كوريولانوس
١
غطرسة السُّلطة أقوى من ذريعة الضرورة. ولا يتضمن الخضوع الوديع للسلطة المغتصبة، أو حتى المقاومة الطبيعية لها، أي عنصر يثير الخيال أو يمتدحه، فإن اكتساب الحق في إهانة الآخرين أو ظلمهم هو الذي يحمل مظهر التفوق الذي يفرض نفسه فرضًا. ونحن نفضل أن نكون ظالمين لا مظلومين. وحب السلطة في ذواتنا والإعجاب بها في الآخرين من الصفات الطبيعية في الإنسان: فالصفة الأولى تجعله طاغية، والثانية تجعله عبدًا. والخطأ الذي يَتزَيَّا بِزِيِّ الكبرياء والفخامة وبهاء الموقع أشد جاذبية من الحق المجرد. إن كوريولانوس يشكو من تَقلُّب أهواء الناس، لكنه ما إن يعجز عن إشباع كبريائه وعناده على حسابهم حتى يُحوِّل وجهة أسلحته إلى صدر وطنه.
تعتبر كوريولانوس مسرحية شيكسبير السياسية إلى حدٍّ يتجاوز حتى يوليوس قيصر وهنري الخامس. واهتمامي بهذا الجانب فيها يَقِل عن اهتمامي بطبيعتها التجريبية، ما دامت تمثل، فيما يبدو، اختلافًا متعمدًا عن «طرائق» التراجيديات الخمس الرفيعة: هاملت (١٦٠١م)، وعطيل (١٦٠٤م)، والملك لير (١٦٠٥م)، ومكبث (١٦٠٦م)، وأنطونيو وكليوباترا (١٦٠٦م). وكان شيكسبير قد بلغ الأربعين من عمره بعد أن كتب المسرحيات الثلاث الأخيرة من هذه التراجيديا فيما يزيد قليلًا على عام واحد. وأما كوريولانوس (١٦٠٧م) فإن بطلها جندي يشبه آلة دَكِّ الحصون، فهو جيش يتكون من فرد واحد دون مُبالَغة، قُلْ إنه أعظم آلة قَتْل في مسرح شيكسبير كله. وتعتبر الصورة التي يرسمها شيكسبير لكوريولانوس بحيث لا ينفرنا منه نفورًا كاملًا (مَهْما تكن مذاهبنا السياسية) نصرًا للمؤلِّف، فإن هذا البطل يتسم بأضيق وعي بين جميع الشخصيات الرئيسية في المسرحيات.
ساء صيت كوريولانوس؛ إذ اشتهر بأنه ضحية والدته المهيمنة المُلْتَهِمة، أي بأنه طفل كبر حجمه، وهو في أي مكان ما عدا صعيد المعركة، وفي أفضل حالاته، كارثة تنتظر الوقوع. وحين يواجه العامة من مُواطِني روما، فنحن نضمن أنه سوف يسبُّهم في غضبة مُطْلَقة. وقد أثبتت آن بارتون بصورة بارعة أن شيكسبير يحرص على التمييز بين جمهور العامة في كوريولانوس، وبين جماهير يوليوس قيصر، أو أتباع جاك كيد في هنري السادس، وتقول إن العامة في كوريولانوس «يحرصون على الدافع، لديهم ولدى ظالميهم، وهم لا يفتقرون إطلاقًا إلى الإدراك.» أي إنهم ليسوا غوغاء، ولا يتخذ شيكسبير موقفًا منحازًا ضدهم. وكايوس مارتيوس (الاسم الحقيقي لكوريولانوس) كان يمكنه أن يصبح القائد العام للفولشان، أعداء روما المحاربين، أكثر من أن يصبح قائدًا رومانيًّا، وهي مُفارَقة يؤكدها شيكسبير على امتداد المسرحية. ويرى كايوس مارتيوس أن العوام في روما لا يستحقون الخبز ولا السيرك، فهم يرون أنه يمثل تهديدًا لبقائهم، وشيكسبير يرى قَدْرًا من العدل في موقف الناس في هذا الصدام، وهو ما لا يعترف به هازليت، فهم خائفون وسريعو الغضب ولكن كايوس مارتيوس يستفزهم استفزازًا خطرًا، وقرارهم بنفيه أقرب إلى الصحة منه إلى الخطأ، فعبادته «للشرف» لا تولي أي قيمة على الإطلاق لحياتهم. ومع ذلك فهو عدو لذاته أكثر من كونه عدوًّا لهم، ولا ترجع مأساته إلى خوفهم وغضبهم، بل إلى طبيعته وتربيته.
