بيريكليس
كان شيكسبير مشغولًا بمسرحية بيريكليس في شتاء ١٦٠٧-١٦٠٨م، وإن لم يستطع النُّقَّاد تحديد الطابع الدقيق لذلك الانشغال. ويتسم الفصلان الأوَّلان بالركاكة الشديدة في التعبير، ولا يمكن أن يكون شيكسبير كاتبهما، مَهْمَا تبلغ درجة التحريف في نقل النص، فليس لدينا سوى طبعة الكوارتو الرديئة، ولكنه من غير المحتمل أن تكون سوء حالة النص سببًا في عدم إدراج بيريكليس في طبعة الفوليو الأولى. وكان بن جونسون من مُحرِّري طبعة الفوليو الأولى وكان قد حَطَّ من شأن بيريكليس من قبل، واصفًا إياها بأنها «حكاية عفنة». والمُفترَض أن جونسون وزملاء شيكسبير كانوا يَعْرِفون أيضًا أن رجلًا يدعى جورج ويلكنز كان المُؤلِّف الأول للفصلين الأولين من المسرحية. وكان ويلكنز المذكور كاتبًا مأجورًا من الطبقة الدنيا، وقد يكون من مريدي شيكسبير، ومن المُحتَمَل أن شيكسبير قد وضع الخطوط العريضة للفصلين الأوَّلين للمسرحية وطلب منه أن يكتبهما. وكان ويلكنز المذكور شخصًا كريهًا، بل قَوَّاد في الواقع، وهو عمل مُناسِب للرَّجُل الذي شارك في تأليف بيريكليس، وإن كانت مَشاهد الماخور الرائعة من تأليف شيكسبير.
وليست بيريكليس فقط مسرحية مُتفاوِتة المُستويات «ومُحرَّفة» لكنها أيضًا بَالِغة الغرابة من حيث النوع الأدبي؛ ففيها أحاديث جَوقِيَّة يُقدِّمها الراوية، الشاعر القروسطي جون جاور، الذي يظهر بصورة بشعة في الفصلين الأولين ثم يَتحسَّن كثيرًا بعد ذلك. وتتوسل المسرحية بكثير من المشاهد الصامتة، بأسلوب مقتل جونزاجو التي نقحها هاملت وعرضها بعنوان مصيدة الفئران. ومن أغرب ما تَتَّسِم به أن السَّرْد فيها مُتقَطِّع، حيث تُقدِّم لنا أقاصيص من حياة بيريكليس، وزوجته تاييسا، وابنتهما مارينا، والقصص لا يولد بعضها بعضًا بالضرورة، على نحو ما يحدث في المسرحيات التاريخية والتراجيدية والكوميدية، ولكن شيكسبير قد استنفد جميع تلك الأشكال. وبعد أنطونيو وكليوباترا شاهدنا التراجع عن تصوير الحياة الباطنة في كوريولانوس وفي تيمون الأثيني.
ومن العبث أن نسأل: ما نمط الشخصية الإنسانية التي يتمتع بها بيريكليس في مسرحية شيكسبير؟ لقد وُضِعَت كُتُب تملأ مكتبات عن الشخصية الإنسانية لهاملت، ولكن بيريكليس ليست له أية شخصية إنسانية، بل إن مارينا تتمتع بجماع الفضائل، ولكنها بلا شخصية إنسانية، ومن المُحال أن يُوجَد في مسرحية بيريكليس، أمير صور التي تمثل عالمًا رمزيًّا، ما نعرفه باسم البناء العاطفي للشخصية. ولم يكن شيكسبير يبغي الهروب من الشخصية الإنسانية، لكنه قد تحول إلى تمثيل شيء آخر يختلف عن الواقع المشترك بين فولسطاف وروزالند، وبين هاملت وكليوباترا، وشايلوك وياجو. إن بيريكليس ومارينا نَسَق عالمي للوالد وابنته، فأهميته تنحصر في أنه والدها، وأنه يفقدها ثم يلقاها من جديد، وتنحصر أهمِّيَّتُها في أنها ابنة تعاني الانفصال عن أبيها، ثم تُعاد إليه. ولستُ أوحي بأنهما من الأنماط الفطرية أو الرُّموز، بل أقول إن علاقتهما وحدها هي التي تهم شيكسبير. فالملك لير كل شيء ولا شيء في ذاته، وكورديليا حافِلَة بعناصر متعددة، وإن يكن ذلك على نطاق أضيق، وأما بيريكليس فإن واقعه الحقيقي يقتصر على قدرته على مكابدة الصدمات، وتقتصر قوة مارينا على مقاومة الفحشاء، ولكنهما معًا لا يكادان يوجدان من حيث الإرادة والمعرفة والرغبة. بل إنهما ليسا كيانين سلبيين. ومن هذه الزاوية فقط، يصدق قول بن جونسون الغيور: إن بيريكليس ومارينا شخصيتان في حكاية عفنة، قصة قديمة يعاد قصها المرة بعد المرة على الدوام.
