الفصل الحادي والثلاثون

سيمبلين

١

تعتبر سيمبلين من المُسرحيات التي يَصْعُب تقديمها على المسرح، خصوصًا في زماننا هذا، وهي تَبْعَث على الحيرة بقدر ما تَسْلُب الألباب في لحظات كثيرة، ويُعْرِب النقاد الرومانسيون عن تأثرهم الشديد بها، وباعتباري مُمثِّلًا متأخِّرًا لهذه التقاليد النَّقدية، أقول إن هذه الدراما المُنمَّقة تَسحَرُني. كان هازليت وتنيسون يحبان إيموجين، إذ تكاد تنفرد في المسرحيات الشيكسبيرية الأخيرة بتصويرها تصويرًا يتضمن قدرًا من الحياة الباطنة التي كانت أعظم قوة عند الكاتب المسرحي. والواقع أن كَالِيبان في مسرحية العاصفة يتسم بتعقيدات غريبة خاصة به، لكنه «نصف بشر» وحسب، إذا صح ذلك، على الرغم من الاتجاه العبثي الحديث إلى تصويره في صورة مُتمَرِّد أيديولوجي، وافتراض أنه مُناضِل في سبيل تحرير السود. والشخصيات الرئيسية في مسرحيات شيكسبير الرومانسية غالبًا ما تُصوَّر تصويرًا باروكيًّا بأساليب لا نفهمها فهمًا كاملًا. فإن ليونتيس في حكاية الشتاء يبدأ باعتباره ما غدونا نطلق عليه اليوم «تاريخ حالة مَرَضِيَّة»، وهو يُشبه، إلى حدٍّ ما، مالبيكو عند إدموند سبنسر «الذي نسي تمامًا/أنه إنسان واعتبر الغيرة ذروته». وأما بروسبيرو، الذي يمثل نقيض فاوست، فهو إلى حدٍّ ما يحتجب عنَّا «وعن نفسه» ما دام أستاذ فنون السحر الهِرْمِسِيَّة، وعندما يكسر عصا الساحر ويغرق كتابه، فإنه يكتسب عمقًا ما، ولكن المسرحية تنتهي، ولا نستطيع إلا أن نحدس الشخصية الإنسانية للحاكم الذي استعاد رشده وسوف يعود إلى ميلانو، حيث لن تبرح خياله فكرة الموت. وأما في سيمبلين فإن زوج إيموجين، واسمه بوستيوماس [أي ما بعد الموت]، يَتراجَع أمام الحياة الباطنة التي قد تبتلعه، ويظل شخصية قائمة على الحافة، ويوشك دائمًا أن يَسترِق السَّمع إلى كلامه.

وتتسم سيمبلين بالتفاوت الشديد؛ إذ تبدو جوانب كثيرة فيها بأنَّها كُتِبَت على عجل أو حتى لأداء المطلوب وحسب، ولكن كل ما فيها يبدو شيكسبيريًّا، وأحيانًا ما نسمع نغمات عالية لا تُخْطِئها الأذن تبين نُفُوره الشخصي من لندن عام ١٦٠٩-١٦١٠م. وقد يكون رسول فريزر مُبالِغًا في القول بذلك عندما يشير إلى «أن الفجوة تضيق في سيمبلين بين الكاتب وشخصياته»، ولكن كُتَّابَ سيرة حياة شيكسبير لا يماثلون فريزر في الجمع بين الرجل وعمله، والطعم الرديء يحوم حول هوامش المسرحيات الرومانسية، وإن نَدرَت هيمنته. ومع ذلك فإن في سيمبلين إعوجاجًا مُعيَّنًا، أكثر مما نَجِده في حكاية الشتاء وفي العاصفة التاليتين لها زمنيًّا. وربما كان الدكتور جونسون قد شعر بالضيق من الدلائل على الكرب الروحي عند شيكسبير، فأعلن نبذه لها في فقرة شهيرة:

في المسرحية مشاعر صادقة كثيرة، وبعض الحوار الطبيعي، وبعض المشاهد المُمتِعة، ولكن ذلك يتحقق على حساب تَناقُضات كثيرة. فإن من يرصد حمق التَّخيُّل، وسُخْف السلوك، واختلاط الأسماء، وأخلاق الأزمنة المتفاوتة، والأحداث التي من المُحال وقوعُها في ظل أي نظام من نظم الحياة، يهدر نقده في رصد غباءٍ لا يستطيع المُقاوَمة، وأخطاء أوضح من أن تَحتاج إلى الكشف عنها، وأشد فظاظة من أن يَتفاقَم.

