الفصل الثالث

سيِّدان من فيرونا

على الرغم من التزامي بالترتيبِ الزمني الشائع للمسرحية، وباعتبارها أضعفَ كوميديا كتبَها شيكسبير؛ فإن سيدان من فيرونا يمكن أن تكون أولَ ما كتبه، ولو اقتصر السببُ على أن تأثيرها أقلُّ كثيرًا، من كل زاوية، من كوميديا الأخطاء وترويض الشرسة. كما أنها لم تتمتع قطُّ بالإقبال الجماهيري، سواءٌ أكان ذلك في عصر شيكسبير أم عصرنا الحالي، وهو ما كان يمكن أن يُبرر نبذها لو لم يُنقذها إلى حدٍّ ما وجودُ المهرج «لونص» الذي يكتسب حياة مفاجئة، و«كراب» — «كلب لونص» — الذي يتمتع بشخصيةٍ أكبر من شخصيات أيِّ فرد آخر فيما عدا «لونص» نفسَه. ويُعْلي النقاد من مكانةِ سيدان من فيرونا باعتبارها تُنبئ أو تُبشر بالكثير من كوميديات شيكسبير الجميلة، بما فيها الليلة الثانية عشرة الرائعة، ولكن ذلك لا يستطيع أن يؤثر تأثيرًا يُعتد به في موقف الشخص العادي من القرَّاء أو رواد المسرح.
وحبذا لو قدَّم المخرجون والممثلون هذه المسرحيةَ باعتبارها هِجاءً للصديقين الفيرونيين المذكورَين في العُنوان أو سخريةً منهما. أما الأول، واسمه بروتيان، النذل السريع التلوُّن [كما يوحي اسمُه] فهو ذو بذاءةٍ تكاد لشدتها أن تجعله طريفًا، وأما الثاني، فالنتاين، الذي يصفه «لونص» بأنه جلف (أي فظ غليظ)، فلا يجدر بالنظر فيه إلا حين نأخذ انحرافه مأخذَ الجِد؛ إذ يبدو أنه يتجاوز كثيرًا مجرد نزعة ثنائية جنسية مكبوتة. والعلاقة العجيبة بين فالنتاين وبروتيان هي المسرحية، وينبغي ألا يستهينَ أحدٌ بما يُقدمه شيكسبير، ولديَّ إحساسٌ يقلقني بأننا لم نفهم سيدان من فيرونا إلى الآن؛ فهي كوميديا ذاتُ طابَع تجريبي مؤكَّد. ولكن استكشاف جوانبها المتضادَّة لن يرفع مكانتها بين كوميديات شيكسبير على الإطلاق، ولا يَزيد عنها انحطاطًا إلا زوجتان مرحتان من وندسور، في رأيي الشخصي، فهي مسرحية كُتِبَت عفْوَ الخاطر، تتضمَّن دجَّالًا يزعم أنه السير جون فولسطاف. إن تصوير فولسطاف من دون لماحيته الجبارة وذكائه القادر على المسخ والتحويل، لا يجعله فولسطاف، كما كان شيكسبير يعلم علمَ اليقين، ومسرحية زوجتان مرحتان درس ماجن نابٍ في أشكال لذة التعذيب ولذة التألم، وهي تحظى بالإقبال الشعبيِّ عليها لهذا السبب على وجه الدقة.
وأما الحبكة في مسرحية سيدان من فيرونا فلا تكاد تُعتبر عبثية. إذ نرى بروتيان الذي يُضمر حبًّا، إلى حدٍّ ما، للفاتنة جوليا (التي تُبادله حبًّا أكبر) وقد رحل على مضضٍ إلى بلاط الإمبراطور، حتى يلحق بصديقه الصَّدوق فالنتاين حيث يكتسب معرفةً بأحوال الدنيا. أما فالنتاين فهو يُضمر حبًّا شديدًا لفتاةٍ تُدعى سيلفيا (التي تُبادله العاطفة سرًّا) ولديه خادمٌ يُدعى «سبيد»، وهو مهرج عادي له صديقٌ هو «لونص» خادم بروتيوس. ومن يسمع حديث لونص عن كلبه يفهم بداية العظمة عند شيكسبير؛ يقول لونص:

اسمعوني! حين يلعب الخادم دور الكلب مع سيده، يحزُّ ذلك في نفسه. فها أنا ذا قد ربَّيت هذا الكلب منذ أن كان جروًا، وأنقذتُه من الغرق حين غرق ثلاثة أو أربعة من إخوته وأخواته، ولم تتفتَّح عيونُها بعد. وعلَّمته، بالأسلوب الذي يقول به المرءُ «هكذا يُعلم المرءُ الكلبَ حقًّا». وأرسلني سيدي لتقديمه هديةً للآنسة سيلفيا. لكنني ما إن دخلتُ غرفة الطعام حتى سبقني إلى صَحْفتها وسرق منها رِجل الديك السمين. ما أبشعَ ألا يستطيع الكلبُ أن يتحكم في نفسه في كل صحبة! وليت عندي (كما يقولون) كلبًا يلتزمُ بأخلاق الكلاب الحقة؛ أي إنْ صح هذا التعبير، أنْ يكونَ كَلْبًا كَلْبِيَّ الطبع في كل شيء. لو لم يكن لي من الذكاء أكبرُ مما لديه؛ أي لولا أنني نسبتُ لنفسي الخطأَ الذي ارتكَبه، لكان مصيرُه الشنق بلا مِراء! فأنا واثقٌ ثقتي بحياتي أنه كان سيُعاقَب على فعلته. اسمعوني واحكُموا على ما حدث: لقد دفع بنفسه وسطَ ثلاثة كلاب أو أربعة تُشبه السادة تحت مائدة الدوق. ولم يلبث غير هنيهة حتى تبول (غفر الله ألفاظي) وشمَّت الغرفة كلُّها الرائحة، وصاح أحدهم «أخرِجوا الكلب!» وصاح آخَر «ما ذاك الكلب الحقير؟» وصاح ثالثٌ «اطردوه ضربًا بالسَّوط!» وقال الدوق «اشنقوه!» لكنني كنتُ أعرف تلك الرائحة، وعرَفت أنها رائحة بول كلبي «كراب»، فاتجهتُ إلى الشخص المكلف بجلد الكلاب وقلت له «هل تعتزمُ جلد كلبي؟» فقال «أجل! أُقسم أن أفعل» فقلتُ له «إنك تظلمه بذلك! فأنا الذي فعلتُ ما سمعتَ به». فلم ينطقْ بل انقضَّ عليَّ ضربًا بالسوط، طاردًا إياي من الغرفة. كم سيدًا يفعل ذلك من أجل خادمه؟ بل إنني لأُقسم إنهم وضَعوني في الحَبَّاسة الخشبية عقابًا على سَرقته بعض النَّقانق، ولولا ذلك لأعدَموه. كما ربَطوني في عمود العار بسبب قتله بعض الإوز، ولولا ذلك لَنزل به عقابٌ شديد. [مخاطبًا الكلب] لقد نسيتَ كلَّ هذا الآن! لا أزال أذكرُ فضيحتك لي عندما كنت أُوَدِّع الأستاذة سيلفيا! ألمْ أطلبْ منك أن تُراقبني وتُحاكيَني في كل ما أفعل؟ متى رأيتَني أرفع رجلي وأتبول على الإزار الرائع لآنسةٍ كريمة المَحتِد؟ هل شاهدتَني أفعل هذه الفَعْلة يومًا ما؟