شاهدتُ عرضين مَسرحِيَّيْن لبريكليس، يفصل بينهما نحو ثلاثين سنة، وكانَا من إنتاج الطلاب، وكان كلاهما يُؤكِّد ما قاله النقاد من زمن طويل، ألا وهو إمكان نجاح المسرحية مما يمكن أن يعتبر دراميًّا، باستثناء مَشهد التعرف العجيب بين بيريكليس ومارينا في الفصل الخامس، والمشهدين المضحكين إلى حد الجروتسك في الماخور في الفصل الرابع، ومع ذلك فإن الأداء المسرحي يُغَيِّر بطريقةٍ ما كل شيء، حتى مَواطن الضعف في كتابة جورج ويلكنز. ويبعث ذلك على الحيرة عندي؛ لأن سوء الإخراج وسوء التمثيل قد جعلاني أنضم إلى فريق تشارلز لام الذي يؤمن بأنه من الأفضل، وفي هذه الأيام خصوصًا أن يَقْرأ المرء شيكسبير من أن يشاهده مُشوَّهًا ممسوخًا. وبيريكليس هي الاستثناء، فهي المسرحية الشيكسبيرية الوحيدة التي أفضل مشاهدتها مرة أخرى على إعادة قراءتها، ولا يقتصر السبب على التحريف الذي أصاب النص في نقله وطباعته. وربما يكون رفض شيكسبير كتابة الفصلين الأولين هو الذي حدا به إلى التعويض، جاعلًا الفصول الثلاثة الباقية أشد تجربة مسرحية ثورية منذ أن كتب النص الناضج لهاملت في ١٦٠٠-١٦٠١م، فمسرحية بيريكليس ذات غرابة في كل ما بها، لكنها لا تَتضمَّن ما يُفزِع المرء مثل الفجوة في التمثيل التي يُنشِئها في هاملت اعتبارًا من الفصل الثاني، المشهد الثاني حتى الفصل الثالث، المشهد الثاني. ولكن ما الذي يجري تمثيله في الفصول الثلاثة الأخيرة من المسرحية؟
يقول جاور الذي يلقي الخاتمة (الإبيلوج) إن بيريكليس وتاييسا ومارينا قد «تُوِّجُوا بالفرح آخرًا، وكُلِّلوا برحمة من السماء.» بحيث تمثل المسرحية انتصار الفضيلة على رَبَّة الحظ، بفضل شفاعة «الأرباب»، وهو الذي لا بد أن يعني ديانا على وجه الخصوص. وكثيرًا ما يبدو شيكسبير في مرحلته الأخيرة من أتباع ديانا الذين انضموا إليها مُؤخَّرًا إلى حدٍّ ما. ولم يكن يتفوق كاتب مسرحي آخَر على شيكسبير في إدراك استحالة التمثيل المسرحي لانتصار العَفاف، عند العذارى أو الزوجات. وقصيدته العنقاء والقمرية ذات صلة دقيقة بهذا الموضوع:
كان شيكسبير يُواجِه هذا التَّحدِّي الدائم؛ أي إن كان من الممكن تقديم مَنطق القلب أو أسبابه على خشبة المسرح، فكيفية تمثيل لُغز العِفَّة الزوجية — «إذا استمر قائمًا بعد الزواج» — ظَلَّت مَثار حيرة إلى النهاية. إن جاور عند شيكسبير وبيريكليس يَبتعِدان بنا عن دُنيانا ابتعادًا شديدًا (باستثناء مشاهد الماخور!) إلى الحد الذي يُتِيح للمسرحية فعلًا أن تجيب على السؤال الإنكاري الذي تطرحه القَوَّادة «ما شأنُنا بديانا؟» (٤ / ٢ / ١٤٨).