إن قبول مارتيوس إطلاق اسم كوريولانوس عليه يعني قبوله امتنان الناس بما حقَّقه وبذلك ينتقص بالضرورة من ذاته. فهو يشبه لير ومكبث وبروتوس وهاملت في أنه يجعلنا نتبين إلى أي حدٍّ تخلق الإنجازاتُ البطل، وهي التي تحددها الأحداث التي مر من خلالها.
ولكن هل يُخلق لير ومكبث وبروتوس وهاملت وتَتحَدَّد صِوَرهم على هذا النحو؟ بل إن في كل منهم جوهرًا ينتصر ويسود، وأما كوريولانوس فهو على العكس منهم خاوي الوفاض. إذ إن عاطفة لير، ومُخَيِّلَة مكبث، ونُبْل بروتوس، والوعي اللانهائي عند هاملت خصائص تسبق إنجازاتهم وتبقى بعد انتهاء الأحداث. ونحن لا نستطيع أن نتصور وجود كوريولانوس في أية سياقات أو ظروف تختلف عمَّا يوجد فيه ومع ذلك فهو لا يستطيع أن ينجو من سياقه أو ظَرْفه الخاص. هذا على وجه الدقة مأساته، وهذا، لا الأحوال السياسية، هو شغل شيكسبير الشاغل في هذه المسرحية. ولأستشهد من جديد بعبارة تشيسترتون التي لا تبارح ذاكرتي وهي قوله إن أشد أبطال شيكسبير حيوية «أرواح عظيمة تغلها الأصفاد.»
إن كوريولانوس تغله الأصفاد التي ترجع إلى طبيعته والظرف المحيط به، لكنه ليس على الإطلاق روحًا عظيمة، فلقد أنشأته والدته بحيث يصبح رب حربٍ رضيع، وهو يظل دائمًا هكذا، على الرغم من جهوده الدائبة للاستقلال. وعندما يحكم الناس بنفيه، يتحداهم في أشهر خطبة له:
إذا قرأنا الخُطْبة خارج السياق بدت رائعة، ولكنها في المسرحية تثير الإشفاق أكثر مِمَّا توحي بالبطولة. والحق أن كوريولانوس كان ينبغي أن يُنْفى، فربما حقق النُّضج في تلك «الدنيا الأخرى». ولكن الذي يحدث، على نحو ما أشار إليه هازليت برضًى عابس، أن كوريولانوس يلتحق بصفوف الفولشان ويقود جيشهم للزحف على روما، وهو عمل لا يدل على «الشرف»، إلا إن كان معنى «الشرف» يقتصر على بسالة الفرد في القتال، مَهْما تكن قضيته. وتزعم آن بارتون زعمًا لا يكاد يشاركها فيه أحد، قائلة إن كوريولانوس يتخذ وطنًا له بين الفولشان؛ لأنهم ينتمون إلى العهود الغابرة أكثر من انتماء الرومان، وهم يعبدون الحرب بلا استثناء. وأنا أرى أن هذا الزعم يثير الحيرة، ما دامت الغاية البرجماتية في المسرحية تقول إن كوريولانوس ينتهي بلا وطن؛ إذ لا يطيق أن يرجع إلى روما، ولا يستطيع البقاء في خدمة الفولشان. وتقول حجة بارتون إن كوريولانوس يتعلم الحقيقة، وهي أن العامة يتمتعون أيضًا ببعض الحقوق، لكنه يموت قبل أن يستطيع «إعادة بناء حياته». ويبدو لي أن هازليت أقرب إلى إدراك حقائق المسرحية إذ يقول إن كوريولانوس يعيش ويموت في «غطرسة السلطة». وتنحصر مأساة كوريولانوس في أنه لا مكان له على الإطلاق في دنيا العامة والدنيا الجماعية، لا بين الفولشان ولا بين الرومان، أما السبب الذي حدا بشيكسبير إلى كتابة هذه المسرحية البالغة الغرابة فهو السؤال الذي أود أن أناقشه الآن.