كان جونسون مُصيبًا ومخطئًا معًا، فالتَّناقُضات مَوجودة بصورة صارخة، ولكنها مُتَعمَّدة إلى حدٍّ أكبر من المعتاد، حتى عند شيكسبير. فنحن نَمْتعِض عندما يُنفى بوستيوماس من بريطانيا القديمة إلى إيطاليا في عصر النهضة، ولكن شيكسبير يُريدُنا أن نلحظ جسارته الطَّليقة، وحُرِّيَّة ارتجاله من العقبات التي أغرقت التراجيديات المُعقَّدة التي كتبها بن جونسون فلم يَبقَ لها من أثر. ويؤكد جونسون في تصديره لطبعة الكوارتو من مسرحية الخيميائي وجود «اختلاف كبير بين الذين … يقولون كل ما يستطيعونه، مهما يَكُن غير مناسب، والذين يَتوسَّلون بالاختيار، ويفضلون طريقًا وسطًا». كانت تلك معركة قديمة بين صديقين متنافسين، وكان رد شيكسبير في سيمبلين أن يقول كل ما يستطيع، بصورة غير مَسبوقة، متغاضيًا في إباء وشمم عن «مبدأ الاختيار» عند جونسون. لا شيء هنا يناسب أي شيء، بل كل شيء مباح في هذه المسرحية الطليقة، حيث يبدو أن شيكسبير فعلًا يسمح لنَفْسه بالانطلاق بلا حدود. وربما يكون هذا سبب انفلات إيموجين (لحسن الحظ) من أيدي شيكسبير والعودة بنا إلى الشخوص ذوي الحياة الباطنة الحافلة، وإن لم تكن سيمبلين من هذا النوع من المسرحيات.

ولكن ما نوعها المسرحي؟ وسؤالي لا يرتبط بالنوع الأدبي؛ لأن شيكسبير في مرحلة النُّضج يتجاوز بصورة شبه دائمة قضية النوع الأدبي، فعَلى الرغم من أننا نُصنِّف سيمبلين مع «الرومانسيات الأخيرة» الأخرى، فإنها لا تشترك في كثير مع حكاية الشتاء ولا مع العاصفة، ناهيك عن بيريكليس. فإن إيموجين لا تشترك في كثير مع مارينا، وبيرديتا، وميراندا، عدا عودتها (مع شقيقين أيضًا) إلى والدها في نهاية المسرحية. إن في سيمبلين ما يكفي من العجائب، لكنها ليست دراما قائمة على شَطحَات الحدس، فلا أحد في القرن العشرين يقول (ولا أقول أنا) إنها عمل مُتميِّز مثل حكاية الشتاء والعاصفة، اللتين تُعتَبَران من روائع شيكسبير. وعلى الرغم من أنها زاخرة باقتباسات من مسرحيات سابقة لشيكسبير، فإنها لا تشبه عطيل، التي تدين لها بأكثر الاقتباسات، وخصوصًا «ياجو الصغير»، أي ياكيمو، الذي يُعْتَبر تافهًا بالقياس إلى عظمة الشخصية التي تَفوَّقت على إبليس ودَمَّرَت عطيل. ويرجع جانب من فِتْنَة سيمبلين إلى إحساس القارئ «ومشاهد المسرحية» بوجود انحراف مُعَيَّن في هذه الدراما، بحيث لا تستطيع الصمود للتأمُّل الدقيق. بل إن المرء لا يستطيع حتى أن يتأكد أنها ذات طابع مسرحي حقيقي، فالحبكة غَير مُتَّسِقة، ولا يَحْرِص شيكسبير قطُّ على أن تكون أحداثها مُحتمَلة الوقوع. لا بل ولا نستطيع أن نقول كيف وَجدَت إيموجين نفسها في عالَم الوَغْدَين كلوتين وياكيمو، اللذين يوجدان على مستوى تمثيلي يختلف عن مستوى المحاكاة الواقعية الخاص بها. ربما كان شيكسبير في حالة عناد فقَرَّر أنه سوف يفعل هذه المرة ما يرضيه، وإن كان الآخَرُون قد شعروا بالرضى أيضًا. تُعْتَبر سيمبلين أقرب إلى القصيدة الدرامية منها إلى المسرحية، وهي تُصِرُّ، فيما يبدو، أكثر من أية مسرحية أخرى لشيكسبير على الاستقلال الموحي به للطابع الجمالي. وربما يكون هذا هو السبب الذي يجعل روما في المسرحية تجمع بين روما القديمة وروما الحديثة، ويجعل بريطانيا فيها حديثة أي مُعاصِرة لشيكسبير وقديمة. كان شيكسبير قد سَئِم التاريخ، حتى وقد وصل إلى نهاية الكوميديا والتراجيديا معًا.