لا يوجد في المسرحية أساسًا إلا رَبَّان: نيبتون وديانا، وتفوز ديانا. فما الذي نفهمه من ذلك الانتصار؟ لقد ظَلَم نيبتون [رَبُّ البحر الروماني] بيريكليس، بما يماثل النَّسق الذي يُعادي فيه بوسايدون [رَبُّ البحر اليوناني] أوديسيوس. ويشير نورثروب فراي إلى الشكل الإنشادي الموسيقي لمسرحية بيريكليس، قائلًا إن أسلوب المسرحية في تقديم الحدث فيها يُوحِّد بينها وبين أوائل الأوبرات العالمية، ثم يُقارِنها بقصيدة الأرض الخراب للشاعر ت. س. إليوت، وأيضًا، بالضرورة، بقصيدة «مارينا» للشاعر نفسه. وأتصور أن انتصار ديانا أوبرالي بما يكفي، مثل انتصار مارينا على مُوظَّفِي الماخور وعُملائه. ويبدو لي أن قِراءة فراي للمسرحية، التي تُشْبِه إلى حدٍّ ما تفسير ويلسون نايت المُتحذْلِق للمسرحية، بعيدة إلى حدٍّ ما عن الخواء الغريب المُتعَمَّد في بيريكليس، وهو الذي يرتبط بجانب كبير من الأرض الخراب وقصيدة إليوت «مارينا».
إن مثل هذا الإخلاء للثراء الذي يَتميَّز به شيكسبير فراغٌ من نوع ما؛ إذ يَتخلَّى أعظم كُتَّاب المسرح الشعراء عن أبهى طاقاته وعناصر أصالته، فكأنما أصبح الإله بشرًا. ويصف فراي مسرحية بيريكليس بأنها ذات «بدائية سيكولوجية»، ولكن هذا لا يصدق إلا بمعنى أن شيكسبير يَعْرِف إنكار الحياة الباطنة، لا بمعنى أن شيكسبير يطلب من الجمهور استجابة بدائية. أي إن تقديرنا ليس أعمى، فنحن نَتنازل عن مُحاكاة الحياة عند شيكسبير، لا عن المثيل الشيكسبيري. فإن أمامنا جاور الذي ما انْفَكَّ يقول لنا إن هذه مسرحية، ولكن مثل هذه الرسالة الزائدة عن الحاجة تعيدنا من بيريكليس ومارينا لا إلى «الحكايات العَفِنة» وسُلطة النَّمَط الفطري بل إلى شيكسبير نفسه. فالجمهور لا يَشْهَد العرض من دون إيلاء الصدارة لمعرفة هُوِيَّة الكاتب، ومدى اختلاف بيريكليس عن المُسرحيات التي سَبقَتْها ويزيد عددُها عن ثلاثين. ولا يستطيع أحد أن يقرأ اليوم مسرحية بيريكليس من دون أن يعي أن الذي أبدع هاملت، وفولسطاف، وكليوباترا يُقدِّم لنا بطلًا يعتبر صفرًا، مُجرَّد اسم على الصفحة. فالدهشة دائمًا نُقطة انطلاقنا ومَحط خِتامنا عند شيكسبير، وشيكسبير نفسه، باعتباره شاعرًا مسرحيًّا، أكبر مما يُثير العجب في بيركليس، ونحن نَتصوَّر أن السيناريو للمسرحية قد نشأ عند شيكسبير، ولكنه كان يُنفِّر من المادة التي تُقرِّر إدراجها في الفصلين الأولين، فَكلَّف بكتابتهما صديقًا له وهو «ويلكنز».
