وبقلم شيكسبير، كان مصدر التأثير الأكبر الذي أنتج الرومانسية.
ويعتبر أ. د. ناطول، أعظم ناقد من نقاد القرن العشرين تمكن من إيضاح بعض المفارقات الأساسية في تمثيل شيكسبير للإنسان، وأنا أذكر على الدوام ملاحظتين من ملاحظاته، أما الأولى فتقول إن شيكسبير يسبقنا بإلقاء الضوء على أحدث طرزنا الفكرية، بتحديد يتجاوز قدرتها على إيضاح كتاباته، وأما الثانية فتقول إن شيكسبير يمكِّننا من رؤية بعض الحقائق التي ربما تكون موجودة سلفًا لكننا لم نكن نستطيع رؤيتها من دونه. ولا يُعْجِبُ أتباعَ المذهب التاريخي — بصوره القديمة والجديدة والناشئة — أن أضيف إلى ما يقوله ناطول قولي إن الاختلاف بين ما كان شيكسبير يعرفه وبين ما نعرف نحن، ينحصر إلى درجة مدهشة، في شيكسبير نفسه وحسب. إنه ما نعرف لأننا ما كان يعرف: لقد اتخَذَنا أبناء واتخذناه أبًا. ولو كان شيكسبير، مثل جميع معاصريه ومعاصرينا جميعًا، لا يزيد عن كيان اجتماعي مكتوب، طابعه مسرحي وخيالي، ومن ثم فليس على الإطلاق مؤلفًا مستقلًّا بذاته، فذلك أفضل. ربما كان بورخيس يقصد أن يقدم مفارقة تشبه مفارقات تشيسترتون، ولكنه صدق فيما عَبَّر عنه تعبيرًا تزيد دلالته الحقيقية صدقًا عن دلالته المجازية قائلًا: شيكسبير كل واحد ولا أحد. ونحن كذلك، ولكنه يزيد عنا في ذلك. وإذا أردت أن تقول إنه كان ذا طراز متفرد يزيد فيه عن جميع أصحاب الطرز المتفردة تأرجحًا وقلقًا، وافقتك بسرور. ولكن الحكمة لا يمكن أن تكون من ثمار الطاقات الاجتماعية، مهما تكن، فالقوة المعرفية والقلب المتفهم مواهب فردية. كان فتجنشتاين يريد بإلحاح أن يرى شيكسبير باعتباره مبدعًا للغة لا مبدعًا للفكر، ومع ذلك فإن طبيعة شيكسبير البرجماتية الخاصة تجعل هذا تمييزًا لا تأثير له، فإن كتابة شيكسبير تخلق ما يجمع بين اللغة والفكر في موقف لا يؤكد التقاليد الغربية ولا يهدمها. أما ما هذا الموقف فأمر لا يزال يُحَلِّقُ متجاوزًا التصنيف في بحوثنا النقدية.
إن «مدرسة الاستياء» عندنا مشغولة إلى حد الهوس بما يسمى الهيمنة الاجتماعية، ولكن هذه القضية لا تزيد عن كونها انشغالًا ثانويًّا عند شيكسبير، ربما تشغله قضية الهيمنة، ولكنها ذات نمط أقرب إلى الطابع الشخصي منه إلى الطابع الاجتماعي، وأقرب إلى الباطن منه إلى الظاهر. إن أعظم نساء شيكسبير ورجاله يسعون، برجماتيًّا، إلى القضاء على أنفسهم، لا بسبب علاقتهم بسلطة الدولة بل لأن حياتهم الباطنة قد مزقتها ضروب التضاد والتناقض للحب الأسري وأنواع إزاحته [أي كل ما يحل محله]. فإن في داخل كل منا دافعًا، إلا إن كان مثل إدموند، إلى قتل نفسه على «جذوع مولده» بلغة الشاعر وليم بليك، وإدموند يفتقر إلى هذا الدافع، لكنه يقع في الدائرة المفرغة التي تجعله من حمقى الزمن هو الآخر. فالزمن غريم فولسطاف ورب الثأر عند مكبث، وهو يناقض الطبيعة في مسرحية لير. وهكذا فإن إدموند الذي لا يمكن أن يدمره الحب، الذي لا يشعر به قط، تدمره عجلة التغيير الذي جعلها تبدأ الدوران للقضاء على أخيه غير الشقيق، وأما إدجار المكابر العنيد فمن المحال أن يهزم، وتتجلى براعة توقيته في اللحظة التي يقابل فيها مع جلوستر أوزوالد البلطجي.
وأفضل مبدأ لقراءة شيكسبير مبدأ إمرسون الذي يقول: «شيكسبير هو الوحيد الذي كتب سيرة شيكسبير، لكنه لا يستطيع أن يخبرنا بشيء، إلا ما يوجهه إلى شيكسبير في باطننا.» وأنا نفسي لا أنحرف عن إمرسون إلا قليلًا؛ إذ أعتقد أن شيكسبير وحده هو الذي وضع شيكسبير في باطننا. وأنا لا أعتقد أنني ذلك الشيء الفظيع، أي «صاحب المذهب الإنساني الجوهري»، الذي يحط كثيرًا منه الشيكسبيريون من أشباه الماركسيين حولنا. وباعتباري فئة غنوصية لا يشاركني فيها أحد، أجد أنني أتغاضى عن افتراض أن شيكسبير كان يسعى لهدم أيديولوجية عصر النهضة وأن في كتاباته تلميحات بإمكانيات ثورية. ويطلب مني الماركسيون الجوهريون أو داعيات المذهب النسوي أو أتباع هايديجر الفرنسيون أن أقبل شيكسبير الذي صاغوه على صورتهم، وأما شيكسبير في باطني، مهما يكن أسلوب وجوده عندي، فهو يتجلى في وجود أعمق وأعرق من الهدم الجاري، في جانب كبير من مؤلَّفاته، ولكن خصوصًا في التراجيديات الأربع الرفيعة، أو في تراجيديات سفك الدم الأسرية.
لقد صور دوستويفسكي شخصيتي «سفيدريجالوف» و«ستافروجين» على نسق ياجو وإدموند، أما نيتشه وكيركجارد فقد اكتشفا وجود النموذج الذي يرهص بالشخصية الديونيسية عند هاملت، وأما ميلفيل فقد رسم صورة الربان آهاب على نمط مكبث. والباحثون العدميون يظهرون لنا، خارجين من الهوة الشيكسبيرية السحيقة، مثلما ظهر لنا فرويد في أشد حالاته غرابة. وأنا لا أقدم صورة شيكسبير عدمي أو غُنُوصيٍّ، ولكنَّ مَذْهب الشك وحده لا يمكن أن يكون أصل التدهور الكوني الذي يمثل السياق لتراجيديا الملك لير وتراجيديا مكبث. إن سليمان — عليه السلام — ذو صورة عدمية في سفر الجامعة، وفي سفر حكمة سليمان؛ إذ يقول لنا في هذا العمل الأخير المنحول، إننا نجيء «بمغامرة وسوف نكون في الآخرة كأنما لم يكن لنا وجود سابق قط.» وكان ميلتون المُهَرْطِق لا يؤمن بأن الله خلق الدنيا من العدم، ونحن نجهل ما يؤمن وما لا يؤمن به شيكسبير. ويقول و. ر. إلتون إن لير ليس ماديًّا أبيقوريًّا وليس من أصحاب مذهب الشك، فالأرجح «ما دام يرفض فكرة الخلق من العدم، فإنه وثنيٌّ ورعٌ لكنه مسيحي ذو شكوك.» وهو ما يناسب مسرحية وثنية مُقدَّمة إلى جمهور مسيحي. وينبغي أن نذكِّر أنفسنا دائمًا أن لير قد تجاوز الثمانين من عمره بفترة طويلة، ودنياه تبلى به إلى حافة العدم. فعلى نحو ما نرى في مكبث، يوحي الموقف بنهاية زمن ما. وأما بعث الجسد الذي كان يجهله سليمان فإن لير أيضًا يجهله؛ إذ يموت وقد سيطر عليه وهمٌ واضح يقول إن كورديليا بُعثت من الموت.