٢

تبدأ مسرحية سيمبلين بمناقَشة في القصر المَلكي بين سَيِّدَين لا أسماء لهما، وأحدُهما غريب عن البلد، الأمر الذي يسمح لشيكسبير بِوضْع «تصدير» للمسرحية، نَعْرِف منه أن الملك سيمبلين لديه ابنان، وأنَّهُما قد اخْتُطِفَا منذ أن كانَا في الحضانة قبل عشرين سنة تقريبًا ولم يظهر أحد منهما منذ ذلك الوقت. وأما ابنته الباقية إيموجين، فهي وريثة العرش، وقد رفَضَت تَوَدُّد ابن زوجة أبيها المُنحَطِّ لها، بل تَزوَّجَت سرًّا من شاب ممتاز هو بوستيوماس، اليتيم الذي ربَّاه الملك معها باعتباره ربيبًا له. ويغضب سيمبلين (الذي يعتبر صفرًا على امتداد المسرحية) فيأمر بنفي بوستيوماس، وهو ما يجعل إيموجين تُعَبِّر عن أسفها بأسلوبها المميز:

إذْ إنَّ قَرْصَةَ الرَّدَى أَقَلُّ حِدَّةً
مِنْ هذِهِ القَرْصَة!
(١ / ٢ / ٦١-٦٢)
ويُقَدم إلينا كلوتن، ابن الملكة التي تَزوَّجها الملك [بعد وفاة زوجته] في صورة الشاب الحقير الشرير، واسمه Cloten بارع الإيحاء بطبيعته الحمقاء (clottish)، ويوصف بأنه مُتفاخِر صاخب. وفجأة ننتقل إلى روما المعاصرة، حيث يقابل ياكيمو الخبيث بوستيوماس في منفاه، ويراهنه على أنه اكتسب الفن الإيطالي الذي سوف يمكنه من إغواء إيموجين [زوجة بوستيوماس] وإيقاعها في شراكه، ومن الغريب أن بوستيوماس يَقْبَل الرهان، وهو القائم على تقدير ياكيمو العام لجنس المرأة: «إذا اشتريت جسم امرأة ودفعت مليون دينار مقابل كل درهم من وزنها، فلن تستطيع حفظه من التلوث». ولا يتيح لنا شيكسبير الوقت الكافي للتعجب من حمق بوستيوماس؛ إذ يَنقلُنا فجأة إلى بريطانيا، حيث نرى الملكة الشريرة، التي تبشر بشخصية المرأة ذات السم عند براونينج، التي تعتقد أنها قد حصلت على مشروب قاتل لإيموجين، في حين أنه مُجرَّد شراب مُنوِّم؛ لأن الطبيب الذي وصفه حالت حصافته دون الثقة بزوجة الأب ذات الخبث الواضح.