تبدأ مسرحية بيريكليس في أنطاكيا، حيث نرى مُؤسِّسها وحاكمها أنطيوكوس الأكبر، يَعْرِض كومة من رءوس خُطَّاب ابنته التي لا نعرف اسمها، بعد أن أعدَمَهم بسبب عجزهم عن حل أحجية مُعيَّنة، وحَلُّها يكشف غشيانه المَحارِم مع ابنته. وعندما يُوَفَّق بيريكليس، ابن مدينة صور، إلى معرفة الحَلِّ، يَفِر خوفًا على حياته. وبعد رحلته البحرية إلى طرسوس حتى ينقذ أهلها من المَجاعة، يَتعرَّض البطل الذي لا لون له إلى أول تحطيم للسفينة التي يركبها، ومن ثَمَّ يجد نفسه على شاطئ مدينة بنتابوليس، حيث يتزوج تاييسا، ابنه ملك تلك الناحية. وبعد أن تخلص شيكسبير من ذلك كله [بفضل ويلكنز] تولَّى العمل بنفسه بداية من الفصل الثالث. ونرى بيريكليس في صحبة زوجته تاييس التي تُوشِك أن تضع ابنتهما مارينا، على ظَهْر سفينة مُتَّجِهة إلى صور. ولكن نيبتون رب البحر يثور، ونستمتع بالاستماع إلى الصوت العظيم لشيكسبير، بِصَفَته بيريكليس، داعيًا الأرباب إلى إيقاف العاصفة:
هذا شيكسبير كما يراه هيرمان ميلفيل، وإن كان آهاب يمكن أن يُحَوِّل هذه الأسطر إلى تحدٍّ لو قُدِّر له إلقاؤها. ولكن بيريكليس ليس آهاب، وهو يتحمل الموت الظاهري لتاييسا أثناء ولادة مارينا، ثم يستسلم لخرافة الملاحين التي تقول إن وجود جثة في السفينة يُؤدِّي إلى غرقها، ومعنى هذا ضرورة إلقاء نَعْش زوجته في البحر. وقد وجد وداع بيريكليس لزوجته سبيله إلى مخيلة ميلفيل:
ويُصِرُّ شيكسبير على التَّخلِّي عن واقعية المحاكاة، فلا يتيح لنا أن نعرف أبدًا إن كانت تاييسا قد ماتت حقًّا. وعندما تعود المرأة إلى الحياة أو تُبعث من مرقدها بفضل سيريمون الإفسوسي؛ أي في مدينة إفسوس حيث ألقت الأمواج نَعْشَها على شاطئ بحرها، فيما يبدو، تُفِيق صائحة: «يا ديانا رَبَّتِي! يا حبيبتي!» وهو ما يعني أنها تَتوجَّه بالدعاء إلى الرَّبَّة الخاصة لأهل إفسوس. وفي المشهد التالي، في طرسوس، يَترُك أمير صور ابنته الرضيعة مارينا بين أيدي حاكم المدينة كليون وزوجته ديونيزا حتى يُقدِّما لها الرعاية والتَّنْشِئة (إذ كان بيريكليس قد أنقذ المدينة من الموت جوعًا)، ويُقْسِم أمير صور قسمًا «بديانا الوضاءة»، يقول فيه إنه لن يَقُصَّ شَعْره حتى تَتزوَّج مارينا. وبعد ذلك تنطلق تاييسا التي عادت للحياة إلى مَعْبد ديانا في إفسوس، حتى تقيم فيه باعتبارها الكاهنة العليا للرَّبَّة. وسوف تقع المُصالحات الأخيرة في المسرحية في هذا المكان. وأظن أنه من المهم أن نلاحظ أن شيكسبير يَتجَنَّب أنساق مسرحيات المعجزات المسيحية، بإعلائه من شأن ديانا ربة الإفسوسيين، فكأنما لم يأتِ القديس بولس يومًا ما إلى إفسوس، نجد أن شيكسبير يحدد مكانًا خارج التقاليد المسيحية للمشاعر الربانية التي تسود رومانسياته الأخيرة. ربما عاد شيكسبير قبيل وفاته إلى الكاثوليكية مَذهب والده، ولكن ذلك يشبه التَّحوُّل الذي مَرَّ به ولاس ستيفنز وهو يحتضر، أي إن ذلك يُعَد مثالًا آخَر على اختلاف مسار الإنجاز الخيالي عن مسار الحياة الشخصية.