تنتمى مسرحية الملك لير إلى لير لا إلى إدموند، لكنها أيضًا على نحو ما أكرر الإشارة إليه، تنتمي إلى إدجار، ومن المفارقات أن صورة إدجار الأخيرة قد خلقها إدموند عَرَضًا. والرمز المركزي في المسرحية هو التفكه الوقور أو المتصنع، عند توم المجنون [الشخصية التي يصطنعها إدجار لنفسه]: فهو فيلسوف، ومهرج، ومجنون، وعدميٌّ ومُتصَنِّع، وهو كل هؤلاء في الوقت نفسه دون أن ينفرد بواحد منهم فحسب. إننا نواجه رعب التوليد والنشوء الذي يزداد عمقًا كلما ازدادت التراجيديا شدة، ويشارك إدجار هذه الشدة مع لير؛ إذ يزداد إدجار قسوة علي امتداد المسرحية. ولا شيء يمكنه «تحلية» تصور إدجار للحياة الجنسية، وأما إدموند، الداعر البارد، ففيه تبجح لذيذ: «أيهما آخُذ؟ كلاهما؟ واحدة؟ أم أترك كلًّا منهما؟» إن إقامة علاقة مزدوجة مع جونريل وريجان قد تُرْبِكُ حتى الملك ريتشارد الثالث، أو هارون المغربي، ولكنها طبيعة ثانية عند إدموند، الذي يُرجع أسباب حيويته، وخلائه من النفاق، وطاقة تدبير المؤامرات، إلى كونه نغلًا أي ابن سفاح، فذلك عامل يثير كبرياءه ويورث روحه بعض القلق:
هذا هو إدموند «ذو الفتوة والعنفوان» لا الرجل الذي أصيب بجرح قاتل ولا يزال قادرًا علي دقة التعبير قائلًا: «لكنه انتهى كما انتهيت.» وفي هذه اللحظة يقدم إدجار عكس النظرة إلى «شهية الطبيعة التي قد أنجبتنا خلسة.» قائلًا:
وهذا ما يقبله إدموند أثناء احتضاره، ولكن يُمكِن الحكم على ذلك بأنه مُقْلِق إلى أبعد الحدود، إن «ظلام فراش الإثم» لا يبدو في صورة فراش زنى بل يبدو متماهيًا مع ما يلصق لير وصمة به أثناء جنونه:
وعلى الرغم من البهاء الذي يبدو عليه ابن جلوستر، والطفل الذي كان الملك لير نفسه عَرَّابًا له، ونجاحه في الثأر والوعد بجلوسه على العرش في المستقبل، فإن إدجار يصاب بأضرار من جوانب كثيرة نتيجة محنة إنكاره ذاته فترة طويلة. وليس بأهون هذه الأضرار خوفه الواضح من الحياة الجنسية للمرأة، «ذلك المكان المظلم الأثيم». فلقد دفع ثمنًا باهظًا لقاء هبوطه الطويل في الشخصية الوقورة التي تنكر فيها، وهي توم المجنون. وثمن ثبات إيمان إدجار يتمثل في ذلك الجرح الوحشي في نفسه، ولكن المسرحية برمتها تعتبر جرحًا إلى حدٍّ يزيد عمَّا تعترف به تقاليدنا النقدية. ولقد هبت الناقدات النسويات أخيرًا، بصحبة من تأثر بهن، للتصدي للغة الصادمة والهيستيريا الذكورية التي تحكم الكراهية الظاهرة للمرأة في دراما لير. وأقول «الظاهرة» لأن النفور من الحياة الجنسية برُمَّتها، من جانب لير وإدجار قناع يُخفي غربة أعمق، أو ابتعادًا أشد لا من الحب الأُسَري المتطرف بقدر ما هو إجفال إزاء الحيرة التي يولدها مثل هذا الحب. إن إدموند ذكي واسع الحيلة، ولكن مزيته الأولى والأولية على كل من في المسرحية تتمثل في حريته الكاملة من أي حب أسري، وهي حرية تزيد من جاذبيته المهلكة لجونريل وريجان.
فما الحب إلا عاطفة واحدة من عواطف كثيرة، وما دامت لا تتمتع بقدرة كبيرة على التأثير في مجمل الحياة، فإنها لا تقوم بعمل كبير في مسرحيات الشاعر، إذ إنه التقط هذه الفكرة من العالم الحي، ولم يعرض لنا إلا ما شاهده أمامه. كان يعرف أن أية عاطفة أخرى، إذا كانت عادية أو مغالًى فيها، تؤدي إلى السعادة أو الفاجعة.
وجونسون يتحدث هنا عن الحب الجنسي لا عن الحب الأسري، وهو التمييز الذي تَعلَّمَ فرويد من شيكسبير أن يتحاشاه إلى حدٍّ ما؛ إذ يقول فرويد إن الرغبة المكبوتة عند لير، المنتمية إلى غشيان المحارم، تجاه كورديليا، هي سبب جنونه. كما يقول فرويد أيضًا إن كورديليا تلتزم صمتًا مريبًا في بداية المسرحية بسبب استمرار رغبتها في والدها. ولا شك في أن الحب الأسري بين سيجموند فرويد وابنته أنَّا كان له تأثيره في سوء القراءات الضعيفة ذات الطرافة البالغة. والحب المتطرف عند لير يتجاوز حتى ارتباطه بكورديليا وينسحب على المهرج وبعض الآخَرِين. و«حب العبادة» للملك لير من جانب كنت وجلوستر وأولباني، وخصوصًا من جانب إدجار، ابنه في العماد، موجه لا نحو الصورة العظمى للسلطة وحسب بل أيضًا إلى الرمز المركزي للحب الأسري أو الحب الذكوري (إن كنت تفضل هذه الصيغة). فالمغالاة في العاطفة المشبوبة أو الاندفاع الشديد للحب الأسري عند لير وعند إدجار هو سبب الفاجعة. فالتراجيديا في أعمق صورها، سواء كانت في أثينا أو في مسرح الجلوب بلندن، لا بد أن تكون تراجيديا أسرية، أو تراجيديا الدم، بالدلالتين للدم [أي القرابة وسفك الدماء]. لا يريد أحد أن يغادر عرضًا مسرحيًّا للملك لير أو ينتهي من قراءتها مغمغمًا إن الشكل الأسري تراجيديٌّ بالضرورة، ولكن ذلك ربما يمثل عدمية المسرحية آخر الأمر.
٢
ويعتبر لير أرفع شخصيات شيكسبير وأشدها إرهاقًا في الأداء. أما هاملت فنحن لا نقيسه بمقاييسنا؛ لأنه ذو كاريزما وشعلة من ذكاء، ولكننا على الأقل نفهم المسافة التي تفصلنا عن هاملت، وأما لير فإنه يتجاوزنا في الجلال والسلطة الأساسية، ومع ذلك فإنه قريب من نفوسنا قربًا مزعجًا ما دام يعتبر رمزًا للأبوة ذاتها. فعلى الرغم من ولوع لير بالمبالغات الشديدة، وفصاحته الجنونية، فإنه دائمًا ما يطلب من الحب أكثر مما يمكن تقديمه (في الحدود الإنسانية) ولذلك فكثيرًا ما نسمعه عندما يتكلم وقد تجاوَز ما يقال إلى ما لا يقال. ومن ثم فهو نقيض هاملت، فنحن نشعر بأن هاملت يقول كل ما يمكن أن يقال، وهو أكثر كثيرًا مما نستطيع قوله، مهما نكن. ولير يقتحمنا اقتحامًا، وفق تدبير شيكسبير؛ لأنه ينجح على نحو ما، في أن يقول ما لا يستطيع أحد أن يقوله، بل ولا هاملت نفسه. فمنذ أولى ألفاظه («وريثما يجيء كل منهما سنكشف الخبيء مما قد عزمنا فعله») إلى آخرها («فهل ترى هذا؟/انظر إليها … انظر إلى شفتيها … انظر هناك انظر هناك!») نجد أنه لا يستطيع أن يتكلم إلا أزعجنا. والقوة البلاغية عند لير تجعل كورديليا بكماء عنيدة «ما أشقاني إذ أعجز عن أن أخرج ما في قلبي بلساني.» وبعد أن أصغينا لمداهنات جونريل وريجان، تحدث ألفاظ كورديليا تأثيرًا مناقضًا لتأثيرهما، فكل شيء تقولانه مُبالَغ فيه، طَنَّان، أَجْوَف، زائف، بل كريه مثلما نرى في قول جونريل: «حب يَجِل عن الكلام ويقصر التعبير عنه.» وقول ريجان: «ولستُ أعرف السعادة/إلا بحب مولاي العزيز.»