ما الذي يُبقِي على انتباهنا، إلى جانب إيموجين، ولا بد أن شيكسبير كان يعرفه، وإن كنتُ عاجزًا عن تفسيره؟ إن ياكيمو الفظيع (وينبغي ألا يقوم بدوره إلا داني كاي [الممثل الفكاهي الأمريكي]) يظهر في القصر الملكي البريطاني، ويرجف أراجيفه لإيموجين، زاعمًا أن بوستيوماس خانها في روما، ويعرض نفسه على الأميرة باعتباره وسيلة انتقامها من خيانة زوجها بمُضاجَعة ياكيمو. ولما كان شيكسبير يدرك أن جمهوره قد نفد صبره، يجعل هذا «الياجو» الصغير يُعدِّل خُطَّته عندما تُهدِّده إيموجين بإبلاغ سيمبلين بمحاولة تَهجُّمه عليها. ولا يستطيع الجمهور إلا أن يدهش دهشة كبيرة عندما يرى ياكيمو يُغيِّر أسلوب عمله مُصِرًّا على أنه لم يكن يقصد إلا امتحان إيموجين، انطلاقًا من تقديره المُفترَض لزوجها بوستيوماس. وما دامت إيموجين تبدأ فجأة في قبول مديح الوغد المُبالَغ فيه لزوجها المقيم في المنفى، فقد نظن أن إيموجين غبية، أو أن شيكسبير يثق ثقة كبيرة في أننا سوف نقبل أي هُراء منه وهو ما يكاد يكون صحيحًا. أي إنه يقدم لنا استراتيجية حصان طروادة السخيفة، عندما يحث ياكيمو إيموجين بأن تحتفظ له بأمانة في مَخْدَعها، وهي صندوق كبير يُفتَرَض أن به هدايا ثمينة للإمبراطور الروماني، ولكن الصندوق لن يكون فيه إلا ياكيمو الذي سوف يخرج في الوقت المناسب. وعندما تُوافِق إيموجين على هذا الهراء، فإننا نقرر — خطأً — أنها جميلة على بلاهتها، ونقرر — خطأً — أن الشعار الجديد لشيكسبير من الأرجح أن يكون «بشاعة بشاعة! قَدَّم لهم بشاعة على الدوام!»

وقبل أن يخرج ياكيمو من الصندوق ليتأمل الجميلة النائمة ويفحص غرفتها، من المفيد أن نبطئ السير ونتساءل: هل ينجح شيكسبير في ذلك؟ إن ذلك قد يعود بنا إلى كوميديا الأخطاء التي تحاكي بلاوتوس، وقد ينطلق بنا زمنيًّا مع المرحوم زيرو موستيل، المُمثِّل الفكاهي الأمريكي، في الفيلم الذي يحاكي بلاوتوس أيضًا، وهو شيء غريب حدث في الطريق إلى المنصة. ألا تحتاج سيمبلين فقط إلا إلى المزيد من الموسيقى، وإلى جوقة من الفتيات شبه العاريات؟ لا شك أن بعض المُخْرِجِين سوف يحاولون ذلك، ولكن هل تُعتَبر سيمبلين إذن رومانسية مجنونة من نوع ما، وترتبط بكوميديا الحب ذات التأثير العجيب، أي الليلة الثانية عشرة؟ لا يرى أحد، على الأقل منذ سوينبيرن، أن سيمبلين مسرحية رائعة مثل الليلة الثانية عشرة أو إحدى روائع شيكسبير الاثنتي عشرة أو الخمس عشرة.