ولا يرجع فن المحاكاة عند شيكسبير إلا في مَشْهَدَي الماخور، كأنه نسمة منعشة في عالَم بيريكليس الصارم. فإن باندر، وبود، وبولت [القَوَّادَين] لديهم شخصيات إنسانية، وأما بيريكليس ومارينا وتاييسا، فليسوا كذلك. وفي مواجهة الفضيلة الجبارة، بل الربانية، التي تتمتع بها مارينا (ما دامت تشبه ديانا) لا بد أن تستسلم الشخصيات الجَذَّابة لذوي السُّمعة السيئة، وهم يُدَشِّنُون في غضون ذلك نمطًا من التورية الساخرة كَثُرت محاكاته منذ كتابة هذه المسرحية. إن باندار القَوَّاد يَستَبِق موقف بيتشام ولوكيت في أوبرا الشَّحَّاذِين للمؤلِّف جون جاي: «لو لم نرجع إلى ضمائرنا في كل صفقة فلن تزدهر أحوالنا قط.» وتَهُبُّ روح الفناء على العاهرات اللاتي أَنْهكَهن العمل وعلى الزبون القادم من ترانسيلفانيا، وعلى شيكسبير أيضًا (وفق بعض الروايات). وتَتوقَّع القَوَّادة سُوقًا مزدهرة — أي تتوقع زبونًا غنيًّا — فتقول أجمل مُلاحَظة شعرية في المسرحية: «أعلم أنه سوف يأتي في ظِلِّنا حتى يُبَعْثِر دنانيره في الشمس». ولكن القائمين على الماخور لا يَعْلَمون أن مارينا رَبَّة الانتقام فعلًا منهم، فالرجال يَخرُجون من الماخور متسائلين «هل نذهب إذن للاستمتاع بِغِناء العَذارَى؟» وسرعان ما نجد الثلاثة الكبار قد أصبحوا في وضع الخاطِفِين التُّعَساء في قصة «فدية الرئيس الأحمر» للكاتب أو هنري:
(٤ / ٥ / ١٠–٢٠ في طبعة آردن والترجمة العربية)
لقد هُزِموا فعلًا، وهم يعلمون ذلك، ويأسُهم الفكاهي يزيد عن تظاهرهم بالشجاعة، وهم يعتقدون مثلما نعتقد أن بولت لن يغتصبها أبدًا، ويصل ليسيماكوس، حاكم مدينة ميتيلين، قاصدًا أن يكون الشخص المُكلَّف بافتراع مارينا، ويرحل بعد أن وقع في حبها، مُعْربًا عن اشمئزازه مَمَّا كان يقصده. ويسقط بولت بعده أمام مارينا، وينطلق معلنًا أن مارينا سوف تقدم دروسًا في الغناء، والنسيج، والحياكة، والرقص، بعد أن تقيم في منزل يضم نساءً شريفات، وهو ما يحدث. ومن الواضح أن علينا أن نَعتبِر عفاف مارينا ذا طابع «صوفي» أو روحي غامض، من المحال انتهاكه؛ لأن الرَّبة ديانا تحمي أتباعها. وتستطيع مارينا، بعد اجتماع شَمْل أُسْرَتها، أن تتزوج ليسيماكوس لسببين: الأول أن ليسيماكوس أصبح يعرف أن مَرْتبَتها الاجتماعية رفيعة ومساوية على الأقل لمرتبته، والثاني أن ديانا (في مسرحية بيريكليس) تَقْبَل العِفَّة الزوجية باعتبارها بديلًا عن عُذْرِيَّة راهباتها. وتُعْتَبر الكوميديا في مشهدي الماخور من أشد مشاهد شيكسبير تَقدُّمًا، فالتورية الساخرة في مكانة مارينا التي لا يمكن المساس بها هي التي تحافظ على ترابط المعنى في البناء الدرامي دون غيرها، ما دمنا نرى ثلاثة أشخاص يتمتعون بموقف برجماتي معقول تجاه الجنس، في مواجهة عذراء سحرية لا يستطيعون أن يستميلوها بالرشوة، فذلك يتجاوز طاقَتهم إلى حدٍّ بعيد. وهم يكتشفون أن عليهم حقًّا أن يَتعامَلوا مع ديانا [ربة العفاف] (وهو ما يمثل إجابة لسؤال القَوَّادة المُبكِّر) وأن الرَّبة ديانا سوف تقضي عليهم بالضرورة.
