أنطونيو وكليوباترا
١
بعد التراجيديات الرفيعة الأربع القائمة على العلاقات الأسرية والدم، تنطلق أنطونيو وكليوباترا في العالم الشاسع للصراع بين الشرق والغرب، حيث تذوب المسافات وحيث المشاهد التي لا حصر لها. ومن الغريب أن يقول الدكتور جونسون إن أنطونيو وكليوباترا «ليست بها أية شخصية متميزة بوضوح.» وهي ملاحظة أكثر انطباقًا على مكبث حيث تخبو ألوان الشخصيات جميعًا، باستثناء مكبث وليدي مكبث، فيسودها اللون الرمادي العادي، وأما في أنطونيو وكليوباترا فكل شخصية متميزة من إنوبارباس الذي يلعب دور الجوقة إلى المُهرِّج الذي يأتي إلى كليوباترا في النهاية بالثعابين السامَّة. ويوجد اثنا عشر دورًا صغيرًا ذا تصوير مُحْكم إلى جانب قيصر الذي كان حليفًا لأنطونيو، وإنوبارباس أقرب مَرءوسِي أنطونيو إليه.
والشخصية الإنسانية التي يمثلها كل من كليوباترا وأنطونيو تتسم برحابة وعمق شديدين إلى الحد الذي يجعلها، فيما يبدو، خاتمة للمرحلة الرئيسية بانشغال شيكسبير بالنفس الباطنة، وهي المرحلة التي بدأت قبل ما لا يقل عن ١٢ سنة، بشخصية فوكونبريدج في الملك جون، وريتشارد الثاني، وبورشيا، وشايلوك (مهما يكن بلا قصد منه) ثم أزهرت شخصية فولسطاف، قبل كليوباترا بعقد كامل. أما كوريولانوس، الذي تلا كليوباترا، فهو «تنين وحيد» في داخله هُوَّة سحيقة، وأما أبطال الرومانسيات الأخيرة فهي ليست صورًا تمثيلية واقعية. لا شك أنه من التبسيط المخل أن نتصور أن الشهور الأربعة عشر المتوالية التي كتبت فيها الملك لير ومكبث وأنطونيو وكليوباترا أنهكت شيكسبير نفسه. إنني أشد النقاد إعجابًا بشيكسبير، ومع ذلك فإنني، أنا نفسي، أجد أن شيكسبير، بعد انهيار أنطونيو وتمجيد كليوباترا، كان حذرًا من مواصلة فحص دخائل النفوس.
لم تقدم القصة إليَّ شيئًا كان ينبغي وجوده حتى يصعد بالشفقة إلى ذرًى أعلى: فجرائم الحب التي اقترفاها معًا لم تتسبب فيها أية ضرورة، أو أي جهل قاتل، لكنها كانت طوعية بصورة كاملة، ما دامت عواطفنا المشبوبة خاضعة، أو ينبغي أن تكون خاضعة، لسيطرتنا.
وأنا أشك في أن درايدن نفسه أحس «بالإشفاق» على أنطونيو وكليوباترا، وإن كان من الواضح أنه كان يعتبر عاطفتهما المشبوبة المتبادَلة ذميمة وفاجعة. ولست واثقًا من وجود أية فائدة في وصف العلاقة بين أنطونيو وكليوباترا بأنها كانت مُدمِّرة للطرفين، ولو أن شيكسبير يبين بالقطع أنها ساعدت على تدميرهما. ومع ذلك فإن أوكتافيوس كان يمكنه، في عالمهما ذي الرهانات العالية الخاصة بالسُّلطة والخيانة، أن يلتهمهما معًا، على أية حال، بخطوات متمهلة. وكل شيء في سبيل الحب، العنوان المتألق الذي وضعه درايدن، لم يكن ليناسب مسرحية شيكسبير، حتى ولو أصبح كل شيء في سبيل الشهوة. إذ إن كلًّا من أنطونيو وكليوباترا شخصية سياسية كاريزمية، وكل منهما يعشق ذاته عشقًا عميقًا إلى الحد الذي يجعل من المدهش حقًّا أن يفهم كل منهما فعلًا حقيقة الآخر، ولو إلى أقل درجة، فكل منهما يشغل المكان كله، وكل من عداهما، حتى أوكتافيوس نفسه، يتضاءل فيغدو جزءًا من الجمهور. ولا شك في وجود شبح لا يظهر في هذه المسرحية، ألا وهو يوليوس قيصر، فهو الوحيد الذي يمكنه أن يختزلهما معًا في دورين ثانويين، ولكن ليس في بعض أفراد الجمهور. ربما تعلَّم أنطونيو وكليوباترا من يوليوس قيصر — المسرحية وبطلها — صفتهما الجذابة وهي عدم الإصغاء إلى ما يقوله غيرهما بل وما يقولانه هما أيضًا. وأشد مثل ذي جَذَلٍ صاخب على ذلك مشهد موت أنطونيو، حيث نرى البطل المحتضر الذي يقدم خاتمة بالغة الجمال، يصر مخلصًا على الرغم من ذلك على أن يقدم إلى كليوباترا بعض النصائح، وهي تواصل مقاطعتها إياه، وعندما يقول لها في لحظة مُعيَّنة: «دعيني أحادثك برهة.» ترد عليه ردًّا رائعًا قائلة: «كلا بل دعني أنا أتكلم!» وما دامت نصائحه فاسدة فعلًا على أية حال، مثلما كانت طوال المسرحية، فعدم إسدائها لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر، إلا أنه يبين أن أنطونيو يكاد يتوقف، هذه المرة وحسب، عن تمثيل دور أنطونيو، البطل الهرقلي، وشيكسبير يريد لنا أن نرى أن كليوباترا لا تتوقف قط عن تمثيل كليوباترا. ولذلك فهو دور يتسم بصعوبة رائعة لأية ممثلة، فعلى الممثلة أن تلعب دور كليوباترا، وأن تصور أيضًا كليوباترا وهي تمثل دور كليوباترا. وأذكر أن هيلين ميريل الشابة قد أجادت أداء هذه المهمة المزدوجة وتفوقت فيها على كل ممثلة أخرى أدت دور كليوباترا.