كل شيء في سيمبلين إشكاليٌّ إلى حد الجنون، وذلك حسبما عمد إليه شيكسبير بوضوح، في نزوة إرادية خاصة. فإن ياكيمو، وكلوتن، وَغْدان فُكاهِيَّان، وبوستيوماس، ذو بلادة زوجية، وسيمبلين على درجة من الغباء سمحت له باتخاذ زوجته الملكة الشريرة المُرهَقة. وأما إيموجين فكان ينبغي أن تكون في مسرحية تُلائِم وقَارها الجمالي إلى حدٍّ أبعد، ولكن شيكسبير، فيما يبدو، يُعاني من هموم لم تُتِح له أن ينشئ لها السياق الجدير بها، على الأقل في الفصلين الأولين. إن جو الجروتسك [الغرابة المضحكة] يغشاها ولكن إيموجين تظل دائمًا الشخصية الرفيعة المناقضة للجروتسك. إن شيكسبير هنا تجريبي بصورة جذرية، بحيث يرسي أُسس ما يمكن اعتباره قالبًا دراميًّا جديدًا في سيمبلين، وهو قالب يصعب علينا التَّعرُّف عليه، ما دامت مسرحياته الباقية لا تشبهه، ومسرحنا الحديث يفتقر إلى هذا التَّجاوُر بين الوقار الجمالي والظاهرة العَبثِيَّة. لقد توافرت لدينا مسرحيات عبثية كثيرة، ولكن أبطالها يميلون إلى الاتصاف بالجروتسك مثل سياقاتهم الجروتسك، حتى عند بيرانديلو. وهكذا فإن إيموجين الساحرة، التي أُغْرِم بها هازليت وتنيسون، لا مكان لها على مسارحنا.

ويقدم شيكسبير لنا نموذجًا بالِغ الحيوية لتقنية التضاد التي يتبعها، في الفصل الثاني، المشهد الثاني، الذي يقع في مَخدع إيموجين، حيث تنام أثناء قراءة أوفيد، وحيث نرى ياكيمو، مثل عفريت العلبة، يخرج من الصندوق، وينتزع سوارًا من ذراعها (دون إيقاظها) ويبدأ في فرحة الشامت تسجيله لكل ما في الغرفة، ذهنيًّا، والأميرة النائمة. ويلاحظ أن إيموجين قد طوت الصفحة التي تروي اغتصاب ثيريوس لفيلوميل في كتابها، ولكن ياكيمو الكوميدي ليس من المُغتَصِبِين الذين صَوَّرهم أوفيد، بل مُولَع باختلاس النظر وحسب، ويقول لنفسه «على نهدها الأيسر شامة ذات نقاط خمس».

ويشرد ويلسون شرودًا عجيبًا حتى في هذا العمل الشارد حين يقول إن ياكيمو يشبه ياجو وإدموند، وهو ما يعني القراءة الرمزية لمسرحية مثالية لا سيمبلين التي كتبها شيكسبير؛ إذ لا يتسم ياكيمو بشيء يتجاوز قدرات أي كاتب مسرحي في مطلع القرن السابع عشر، مغرم بالأوغاد على الطراز الإيطالي. بل إن وصف ياكيمو بأنه «وغد كوميدي» يُعْلِي من مرتبته، فلكل من ياجو وإدموند هُوَّة عميقة من العدمية، ولا نهاية لتأملها. وأما يا كيمو فهو مَخبول مثل كلوتن السخيف الهزأة. ويقول النقاد إنه يتمتع بالذكاء الكافي لخداع بوستيوماس، وهو الذي ليس بالِغ الذكاء، مع الأسف، والذي يلتحق بالزمرة الكبيرة من الأزواج والعشاق الشيكسبيريين غير الجَدِيرين على الإطلاق بنسائهم. وحين يواجه «الدليل» الذي يقدمه ياكيمو لإثبات الخيانة المُفتَرضة من جانب إيموجين، يصبح بوستيوماس صورة تحاكي عطيل محاكاة ساخرة، ولا أهمية للمونولوج الذي يلقيه في آخِر الفصل الثاني إلا بسبب ما يلمح إليه في وعي شيكسبير نفسه. في هذا المونولوج شيء أقوى من طاقة بوستيوماس:

هل من وسيلة يخلق فيها الناس، لا يكون
للمرأة فيها نصيب؟ نحن جميعًا أولاد حرام
وذاك الرجل البالغ الاحترام، الذي كنتُ
أدعوه أبي، كان حيث لا أدري
يوم تَشكَّلَت نطفتي، ثمة متلاعب بآلاته
زيَّف خليقتي: لكن أمي كانت تبدو
ربَّة العفة في ذلك الزمان: وهكذا تبدو زوجتي
فريدة هذا الزمان. الثأر، الثأر!
لقد حَرمَتْنِي لذَّتي المشروعة،
وتوَسَّلت إليَّ أن أتذرع بالصبر: بعبارات
تتورَّد بالخجل، وبنظرات فيها من العذوبة
ما يبعث الدفء في بارد الأفلاك، حتى حسبتها
بنقاء ثلج لم تمسه شمس. أواه، يا للشياطين!
هذا الخبيث إيا كيمو، في ساعة واحدة، أليس كذلك؟
أم بأقل، مرة؟ لعله لم يَنطِق بشيء،
بل مثل خنزير مُتوَحِّش، هائج،
صاح صيحة واعتلاها، ولم يَلْقَ مُعارَضة
إلا مُعارَضة ما ابتغاه وما يَجِب
أن تَحْمِيَه لدى المواجهة. ليتني أهتدي
إلى موضع المرأة فيَّ — إذ ليس ثمة من ميل
نحو الرذيلة عند الرجل، فأنا أُصِرُّ
أن ذلك خصلة في المرأة، فلو كان الكذب، ابحث،
تَجِدْه عند المرأة: التَّملُّق، من خصالها، الخداع دَيْدَنها،
الشبق وخبيث الأفكار، عندها، الانتقام، عندها،
ضروب الطمع والاشتهاء، تَقلُّب الخُيلاء والازدراء،
خَليع الأشواق والافتراءات، والتَّقلُّبات،
جميع ما يُعْرَف من عيوب، بل ما تعرف الجحيم، يوجد لديها
فُرادى ومُجْتَمِعة، بل مجتمعة. فحتى تجاه الرذيلة
لا يَحْفظْن عهدًا، بل يَتقلَّبْن على الدوام
رذيلة، لا يزيد عمرها عن دقيقة، تُسْتبدَل بأخرى
لا يزيد عمرها عن نصف الأولى. سأكتبُ في هَجْوِهنَّ،
أمْقُتهنَّ وأَلعَنُهُنَّ، لكنَّ من الأجدى
في الكراهية الحقة، أن أتَمنَّى بقاءهن على ضلالهن؛
إذ حتى الشياطين لا تقوى على أسوأ من ذلك في
لَعنَتهِنَّ.١
(٢ / ٤ / ١٥٣–١٨٦)

من العجيب أن يلقَى بوستيوماس الْعَيِي، وإن يَكُن فاضلًا، هذا الهجوم الضاري، بما فيه من المبالَغة المتناقضة، فلماذا اختص شيكسبير بوستيوماس بإلقاء هذه الفورة المُنفِّرة إلى أبعد حد؟ إن زوج إيموجين، على الرغم من إمكان خِداعه، يُفْتَرض أنه رجل ذو شرف وعقل وجدارة بما شاع عنه من مكانة رفيعة، وبزوجته الرائعة وإخلاصها له. وفي وقت لاحق، يرسل هذا البطل رسالة إلى خادمه بيزانيو يأمره فيها بقتل إيموجين.

وربما يظن المرء أنه لا سبيل إلى «إنقاذ» بوستيوماس، وإن كان شيكسبير لا يَكتَرِث ولا يبالي، وتطبق ميريديث سكورَا التحليل النفسي تطبيقًا باهرًا على مُعْضِلات المسرحية، تنتهي فيه إلى أن بوستيوماس لا يستطيع أن يَجِد نفسه باعتباره زوجًا إلا إذا عاد إلى ذاته بِصَفته ابنًا، في علاقَتِه بأسرته المَفقودة، وهي التي لا ينالها إلا في رُؤيا منام. وتقول سكورا إن الهُوُيَّات بالِغة القَلْقَلة في سيمبلين (وإن كنت أستثني إيموجين) وربما تزيد القَلْقَلة عمَّا تبدو عليه في أي عمل شيكسبيري آخَر، مضيفة «إن التعقيدات المُغالى فيها في سيمبلين تجعلنا نَتبَيَّن، وبقوة أكبر، أن «الواقع» يكمن في الوفرة، والحقيقة تكمن في الزيادة.» وأنا نفسي شديد الحَذر من التفسيرات الفرويدية لشيكسبير، ولكن سكورا تُقدِّم تحليلًا نفسيًّا حصيفًا لمُعْضِلات المسرحية، لا للمسرحية أو شخصياتها.