فمشهد التَّعرُّف بسطوره المائة والخمسين (٥ / ١ / ٨٢–٢٣٣) من القِمَم الفَذَّة في فن شيكسبير. فمنذ أول كلماتٍ تُخاطِب مارينا بها والدها «سلامًا سيدي! مولاي أرجو أن تُعِيرَني أذنك». ورَدُّهُ الذي يبين مدى غاشيته إذ يَصدُّها ويُبعِدُها بيده، حتى نعاسه على موسيقى الأفلاك، يجعلنا نُصغِي ذاهِلِين، وأنا أستعمل هذا التعبير المهجور بسبب خبرتي في التدريس، وملاحظتي التوتر الذي يبدو على طلابي، وهو الموازي لتوتري. إنه دَرْس في رَدِّ الفعل المُتأخِّر الذي يُعلِّمُنا إياه شيكسبير، في هذا الكشف المُطوَّل عن القرابة. وعندما يتقدم الحوار، يبلغ قمة مَبدئِيَّة في استجماع بيريكليس للوعي بالتشابه بين زَوجَتِه المفقودة والصبية التي تقف أمامه:
ويبدأ ذلك باسترجاع روح مَوْلِد مارينا في البحر وبالموت الظاهري لوالدتها تاييسا. ولكن نَبَرات الرجل الذي يُكِنُّ حبًّا دائمًا لعيون زوجته وطريقة مَشْيها وصَوْتها تصل إلينا من خلال إيقاع فيرجيلي غريب (أظنه مُتعَمَّدًا) وتُهَيِّئنا للمزيد من المديح للأم وللبنت معًا:
«العُنْف» لفظ يُلخِّص جميع فواجع بيريكليس، والرهبة استجابة مناسبة لمديح الوالد لابنته؛ إذ إن ابتسامتها تمحو تاريخ كوارثها كله. والعجيب هنا وباستمرار أن شيكسبير لا يسمح قط لمارينا بأية استجابة عاطفية أثناء تَقدُّم التَّعرُّف المُتبادَل. ويبكي بيريكليس عندما يسمع اسم مارينا أولًا ثم اسم تاييسا، اللَّذَين تَذْكُرهما ابنتُه، في السطور شبه الختامية للمسرحية. ولكن مارينا تظل وقورة، رصينة، وعليها مَخايل الراهبة، وهي تقول بِرَزَانة «كانت تاييسا والدتي ولقَدْ غادَرَتِ الدنيا/في لحظة أنْ جئتُ إليها». وعندما نأتي إلى هذه المرحلة نكون قد قَبِلْنا مكانتها الروحية «السِّرِّيَّة»، وتَدُبُّ الحياة من جديد في بيريكليس:
كأنما يريد بيريكليس أثناء إفاقته من غشية الصدمة برهانًا على أنه بشر فانٍ وله وجود مُجسَّد، ورؤياه اللاحقة للرَّبَة ديانا تدعوه إلى الرحيل إلى إفسوس، وإلى مشهد تَعرُّف ثانٍ، حيث يُرضِينا بقوله لزوجته «أرجوك أقبلي للدفن/مرة أخرى بأحضاني»، وهنا أخيرًا تُعَبِّر مارينا عن عاطفة ما؛ إذ تركع أمام أمها قائلة «قَلبي يَشب تَواثُبًا/حتى يكون بصدر أمي.» والركوع مَظهَر يحدد عاطفتها بصورة ما؛ إذ إن الركوع يختلف عن الوثوب إلى أحضان أُمِّها، ومع ذلك فإن شيكسبير قد أجهد نفسه، وأجْهدَنا، برؤيا مارينا، فتعود الرؤيا إلى الأرض، مُعلِنَة أن مارينا سوف تتزوج ليسيماكوس وأن الزوجين سوف يتوليان الحكم في صور. وأما بيريكليس فإنه يبدأ بإعدام كليون وزوجته الشريرة ديونيزا، ثم يجلس على عرش المُلْك في بنتابوليس، بعد أن تُوفِّي والد تاييسا، فأتاح له الفرصة المنشودة. ثم يدخل جاور لِيتمَنَّى لنا فرحًا جديدًا، وبذلك يكون تدشينه لمسرحيات شيكسبير الرومانسية قد اكتمل. وكما تقول م. سي. براد بروك، تُعْتَبر مسرحية بيريكليس «نصف مَناظَر خلَّابة ونصف رؤيا». وهذه معادلة بَالِغَة الإشكال، وأقدم شيكسبير فيها على مُخاطَرة كبيرة. ولكن تُرَى ما الذي بقِي له من مُنجَزات؟ لقد أحيا التراجيديا الأوروبية، وبَلَغ كمالًا مرموقًا في الكوميديا والمسرحية التاريخية، فلم تَبْقَ إلا الرؤيا، وهي التي تُهذِّبها ضرورات التقديم على المسرح. ولقد تَجاوَز بيريكليس كثيرًا في الرومانسات اللاحقة، ولكن هذه هي المدرسة التي تعلم فيها فنه الأخير.