هل أنطونيو وكليوباترا «يحب كل منهما الآخر»، إذا استعملنا لغتنا التي، في هذه المرة، ليست شيكسبيرية على الإطلاق؟ ونحن: هل يحب بعضنا بعضًا؟ كان ألدوس هكسلي هو الكاتب الذي قال في أحد مقالاته إننا نستخدم لفظ الحب في وصف علاقات منوعة إلى حدٍّ عجيب؛ إذ تتراوح من وصف مشاعرنا نحو أمهاتنا إلى مشاعرنا تجاه من نوسعه ضربًا في دار بغاء، أو في إحدى الدور الكثيرة المناظرة لها. لا شك أن روميو وجوليت يحب أحدهما الآخر، ولكنهما في ميعة الصبا، وجوليت ذات طبيعة سمحة إلى حدٍّ مدهش، وكرم روحها لا يُجارَى عند غيرها من بطلات شيكسبير جميعًا. ونستطيع القطع بأن روميو وجوليت لا يضجر أحدهما الآخر، لا من الزاوية الغرامية ولا من أية زاوية أخرى، وإن كان كل من عداهما يضجرهما في عالمهما. وقد لا يكون الانبهار المتبادَل حبًّا، ولكنه بالتأكيد إحساس رومانسي لازم لتعريف المعرفة الناقصة أو «المؤجَّلة» على أقل تقدير. ولدى كليوباترا خصوصًا ضروب علاج شهيرة دائمة للشعور بالضجر، وهي التي يعلي شأنها إنوبارباس في أقوال ذائعة. وأنطونيو أيضًا رب بشري، ولديه هالته الخاصة التي تجعله من الأجرام السماوية، وهو يرحل من الدنيا على موسيقى هرقل، وهي المزامير التي يعلو صوتها تحت خشبة المسرح. ولا بديل له، على نحو ما تدرك كليوباترا؛ إذ إن موته يعلن انقضاء عصر يوليوس قيصر وبومبي، بل ومن المستبعد تمامًا أن تغوي كليوباترا الإمبراطور أوغسطس، أول مدير تنفيذي عظيم [بلغتنا المعاصرة].
ومن ثم يصبح السؤال: ما قيمة الانبهار المتبادل، أو الحب الرومانسي، إذا فضلت وصفه بهذه الصفة؟ إنه بالقطع لا يثير الحيرة أو الضياع بقدر ما يثيره ذلك حب البنوة والأبوة الذي يكابده لير وإدجار؛ إذ إن شيكسبير أقدم، بحصافة شنيعة، على تعديل ما كتبه المؤرخ بلوتارخوس، بأن جعل الرب هرقل يتخلى عن أنطونيو، بدلًا من الرب باخوس. فالبطل الديونيسي لا يمكن ربطه بالماضي، حسبما تبين السيرة العملية لهاملت عما يزيد عن نيتشه، فلم يكن البطل الهرقلي يمثل نموذجًا عفَا عليه الزمن في نظر جمهور شيكسبير، على عكس ما يمثله لنا، ولكن الواضح أن أنطونيو كان بطلًا تأخر وصوله قبل بداية المسرحية. ولا يتعرض لير وإدجار للمنظورات الجماهيرية المتنوعة مثل كليوباترا وأنطونيو. فمن المنظورات الممكنة لهما اعتبارهما عاهرةً ومغفلًا تقدم به العمر، إن كنت تؤمن بالاختزال الغاشم، ولكن ما الذي يجعلك تبغي في هذه الحالة مشاهدة المسرحية أو قراءتها؟ فإذا كان أنطونيو بطلًا ديونيسيًّا فسوف يكون قادرًا على الطعن في كل قيمة، غرامية أو اجتماعية، أكثر من أي صورة هرقلية لأنطونيو. فإذا كانت المسرحية تتضمن بحثًا نقديًّا فلا بد أن ينتمي إلى كليوباترا التي تجسده؛ إذ ترقى إلى مصافِّ الأرباب بعد انهيار أنطونيو وتَمزُّقه. إنه يفقد صفة الربوبية وتكتسبها كليوباترا.
ما عسى أن نفعل بربة مصرية، حتى إن تحررنا من نزعة الاختزال الروماني بما يكفي لتجَنُّب الوقوع في الفخ الأوبرالي الذي يقضي برؤيتها في صورة عاهرة غجرية؟ فإذا كان تفسيري لمسرحية الملك لير يتميز بأي قدر على الإطلاق من صحة التَّخيُّل، فإن المسرحية أبعد ما تكون عن اعتبار الحب الأسري قيمة ما، بل إنها تفضحه باعتباره كابوسًا رُؤَويًّا. لنا أن نقول إن الحب الرومانسي قد عَجَّلَ بتحطيم أنطونيو كأنه أوزوريس، ولكننا سوف نجد من الصعب علينا، على نحو ما دأبتُ على الإيحاء به، أن نثبت أن الحب الأسري قيمة أو أنه فاجع مدمر، استنادًا إلى تدهور أنطونيو وسقوطه. ولكن كليوباترا «حكاية» مختلفة كل الاختلاف، وتتضمن «حكايتها» بالقطع زيادةً للقيمة. هل هي قيمة الحب؟ يبدو هذا سؤالًا بالِغ الصعوبة، وطعنًا حقيقيًّا فيما درجنا على تسميته النقد الأدبي. ولنا أن نقول إن كليوباترا في الفصل الخامس لا تقتصر على كونها ذات قدرة تمثيلية ازدادت عما كانت عليه، بل إنها تصبح كاتبة مسرحية تمارس موهبة أدى موت أنطونيو إلى إطلاقها فيها. ويتسم الدور الذي تكتبه لنفسها بتعقيد شديد، وأحد عناصره يقول إنها لا تزال تحب أنطونيو وإنها من ثم أكبر من أن توصف بأنها فقدت عزيزًا لديها، بل إنها تتزوجه أثناء موتها، وهو أمر موجع الرفعة، وإن كان يذكرنا برد فعل إدموند عند مُشاهدة جثمانَي جونريل وريجان، «نحن الثلاثة قد جُمعنا للزفاف معًا بوقت واحد» [يقول إدموند ذلك عندما يُعلن موت جونريل وريجان، لا عندما يشاهد جثمانيهما، ويبدو أنه كان على علم بما حدث (٥ / ٣ / ٢٢٨-٢٢٩، و٢٣٨–٢٤٠)].
عندي اعتراض تقني على جعل الولع الجنسي موضوعًا مأساويًّا؛ إذ تثبت الخبرة أنه لا فعالية له إلا بالروح الكوميدية، ونحن نستطيع احتمال مشاهدة السيدة كويكلي وهي تبيع فضياتها حبًّا في فولسطاف، لا مشاهدة أنطونيو وهو يفر من معركة أكتيوم بسبب حبه لكليوباترا.