٢
ذاع تفضيل ت. س. إليوت لكوريولانوس على هاملت، وتأكيده الغريب أن كوريولانوس أفضل تراجيديا شيكسبيرية. وأتصوَّر أن إليوت لم يكن جادًّا حتى وإن كان يعتقد مخلصًا أن هاملت «فاشلة جماليًّا». والواقع أن شيكسبير يتعمد طمس فنه البلاغي في كوريولانوس، فإذا كان قياسنا لهذا الفن قائمًا على معايير الملك لير أو مكبث أو أنطونيو وكليوباترا فلن نلمح أي وجود لهذه المسرحية المتأخرة. وهي باهرة لأنها تمثل اختلافًا شاسعًا عن النشوة الإبداعية التي سادت كتاباته في الشهور الأربعة عشر التي سبَقَتْها. وفي السنوات الكثيرة التي دأبتُ فيها على تدريس شيكسبير، كنتُ ألاقي مقاومة مبدئية شديدة لكوريولانوس؛ إذ تمثل للقرَّاء ومُرتادي المسرح ما يعتبر ذائقة مكتسبة.
فإذا قرأنا كوريولانوس أو شاهدناها في موقعها التالي للمسرحيات الرفيعة بدت لنا أشد إشكالية عمَّا هي عليه في الواقع. إذ إن شيكسبير هنا وفي تيمون الأثيني التي لم يَستكْمِلها (كما هو واضح) يتبع مذهبًا تجريبيًّا يقوم على بناء أبطال يثيرون نفورنا منهم بصفة أساسية، وإن كانت عبقريته قد اهتدت إلى سُبُل تجعلهم يَحظَوْن بتعاطفنا معهم على الرغم من أنفسهم. فإن كوريولانوس يختلف عن بروتوس، فالوطنية الرومانية ليست لها قيمة كبيرة عنده، بالقياس إلى الشرف الشخصي المَحْض. وكان شيكسبير قد استكشف فوائد الحنق الشخصي للبطل في تناوله لمكبث، الشرير البطل. وقد تَعرَّض مفهوم كوريولانوس لشرفه الخاص للإهانة بسبب إرساله إلى المنفى، وأما غضب تيمون فينبع من الجحود الذي يكاد يكون عالميًّا. والحق أن كوريولانوس وتيمون يبعثان على الغيظ، ولكنهما ما داما يعتقدان أنهما قد أُهينا، فإننا نرتبط بهما في بعض اللحظات الحاسمة. وتعتبر هذه خصيصة شيكسبيرية أصيلة أخرى، أو نهجًا آخر لابتكار الشخصية الإنسانية.