إن لير يحب المهرج ويعامله معاملة الأطفال، ولكن المهرج ليس له عمر مُحدَّد، وإن يكن من الواضح أنه لن يبلغ سن النضج. هل هو إنسان حقًّا أم روح أم عفريت صغير؟ إن أقواله تختلف اختلافًا شاسعًا عن أقوال أي مهرج في البلاط عند شيكسبير، وهو الوحيد الذي ينتمي، فيما يبدو، إلى عالم سحريٍّ غامضٍ. ولكن أقواله المتضاربة بحدة للملك لير، المستندة إلى غيظه من نفي كورديليا والتدمير الذاتي الذي يمارسه لير، تعتبر أحد الابتكارات الرائعة للعاطفة البشرية عند شيكسبير. ونحن لا نقابل المهرج إلا في الفصل الرابع من المسرحية، عندما يبلغ لير أن المهرج غائب منذ يومين، ويقال له «منذ أن رحلَتْ سيدتي الصغيرة إلى فرنسا والمهرج حزين مكلوم.» وعبارة التحذير التي قالها لير لابنته كورديليا «لا شيء سيخرج من لا شيء يا عمي؟» وإجابة الملك «لا يا بني طبعًا. لا شيء يخرج من لا شيء». إن هذين وثنيان يَتحدَّثان، لكنهما يكادان أن يسخرا، فيما يبدو، من المبدأ المسيحي الذي يقول إن الكون خلق من العدم. وهاك ملاحظة يقولها المهرج ويتردَّد صداها في كل مكان. إذ يقول للملك: «لقد قشرت عقلك من الجانبين، ولم تُبقِ شيئًا في الوسط» فهو يعتبرها نواة لجميع بلايا المسرحية، بمعنى أن لير لا يستطيع الحفاظ على القسم الأوسط من سيادته حين قَسَّم نصيب كورديليا في وسط المملكة بين إقليم جونريل الشمالي، وطغيان ريجان في الجزء الجنوبي، وهكذا فإن لير، الذي كان كل شيء في ذاته، يتحول الآن إلى لا شيء:
ومن العدم يصعد لير إلى الجنون، وحافزه في كل درجة تقريع المهرج الذي لا يتوقف:
ويحظى جنون لير بمناظرات كثيرة؛ إذ يقال إن نفوره من جونريل وريجان يصبح رعبًا لا إراديًّا من الحياة الجنسية الأنثوية، ويبدو أن الملك يوازي بواعث عذابه بعناصر أنثوية يستشفها في طبيعته. وقد قدمت جانيت أديلمان لنا أفضل تحليل لهذه المسألة العسيرة (في كتابها أمهات خانقات ١٩٩٢م) إذ تقول إن شيكسبير نفسه ينقذ «ذكورية مُهدَّدة» بقتل كورديليا. وقياسًا على هذه الحجة، الدقيقة والمتطرفة، نرى أن فلوبير يفعل الشيء نفسه ببطلته إيما بوفاري، بل وأن نصير المرأة صمويل ريتشاردسون ينتهك بطلته كلاريسا هارلو في تدهورها الانتحاري والموت. وتعتبر أديلمان أعلم وأقوى الذين يُؤكِّدون اليوم ذنب لير في كل ما أصابه من كوارث. وأجد من المُفارَقات الغريبة أن النَّقد النسوي قد اعتنق التضاد في موقف المهرج من لير، وبذلك قد تَجاوَز المُهرِّج الذي لا يتوقف على أية حال عن حب الملك. وترى الناقدات النسويات أن لير ارتكب من الخطايا أكثر مما ارتُكِبَ ضده منها. فإذا لم تستطع أن ترى حقًّا أن جونريل وريجان من وحوش البحار، فلا بد أن أيديولوجيتك ترغمك على أن تؤمن بأن كل الذكور خاطئون، ومن بينهم شيكسبير ولير. ولكن هذا يعود بنا إلى المعضلة الرئيسية عند مدرسة الاستياء في النقد الشيكسبيري، سواء كانت نسوية أو ماركسية أو تاريخية «يلهمها فوكوه». فإقامة السياقات المذكورة ليست على الإطلاق مناسبة، بوضوح وتميز، لشيكسبير، وسياقات الاستياء المذكورة تصيب القدر نفسه من النجاح أو الفشل عند تناول صغار الكتاب وكبارهم، وإذا كان المذهب الحاكم نسويًّا فإنها سوف تنجح أو تفشل بالقدر نفسه عند تناول الكُتَّاب الذكور جميعًا مهما يكونوا. والقول بأن شيكسبير، وهو مُجرَّد ذكر آخر، كانت تعذبه تخيلات مصدرها الأم، لا يساعدنا على الإطلاق على إيضاح السبب أو الأسلوب الذي أصبحت به الملك لير، فيما يقال، أقوى عمل أدبي والعمل الأدبي الذي لا يمكن التغاضي عنه. ولا يزال المهرج ناقدًا أفضل للملك لير من جميع المستائين المُتأخِّرين النافرين منه؛ لأن المهرج يقبل رفعة لير وتفرده وهم لا يستطيعون قبول ذلك.
ويُعْتَبر لير خاطئًا فعلًا، من منظور المهرج، لسبب واحد وهو عدم تمتعه بالقدر الكافي من الأبوة اللازمة لقبول إصرار كورديليا على عدم التعبير عن حبها. وطبقًا لهذه النظرة فإن لير مدان بالتنكر لأبوته، فإن تقسيم مملكته وخيانة سلطته الملكية يعني أيضًا تخليه عن كورديليا. والرعب الكامن في رؤية المهرج لا هو مناهض للمذهب النسوي ولا مناصر له، بل ينتمي بغرابة إلى فكر نيتشه، وذلك ما دام يصرُّ هو أيضًا على أن صورة الأبوة هي المنطقة الوسطى التي تستطيع وحْدَها الحيلولة دون تحول الأصول والغايات إلى بعضها البعض، والمهرج رؤيته دقيقة، وقطعًا فيما يتعلق بسقوط لير في التقسيم وفي اليأس، وكذلك في رعبه من أن الكون الذي يرتكز على لير سوف يصاب بالتدهور مع الملك. وكل ما يتوجسه المهرج من سوء يمثل رؤية دقيقة للغيب، ومن المفارقات ألا يفهمه إلا الجمهور (وكنت)، ولكن لير لا يكاد يفهمه قط، فهو يصغَى ولكنه لا يسمع قط، ولا يستطيع أن يُدرِك أنه المخطئ الذي يشير إليه المهرج. ولكن ما دافع المهرج؟ ما إن يقسم لير نصيب كورديليا من المملكة بين جونريل وريجان، يكون الوقت قد فات ولم يعد لكلمات التحذير والإرشاد قيمة برجماتية على الإطلاق، والمهرج يعرف هذا. والأقوال الملتبسة المعنى؛ أي التي تتضمن دلالات متضادة، منفلتة الزمام عند المُهرِّج، ولكن معاقبة لير بزيادة جنونه لا تأتي بخير، إلا للدراما نفسها:
وينشد المهرج ولير أغنية لثلاثة أصوات مع حفار القبور، في هذه الجوقة الروحية العظمى لانهيار كل شيء ودماره. وعندما يخبر أحد السادة كنت، في بداية الفصل الثالث، أن المهرج «يجهد نفسه في وضع فكاهات قد تُنسى الملك جراح القلب»، نشعر أن هذا خطأ. وعندما يقود «كنت» الملك والمهرج إلى كوخ صغير هربًا من العاصفة، يسمح شيكسبير للمهرج بأن يدلي بنبوءة تذكرنا بشعر وليم بليك:
يا لها من أنشودة غريبة ورائعة ودفاقة بالحياة، وهي تتجاوز شجو لير وغضبة المهرج الطفولية. من المهرج الذي ينشدها، وما الذي أوحى لشيكسبير بمثل هذه الفورة؟ ويكف المهرج بعد تنبؤه عن إذكاء جنون لير، ويصبح مثل شريد يثير عطفنا، ثم لا يلبث أن يختفي بصورة غير مفهومة من المسرحية. وربما كان شيكسبيري يرى أنه يحاكي تشوسر محاكاة ساخرة في السطور الأولى لشعر المهرج المنظوم، ويستشهد مباشرة [أي من باب التضمين] بالسطرين اللذين يُنْسَبان خطأً إلى تشوسر (وهما «فسوف يحل بهذي البلاد/دمار وفوضى بغير زمام») ولكن المهرج يتجاوز المحاكاة الساخرة، فيقدم إدانة قوية غير مباشرة لحياة إنجلترا في عهد الملك جيمز الأول، فتنصب إدانته البهيجة على رءوس الكهنة، وصانعي الخمور، والنبلاء، وحائكي الملابس. ويجري هذا كله بأنغام لطيفة مَرِحة، و«الدمار والفوضى» في إنجلترا سيجدان من يصلحهما بنبرة سخرية إنكارية، إذ يتلوها الهبوط من الذروة هبوطًا رنانًا، بأن يستخدم الإنجليز أقدامهم في المشي! ويعلق المهرج على ذلك قائلًا: «هذه النبوءة التي سوف يُقدِّمها العراف ميرلن، فأنا أحيا في عصر سابق لعصره.» وهو ختام طريف لأنشودة من الهراء، وهي التي تربط ما بين المهرج وبين سحر ميرلين. وعلى الرغم من وقوع المهرج في نهاية اللعبة عند الملك لير، فإنه أيضًا مُتحرِّر من الزمن، ولنفترض أنه انجرف إلى خارج المسرحية حيث حقبة زمنية أخرى، ونسمع له صدًى أخيرًا عندما يشير لير إلى شنق كورديليا فيقول: «مهرجي المسكين قد شُنِقْ!» أي إنه يُماهِي بين كورديليا والمُهرِّج في خطاب احتضاره، وهو دليل على الاختلاط، أي «الدمار والفوضى» اللذين أصابا إنجلترا.
