تيمون الأثيني
١
وعلى الرغم من اعتبار تيمون الأثيني تراجيديا، فإنها تقع في منطقة ما بين الهجاء الساخر والهزلية، ومثلما يشار إلى احتمال الشروع في كتابة كوريولانوس باعتبارها ردًّا على مسرحية سقوط سيجانوس لبن جونسون، يبدو أن الشروع في كتابه تيمون الأثيني كان يمثل الرغبة في التفوق على جونسون في الهجاء الساخر الأخلاقي. فإن كوريولانوس وفولومنيا، على نحو ما ذكرتُ، ليسا شخصين بل صورتين فكريتين جونسونيتين، ولكن تيمون ليس حتى ذلك، فهو كاريكاتير أو شخصية كارتونية. ويؤكد كثير من النقاد أن تيمون شخصية فريدة عند شيكسبير، فليست له روابط أسرية، فلا والد له ولا والدة ولا ولد، ولا حتى خليلة، كما أن تيمون ليس له أصول. ونحن نعرف في وقت لاحق في المسرحية أنه أنقذ أثينا يومًا ما، بسيفه وماله. فالواضح أن تيمون بدأ حياته مقاتلًا، وتقلد رتبة القائد العام ذات يوم، وأما كيف أقبلت الدنيا عليه أول مرة فأمر لا نعرفه قط. وموقفه تجاه الحياة الجنسية يتحول من اللامبالاة في البداية إلى الإجفال في رعب وفزع. وهذه هي المسرحية الوحيدة عند شيكسبير التي تخلو من الأدوار النسائية، إلا للعاهرات.
لا يحب تيمون أن يكره نفسه أو الآخَرِين. وهو مُرْغَم على كراهية البشر كراهية ضارية، فهي جهد عسير شاق. وهو يَتمنَّى أن يفر من تقلبات الحظ المخاتلة، ومن قلاقل العاطفة والشدائد، هابطًا إلى سكون القبر. وأفكاره مَعقُودة في هذا الصدد، بحيث يجد الزمن والمكان الملائمين ليصبح رومانسيًّا. فهو يحفر قبره الخاص على ساحل البحر، ويدبر شعائِر جنازته في بهاء القفر، ويبني ضريحه من عناصر الطبيعة.
تَتفوَّق هذه المسرحية على كل ما عداها في السيطرة التقنية التامة القوية التي لا تُقاوَم وتكاد تبدو غير مُشَذَّبة في تأثيرها الهائل وبنائها الجبار، وهذا طبيعي؛ إذ لا تضارعُها مسرحيةٌ أخرى في ضخامتها، كأنها نُحِتَت دون تهذيب في أشكال أطلسية من الجبال الصخرية لذهن الشاعر أو روحه، هذه المسرحية الخاصة بتيمون … لا توجد عند شيكسبير سقالة تقنية أخرى تستطيع أن تَتحمَّل مثل هذا الوزن الثقيل المُدمِّر. فهذه المسرحية توازي هاملت، وطرويلوس وكريسيدا، وعطيل، والملك لير وقد أصبحت تَتمتَّع بوعي ذاتي وصبغة عالمية، فهي تضمها جميعًا وتتجاوزها.
ما أروع أن يصدق المرء ذلك، ولكن الإطراء المُغالَى فيه من جانب ويلسون نايت لا يدعمه نص شيكسبير. كان من حسن حظي في شبابي أن أشهد عرضًا مسرحيًّا أدى فيه ويلسون نايت بعض مشاهد من تيمون الأثيني، حيث أسبغ الممثل الناقد على تيمون هالة السمو والرِّفعة عند الملك لير، ولكن الأصداء لم تتبعني إلى خارج المسرح، ولم أَعُد أسمعها. لقد رأيتُ بعض الطلاب من ذوي الحساسية الذين كانوا يربطون ما بين تيمون ولير، ولكن ذلك الربط لا يصمد للتحليل. إن مسرحية تيمون الأثيني «جذع» عجيب [بمعنى أنه جسم غير مكتمل]، وهي ذات قوة تعبيرية هائلة، ولكن من الواضح أن شيكسبير انتهى إلى أنها كانت غلطة، وكان على صواب في هذا فعلى الرغم من إمكان أدائها على المسرح، فإنها لا تزال قبر الفن الدرامي عند شيكسبير. فبِصِفَتها أسطورة مُمَسْرَحة، تحمل — افتراضًا — عبئًا من الجُحود، فإنها تفتقر إلى أصداء الرنين المميز لشيكسبير، باستثناء واحد، وهو أن المرثية المركزة تُذكِّرنا بالمسرحيات التراجيدية العظيمة المتوالية التي خلقها شيكسبير ضد طبيعته؛ إذ إن عبقريته الأصيلة عبقرية كوميدية، فلقد خرج فولسطاف وروزالند من الدفقة الحيوية الأولية في كيان شيكسبير، وجاء هاملت ولير بعد ولادة عسيرة. وليست تيمون الأثيني ذروة على الإطلاق، وضريحها النهائي هو المثوى الأخير لأولى التراجيديات الأوروبية العظمى منذ عصر أثينا القديمة.