(٤ / ٤ / ١–٣٩)
إن لونص شخصيةٌ إنسانية تُثلج الصدر (أو قل إنه شخصٌ معه كلب) بل إنني أحيانًا أقول في نفسي إنه مُهْدَرٌ في سيدان من فيرونا وليست بالمسرحية المناسبة أو اللائقةِ به على الإطلاق، وأما باقي الحبكة فهو أن بروتيان، بعد أن وقع في غرام صورة سيلفيا، يَشي بأفعال فالنتاين حتى يُحكَم على هذا الجلف بالنفي، وهو يُنتخَبُ في منفاه رئيسًا لعصابة من الخارجين على القانون. وهنا تلبس سيلفيا ثيابَ غلام، وربما كان ذلك أولَ تنكُّرٍ من نوعه عند شيكسبير، حتى تذهب للبحث عن بروتيان، وتتمتَّع بأن تسمعه يُعلن عن حبه المشبوب لسيلفيا، في حينِ أنه يُعلن أن حبيبته متوفَّاة، ولما كانت سيلفيا تتمتع بذائقة راقية فإنها تحتقر الوغد، وتنطلق في الغابة باحثةً عن فالنتاين، بصحبة الشهم السير إجلامور، وهو الذي يُحاكي الأفلام الفكاهية إذ يُطلق لساقَيه الريحَ عندما يختطف الخارجون على القانون الفتاةَ التي من المفترض أن يحميَها. ويصل الخلطُ والاختلاط ذروةً عجيبة حين يقوم بروتيوس وجوليا المتنكِّرةُ بإنقاذ سيلفيا، ويحاول بروتيوس على الفور أن يغتصبَها، ولا يوقفه إلا دخولُ فالنتاين. وأما ما يحدث بين الصديقَين فهو ذو غرابةٍ واضحة تجعلنا نظنُّ أن شيكسبير لم يكن يتوقع من الجمهور أن يتقبَّله ولو باعتباره «هزلية»:
فالنتاين :
صَدِيقٌ وَضِيعٌ بلا أيِّ حُبٍّ ولا أي صِدْق؛
فذلِكَ شَأْنُ الصِّحَابِ أخيرًا! فَيَا خَائِنًا،
قَدْ خَدَعْتَ رَجَائِي، ولَوْلَا عُيُونِي التي شَاهَدَتْكَ،
لمَا كانَ عَقْلي يُصَدِّقُ ما كانَ مِنْك!
ولا أَجْسُرُ الآنَ أنْ أَتَصَوَّرَ أنَّ لَدَيَّ صَدِيقًا بِقَيْدِ الحَيَاة؛
فإنَّ وُجُودَكَ يُثْبِتُ خَطَلَ كَلَامِي.
ومَنْ ذَا الذي يُمْكِنُ الآنَ أنْ نَجْتَبِيَه ونُودِعَ فِيهِ الثِّقَة،
إذَا كَانَتِ اليَوْمَ يُمْنَاكَ حَانِثَةً لِسَرِيرَةِ قَلْبِكْ؟
بُروتْيُوس! أُحِسُّ بِعَجْزِيَ عَنْ ثِقَةٍ ذاتَ يَوْمٍ بِكَا!
كمَا أنَّني سَوْفَ أَقْطَعُ كُلَّ رِبَاطٍ هُنَا بالوُجُودِ لِمَا كانَ مِنْك،
وأَعْمَقُ جُرْحٍ هُنا أنْ جَرَحْتَ الفُؤَادَا،
ومَا أَلْعَنَ الدَّهْرَ حِينَ يَزِيدُ اشْتِدَادَا!
ويُصْبِحُ فِيهِ الصَّدِيقُ عَدُوًّا لَدُودَا!
بروتيان :
عَارِي يَدْمَغُنِي … إحْسَاسِي بالذَّنْبِ ثَقِيلْ،
اصْفَحْ عَنِّي يا فالِنْتَايْن! إنْ كانَ الحُزْنُ الصَّادِقُ
يَكْفي دِيَةً تَمْحُو جُرْمِي، فَأَنَا أَدْفَعُ لَكَ هذِي الفِدْيَة،
وأنَا بالحَقِّ أُعَاني — ومُعَانَاتِي أَصْدَقُ ما قُلْتُ بهِ.
فالنتاين :
وإذَنْ قد سَدَّدْتَ الفِدْيَة!
هَا أَنَا ذَا أَتَلَقى صَاحِبِي المُخْلِصَ ثَانِيَةً،
أمَّا مَنْ لَا يَفْرَحُ حِينَ يَتُوبُ التَّائِبْ
فَمُحَالٌ أنْ تَقْبَلَهُ سَمَاءٌ أوْ أَرْض … فَهُمَا هَانِئَتَانِ بهذِي التَّوْبَة!
بالتَّوْبَةِ يَنْفَثِئُ الغَضَبُ لَدَى الخَالِقْ،
ولكي أُثْبِتَ أنَّ الحُبَّ لَدَيَّ صَرِيحٌ صَادِقْ؛
أَتَنَازَلُ لَكَ عَمَّا كانَ لنفسي في سِلْفيا مِنْ حَقِّ سَابِقْ.
جوليا : وَا تَعَسَاهُ!

(تسقط مغشيًّا عليها.)