٣
منذ عقد أو نحو ذلك كنت أضطر إلى الدفاع عن لير في وجه نفور الكثير من الإناث من طلابي، ولكن هذا الزمن قد ولَّى. وسوف تظل الناقدات النسويات غاضبات على الملك الهرم المجنون ربما على امتداد عقد آخر. فأنا أظن أنهن لن يَستطِعْن تجنيد أعداد كبيرة في مطلع القرن الحادي والعشرين، ما دام لير بطلًا مناسبًا إلى حدٍّ بعيد للألفية الثالثة وما بعدها. ولا شك أن فاجعته تتسبب في سورات غضب وحنق على الأم في باطنه، ومع ذلك فإنه يعي بالحاجة إلى «تحلية» «مخيلته»؛ إذ إن عودة كورديليا تشفيه، وليس بسبب الأنانية وحسب. فليس شيكسبير هو الذي يدمر كورديليا بل إدموند (ملغيًا الأمر الذي تَلقَّاه بعد فوات الموعد) وليس على الإطلاق نائبًا يتحدث باسم شيكسبير. وسوف أقيم الحجة على أن إدموند يمثل كريستوفر مارلو، الذي بَشَّرَ بشيكسبير وغدَا منافسًا مزعجًا له، وكان تأثيره قد انتهى فعليًّا قبل ذلك بزمان، بقدوم فوكينبريدج النَّغْل، وبوطوم، وشايلوك، وبورشيا، وفولسطاف الحاسم. ولكن مارلو يعود ويتألق في صورة إدموند، لكنه يمسي ظلًّا تحت سيطرة شيكسبير، ومن ثم فهو نقيض الملك لير، ولا يستطيع حتى أن يخاطب الملك الجليل. ولإدموند سحره، وهو يتفوق على ياجو؛ لأنه رجل استراتيجية لا بطل ارتجال. وهو أشد الشخصيات الإنسانية برودًا عند شيكسبير، كما أن لير ذو عاطفة تتسم بأقصى درجات القلقلة والعمق، ولكن ابن السِّفَاح الذي أنجبه جلوستر ذو جاذبية خلَّابة، لا في نظر جونريل وريجان المفتونتين به وحسب، وهما اللتان تموتان في سبيله. فإذا أدى أحد الممثلين دوره أداءً صحيحًا، بدا أنه يُعْتَبر أرفع الأشرار في عهد الملك جيمز الأول، فهو ذو رقي بارد، وعدم اكتراث مخيف، ما دام يعتبر مكيافيليًّا وكان يمكنه الظفر بالسلطة العليا لولا أن عاد إدجار المنتصر لتوجيه الاتهام إليه والثأر منه. ويعتبر إدموند وإدجار (الأخوان) أطرف أخوين عند شيكسبير، ولقد سبق أن ناقشت ما قام به إدموند من إعادة خلق إدجار، ساخرًا ودون تَعمُّد، ولكن ما دام كل منهما يمثل النغمة الباطنة للآخر، فسوف أؤجل النظر في بطل المسرحية المطلق حتى أنتهي من فحص الشرير الرئيسي فيها: إن إدموند يفوق في مكائده كل شخص في المسرحية، ويخدع إدجار بسهولة، ولكن مظهر إدجار — المتمثل في تصنع كونه توم المجنون وقيادة والده الأعمى — ينتج بطلًا صنديدًا يشهر سيف العدالة ويقضي على إدموند بسهولة مَحتومة بعد أن تدور العجلة دورتها الكاملة. والتفاعل بين إدموند وإدجار تَتجلَّى فيه بوضوح جدلية مصير لير (ومصير إنجلترا) أكثر من مصير جلوستر، ما دام إدجار هو ابن العماد للير وخليفته غير الطوعي، في حين أن إدموند يمثل الصورة السلبية الدقيقة للملك الهرم.
في الفصل الخامس، المشهد الثالث، يدخل إدموند مع لير وكورديليا اللذين اعتقلهما، وهذه هي المرة الثانية وحسب التي يشارك الملك لير وجوده على خشبة المسرح، وسوف تكون الأخيرة. وقد نتوقع منه أن يخاطب لير (أو كورديليا) ولكنه يتحاشى ذلك ويشير إليهما بضمير الغائب فقط فيما يصدره من أوامر. فالواقع أن إدموند لا يريد أن يحادث لير؛ لأنه يدبر خطة عملية لقتل كورديليا، وربما قتل لير أيضًا. ولكن جميع تعقيدات الحبكة في ذاتها لا تقدم لنا إيضاحًا مقنعًا لهذه الفجوة الواضحة في المسرحية، وأنا أعجب للسبب الذي حدَا بشيكسبير إلى تَجنُّب المواجهة. لك أن تقول إنه لم يكن يحتاج إليها، ولكن هذه الدراما تعلمنا ألا نتكلم عن الحاجة. وشيكسبير كتابنا المقدس، ويحل محل الكتاب المُقَدَّس نفسه، وعلى المرء أن يتعلم أن يقرأ شيكسبير مثلما يقرأ القبَّاليين الكتاب المُقَدَّس؛ إذ يجدون دلالة في كل «غياب». ما الذي يقوله لنا هذا عن إدموند، وعن لير أيضًا، بحيث لم يجد شيكسبير لديهما ما يقولانه لبعضهما البعض؟
على الرغم من الجاذبية الراقية والكاريزما اللتين يتحلَّى بهما إدموند، فإنه لا يدفع أحدًا لحبه، باستثناء العواطف النهمة القتالة المتوازية عند جونريل وريجان، وإدموند لا يحبهما، ولا يحب أحدًا آخر ولا حتى نفسه. ربما لا يستطيع لير وإدموند التخاطب؛ لأن لير تعقد لسانه الحيرة التي أنشأها تطرفه في حب كورديليا، والكراهية التي تحملها له جونريل وريجان، وهما ابنتاه غير الطبيعيتين، على نحو ما يصفهما حتمًا. وأما إدموند فإنه على عكس لير تمامًا، لا يعتبر الحب عاطفة طبيعية، حتى حين يبدي تفاخره واعتزازه بكونه الابن الطبيعي لجلوستر. ولكن هذا التضاد نفسه لا يفسر الإحساس الغريب الذي يساورنا بأن إدموند ليس، بصورة ما، موجودًا مع لير وكورديليا في المسرحية نفسها.