٢
تيمون أشد الشخصيات الكرتونية حيوية في المسرحية، ويكاد يكون الشخص الوحيد الذي يهمنا، ويوجد إلى جانبه تابِعُه المُخْلِص فلافيوس، وكذلك أبيمانتوس ذو الفلسفة الكلبية [أي الذي يسخر من كل شيء] وهو الذي يُوصَف في قائمة الشخصيات بأنه «فيلسوف مُر اللسان»، وكذلك ألسيبياديس، الذي يتضاءل مظهره هنا عن مظهره عند أفلاطون وعند بلوتارخوس. وأما الباقي فهم مُتَزلِّفون منافقون وعاهرات، ويشغل تيمون مركز مسرحيته بصورة لا نجدها حتى عند مكبث. وإذا كان كوريولانوس يفتقر إلى الحياة الباطنة، فإنه لا يباري تيمون في هذا الفقدان؛ إذ يفتقد تيمون إلى ما لا يقل عن كل شيء، قبل أن ينطلق في أولى ثوراته العارمة في الفصل الثالث، المشهد الرابع؛ إذ يأمر تابعه بدعوة جميع المداهنين والطفيليين والأصدقاء الخونة إلى عشاء ختامي يتكون من ماء فاتر وحصى في أطباق مُغطَّاة. وبعد أن يُلقي الماء الفاتر في وجوه الضيوف ويضربهم بالحصى، يصل تيمون أخيرًا إلى فصاحة الحقد والضغينة في وداعه لأثينا:
وعلى الرغم من طول هذا الخطاب، فمن الصَّعْب تقسيمه إلى مُقتطَفات قَصيرة، فالواقع أنه يأتي في صورة انطلاقة بلاغية بعد ثلاثة فصول غير مُرْضية إلى حدٍّ ما. ولما كان تيمون سوف يواصل السُّباب وصَبَّ اللعنات على امتداد الفصلين الأخيرين، فسوف يُرهِقنا، ولكن هذا الانفجار الأول يَتمتَّع، قطعًا، بطاقات ومسرات. ولما كان تيمون لا يزيد عن صورة كارتونية وفوق رأسه فقاعة تتضمن ما يقول أو يفكر فيه، فمن المشروع تمامًا أن نستعيض عن أثينا بلندن، وعن الأثيني النبيل بشيكسبير الذي بدأ الأربعينيات من عمره. كانت لندن في عام ١٦٠٧م قد «حان حينها للبلاء» وحيث تتعرض كل القيم «للانحطاط فتصبح أضدادها/ويظل الخلط حيًّا يتنفس!» ولا أقصد أن أقول إن شيكسبير، مثل تيمون، سوف ينطلق إلى الغابة، بل أن أُبَيِّن أن الحماس في إدانة المدينة ينتمي إليه لا إلى تيمون. فعندما يبدأ الملك لير في إطلاق اللعنات، ليس من المُحتمَل أن نخلط بين صوت الملك العظيم وبين صوت شيكسبير؛ لأن الحياة الباطنة عند لير لا نهاية لعمقها، كما أن شيكسبير قد سمح لنا بأن نجعلها تنتمي إلينا، فإذا كانت عواطف لير الجياشة أكبر منا، فإنها أيضًا عواطفنا، ولكن سَوْرات الغضب عند تيمون مُنفَصِلة تمامًا عنَّا، ولم يبذل شيكسبير أدنى جهد حتى يجعل تيمون شخصًا قريبًا منا. إذ إنَّ شيكسبير يفر هنا من التراجيديا، أكثر مما يفر في كوريولانوس منها ومن النفوس الباطنة التي ما فَتِئَت تنمو وتتضخم. وهكذا فعندما نسمع تيمون يتكلم بعد ذلك، فنحن نقتنع إلى حدٍّ أكبر بأننا نسمع شخصًا متميزًا يتكلم:
وباعتباري عملتُ بالتدريس في الجامعة طول عمري، لم أَنسَ يومًا ما عبارة «العالَم يُطأطِئ رأسه للأحمق الثَّرِي». إن هذا الخِطاب المُوجَّه إلى الطبيعة، على الرغم من تألُّقه وغلظته، ذو حدٍّ دقيق من اليأس، ويَجِد الرد عليه حين يحفر تيمون باحثًا عن الجذور فيكتشف الذهب:
لا مِراء في القوة الجَبَّارة لهذا الخطاب، ومن الصعب أن ينسى المرء مُخاطَبَته للذَّهَب أو التِّبْر باعتباره ترابًا: «تعالَ أيها الطين الملعون/يا عاهرة مَبذولةً للجميع». وقد أشار النقاد إلى الصلة بين هذا الخطاب والأحاديث الهجاءة المُوازِيَة مِن فم الملك لير، والتي تجمع بين رُؤى الفساد المالي وانتشار الانحلال الجِنْسي، ولكن لير يَتميَّز بالطابع الإنساني الذي يَجعلُه يطلب عطورًا حتى تُخفِّف من مرارة مُخيِّلَته. وأما تِيمون فإنه حين يواجه العَاهِرَتين المُصاحِبتَين لألسيبياديس، فإنه يخطو خطوة أخرى، إرضاء لمُخَيِّلَته الجنسية المسمومة:
وقبل أن يتجاوز «شيكسبير/تيمون» هذا نفسه (ماذا عسانا أن نُسمِّيه غير ذلك؟) يَحُثُّ ألسيبياديس على القيام بمذبحة عامَّة كُبرى لأهل لندن/أثينا:
هذا حديث يبلغ الغاية في البَشاعة، إلى الحد الذي يجعله ينتقل إلى نِطاق الجروتسك [الشائه المضحك] على نحو ما يدرك شيكسبير ذلك، بوضوح. أي إن الهجاء الساخر يبدأ الارتداد إلى قائله، أي إلى تيمون ومُؤلِّفه، عندما نسمع الأمر الحماسي بقتل الرضيع ذي الغَمَّازَتين «بلا ندم». ولكن شيكسبير لم يَكْتفِ بما قَدَّمَه لنا بل يعود إلى رُعب تيمون من الحياة الجنسية. وبعد أن يحث النساء التابعات لألسيبياديس بأن يُواصِلْن دعارتهن، يَتفَوَّق تيمون على نفسه بتكرار الهجوم على الأمراض التناسلية بصورة تَجعَلُني أعتقد، مع المرحوم أنطوني بيرجيس، أن شيكسبير كان يكابد بعضًا منها:
[المقصود «بالأشياء ذاتها»: «البشر بمعنى الكلمة»] وذلك أعلى ما تصل إليه حواراتهما، وهي التي تتدهور فتتحول إلى صراخ مُتبادَل. ويتسم هذا بالحيوية على خشبة المسرح، لكنه لا قيمة له تقريبًا باعتباره نسيجًا لغويًّا أو ثمارًا للبصيرة.
ومن حسن الحظ أن شيكسبير يحتشد ليمنح تيمون انطلاقتين أخيرتين في الفصاحة قبل وفاته الغامضة والتي يبدو أنه كان يريدها، والأولى هي مباركته الأخيرة لأثينا:
فإذا قارنَّا كلمات الرثاء التي كَتبها تيمون لنفسه بدت نظمًا ركيكًا لا غناءَ فيه بالمقارَنة بهذه الأبيات الشعرية. وعندما يموت الملك لير وكورديليا نتأثر بأكثر مما كان الدكتور جونسون يستطيع احتماله. واختفاء تيمون يريح آذانَنا، داخل المسرحِ وخارجه. ومن المُحتَمل أن شيكسبير، الناقد الذاتي العظيم، أصدَر حكمًا جماليًّا على المسرحية، وانتهى إلى أنها لا تَليق بمستواه إلى حدٍّ كبير فنَبَذها. وربما تذكر أفضل الأبيات التي أنشأها الشاعر في بداية المسرحية:
لم يَتبَدَّ ما يكفي من لهيب الشعر حتى ينقذ تيمون الأثيني من ربات الغضب! كان الوقت قد حان لأن يبحر شيكسبير في مياه لم يَشُقَّ عُبابَها مَرْكَب، وسواحل ما جالَت بأحلام أحد، في مرحلة الرُّؤى الأخيرة عنده.
⋆الترجمة والهوامش في هذا الفصل للدكتور عبد الواحد لؤلؤة.
⋆من طبعة الدكتور عبد الواحد لؤلؤة.
⋆من طبعة الدكتور عبد الواحد لؤلؤة.