ولنا أن نُسَلِّمَ بأنَّ شو قد استغل حادثةً أبعد ما تكون عن الإقناع في إطار تدهور أنطونيو، ولكن المقطوع به أن أنطونيو وكليوباترا ليست مأساة بالمعنى الذي تُعتبر به الملك لير وعطيل تراجيديات. بل إن هذه المسرحية تتفوق على الكثير من مسرحيات شيكسبير في عدم انتمائها إلى نوع أدبي محدد، والروح الكوميدية لها نصيب كبير فيها. ويجيب إنوباربوس على شو بأن يصف كليوباترا بأنها «تحفةٌ عجبًا»، وهو يعني بذلك النزعة الشيطانية عند كليوباترا، ودفقتها النرجسية الثرية، التي تقترب حيويتها من حيوية فولسطاف. وكان شو يكره فولسطاف كراهية شديدة، ويقرن كليوباترا بفولسطاف، وهو ما يقيم الرابطة الصحيحة لسبب غير صحيح. إذ إن كليوباترا في جوهرها شخصية مولعة بالتفكه الساخر، بل وبالمحاكاة الساخرة، ولا بد أنها علَّمَتْ أنطونيو فَنَّ الضحك مثلما عَلَّمَهُ فولسطاف للأمير هال، مع اختلاف مُعيَّن، وهو أن فولسطاف لا يتعامل مع الحب الجنسي، على عكس كليوباترا. ولا شك أن أنطونيو كان قد تجاوز مجده السابق، من بداية المسرحية لنهايتها تقريبًا، باستثناء لحظات تجلٍّ أو رؤًى مفاجئة، ولكن شيكسبير كان يدخل بعض التحسينات على نموذج التدهور الذي كان قد أقامه في تصويره يوليوس قيصر. يُطَارِدُونَ في الصَّيْفِ الفَرَاشْ!وأما في حالة كليوباترا فكيف نستطيع نحن أو تستطيع حتى كليوباترا نفسها، إثبات الخط الفاصل بين حياتها الباطنة وحياتها الظاهرة؟ إن كليوباترا تعتبر قطعًا أشد الشخصيات «تمسرحًا» في تاريخ خشبة المسرح، وتتفوق كثيرًا في ذلك على التجارب التي أجراها بيرانديلو في هذا الصدد. ولا حاجة بنا أن نسأل إن كان حبها لأنطونيو حبًّا حقيقيًّا في يوم ما، حتى أثناء احتضارها؛ لأن المسرحية لا تتضمن التمييز بين ما هو «متمسرح» وما هو قائم على عاطفة صادقة. إن للحب الأسري عند شيكسبير قيمة جبارة، لكنها سلبية، فأما قيمة الحب المشبوب عند شيكسبير في ذروة النضج فتعتمد على انصهار «التمسرح» مع إجلال الذات نرجسيًّا، فالفن نفسه يصبح طبيعة. وقيمة الحب تصبح قيمة فنية خالصة.
٢
على الرغم من أن ضروب الروعة في أنطونيو وكليوباترا تبدأ بوداع شيكسبير وداعًا ودودًا لابتكاره الخاص للشخصية الإنسانية، فإن المسرحية تتميز بتنوع لا نهاية له، عائدة إلى هاملت في هذا الصدد، فلقد اضطر شيكسبير إلى أن يجمع معظم الصفات المنوعة في بطله الذي لا ينضب له مَعين، ولم يكن من ذلك مفرٌّ، وأما في أنطونيو وكليوباترا، فعلى الرغم من التنوع الشديد في صور كليوباترا، فإن التنوع يرجع في المقام الأول إلى أننا نرى عالمًا تاريخيًّا معينًا يحل محل غيره، بقدرة فذة على الإقناع والتدفق الحيوي، أي إن عالمًا بطوليًّا — حقبة يوليوس قيصر — يتخلى عن مكانه لعالم الانضباط والنظام في روما في ظل أوغسطس. وشيكسبير، كعهدنا به على الدوام، لا يتيح لنا أن نرى أي هذين الطرفين يفضل، ولكن التضاد بين التوتر العميق الذي يتجلى دائمًا في موقف كليوباترا، وبين موسيقى احتضار أنطونيو، وبين الكفاءة العابسة عند أوكتافيوس قيصر، يمكن أن يرشدنا إلى تكهُّن مُحتمَل بشأن ما يفضله الشاعر. أما في مكبث فإن شيكسبير لا يتيح لنا إلا خيارًا واحدًا وهو الدخول في باطن الشرير البطل، وأما في أنطونيو وكليوباترا، التي كُتبت بعد مكبث مباشرة، فلا يكاد يسمح لنا بأية علاقة حميمة بالعاشِقَين اللَّذَين ساء مصيرهما، بل يجرفنا إلى الخارج، لنشهد كيف ينظر العالَم إليهما، وكيف ننظر نحن إلى عالمهما. وهذا الانتقال من الداخل إلى الخارج يبدأ ويترسخ مباشرة في شكاة فيلو إلى ديمتريوس، وكلاهما من ضباط أنطونيو:
وتتوقف قدرتنا على رؤية صَبابة أنطونيو وشهوة الغجرية على وجود شيء في داخلنا يمنعنا من أن نصبح جنودًا رومانيين ممتازين:
إنها تغيظه وهو يتصنع الأسلوب الرفيع ولكن ما يقوله بعد ذلك غير مقنع:
إن كان أنطونيو يقصد ذلك، فلا بد لك من الجمع بين نظرة فولسطاف وهاملت، ومن ثم فإن أنطونيو ليس في عطلة يقضيها في مصر وحسب، وإن كان كلامه يوحي قطعًا بذلك. وتشكو كليوباترا من أن التَّفكير في روما يَعتادُه فجأة، كلما وَصل رسولٌ آخَر من روما. وعلى امتداد المسرحية يَتواتَر وصول الرُّسل الذين يَتميَّزون بالصدق، فهم يُمثِّلون قواعد اللعبة التي يجب ألا تُخْرَق. وهو يقول في نفسه «هذه الأغلال المصرية جبارة … والأحرى بي أن أكسرها». وهكذا يرحل أنطونيو إلى روما، ولكن بعد أن تلعب كليوباترا أول مشهد عظيم لها، فكأنها من مُصارِعِي الثيران وكأن أنطونيو هو الثور:
إنها تراه مشهدًا من مشاهد السماء، ليس عظيمًا بل هائل الأبعاد، لا يسلب اللب بل يخلب البصر، ليس ذا قوة لكنه عالي النبرة، أو قل إنه عملاق دنيوي ظاهر جميل. ليس رب الكفاح هرقل، بل رب الثبات أطلس، عملاق راسخ لا يتغير ولا يتبدل.