وعندما تُقبِّل جونريل عاشقها إدموند (الفصل الرابع، المشهد الثاني، السطر ٢٢) يبدي الشهامة بقبول القُبْلة، باعتبارها قُبْلة موت حقيقية، فهو ذو سخرية رفيعة تأبى تقدير عهده لها «أنا ملك يمينك حتى الموت.» والأغرب من ذلك مونولوجه العجيب الذي يُختتم به المشهد الأول من الفصل الخامس:
هذه السلبية الشديدة البرودة خصيصة فريدة، حتى عند شيكسبير، فإدموند صادق صدقًا كاملًا عندما يطرح السؤال المفتوح انفتاحًا مطلقًا: «من منهما أختار؟ كلاهما معًا؟ إحداهما؟ لا هذه ولا تلك؟» هذه لا مبالاة هائلة؛ إذ تطرح الأسئلة بروح الحدث العرضي، كأنما يتساءل أحد النبلاء المحدثين إن كان يفضل دعوة أميرتين، أو أميرة واحدة، أو لا يدعو أحدًا إلى الخروج معه لتناول العشاء. ولن تجد أي مُنْحلٍّ يجرؤ على المصاحبة الغرامية لجونريل وريجان معًا، ولكن السلبية [بمعنى انتقام القيم] التي تُسَمَّى إدموند شيء مُلْغِز إلى حدٍّ بعيد. أما اللاهوت السلبي عند ياجو فيرتكز على عبادة أولية لعطيل، وأما إدموند فإنه متحرر من كل صلة، ومن كل عاطفة حب، سواء كانت موجهة إلى الأميرتين اللتين تشبهان الأفاعي أو أسماك القرش، أو إلى أخيه غير الشقيق، أو إلى جلوستر بصفة خاصة. فإن جلوستر يعترض طريقه، مثلما يعترضه لير وكورديليا. والواضح أن إدموند فضل عدم مشاهدة اقتلاع عيني والده، لكن هذه الرقة من جانبه لا تعني أنه يهتم أدنى اهتمام بذلك الحادث على الإطلاق. ومع ذلك فإن إدموند، كما يبين هازلت، لا يشارك في نفاق جونريل وريجان، فإن مكيافيليته خالصة بصورة مطلقة وتفتقر إلى دافع أُودِيبي، أي إن رؤية فرويد لضروب الحب الأسري لا تنطبق على إدموند وحسب. أما ياجو فيتمتع بحرية إعادة ابتكار ذاته في كل دقيقة، ومع ذلك فلديه عواطف مشبوبة قوية، مهما تبلغ سلبيتها، وأما إدموند فليست لديه عواطف على الإطلاق، فلم يحدث قط أن أحب أحدًا، ولن يحب أحدًا، فهو من هذه الزاوية أشد شخصيات شيكسبير أصالة.
وسواء كان التَّماهي بين مارلو وإدموند لا يزيد عن تشبيه نقدي من جانبي وحسب، فإنه ولو باعتباره مَجازًا يوحي بأن القوة الدافعة لإدموند هي عدمية مارلو، والتمرد على السُّلطة والتقاليد من أجل التمرد نفسه، ما دام التمرد والطبيعة قد تَوحَّدَا. والتمرد عمل بطولي في نظر إدموند، وهو يدبر خططه بحيث ينجح تفوقه الطبيعي في جعله ملكًا، سواء عن طريق الزواج من الملكة ريجان أو الملكة جونريل، أو الاستقلال بالعرش لو أنهما قَتَلتَا بعضهما بعضًا. وبعد أن تقوم جونريل أولًا بقتل ريجان ثم تنتحر، يتعرض إدموند لتَحوُّله الجذري. فالذي يتجلى أولًا هو خضوعه الشديد لمنزلته باعتباره نغلًا، وعندما يعرف أن جرحه القاتل قد أصابه من إدجار، وهو الذي يعتبر على الأقل مكافئًا اجتماعيًّا له، إذا به يبدأ التصالح مع مغادرة الدنيا له، والكلمات الرائعة الدالة على قبوله قوله «دارت عجلة أقداري واكتملت دورتها/فأتت بي حيث أنا.»
وعبارة «حيث أنا» تَتردَّد فيها الأصداء الحالكة للإحساس بأنني بدأتُ أصلًا من هنا، بمعنى أن كوني نَغْلًا كان يعني أن أبدأ الحياة بجرح قاتل. ولا يبدي أي انفعال إزاء موته، ولكنه لا ينشد الأجل على عكس جونريل وريجان اللتين كانتَا تحبانه فيما يبدو؛ لأنهما كانتَا تسعيان على وجه الدقة للإصابة بجرح قاتل. ونحن لا نتعرض في موقف آخر في أعمال شيكسبير إلى عذاب الترقب من النوع الذي قدمه المخرج السينمائي هيتشكوك، أثناء تأمُّلنا إدموند ساعة احتضاره وهو يتغير ببطء أمام أعيننا، وإن يكن تَغيُّره قد وقع بعد فوات الوقت فلم يستطع إنقاذ كورديليا. ويستجيب إدموند للقصة العجيبة التي يرويها أخوه إدجار عن وفاة والدهما، ويعترف بأنه تأثَّر بما يسمع، ويتردد قبل أن يقرر إنقاذ كورديليا. وهو لا يتجاوز ذلك التردد إلا حين يُؤتَى بجثتي جونريل وريجان، وعندها نجد أن رد الفعل عنده يمثل لحظة التغير التي تفوق كل ما عداها عند شيكسبير، إذ يقول إدموند:
إن قرأت هذه الكلمات خارج السياق وجدتَ بها من البشاعة ما يدفعك إلى الضحك، ولكن العَدَمِيَّ المحتضر يُذَكِّر نفسه بأنه على الرغم من الجميع كان موجودًا وفعالًا، وأن المرأتين كانتَا تحبانه. وهو لا يقول إنه أحب إحداهما أو أي شخص آخَر، ومع ذلك فإن هذا الدليل على وجود صلة ما، يثيره. فالكلمات تكتسب قوة درامية جبارة في سياقها المسرحي؛ إذ إن ذلك الذهن البارد المنتصر، مثل ذهن ياجو، يسترق السمع إلى نفسه فجأة فإذا بإرادة التغيير تقتحم إدموند، وهو يقول لنا إن الخير الذي سيفعله سوف يكون «على الرغم من طبيعتي» بحيث يصبح حكمه النهائي أنه لم يَتغيَّر، وهذا موقف ينتمي إلى مارلو لا إلى شيكسبير. ومع هذا فهو مخطئ؛ لأن طبيعته تغيرت، بعد أن فات وقت تفادي الفاجعة التراجيدية في المسرحية. فعلى العكس من ياجو، لم يَعُد إدموند قيمة سلبية خالصة أو كبرى. ومن مُفارَقات شيكسبير أن حُبَّنا لإدموند يقل حين يَتحوَّل إلى الخير في هذه اللحظة التي تَأخَّرَت كثيرًا. وعلى الرغم من أن التَّغيُّر مُقْنع فإنه يعني أن إدموند لم يَعُد إدموند. فإن هاملت يموت في لحظة تمجيد له، وياجو سوف يموت مستمسكًا بأنه ياجو، في صمت. ولكننا لا نعرف هوية إدموند وهو يُحتضر، وهو لا يعرفها أيضًا.