وقد نبه يوجين ويث وأ. د. ناطول، بأسلوبين بالِغَي الاختلاف وإن كانَا متكامِلَين، سائر النقاد إلى مشهد كوريولانوس وهو يقود الفولشان، وهو الذي ينقله كومينيوس، القائد الروماني، إلى القضاة الخائفين الذين حكَموا بالنفي على البطل الهرقلي، قائلًا:
ويتحدث ويث عن هيبة كوريولانوس و«قامته الفائقة للبشرية»، وهو ما يعيدنا إلى مُفارَقات هذه الشخصية الغريبة، ما دام يجمع بين الرب والطفل، فهو مارس رب الحرب عندما كان رضيعًا! وأما ناطول فيبدي رأيًا أراه مفيدًا فيما يتعلق بأدب شيكسبير كله؛ إذ يشير إلى الأسطورة الهِرْمِسِيَّة التي تَعْتَبر الإنسان ربًّا فانيًا، في قول كومينيوس إن كوريولانوس يشبه الكيان الذي صَنعَتْه ربة أخرى غير ربة الطبيعة. وكنتُ قد رسمتُ الخطوط العريضة لهذه الأسطورة — أي أسطورة الإنسان باعتباره ربًّا فانيًا — باعتبارها صورة الكون المُرَجَّحة عند شيكسبير — في الفصول التمهيدية لهذا الكتاب، وأنا أتبع ناطول في الاستشهاد بها من جديد هنا. إن كوريولانوس «نوع من العدم» يأمل أن يقف «كأنما كان الرجل رب ذاته، ولا يعرف له أي أقارب أخرى». ولكن ذلك لن يتحقق له آخِر الأمر بسبب والدته وتربيتها الغريبة له. ومع ذلك فإن بطولته الحقيقية تَكمُن في محاولته الهِرْمِسِيَّة ليصبح الرَّبَّ الفاني كوريولانوس، لا كايوس مارتيوس الذي يظل طفلًا إلى الأبد. وعلى الرغم من عُقْم باطنه، وشبه خوائه، فإنه يَتمتَّع بإرادة بطولية مستميتة.
والجملة الأخيرة تكاد تشير إلى ياجو، ولكن كوريولانوس ليس شريرًا على الإطلاق، بل وليس حتى شريرًا بطلًا. إنه شخصية ذات أصالة بَالغة الغرابة إلى الحد الذي يجعل وصفه شديد الصعوبة. ويقول كينيث بيرك إن لنا أن نعتبر هذه المسرحية «تراجيديا جروتسك» [بمعنى ذات غرابة مخيفة ومضحكة معًا]. ولا شك أن تيمون الأثيني يُمكِن وصفها بتلك العبارة، ولكن الإشفاق الهائل الذي يثيره كوريولانوس فينا لا يعتبر، فيما يبدو، مما يوصف بالجروتسك. إذ يحرص شيكسبير من طرف خفي على ألا يقدم لنا أية بدائل عن مفهوم الشرف عند كوريولانوس، حتى حين يبين لنا كم يبدو هذا المفهوم محدودًا ومُعَوِّقًا عند الطعن فيه. وأما والدة البطل، وأصدقاؤه، وأعداؤه، من رومان وفولشان، فلا يثيرون فينا أي تَعاطُف على الإطلاق. ولم يستطع أحد، ربما باستثناء ت. س. إليوت، أن يتماهى مع كوريولانوس. وربما كان هازليت — الذي اشتهر بقوله «نحن هاملت» — قادرًا على أن يُؤكِّد أن دوق ولنجتون [الذي هزم نابليون] هو الذي يُمْكِنه أن يخلط بين نفسه وبين كوريولانوس.