(٥ / ٤ / ٦٢–٨٤)
والملاحَظ أن ردَّ فعل جوليا يُقدم لنا راحة مؤقتة، فأما سيلفيا فلا تنطق بلفظٍ آخرَ في المسرحية بعد صيحتها «يا رب!» عندما يمسك بها بروتيوس الشهواني ليبدأ ما يعتزمه من اغتصاب. ماذا نفترض أن تفعل الممثلة التي تلعب دور سيلفيا في أثناء تمثيل المائة سطر الختامية من سيدان من فيرونا؟ يجب عليها أن تضرب فالنتاين بأقربِ قطعة خشب تجدها، ولكن ذلك ليس كفيلًا بإرجاع هذا الغبيِّ إلى رُشده، لا ولا أي شخص مصاب بهذا الجنون:
جوليا :
تَغْيِيرُ المَرْأَةِ لِلْمَلْبَسِ مَكْرُوهٌ أَدَبًا،
لكنْ تَغْيِيرُ الرَّجُلِ لِنَظْرَتِهِ أَعْظَمُ عَيْبًا.
بروتيان :
تَغْيِيرُ الرَّجُلِ لِنَظْرَتِهِ؟ هذَا حَقٌّ يا ألله!
لوْ ظَلَّ الرَّجُلُ علَى العَهْدِ لَنَالَ كَمَالَهْ!
إذْ يُخْطِئُ خَطَأً أَوْحَدَ فَإِذَا هُوَ يُفْعِمُهُ النُّقْصَانْ،
وإذَا هُوَ يَرْتكِبُ جَمِيعَ خَطَايَا الإنْسَانْ،
فَتَقَلُّبُهُ يُسْقِطُهُ قَبْلَ البَدْءِ أوِ الإقْدَامْ،
ماذَا أَلْمَحُ بِمُحَيَّا سِيلْفا مِنْ حُسْنٍ أكْبَرَ
مِمَّا أَلْمَحُهُ بِثَبَاتِ العَيْنِ هُنَا بِمُحَيَّا جولْيَا الأَنْضَرْ؟
فالنتاين :
هَيَّا هَيَّا هَاتُوا لِي الأيْدِي كي أَسْتَنْزِلَ بَعْضَ البَرَكَاتْ؛
مِنْ إضْفَاءِ السَّعْدِ علَى آخِرِ هذِي الكَلِمَاتْ،
عَارٌ أنْ يَبْقَى الآنَ صَدِيقَانِ هُنَا بِعَدَاوَاتْ!
بروتيان : فَلْتَشْهَدِي أَيَا سَمَاءُ أنَّني حَقَّقْتُ ما أَرْجُو بمَا هُو آتْ!
جوليا : وأنَا … لِكُلِّ الأُمْنِيَاتْ!
(٥ / ٤ / ١٠٧–١٠٩)

إن سيلفيا التي كادت أن تُغتصب قد سُمح لها، على الأقل، بالحفاظ على صمتِها الغامض، ومن الصعب أن نعرف إن كان بروتيان أغبى من فالنتاين أم العكس هنا، ولا يوجد عند شيكسبير ما يَزيد رفضنا له عن البرجماتية التي يتَّسم بها صلاحُ بروتيان. «ماذا ألمح بمُحيَّا سيلفيا من حُسن أكبر/ممَّا ألمحه بثباتِ العين هنا بمحيَّا جوليا الأنضر؟» يعني هذا: كل امرأة تصلحُ لي مهما تكن. والذي يلمح إليه شيكسبير أن الرجال جميعًا مدعوُّون إلى استبدال اسْمَيْ أيِّ امرأتين باسمي سيلفيا وجوليا.

جميع دارسي شيكسبير، حتى أشدهم وقارًا، يُدركون العيوب التي تشوب كلَّ شيء في سيدان من فيرونا، ولكن شيكسبير، بطبيعة الحال، لا يأبهُ لذلك. إن الوغد والغبي اللذَين أرسلهما أبَواهما القاسيان إلى بلاط الإمبراطور قد انتهى بهما الأمرُ إلى أن وصلا ميلانو، أم تراهما لا يَزالان في فيرونا؟ الواضح أن ذلك غيرُ مهم، بل وهما لا يُهماننا، ولا امرأتاهما الشابتان التعيستان. ولكن لونص وكلبه مُهمان وأما عن الباقي فينبغي أن أنتهيَ إلى خاتمةٍ تقول إن شيكسبير، ضاحكًا وواعيًا، يسخر من الحب والصداقة جميعًا، وبهذا يُمهد الطريق لكوميدياته الرومانسية العظمى من خاب سعي العشاق إلى الليلة الثانية عشرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