٤
وتنجح هذه الدراما التي لا تُقدِّم لنا أدنى سلوان؛ لأننا لا نستطيع تحاشي قُوَّتها، وأعظم عنصر من عناصر هذه القوة هو العظمة الرهيبة لعاطفة لير، فلك أن تنكر سلطته، كما يفعل بعض الناس اليوم، ولكنَّ عليك أن تفهم أن الأتون يَتوقَّد فيه أخيرًا. ولا أعرف شيئًا في آداب العالم، المقدسة أو العلمانية (وهو تمييز تفرغه هذه المسرحية من معناه) يجرحنا جرحًا عميقًا مثلما تجرحنا أقوال لير ذات النطاق الواسع. والنقد يخاطر بانعدام صلته بالموضوع إذا تحاشى المواجَهة المباشرة مع العظمة، وما يفتأ لير يتحدَّى حدود النقد. ولير يطلب منا الحب أيضًا: «فنغدق العطاء مما عندنا/بما يعادل الحب الذي سَخَت به الطبيعة.» ولم أجد أي نقد جدير بالملك لير لا يبدأ بالحب، على الصعوبة التي نجدها (مع كورديليا) في التعبير عن مثل هذا الحب. ومُعْظَم الحدث في مسرحية الملك لير يكمن في المعاناة، الأسرية لا السياسية … كيف يمكنك أن تحوِّل المعاناة الدرامية ولو اشتدَّت إلى متعة جمالية، من دون أن تقتصر على إرضاء صَادِيَة الجمهور؟ كان أتباع شيكسبير في مطلع القرن السابع عشر — كتَّاب المسرح وبستر وتيرنر وفورد — يعتمدون اعتمادًا كاملًا على فصاحتهم التي لا مراء فيها، وليست النتيجة غير صادوماسوكية ذات زهو متوسط، فالجمهور المعياري إلى حدٍّ ما لا يتعرض لإثارة جنسية عندما يشهد اقتلاع عيني جلوستر، ولا من رؤية الملك وهو يخطو ويتعثر على المسرح حاملًا كورديليا المشنوقة بين يديه. لا يصلح الحب للتكفير عن أي شيء أو استعادة أي شيء — وموقف شيكسبير المعبر عن هذا واضح كل الوضوح — ولكن التمثيل القوي للحب الذي انحرف أو أُحبط، أو أسيئ فهمه، أو تحول إلى كراهية أو لا مبالاة باردة (جونريل وريجان وإدموند) يمكن أن يصبح قيمة جمالية غريبة. ويعتبر لير في فوراته الهائجة من الغضب والجنون، وفيما يوضحه لنا في لحظات الإشراق العابرة، أكبر صورة وضعت على المسرح أو ضمها كتاب مطبوع، للحب الذي يستميت المرء في طلبه ويحرم منه حرمانًا أعمى. إنه الصورة العالمية للحب الأبوي المدمر والمفتقر إلى الحكمة، وذلك في أشد حالات عجزه واقتناعه الراسخ بأنه حميد، وخلوه التام من معرفة الذات، والجنوح الطليق بلا توقف حتى يهدم أكثر من يحبه، ويهدم دنياه أيضًا.
ولا يوجد مثال للملك لير في زماننا، فإن النطاق الفردي قد تضاءل تضاؤلًا مزريًا، وتعتبر ضخامة لير الآن جزءًا من قيمته الكبرى لنا، ولكن شيكسبير يضع حدودًا صارمة على تلك الضخامة، ولا يمكننا أن نعتبر وفاة لير تكفيرًا لنا أكثر مما تعتبر تكفيرًا لإدجار وكنت وأولباني. إذ يعتبر موته الفاجعة النهائية، فلقد مات عَرَّابُهُ ومات أبوه، والتائب أولباني (ولا بد أن يتوب عن الكثير) يتنازل عن التاج للتعس إدجار، أشد أبطال شيكسبير عزوفًا عن الجلوس على العرش خلفًا لملك، على الأقل منذ هنري السادس الطفولي الطبع. وأولباني الذي يعصره الندم وكنت الهرم الذي سرعان ما يلحق بسيده في الوفاة، فلا يمثلان الجمهور، ولكن إدجار يمثله، وإن كانت نبراته اليائسة تجعلنا نخرج من المسرح دون سلوان.
ويحرم شيكسبير وفاة لير من هالة التعاليَّة التي أضفاها على هاملت المحتضر، ويستلهم هوراشيو أسراب الملائكة ويدعوها إلى إنشاد ترانيم تصاحب رحيل هاملت، ولكن الذين لا يزالون بقيد الحياة بعد موت لير يقفون في ذهول، بقلوب محطمة، يواجهون ما لا بد أن يمثل لهم فقدان الحب. ولقد ذكرت آنفًا ما واجهته من صعوبة، باعتباري معلمًا، في السبعينيات والثمانينيات التي ساد فيها النقد النِّسْوي الجامعات، عند محاولتي أن أقول للطالبات المتشككات أو حتى المعاديات إن لير يُعْتَبر، في أحلك مفارقة شيكسبيرية، تجسيدًا فائقًا للحب. ولقد اختَفَت أسوأ هذه الصعوبات في التسعينيات الكاشفة عن الكثير، ولكنني لا أزال ممتنًّا وإن تحسرت على تلك الخبرة؛ إذ إن هذا العامل الذي يوضح أهمية لير، التي لا تنتهي، لنا، ألا وهو الكشف عن الحب بأحلك صوره، أو حتى بأشد صوره ابتعادًا عن القبول، وإن تكن كذلك أشد صورة حتمية. ومن الطريف أن يُرجع لير تشدد كورديليا، وإصرارها على عدم الالتحاق بأختيها في مبالغاتهما الطَّنَّانة، إلى ما يسميه لير «الكِبر» مضيفًا أنها تسميه «الصِّدق»، والواقع أن لير وبناته الثلاث يُعانِين جميعًا من «التكاثر المَرَضِي» لجرثومة «الكِبر»، وإن يكن اهتمام كورديليا المشروع مُنْصَبًّا في الواقع على ما يسميه كيتس «قداسة مشاعر القلب». والعجب العُجاب أن يظن فرويد أن لير كان يتحرق شوقًا ويكبت اشتهاءه لابنته كورديليا، وربما يكون ذلك لأن المُحلِّل النفسي كان يضمر ما يتحدث عنه تجاه ابنته «أنَّا» ولكن لير لا يستطيع فيما يبدو أن يكبت أي شيء مهما يكن، فهو أشد أصحاب التَّعْبِير العنيف ويفوق كل شخص آخر عند شيكسبير؛ إذ تفصله عنهم مسافة تقدر بالسنين الضوئية:
هذا بشع ويكاد يُخاطِر بأن يعتبر في عداد الكوميديا الجروتسك [الغَرابة المضحكة] لو أن شخصًا آخر غير الملك كان قد قاله. ولا بد أن بداية المسرحية قد سبقها عدد كبير من «الانفجارات» الشعورية المطولة؛ إذ نفترض أنها هي التي ساعدت ريجان وجونريل على اللجوء إلى النفاق والتلاعب اللفظي، وساعدت كورديليا، أقرب بنات لير إلى قلبه، على اكتساب موهبة الصبر في صمت. وكنت أشرت إلى أن النماذج التي احتذاها لير كانت أقوال سليمان — عليه السلام — في «سفر الجامعة»، وكتاب «حكمة سليمان»، وهي أقوال كئيبة تُعَبِّر عن رفض رب الحب، وكل ما عداه في الواقع. يقول لير: «ليتَكِ ما كنتِ وُلْدتِ وما كانت ساعة عَجْزِك عن إرضائي!» إن هذه الملاحظة الخبيثة المُوجَّهة إلى كورديليا، تُمثِّل المُقدِّمة المناسبة للدراما التي يتمَنَّى كل مَن فيها أن لم تلده أمه. ليست القضية أن الكل باطل، بل أن الكل عدم، أو أقل من العدم.
لا يوجد شخص آخَر عند شيكسبير [غير لير] يمثل السلطة تمثيلًا مشروعًا، بل السلطة الرفيعة. إن عنصر الاستياء الذي يمجد كَالِيبان المسكين [في العاصفة]، يشعر بالحيرة إزاء لير، ولا يرضى به، على الرغم من أنه لا يزال الرمز المهيمن للأبوة في الغرب. وحصافة العبقرية تجعل شيكسبير يمنح لير فتيات فقط، وجلوستر الذي يَفْقِد بصره؛ ابنين فقط. لقد أساء لير التَّصرُّف بما يكفي مع بناته، فماذا كان عساه أن يفعل بابنٍ ذَكَر؟ وماذا كان شيكسبير ليفعل بزوجة لير الملكة؟ هل كان في طوقها أن تفعل ما فعلته زوجة أيوب — عليه السلام — ذات العبارات المُقتضَبة؛ أي أن تنصح زوجها الغاضب بأن «يلعن الإله ويموت؟» لقد قضت حكمة شيكسبير أن تموت قبل بداية المسرحية، ولا يشير إليها لير إلا إشارة واحدة، كأنما ليضيف لمسة جميلة إلى سباب ابنتيه المتكرر [٢ / ٤ / ١٢٦] ليس لير دراسة في الخَلاص بل دراسة في البشاعة وفي إثارة حفيظته: إنه الدراسة الكاملة التي يقدمها شيكسبير لشعرية الشناعة التي تتفوق حتى على مكبث في طلب تماهي الجمهور شاء أم أبى. والموت هو الفظاعة النهائية التي لا بد لنا أن نكابدها جميعًا، ونبوءة لير الصادقة ليست موجهة ضد جحود الأبناء بل ضد الطبيعة، على الرغم من إصراره على أنه يتحدث باسم الطبيعة.