وأما فيما يتعلق بجميع الأسئلة الخاصة بتطوره، فإننا نعود إلى الحدس بشأن شيكسبير، أكثر كُتَّاب المسرح إلغازًا وغموضًا. فالشعر في كوريولانوس فظ كما ينبغي، بل عالي النَّبْرة، ما دام جانب كبير من المسرحية يَتكوَّن من نقد ساخر عنيف. وشيكسبير يُتقِن التحكم في شكل النص ومادته، بل ربما كان التحكم أشد إتقانًا مما ينبغي. لا يستطيع أحد، ولا حتى شيكسبير إخضاع الملك لير، ومكبث، وأنطونيو، وكليوباترا للأبنية المسرحية المعتادة؛ إذ يدأب التَّحرُّر على كسرها، فإن لير وإدموند، ومكبث وكليوباترا يواصلون الإفلات من قبضة مبدعهم، تمامًا مثلما يعتبر فولسطاف وهاملت وياجو نماذج للعفاريت التي فَرَّت حاملة طاقة زهر أبوللو. لا توجد طاقات تعاليَّة تُحَوِّمُ في كوريولانوس، وكايوس مارتيوس نفسه ذو عقل بالِغ الضآلة وليست لديه مُخَيِّلة على الإطلاق. وتعتبر المسرحية توكيدًا من جانب كاتب مسرحي محترف لقدرته على التحكم في مادته الشعرية: إذ نشعر بأن كوريولانوس يفعل على وجه الدِّقة كل ما يريد شيكسبير منه أن يفعل. وهكذا، فعلى الرغم مما يَتجلَّى في كوريولانوس من حصافة وقوة، ليست من الأعمال التي تُضَخِّمُ الحياة. وأكاد أقول إن شيكسبير كان يريد أن يهزم بن جونسون في حلبة مُنافسه المختارة؛ إذ إن كوريولانوس، من عدة زوايا، هي العمل الذي عجز بن جونسون عن كتابته في مسرحيته سقوط سيجانوس (١٦٠٥م) وهي المحاولة الناقصة لتصحيح يوليوس قيصر وتجاوزها. ولا تزال كوريولانوس قادرة على إثارة الباحثين والنُّقاد، لا عموم القُرَّاء ومُشاهِدي المسرح، فهؤلاء أقل إعجابًا بكمالها باعتبارها تراجيديا من طراز الكلاسيكية الجديدة. ومع ذلك فلم يكن جونسون في يوم من الأيام ظلًّا يطارد شيكسبير، مثلما كان مارلو ردحًا طويلًا من الزمن، وهكذا فمن الأرجح أن يمثل تأليف كوريولانوس رِدَّةً شخصية عن إنجاز شيكسبير السابق، فلقد تَفوَّق هذا المؤلِّف على نفسه في التراجيديات الخمس الكبرى، ولم يَعُد يحرص على الغوص إلى أعماق أبعد في تلك الهوة السحيقة للنفس. والواقع أن الانطلاق من جديد من تلك الحياة الباطنة هو الذي أعطاه «وأعطانا» كوريولانوس التي تُعْتَبر قطعًا أغرب مسرحيات شيكسبير التسع والثلاثين. وأنا أقصد الغرابة بدلالة مزدوجة، فهي مسرحية عجيبة، ونوع عجيب من البهاء الجمالي، فهو مختزل لكنه فريد. وفي سخائه بما منحنا، يحقق شيكسبير كمالًا شكليًّا من طراز لم يَعُد إليه بعد ذلك قط.
٣
ويزداد الإشفاق الذي يثيره كوريولانوس الجبار كلما نظرنا أو نظر شيكسبير إلى البطل مقترنًا بوالدته الضارية، فولومنيا، التي لا بد أن تعتبر أسخف امرأة في كل ما كتب شيكسبير، بل أسخف حتى من جونريل وريجان. وما دامت فولومنيا، مثل كل فرد غيرها في المسرحية، لا تملك إلا ذاتًا ظاهرة، فليس لدينا إلا علامات قليلة تشرح لنا كيف تَحوَّلت والدة رومانية وقورة في البداية إلى شخصية من خلق سترندبرج [أي المرأة الداهية الجبارة] (وذلك تشبيه دقيق أتى به راسل فريزر). ففي أغرب مسرحية كتبها شيكسبير، لا تزال فولومنيا أشد شخصية مثيرة للدهشة، فليست على الإطلاق تتفق مع الصورة المعتادة للأم النهمة الملتهمة. إذ إنها تتباهى بأنها ألقت بولدها كايوس مارتيوس في حمأة القتال وهو بعد لين العود (وهو ما يذكرنا بعطيل، الصبي المقاتل) وتُبْدِي ابتهاجًا بالدم وإن يكن دم ابنها:
وهذا التصوير الجروتسك [الغريب المضحك] والمَرَضِي لا يمكن أن يَبتَعِد كثيرًا عن الهجاء الساخر مثل أشياء أخرى كثيرة في كوريولانوس. وما دامت لكوريولانوس هذه الأم، فإنه مهما يبلغ سوءًا، لا بد أن يتمتع بصفح الجمهور عنه. لم أشاهد إخراجًا لهذه المسرحية بقصد استدرار الضحكات، مثل تيتوس أندرونيكوس، ولكن لنا أن نتساءل ما الذي كان شيكسبير يرمي إليه، عندما يقدم لنا وصفًا لابن كوريولانوس، الذي سوف يصبح بطلًا في المستقبل، أثناء لهوه:
هل يمكن تمثيل هذا على المسرح إلا باعتبارها كوميديا؟ ويتحول شيكسبير بسرعة إلى المشهد الذي يَتبادَل فيه كوريولانوس والعوام إصدار أحكام النفي على بعضهما البعض، وهو مواجهات تتخطى الحدود التي تفصلها عن الكوميديا إلى درجة ما. ومن الصعب أن نحكم حكمًا دقيقًا يحدد الصورة التي ينبغي أن ندركها لفولومنيا، وهي التي تدين بديْن رهيب إلى صورة جونو المخيفة عند فيرجيل. ويجعل شيكسبير هذا الانتساب صريحًا حين ترفض فولومنيا دعوة إلى العشاء:
ما أشبه الابن بأمه، فهو أيضًا يَتغذَّى على ذاته، وإذا أكل الطعام ماتَ من الجوع! وليس هذا مضحكًا لسبب واحد وهو أنه بالِغ الرعب، مثل جونو في ملحمة الإنيادة. وأما الذي يُعْتَبر أبعد ما يكون عن الكوميديا ويثبت أخيرًا أنه تراجيدي حقًّا فهو المواجَهة بين كوريولانوس وبين فولومنيا حين تستحثه على العودة أثناء قيادته الفولشان في الهجمة على روما:
كمِثل ابْني هذا لكِنْ … ها هُوَ ذا يَتْرُكني أشكْو وأنُوحُ
كَمنْبُوذٍ في حَبَّاسَتِهِ الخَشَبيَّة!
هذه أبشع لحظة في حياة فولومنيا، بل تتجاوز البشاعة لأنها برجماتيًّا تؤدي إلى قتل كوريولانوس، كما يقول لوالدته:
يبدو لي هذا، في إطار التراجيديا، أكثر من جروتسك، وربما تؤدي غرابته إلى وضعه على الجانب الآخر للتراجيديا. وتقدم جانيت أديلمان قراءة لوذعية لهذا المشهد، تنتهي فيها إلى قولها: «إن التبعية هنا لا تأتي بمكافآت، ولا بأي حب، ولا بأي مشاركة مع الجمهور، بل تأتي بالانهيار الكامل للذات، وبالنصر الرهيب لفولومنيا». ولنتساءل: إذا لم يتوافر السلوان، حتى ولو اقتصر على المشاركة في الحزن، فهل تتوافر لنا رغم ذلك الخبرة الجمالية للتراجيديا؟ إن شيكسبير يقدم إلينا في كوريولانوس وفي تيمون الأثيني ما يعتبر غسق التراجيديا. لا شيء يكتسب من لا شيء، ويمكننا أن نحدس أن التراجيديات الخمس قد كلفت شيكسبير كثيرًا، فالقراءة العميقة لمكبث والملك لير أو مشاهدة عرض مسرحي ممتاز لهما (وهو أمر بالغ الندرة) من الخبرات الممزقة للنفس، إلا إذا كان المرء يتسم بالبرود الشديد أو لم يعد يأبه لشيء على الإطلاق. إن كتابة الملك لير ومكبث تثبت، على الأقل، أنك لست باردًا ولا حبيسًا في ذاتك. ويعترف شيكسبير لنفسه، في انتقاله إلى كوريولانوس وتيمون الأثيني، أنه قد تجاوز حدًّا معينًا، واكتشف أنه قد انتهى من التراجيديات مثلما انتهى من الكوميديا غير المختلطة.