إنني أرحب بهذا، لكنني أشك كثيرًا في صدقه، إلا إذا رأينا أنه يمثل رؤية كليوباترا الأرملة لعاشقها الذي قتل نفسه. ففي الفقرة التي اقتبستها، يظهر فيها أنطونيو في صورة هرقل المكافح، وهو الذي يمكن التلاعب به لكنه يظل ذا خطر، فهو رب بشري وسياسي روماني في آنٍ واحد. فالعلاقة الغرامية بين أنطونيو وكليوباترا، مثل علاقة الملكة ببومبي ويوليوس قيصر، تعتبر تحالفًا سياسيًّا غير ثابت، يمكن أن يباع حين يتوافر الثمن المناسب أو إذا توافر. ففي هذه المسرحية ذات الوحشية البالغة، لا يخون المرء غرامه حين يقايضه بشيء آخر، ولكن المرء يُشَرِّفُ هذا الغرام بأن يَتقبَّل تعويضًا عن الحب المفقود باكتساب سلطة أكبر. وعلى الرغم من أن كليوباترا وأنطونيو يُصِرَّان على إنكار ذلك، فإنهما يعرفان خير المعرفة قواعد اللعبة. وهي لا تخرق هذه القواعد قط، وهو يخرقها، لا لأن حبه لها يفوق احترامها إيَّاه.
وعلى الرغم من أن أنطونيو في المسرحية لا يمكنه حتمًا الارتقاء إلى صورة كليوباترا فيها، فإن شيكسبير يقدم لنا أطلالًا رائعة لهذا الرجل العظيم الذي يزداد رفعة أثناء سقوطه. ولا شك أن مارك أنطونيو الذي نشاهده ذو جوانب متعددة إلى الحد الذي يحول دون اعتباره شخصًا تراجيديًّا بالمعنى الدقيق لهذه الصفة، كما تتسم كليوباترا بالتنوع الشديد والاقتراب اقترابًا بالغًا من صفة «نصف ربانية»، بحيث لا نستطيع أن نرى فيها بطلة تراجيدية مثل كورديليا أوليدي مكبث. إذ إن أنطونيو يتجاوز في تدهوره وسقوطه جوانب قصوره الشخصية، ويكتسب خصائص إنسانية وافرة باذخة تفوق المعتاد حتى عند شيكسبير، فإن الإشفاق والجلال يمتزجان امتزاجًا لا تنفصم عراه أثناء تحطم أنطونيو المسرف [على نفسه]، ولا بد أن تكون هذه أعظم فاجعة ابتكرها شيكسبير، فهو تحطيم خصب لأوعية [بشرية] لا نظير لها في أي مكان آخر في الأدب الغربي. وتعتبر الموسيقى الرفيعة لتدمير أنطونيو لنفسه أكبر إنجاز شعري في المسرحية، إلا أنه من المحال أن يتفوق شيء آخر على ألحان التناغمات الهائلة لمشهد موت كليوباترا، وهي التي يمكن أن نقول إنها غيرت شيكسبير تمامًا وإلى الأبد. فبعد أنطونيو وكليوباترا يتخلى شيء حيوي عن شيكسبير.
أتى حب كليوباترا الذي دخل حياته الآن باعتباره آخِر وأقصى ضرر يمكن أن يصيبه؛ إذ إنه أثار إلى حد الجنون كثيرًا من العواطف التي كانت خفية إلى الآن، أو على الأقل كامنة، كما أنه طمس أو أفسد تلك الخصال الحسنة المنقذة عنده والتي كان يمكنها مُقاوَمة الإغراء.
وأنا لا أقتطف كلام بلوتارخوس هنا إلا لأؤكد أن شيكسبير لم يستبعد هذا المنظور، باعتباره من المنظورات العديدة التي لا تحصى عند جمهوره أثناء مواجهة علاقة أنطونيو بكليوباترا، وإن كنت لا أرى أنه حكم مفيد في ذاته. ومن أجمل الفقرات الساخرة عند شيكسبير الفقرة التي يصور فيها أنطونيو في أطرف الصور وأشدها جاذبية وقد فقد إحساسه بهويته:
ما أغرب أن يبدو أنطونيو المتباهي بقدرته الحربية وقراع الخصوم وصاحب اللهو والقصوف وقد أصبح يقول كلامًا يُذكِّرنا ولو مُؤَقَّتًا بهاملت! إن إيروس يختلف عن بولونيوس، ولكن أنطونيو، على أية حال، لا يلجأ إلى المحاكاة الساخرة. إنه يسترق السمع إلى حيرته، متسائلًا إن كان إيروس لا يزال يرى أنه أنطونيو الذي يعرفه، فإذا بالبطل يتأمل تأرجح هويته الذاتية مثل السحاب. وليس شك أنطونيو نتيجة انقلاب واحد، بل نتيجة العملية الكاملة للتَّحوُّل التي خاض غمارها من خلال أربعة فصول من الانحلال الذي أدَّى إلى انتحاره. وموسيقى الاحتضار التي نسمعها أطول نموذج لها عند شيكسبير، وربما تعتبر الدراسة الأكثر حفولًا بأشجان الحنين ولوعته في جميع المسرحيات، وهي أحد الابتكارات الشيكسبيرية العظمى، فهي موسيقى جنائزية طويلة ومتنوعة إلى الحد الذي لا يجعل لها نظيرًا في كل ما كتب بعدها من آداب الغرب. وحتى يضمن شيكسبير مشاركتنا، لا بد أن يقنع نفسه ويقنعنا أن بطله الهرقلي جليل وجدير بالتأبين الرفيع. وأما أنطونيو عند بلوتارخوس فمن المحال أن يوحي بهذا البهاء. ويبين لنا شيكسبير أن عالمًا كاملًا يرحل برحيل أنطونيو، ويجعل أوكتافيوس يقدم أفضل تعبير عن ذلك:
٣