ولما كان لير يكابد حنقًا دائمًا، باستثناء الفترة الشاعرية القصيرة التي تلت مصالحته مع كورديليا، فإنه يخاطب، من وجهة نظر أزلية، جميع من يشعرون بالبشاعة الناجمة عن الوعي الحادِّ بكونهم بشرًا فانين. والاستياء، مبررًا أو غير مبرر، يمثل جانبًا من جوانب السيكولوجية الاجتماعية، وأما الإحساس بالبشاعة المذكورة فلا يلزم أن يكون فيه عنصر اجتماعي على الإطلاق. فنحن نموت أفرادًا، مهما يكن تعاطفنا مع الآخرين دفاقًا أو محدودًا. وعلاقة لير الوثيقة بنا علاقة عجيبة إذ نعتبره والدنا المتوفَّى، ومن ثم فالعلاقة تعتمد على مشاركتنا في الإحساس بالبشاعة نفسها. أما هاملت الذي دائمًا ما يتجاوزنا، فيصاحب قُوى خارقة، على الرغم من شكوكه وشكوكنا، وأما لير فإنه يستغرقنا لأنه جد قريب منا، على الرغم من ضخامته. فإن لم تكن لديك عقيدة تعاليَّة ثابتة (وقد فقد لير هذه العقيدة) فإن كل ما تستطيع أن تواجه الفناء به (إلى جانب الرواقية البطولية) هو الحب، أسريًّا كان أم جنسيًّا. والحب في هذه المسرحية، على نحو ما ذكرتُ في مناقشتي لإدجار، فاجِع مُهلِك، فضروب الخلط في الحب الأُسَري تدمر لير وجلوستر، والشهوة القتالة الانتحارية تجاه إدموند من جانب جونريل وريجان من المحال أن تؤدي إلا إلى دفع إدموند، أشد النفوس غربة، إلى أن يقول ساعة احتضاره إنه وجد من كان يحبه. ومن قسوة شيكسبير أن يجعل الحب نفسه مثيرًا للبشاعة وضحية لها، في كون يرتكز على عظمة لير التي تكابد الحاجة.
وأظن أن البشاعة الخاصة بي هي التي تُخبِرُني أن رؤية شيكسبير الفائقة لبلوغ أرذل العمر يُمثِّلُها لير وفولسطاف، وهو تجاوز جنوني، فإن لير ينعي شيخوخته وفولسطاف يتجاوز إنكارها بتوكيد شبابه الذي لا ينتهي. إنه يتواثب في ميدان القتال، ويتقافز مع دول تيرشيت، ويَتباهَى فيرعب جادزهيل باعتباره قاطع طريق، ويقدم مُلَحًا ساخرة في إحدى الحانات، فهل هذا أسلوب الشيخوخة؟ ربما كان شيكسبير يَتصوَّر في مرحلة مبكرة أنه لن يزيد قط عن الثانية والخمسين؟ إنني أنتمي انتماءً كافيًا إلى القرن التاسع عشر لأجد عند فولسطاف صورة الفنان في شيخوخته: ذو ذكاء خارق، ومُتَفَكِّه فائق، وحميد الطبع، وذو حيوية لا تُصدَّق، وعاشق كَسِير القلب على نَهْج شاعر السونيتات؛ إذ يعاني الصُّدود والهجران. وأما لير الذي أبدعه شيكسبير بعد ذلك بزمن طويل، فليس على الإطلاق إسقاطًا للسيرة الذاتية للمؤلِّف، بل إن المهرج (أو خصوصًا المُهَرِّج) لا يستطيع أن يُضحك لير. فنحن نشهد عند فولسطاف هزيمة الشيخوخة، حتى تُؤدِّي هزيمته في الحب إلى نكوص السير جون إلى مرحلة الطفولة، فيموت أثناء لهوه بالزهور. وأما قيام لير بتتويج رأسه بإكليل من الزهر فيُعْتَبر انتصارًا لجنونه، وحكاية أخرى للشيخوخة في صورة السفينة المُحطَّمة.
كلما ذكرني لير بنفسه أنه تجاوز الثمانين، زاد تضاده مع فولسطاف، ومن ثم فإن شيكسبير يزيد المسافة بينه وبين الملك لير. إن فولسطاف، حتى بُعَيْد نبذه، يبذل قصارى جهده حتى لا يزيد من استيعاب معاناته، وأما لير فلا يبدو أن لديه أي دفاع ضد حسرته على حاله. إنه قلب دنياه، كما يؤكد آرثر كيرش، في المقارَنة التي عقدها بين لير وبين كحولة الذي صوره سليمان — عليه السلام — وهو الواعظ في سفر الجامعة، الذي لا يَتوقَّف عن فحص قلبه ويجد فيه، كما يجد في الدنيا، باطل الأباطيل. إن رحابةَ قلب لير أكثر صفاته جاذبية، ولكن علينا، وهذا بالغ الأهمية، أن نتبين أيضًا جوانبه العظمى الأخرى، لئلا نراه آخِر الأمر طودًا من الحسرة والشَّجن، لا شخصية إنسانية تزيد مأساتها على جميع الشخصيات المسرحية الأخرى. فهو الصورة العظمى للسُّلطة، ولكنه يفسد بنفسه هذه الصورة عامدًا مُتعمِّدًا: «فالكلب في منصب السُّلطة مطاع مرهوب الجانب». وعظمته الحقيقية في غير هذا الموقع: فإنه حتى حين يكون على خطأ مفزع يظل دائمًا صادقًا الصدق كله، وهو القدوة التي يتعلم منها ابنه في العماد إدجار «لا بد أن نقول رأينا صراحة/لا أن يكون شرعنا النفاق والرياء.» وهو يقول ذلك قبل انتهاء المسرحية بسطرين، فالواقع أن لير الذي لا ينفث غضبه، يتسم بصراحة لا تنتهي، فإن روحه الهائلة لا تضمر أية أكاذيب. إنه ملك من ناصية رأسه إلى أخمص قدمه، وهو أبعد ما يكون عن أن يكون مكيافيليًّا متفوقًا في هذا على جميع شخصيات شيكسبير، باستثناء هنري السادس الذي كان من الأنسب له أن يكون راهبًا من أن يكون ملكًا.
ويخاطر شيكسبير بتقديم هذه المفارَقة التي تقول إن أَعظمَ الحكام مَهابة أَسْوَؤُهم في السياسة، فإن لير أعظم من أن يتصنع أو يتظاهر، كما هو حال كورديليا، ابنته الصادقة المخلصة، والعظمة التي يشتركان فيها مأساتهما المشتركة، حيث تنتهي أفضل الأشياء نهاية سيئة. وهذا، فيما يبدو، أحد أسرار التراجيديا الشيكسبيرية؛ أي إننا نتجاوز الخير والشر؛ لأننا لا نستطيع أن نصل إلى تمييز طبيعي وحسب بينهما، حتى ولو كان لير وإدموند، بطريقين متضادين، يعتقدان عكس ذلك. أي إن كرم الروح الرائع عند لير، وهو الذي يجعله يتطرف في حبه، يدفعه أيضًا إلى أن يتطرف فيما يطلبه من حب. لسوف تدور طرز أخرى فوق الأيديولوجيات المسرحية والأكاديمية الراهنة، وسوف يظهر لير من جديد باعتباره أعظم أرباب الشك عند شيكسبير، بل سوف يتفوق على هاملت سفيرًا للموت عندنا.