ذاع نقد الذين اتهموا أنطونيو وكليوباترا بأنها تَتَّسم بالتطرف أو المغالاة، وبما يتفق مع ذلك — إذا أُجيد إخراجُها أو قُرِئت قراءةً دقيقةً — من إشاعة البهجة وإن أنهكت المُشاهدَ أو القارئَ أو أَرْهَقَتْهُ. ويُعتبر تدريس المسرحية لي، ولو لأذْكَى الطلاب، نوعًا من المِحَن الرائعة. فإن تدريس هاملت أو فولسطاف أو ياجو يتطلب استجابة قوية، ولكن مسرحياتهم تتضمن بعض المَوَاطِنِ «العادية»، وهي التي تعتبر محطات يستريح المرء فيها. وأما أنطونيو وكليوباترا فإنها تتقدم دائمًا كالموج العالي، سخيةً بابتكاراتها، شيطانيةً في قوة التنوع في شِعْرها. والنُّقَّاد على حق في اتفاقهم على أنك إذا أردتَ أن تعثر على كل شيء يستطيع شيكسبير أن يفعله، وفي نطاق مسرحية واحدة، فهذه طِلْبَتُك. ولا تخطر ببالي أية مسرحية أخرى، مهما يكن مُؤلِّفها، تقترب في اتساع المدى والحمية ما تتميز به أنطونيو وكليوباترا. وإذا كانت أعظم مواهب شيكسبير المدهشة كلها تتمثل في قدرته على ابتكار الشخصية الإنسانية، وهو ما أعتقده بوضوح، فربما كانت هذه المسرحية تعتبر أعظم ما كتب، متفوقة في هذا على هاملت أو الملك لير، إلا أن التغير الدائم في منظوراتها المتعاقبة يصيبنا بالحيرة. فمن المحتوم أن أي وصف نقدي، أو أداء مسرحي، لشخصية كليوباترا أو أنطونيو، سوف يغفل عن جانب كبير، فيما يبدو، من هذا وذاك دائمًا، ولكن ذلك ما يريده شيكسبير، كأنما عيل صبره بالممثلين وبالقراء أيضًا. فالمسرحية حافلة بحالات كثيرة من تغيير المشاهد، ولكنها فيما يبدو لا تتضمن مشاهد أو أحداثًا صغرى يمكن الاستغناء عنها، حتى عندما لا يكون أنطونيو أو كليوباترا على خشبة المسرح. وجانيت أديلمان على حق في قولها إن ذلك يزيد من أنساق القلق في المسرحية، مضيفة إن شيكسبير يتعمد جعل بعض جوانب الشخصيتين الرئيسيتين معتمة، وقد يكون ذلك صحيحًا، ولكن العكس مقبول أيضًا، فما دام المؤلِّف لا يمنح الجمهور منظورًا متميزًا، فإن التوريات الدرامية الساخرة تتكاثر وتنتشر ولا نستطيع التحكم فيها. وتتكاثر مواطن القلق لأن البطلين المولعين بالتمثيل إلى حدٍّ كبير يَندُر أن يُدْرِكا إن كانا يتكلمان بألسنتهما الحقيقية أم بألسنة الشخصيتين اللتين يمثلانهما. فمن هذه الزاوية وحدها تصبح هاتان الشخصيتان شفافتين، فهما يلعبان دورين، والدنيا كلها جمهورهما. أي إن وعيهما بالدنيا دائم عندهما، وكلمة الدنيا أو العالم كلمة تتردد بانتظام في أنطونيو وكليوباترا. فإذا توقفت عن معرفة الوقت الذي تمثل فيه ذاتك، فمن الأرجح أن تبدو أشد عتمة مما أنت عليه.
إن فولسطاف يهيمن على مسرحياته، على الرغم من جهود الباحثين من النقاد للتقليل من حجمه، ويواجه هاملت مقاومة نقدية أقل لهيمنته على مسرحيته، وأما ياجو فيبدو أنه يرتجل تشكيل مسرحية عطيل أثناء قيامه بدوره، أما مسرحية أنطونيو وكليوباترا فإنها تتسم بقدر من التنوع والتدفق الحيوي يحول دون هيمنة بطليها على العالم قط، فالعالم يسود، وتغدو المسرحية نفسها كونًا آخر، متجاوزة في ذلك أية مسرحية أخرى لشيكسبير. إن كليوباترا وأنطونيو جانبان من جوانب العالم، لكنهما يريدان أن يكونا العالم نفسه، وفي هذا وحده تكمن مأساتهما. ويفوز أوكتافيوس؛ لأنه يمثل روما، وروما سوف تلتهم جانبًا كبيرًا من العالم. وشيكسبير لا يناصر ولا يعترض على الإمبريالية الرومانية، وعندما يعلن أوكتافيوس المنتصر قائلًا: «يقترب حثيثًا يوم سلام العالم كله.» فإن منظورنا الخاص هو الذي سوف يحدد مدى السخرية الشيكسبيرية الكامنة فيما نسمعه. والقيصر الجديد ينهي المسرحية بنعي أعدائه الموتى نعيًا غامضًا:
ما الذي يقوله أوكتافيوس على وجه الدقة؟ إنه — أساسًا — يمتدح المجد الذي حقَّقه انتصاره، ويتكلم بالسماح بإبداء «الشفقة» على أشهر عاشِقَين في نظره. وللمرء أن يقول إنه كان يأمل أن يعرض كليوباترا على الأقل، ناهيك بأنطونيو أيضًا، في موكب الاحتفال بالنصر عند العودة إلى روما، وعجزه عن تحقيق ذلك مصدر الإشفاق الفعلي من وجهة نظره. لكننا لا نستطيع أن نعرف إن كان شيكسبير يريد ألا يبدي جمهوره قبولًا يُذْكَر للمنتصِر الروماني. وحتى لو سمح لنا التاريخ، فكيف يمكننا تَقبُّل رؤية أنطونيو وكليوباترا إمبراطوُرَيْن على الشرق أولًا ثم على العالَم؟ لن تكون لدينا مسرحية! ويتباهى شيكسبير بالفُرص التي يتيحها له هذان العملاقان بحيويتهما العارمة الدَّفَّاقة، غير عابئين بثمن هذا التَّوهُّج والتألُّق. وحديث العالم عنهما معًا يُعَدِّد وصماتهما، ولا يستطيع الجمهور أن يقول إن العالم يجانبه الصواب تمامًا. فعظماء هذه المسرحية — أنطونيو وأوكتافيوس وبومبي الابن — لا يَتحدَّثون باسم العالَم والجمهور. ولكن مرءوسيهم، في الجيش وفي البلاط، هم الذين نستطيع أن نتماهى معهم، على نحو ما نرى في الحوار التالي بين إنوباربوس، اليد اليمنى لأنطونيو، وبين ميناس التابع لبومبي:
«سوف أثني على كل من يثني عليَّ»، في سياق الجملة، كوميديا جميلة، وتخرج منها حكمة حالكة، فإن أنطونيو وأوكتافيوس وبومبي يَتعاقَدون ويُقَسِّمون عالَمهم ما بينهم، وأما قادة أساطيلهم وجيوشهم الذين ينفذون أوامرهم، فيتمتعون بصحبة بعضهم بعضًا صحبة رائعة مفيدة؛ إذ إنها تفرغ اللغة الطنانة عند قادتهم من التصنع، وتجعلهم يعترفون بالقرصنة برًّا وبحرًا، ومنظورهم منظور العالم الذي يرى أن الصراع بين الشرق والغرب، أي بين كليوباترا وأنطونيو من جانِب، وبين أوكتافيوس على الجانب الآخر، نزاع شاسع بين قراصنة على نطاق هائل. وليس مركز مسرحية أنطونيو وكليوباترا، العلاقة بين العاشقَيْن الشَّهيرَيْن، ولا هو صراعهما معًا ضد أوكتافيوس، بل إن الدوائر المُنوَّعة المتأَرْجِحة من أتباعهم تمزج بين منظوراتها وبين الجمهور. فالعالَم هو المركز، ويجسده كل فرد في المسرحية لا يمثل القائد الأعلى للإمبراطورية، أو حزبًا من أحزابها في زيجة سياسية، فإنها تصبح صورة للعالم، على نحو ما يقول أنطونيو أثناء مشاهدتها الحاكمة على الأقل (مثل بومبي). وأما أوكتافيا التي باعها أخوها حين زوَّجَها لأنطونيو تُودِّع أخاها على مضض:
فالدنيا، مثل أوكتافيا، عاجِزة عن أن تختار مد البحر العالي أو الجَزر، فهي مثل ريشة من طائر التَّمِّ الطافية على وجه الماء لا تميل نحو الشط أو لِعُرْض البحر. والتشبيه الذي يقدمه أنطونيو، بما فيه من انفصال كريم، يشهد بطاقته اللانهائية على التعاطف الباطن، ويساعد على شرح حب جنوده إياه. ولكن الدلالات المضمرة في الصورة الشعرية ليست في صالحه، ولا في صالح أوكتافيا أو كليوباترا. وعندما يعرف إنوباربوس أن قيصر قد تَخلَّص من لبيدوس وبومبي، يتحدث باسم الجمهور من جديد قائلًا:
ولن تتلو ذلك إلا خطوة واحدة حتى ينسحب أسطول أنطونيو وكليوباترا تاركين البحر لسلطة أوكتافيوس، وهو ما يؤدي إلى غضبة أنطونيو الهائلة الأخيرة. وإذن ما ذاك الفخ الأعظم الذي لا بد أن يقتنص حتى ذلك «الإقدام الذي لا حد له»، أو البسالة التي لا تُبارَى، عند حفيد هرقل؟ هل هو الحرب، أم مكيدة دَبَّرتها كليوباترا مع أوكتافيوس، أم مُجرَّد غِيَرِ الدنيا وتصاريفها، أم تَقبلها باعتبارها الجمهور؟ الدنيا لا تختار أوكتافيوس، ولكن شيكسبير يقدم لنا في هذه المسرحية المتسمة بأقصى درجات «التمسرح»، مسرح العالَم، ولا بد أن يُسمح للجمهور الذي أتخمه الطعام الدسم الشيكسبيري، بأن يهدأ بالسلم بوفاة بطَلَي ذلك العالَم، قبل أن يعود إلى مسرحية مثل كوريولانوس أو بيريكليس، إذا كنتَ تريد العالَم جمهورًا لك، ولن يقبل أنطونيو وكليوباترا أقل من هذا، فعليك إما أن تحترق أخيرًا، مثل أنطونيو، وإما أن تختار مسرحًا خصوصيًّا لتمجيدك، مثلما تفعل كليوباترا. لم يقدم أحد إلى الدراما قدر ما وَهَبَها شيكسبير، وهو هنا في أشد حالات كرمه وسخائه، ولكنه يبدأ في الإحساس بأن الجمهور فخٌّ له، وسرعان ما سوف يطلب أقل لا أكثر. كان شيكسبير يومًا ما يحب العالم، وأما فيما تلا من حياته فنحن نرى أن حب فولسطاف حب يضمر الازدراء [للعالم]، حب يَتهَكَّم على مسار الدنيا ويتنحَّى عنه ويتركها تَمُر. والشاعر الذي كتب أنطونيو وكليوباترا لا يحب العالَم ولا يكرهه، لا ولا المسرح، فلقد أصابه الضجر منهما معًا. ولا يرجع بهاء أنطونيو وكليوباترا إلى تضاد معناها أو حالات التباس المعنى فيها، بل إنها تتميز بين جميع مسرحيات شيكسبير بأنها أعظمها باعتبارها قصيدة. وهي لا تزال تسلب الألباب عند تقديمها على المسرح، إذا أجاد المُخرج إخراجها وأجاد الممثلون تمثيلها، ولكنها ذات أصداء جبارة أكبر من أن تَسعَها خشبة أي مسرح، وإن كان من الأفضل أن نراها على المسرح الملائم لها من أية دراسة لها مَهما بَلَغ عمقها.
٤
لقد ابتكر شيكسبير إدراكنا بأننا لا نصل إلى ذروة الوعي بالعُشَّاق إلا عندما تزداد المسافة التي تفصلنا عنهم فجأة، وأننا عندما نفقدهم، خصوصًا بالوفاة، فإننا يمكن أن نتعرض لنشوة مُقَنَّعةٍ في صورة تضخيم لهم، ولكنَّها في الواقع الفعلي اختزالٌ لهم، ويُعْتَبر بروست أعظم تلميذ لشيكسبير في هذه العملية الساخرة؛ إذ تمثل ألبرتين في رواية البحث عن الزمن الضائع، أنطونيو في نظر الراوية، فهي كيان رفيع مُلْغِز ومفقود. ويقول بعض النقاد إن كليوباترا لا ترتبط بحب أنطونيو إلا في الفصل الخامس؛ أي بعد موته، ويبدو لي أن ذلك فيه بعض القسوة، ولكن تفانيها في حبه لا يبدأ الوصول إلى ذروته إلا في آخر الفصل الرابع، عندما يحتضر احتضارًا مُرْبكًا — إلى حدٍّ ما — في أحضانها. فهي باعتبارها سياسية وحاكمة وسليلة أسرة حاكمة، تُساوِرُها بواعث قَلَق شديد على مِصْر وعلى أطفالها، وهي اعتبارات تُنحِّيها جانبًا عندما نَتأمَّل العواقب، بالنسبة لمصر ولهم؛ إذ كابدت الإذلال الدائم بالعرض على أنظار الرجال في روما. فالتاريخ يقول (وفقًا لبلوتارخوس) إن أوكتافيوس اقتصر على إعدام ابن أنطونيو الأكبر، ولكن أوكتافيوس يُهَدِّد كليوباترا في المسرحية (الفصل ٥/م ٢/١٢٣–١٣٢) بإعدام جميع أبنائها إذا هي أحبطت انتصاره بانتحارها. وعلى الرغم من البهرجة التي تُصَوِّر بها السينما احتفالات النصر الرومانية، فإن عددًا كبيرًا منا لم يدرك إلى الآن مدى المِحَن التي يتعرض لها المهزومون من الملوك والقادة؛ إذ يُكابِدون أولًا ضراوة أفراد الشعب ومِن بعدها احتمال إعدامهم إعدامًا وحشيًّا. ولكن أوكتافيوس لا ينتوي إعدام كليوباترا، بل جعلها لعبة دائمة في سيرك مَجْدِه؛ إذ يقول: «إني أرى وُجودَها في موكب انتصارنا/في قلب روما مصدرًا لخالد الذِّكْر لنا.» ويتحمس شيكسبير حماسًا خاصًّا في وصف رفض كليوباترا لهذه المهانة:
إن كليوباترا تموت باعتبارها ممثلة للحكام الأرباب القدماء في مصر، على الرغم من أن شيكسبير كان يعرف ما نعرف، ألا وهو أنها كانت تنحدر من سلالة مقدونية، فهي سليلة أحد قادة جيش الإسكندر الأكبر، ولكن عُدَّةَ الحرب التي تكتنف وفاتها هي التي تنتمي وحدها إلى الكهنوت، والغرض منها بسيط ولاذع إلى حدٍّ لا يُحْتمَل، ألا وهو جمع شملها مع أنطونيو. وهنا يصبح فنها فن كاتب المسرح، ورثاؤها لأنطونيو يقتصر على جانب شخصي محدود، فالذي تبكيه هو ضياع العظمة، وتلك عاطفتها المشبوبة العامة:
وجملة «يختفي التمييز بين الغَثِّ والسمين» تعني أن القيمة التي تعتمد على ذلك التمييز قد فُقِدَت، فإن معيارها «عماد كل جندي» [وهي استعارة توازي بين الحربة التي يمسكها الجندي وقد تنتهي بالنَّصل أو السنان أو اللواء المرفوع وبين أنطونيو]. واشتياق كليوباترا إلى المَثل الأعلى المفقود لا يَدُلُّ على أن لدينا امرأة تعاليَّة جديدة وقد حَلَّت محل صاحبة الأداء المسرحي الرائع الذي عرفناه. فهي لا تتمتع بالقدرة التمثيلية التي تمكنها من أداء آخِر مشاهدها وأعظمها، وما أنطونيو الراحل إلا المناسبة الخاصة بذلك المشهد والدافع على تقديمه. ولا يعتبر هذا تشكيكًا في علاقتهما الوثيقة، التي ازدادت زيادة أبدية بسبب غيابه، ولكن المشهد يجدد وعينا بأننا، مثل أنطونيو، ومثل كليوباترا نفسها، لا نستطيع أن نفصل عاطفتها المشبوبة عن تصويرها لذاتها. إن دهاء شيكسبير يفوق ما يخطر على البال، وهو يَدُسُّ في كل صَدْعٍ نفسي أو روحي مقادير من الذهب الخام، بحيث نُصاب بالحيرة حتى إزاء أشد أقوالها مرارة:
ما حدود التمسرح هنا؟ إن جمهور كليوباترا يَتكوَّن من إيراس وشارميان، وجمهور المسرح نفسه، ولكن الأهم من ذلك أنها هي الآن جمهورها الخاص بها، ما دامت تفتقد أنطونيو، أكبر نصير يقدرها (باستثنائها). إننا مع إيراس وشارميان نتأثر كثيرًا بها، ولكنها ربما كانت تتفوق علينا؛ إذ إنها تُؤثِّر في نفسها تأثيرًا فذًّا إلى الحد الذي يصبح التأثير نفسه حُسْنًا جماليًّا إضافيًّا. ونحن لا نستطيع الوصول إلى أعمق مستوى داخليٍّ للذات الباطنة التي يتفتح زَهرُها على الدوام عند كليوباترا. ويساعدنا ذلك في تفسير نبذ شيكسبير للحياة الباطنة، بعد أن تطورت تطورًا لا نهائيًّا في التراجيديات الرفيعة الأربع. إننا نعرف، حتى عند مكبث، حدود تمسرحه الذاتي، وقد نرتجف إزاء تماهينا غير الطوعي مع تَخيُّلاته الجبارة. أما كليوباترا فنحن لا نستطيع أن نعرف أبدًا أين ينتهي الأداء الذاتي عندها، وهكذا نُبدِي الإعجاب رافضين التماهي. ولا يقلل هذا من شأن كليوباترا، لكنه يبعدها عَنَّا، حتى عندما تبهرنا أشد انبهار. كان شيكسبير يعرف ما يصنع، لكننا، في معظم الأحوال، نُبطِّئ في إدراك مرماه. فالواقع أن مَظاهر التكثيف الكوميدي تتنافس في كليوباترا مع طاقاتها الغرامية، بحيث إذا وصفناها بأنها بطلة تراجيدية فَقَدْنا جانبًا أكبر مما ينبغي من شخصيتها. وعندما يخبرها رسول سيئ الحظ أن أنطونيو قد تزوج أوكتافيا، تتذكر ما قاله ذات يوم: «ألا فَلْتَذُب روما بنهر التايبر!» وتجيب الرسول قائلة: «فَلْتَذُب مصر بنهر النيل.» ولا يبين شيكسبير لنا عودة أنطونيو إلى مصر وإلى كليوباترا، وينبغي أن نحدس السبب، ما دام اجتماع شملهما ينتمي إلى التاريخ العام، لا إلى لقاءاتهما الخصوصية، وهي التي تستبعدنا. ربما كان شيكسبير يفضل أن يعرض علينا تَوَتُّر علاقاتهما من خلال حوادث مُصوَّرة، بما في ذلك إصرار كليوباترا الفاجع على المُشاركة في المعركة البحرية عند أكتيوم، بل وما هو أَدْهى وأَمَر؛ أي سلوكها العجيب مع سفير قيصر، واسمه تيدياس:
(يقبل يدها.)
ونظن بأن هذا ليس خيانة لأنطونيو بقدر ما هو وقت تسديد دَيْن مُعَيَّن، إذ تَتوقَّع كليوباترا أن أنطونيو يستطيع اقتحام القاعة ثائرًا (وهو ما يفعله في الواقع) ويأمر بجلد تيدياس جلدًا مبرحًا، ويُحَيِّي إمبراطورة مصر قائلًا: «ألم تكوني قبل أن ألقاكِ شبه ذابلة» و«مُخادِعة» (أي فنانة في تبديل الولاء) وأقذع من هذا كله:
لقد امتزجَا امتزاجًا شديدًا يَتعذَّر معه فصل أحدهما عن الآخر، على الرغم من أنهما باعَا واشتريَا أنفسهما، ولم يَعُد أحد منهما يعتقد أنَّ أي شيء سوف ينتهي نهاية طيبة لهما. والمشهد المشترَك العظيم لهما معًا يقع في المعبد، حيث اتَّخذَتْه كليوباترا ملاذًا آمنًا، وحيث يُرْفَع جسد أنطونيو المحتضر إليها، وحوارهما خليط عجيب من الكوميديا الفظيعة والعاطفة الرهيبة، بحيث يستعصي على الوصف النقدي:
(يبدأ الجميع في رفعه.)