كان تشارلز لام قد سبقني في الإيمان بأن «لير يستحيل أساسًا تمثيله على المسرح»، مؤكدًا أن عظمة لير مسألة خاصة بالبعد الفكري، كما نرى عندما يُماهِي الملك بين عصره وبين السموات أنفسها. والمعنى المضمر عند لام هو أن مخيلة لير، حتى حين تعتل، تظل أَوْفَر عافية من مُخَيِّلَة مكبث، وإن تكن تتمتع بقوة النبوءة في مُخَيِّلَة مكبث، أو ما يشبه هذه القوة. ليس هذا الملك العظيم أحد المفكرين الجبابرة عند شيكسبير، فامتياز الذهن مقصور في هذه المسرحية على إدموند، ولكن مخيلة لير، بما تولِّده من اللغة، أكبر مخيلة، وأقربها للمعيارية في جميع أعمال شيكسبير. فالذي يتخيله شيكسبير يحسن تخيله، حتى في كنف الجنون، في سَورات غضبه في الجحيم الذي يستوحيه بنفسه. ولولا لير لما اكتمل ابتكار شيكسبير للشخصية الإنسانية، فلولاه لما استغل شيكسبير جميع طاقات التمثيل التي يتمتع بها. كيف يمكن للنقد أن يحدد فئة الضخامة أو العظمة في شخصية أدبية؟ لقد توقف النقد عن المحاولة بعد أن أصبح أيديولوجيا، ولكنه لا بد من إيجاد رد فعل معرفي وعاطفي مكافئ لشيكسبير حتى يواجه العظمة سواء في الأبطال أو فيمن خلقهم. وهكذا فإن مسرحية الملك لير، المحك الحديث للجلال سوف تبدو فارغة إذا استهان المرء بعظمة لير أو أنكرها.
وكثيرًا ما نُخدع في حياتنا؛ إذ تتلاشى عظمة بعض الأصدقاء والشخصيات عند فحصهم فحصًا دقيقًا. وقد يعجز المرء أن يدرك عظمة لير، إذا كان برنامج المرء لا يسمح بوجود مثل هذه الصفة. ولكن ترى من أنت أو ما أنت إن كنتَ تَفتقِر حتى إلى حلم العظمة؟ كان الدكتور جونسون يحب فولسطاف؛ لأن ذلك الناقد العظيم كان لديه ذلك الحلم، وأيضًا لأن فولسطاف نَفَى الاكتئاب ونَبذَه، وهو شيطان جونسون. لا يمكن لأحد منا أن يحب لير، فلسنا كورديليا، أو إدجار، أو المهرج، أو جلوستر، أو كنت، أو حتى أولباني الخاطئ. ولكنني أعجب إن لم يستطع أي فرد فينا أن يدرك جلال لير، فإن شيكسبير يسخو بفيض من عبقريته، في أشد حالاتها حيوية وتألقًا، على عظمة لير، فإذا به يكتسي من البهاء ما يفوق سليمان — عليه السلام — في الكتاب المُقَدَّس. وتقيم أقوال لير معيارًا قياسيًّا من المُحال أن تُقِر به أية شخصية إنسانية خيالية أخرى، فإن حدود الطاقة الإنسانية على العاطفة العميقة يتخطاها لير بانتظام. وإحساسنا بما يكابده يتسبب في توترنا توترًا يوازي ما نعانيه من أعظم الأحزان، فالطابع الحميمي المرعب الذي يفرضه لير علينا لا يكاد يُحتمل، وفقًا لما شهد به الدكتور جونسون. ولقد ذكرت آنفًا أن هذه الحميمية تنبع من اغتصاب لير لخبرة كل فرد بالموقف المتضاد [أي الذي يجمع بين الحب والكره] تجاه الأب، أو تجاه الأبوة. وسوف أركز فيما بقي من هذه المناقشة على تقديم ظل عام لهذه الحجة. فإن لير الأب، بفضل جرأة شيكسبير، يستدعي على الدوام الإله الأب، وهي استعارة غربية تتعرض للتفنيد والرفض في جميع مؤسساتنا الأكاديمية، وفي كنائسنا المتنورة. وأنا لا أتوقع من النقاد النسويين (رجالًا ونساءً) أن يقبلوا هذه الإيحاءات، ولكن رفض لير برمته خطوة باهظة التكاليف؛ إذ إن تحطيمه سوف يتضمن أكثر من المذهب الأبوي. لا يوجد صوت للشعور أصدق من صوت لير في الأدب الخيالي كله، بما في ذلك الكتاب المُقَدَّس، وفقدان عظمة لير يعني أيضًا أن نتخلى عن طاقتنا الخاصة على الإحساس بعاطفة لها وزنها.
وتحقق لغة لير مجدها في الحوارات العجيبة بينه وبين جلوستر الذي سُمِلَتْ عيناه (الفصل الرابع، المشهد السادس، السطور ٨٥–١٨٥)، بعد أن يدخل الملك «مرتديًا أزياء غريبة وعلى رأسه تاج من الأزهار البرية»؛ إذ إن هذه السطور المائة تشكل إحدى هجمات شيكسبير على حدود الفن، وذلك إلى حدٍّ كبير لأن المشاعر فيها غير مسبوقة. فالذي يحدث أن جلوستر يتعرف على صوت لير، ومن ثم ينطلق الملك في هجوم على المرأة بلغ من تطرفه أن طلب لير نفسه من الصيدلاني دواءً يخفف به وجع مخيلته الجنسية المريضة. يقول لير:
إن شيكسبير الذي من المحال اتهامه بكراهية المرأة لا يخاطر بهذا التطرف إلا لأن سُلطة لير التي تبحر في بحر هائج قد تَحطَّمَت في الموقع الذي كانت تتصور أنها مُطْلَقة فيه أي في العلاقة مع بناته؛ إذ اغتصبت جونريل وريجان هذه السلطة، ما دامت طبيعتهما مماثلة لفكرة إدموند عن الطبيعة، لا فكرة لير، وهكذا فإن الملك المجنون نافر من الطبيعة نفسها، لا من حيث كونها فكرة بل حقيقة أساسية عن اختلاف الجنسين. وأفراد جمهور شيكسبير، نساءً ورجالًا، يقبلون فَكِهين الإشارة إلى حر المرأة بالكناية الدارجة وهي «الجحيم»، ولكن لير ربما أفزع حتى الذين تسعدهم التسرية بتمثيل الجنون. ولن يفلح التخلص من ذلك العفريت، إذا اقتصر على المرأة وحدها، في حل صعوبات لير، فإن كل رجل هرم، وفق مقولة جيته الحصيفة، هو الملك لير، الذي تنبذه الطبيعة نفسها. فتعبير «أُصْلح الخيال» يوحي بأعمق إحساس بالإشفاق في الفقرة؛ لأنه يفصح عن لير الذي سرعان ما يقول لجلوستر «قد ترى في ذلك/أعظم صورة للسلطة/فالكلب في موقع السلطة مطاع مرهوب الجانب.»
إن جنون لير هنا لا يشبه إلا جنون وليم بليك، فهو جنون نبوءة موجهة ضد الطبيعة والمجتمع معًا. وعندما يعتصر الألم إدجار بسبب ما يكابده والده العرَّاب يصيح قائلًا: «الحكمة والهذيان اختلطا/وجنون لم يخل من المنطق.» ولكن ذلك ليس بالضرورة منظور الجمهور. وكما يحدث أيضًا في حالة بليك نجد أن نبوءة لير تصهر العقل والطبيعة والمجتمع في صورة سلبية واحدة كبرى، ألا وهي السلطة غير الأصيلة لمسرح الحمقى الكبير [أي هذه الدنيا]. إننا ندخل الدنيا باكين عند الميلاد، مُدرِكِين مع لير أن الخلق والسقوط متزامنان. وسوف يستمر هذا الإدراك في مكبث، حيث يقع الحدث أيضًا في الدنيا التي كان الغُنُوصِيُّون القدماء يسمونها كينوما أي «الخواء». ما عسى أن تصبح الأبوية في كينوما؟ ويقول بورخيس، الغُنُوصِي الحديث، إن المرايا والأبوة أرجاس لأنهما يضاعفان صور الرجال والنساء. إن حكمة لير الرهيبة ليست أبوية، بل مضادة للأبوية، مثل حكمة سليمان — عليه السلام — وحكمة الجامعة (في الكتاب المُقَدَّس) إذ إن تعريفه «للباطل» يشبه تعريف «الخواء» عند الغُنُوصِيين، «لا شيء ينجب لا شيء» يمكن أن يكون الشعار البرجماتي للأبوة في مسرحية لير. وكورديليا وحدها هي التي تستطيع تفنيد ذلك اليأس، كما يتنبأ لير أيضًا بأحلك ظلمة في الدراما عندما يخرج من الجنون ليرى كورديليا فيهتف قائلًا: «أنْتِ رُوحٌ! ذَاكَ ما أَعْرِفُهُ/فَمَتَى كَانَتْ وَفَاتُكْ؟»