(تُقَبِّله.)
لا تظهر كليوباترا في صورة تزيد عن هذه في التَّفكُّه البشع، أو أشد تعرُّضًا لمنظور خُلقي يُؤدِّي إلى تشويهها تشويهًا لا حدَّ له. فأنطونيو المسكين يريد قُبْلة أخيرة، ولكنها تخاف أن تهبط من ملاذها في المَعْبد، وهو مفهوم فعلًا، إلا أن ذائقتها وتوقيتها مشكوك فيهما بسبب إقحامها أوكتافيا في هذه اللحظة الجروتسك الرهيبة. ويتجاوز أنطونيو سوء الذوق وسوء التوقيت حين يكرر مقولته الرائعة «أموت مليكة مصر أموت!» ويطلب جرعة خمر تساعده على الكلام، لكنه يُواجَه بصرخة كليوباترا «كلا بل دَعْني أتكلم!» ثم إذا هي تنطلق في جعجعة طنانة تُعْتَبر أقرب ما تكون إلى الحركات المسرحية. وكان الدكتور جونسون يصف كلام كليوباترا عن رَبَّة الأقدار العاهرة وتحطيم عجلة الحظ بأنه «حقير»، ولكن هذا الناقد الأخلاقي العظيم لم يشأ أن يشير إلى الطابع الفَكِه الغريب في المسرحية. إذ إن أنطونيو يموت بكل ما استطاع أن يَستجمِعه من وقار، في مواجهة كليوباترا التي أصابها الخبل، مدركًا أنه أخطأ في تنفيذ مَشْهَد انتحاره نفسه. فالعالَم موجود، دائمًا، وشيكسبير يدبر تقسيمًا نهائيًّا لآيات الشرف بين كليوباترا والعالم في الفصل الخامس، وفي هذا الفصل، نجد أن أنطونيو أصبح ظلًّا عظيمًا ذا بهاء أخير، وأنه ذو حضور أكبر بسبب غيابه الكامل، وأن جلال ذكراه يفوق ما شهدنا فيه على خشبة المسرح.
٥
على الرغم من صعوبة تفسير أقوال كليوباترا مَهْمَا تكن، فإنها في الفصل الخامس تصل إلى درجة من الدِّقَّة والخفاء في دلالاتها أثناء حوارها مع دولابيلا، الذي تكاد تغويه، كدَأْبِها على الدوام. وهي تبدأ «بحلمها» الخاص بأنطونيو، عارضة صفات شبه ربانية تؤكد كرمه وأريحته، ثم تقول: «فإذا سبح ببحر المتعة كان كدولفين يركب متن الأمواج/فيعلو فيها وعليها!» وتنتقل من ذلك إلى الحوار الحاسم الذي يحدد لها طريق الانتحار:
قد نشعر أن دولابيلا سوف يكون عاشقها التالي، إن سمح الزمان وكانت الظروف مواتية، ولكن زمان شيكسبير لن يرحم فيسمح! ففي مسرحية درايدن كل شيء في سبيل الحب نجد انجذابًا متبادلًا بين كليوباترا ودولابيلا، ويضيف درايدن إضافة تُرَجِّح الكفة في صورة تَطارُح خفي للغرام بين كليوباترا وفينتديوس. وأما دولابيلا عند شيكسبير فهو سياسي طموح مثلما صوره بلوتارخوس، ويبلغ تأثُّره بحزن كليوباترا أن يُخاطِر بمستقبله العملي فيؤكد لها رؤياها المرعبة بأنها سوف تُعرَض في موكب نصر أوكتافيوس. وهي تصل إلى ذروة المهارة في حوارها التالي مع أوكتافيوس، فتتصنع غضبها؛ لأنها اتُّهِمَت بإخفاء نصف ثروتها عن الفاتح. وهكذا يتأكد أوكتافيوس بأنها تعتزم البقاء في قيد الحياة، وينسحب تاركًا إياها، وبذلك تحتفظ بفرصة الموت والتحول. ومن ثم تطلب من فتياتها الاستعداد للرحيل إلى صيدا «حتى ألاقي أنطونيو» وتطلب منهن إحضار أبهى ملابسها.
ونصل إلى ذروة هذه المسرحية الرائعة في المشهد ما بين كليوباترا والمُهَرِّج، قبيل تمجيد انتحار كليوباترا، وهو مشهد فكاهي قصير، يشبه الفواصل في التراجيديات، ويؤكد حجة جانيت أديلمان التي تقول «إن إصرار شيكسبير على النطاق الهائل، أي على التنوع اللانهائي للعالَم، مضاد للخبرة التراجيدية». فالمنظورات الغريبة كثيرة في أنطونيو وكليوباترا، ولكن منظور المهرج أشدها إثباطًا للهمم، فهو يهيمن على الحوار مع كليوباترا؛ إذ إن سحرها يبدأ بإذابة كراهيته للمرأة ثم يعيد تدعيمها عندما يعجز عن إثنائها عن عزمها. وما أندرَ الحوارات التي نُصادِفها في الأدب العالمي التي تضارع هذا الحوار في شدة لذعه وخفاء مراميه، فالمُهرِّج يقدم لكليوباترا الثعبان القاتل قائلًا:
وأجمل رثاء جدير بشَاهِد قَبْر كليوباترا يزداد تأثيره لأن الذي يقوله أوكتافيوس، وهو أبعدُ مَن يمكن أن تقتنصه الساحرة خصوصًا بالقياس إلى دولابيلا؛ إذ يقول أوكتافيوس:
ولما لم يكن أوكتافيوس «أنطونيو آخَر» فإنه يتفوق على نفسه في هذا الإطراء لطاقة كليوباترا على الغواية. وبحلول هذه اللحظة يكون الجمهور قد أصبح، على الأرجح، هو العالَم أو ينبغي أن يكون قد أصبح العالم، وازدحمت عنده منظورات متعددة، فإن «هل يأكلني؟» سؤال يَصْطَرِع مع «أتمنى لك الهناء مع الثعبان»، وكلاهما يُنَحِّيه قليلًا أمَلُنا المُحال في وجود أنطونيو آخَر يمكن اقتناصه.