تُمَثِّل مسرحية سمبلين محاكاة ذاتية ساخرة من جانب شيكسبير؛ إذ نعود فيها إلى رؤية الملك لير، وعطيل، وكوميديا الأخطاء، واثنتي عشرة مسرحية أخرى، لكننا نراها من خلال عدسة تُشَوِّهُها، بل إن نظرتنا مُنحَرِفة إلى الحد الذي يجعلني أحترم ما تقوله سكورا، وإن كان بوستيوماس التعس يستعصي، فيما يبدو لي، على الإنقاذ، وأظنه لا يُقبل إلا في مرحلته قبل النهائية، حيث يتوق إلى الموت، حتى يُكَفِّرَ عن ذنبه في الحكم بالإعدام على إيموجين وهو ما لا يتحقق. وهكذا فإن شيكسبير «المُقدَّس» لا يستطيع أن ينال كل شيء يبتغيه، فهو ينقذ بوستيوماس بتكلفة باهظة من حساسيات الجمهور. ولكن المحاكاة الذاتية الساخرة تتطلب مثل هذه التكاليف، ومن ثم فَأوَدُّ أن أعدل مسألة «التطرف» في سيمبلين فأجعلها مسألة شيكسبير نفسه: ما الذي كان يحاول تحقيقه لنفسه باعتباره صانع مسرحيات من خلال تراكم ألوان المحاكاة الذاتية الساخرة التي تشكل سيمبلين؟

٣

ليست سيمبلين ممتعة حتى باعتبارها بناءً فكريًّا. كان شيكسبير يعرف أن على أية مسرحية أن تُقدِّم المتعة، ولكنه يُصوِّر بوستيوماس باعتباره شخصية بَالِغة الإيلام، ويشير اسمُه إلى أنه انْتُزِع من رحم امرأة محتضرة، وإلى أنه الفرد الوحيد في قيد الحياة من أفراد أسرته. ولا يُبيِّن لنا شيكسبير ماذا ترى إيموجين في بوستيوماس، ولكن إذا كان كلوتِنْ (الذي يتفق اسمه قافيةً مع المُنْتِنْ أو العَفِنْ) هو البديل، ففي ذلك دلالة كافية. إن شيكسبير ألَدُّ أعداء ذاته في سيمبلين، ما دام قد سئم صُنْع المسرحيات. وأما الضباب المَقيت الذي يتكون من الإنهاك والتَّقزُّز الذي يُحلِّق فوق أطراف التراجيديات الرفيعة، والكوميديات المُشْكِلة، فقد انتقل إلى مركز سيمبلين، حيث لا يطيق شيكسبير أن يقتل كورديليا أخرى في صورة إيموجين الرائعة. وربما بعد أن كتب ستًّا وثلاثين مسرحية، لم يكن شيكسبير قد استنفد قواه، لكنه كان يريد الابتعاد عمَّا يفعله. لك أن تقول عن سيمبلين إنها لا ينجح فيها شيء أو إن كل شيء ينجح؛ لأن المسرحية تتضمن قدرًا كبيرًا من الحذف؛ إذ تترك الكثير، والذي لم يَعُد شيكسبير يهتم بإدراجه فيها.

ليس بوستيوماس «صفرًا» مثل سيمبلين، ولكنْ ربما يكون محاكاة ذاتية ساخرة زادت إلى الحد الذي يَمنَعُنا من الإحساس بأن ياكيمو وكلوتِنْ يحاكيانه محاكاة ساخرة. ما معنى المحاكاة الساخرة للذات في غثيان الروح؟ إنه سؤال يُعِيدني إلى المونولوج الذي ألقاه بوستيوماس. إن صيحته «الثأر الثأر!» تحاكي صورة عطيل الذي أصبح محاكاة ساخرة للمغربي النبيل. ويضيف بوستيوماس إلى ذلك مرضًا أخطر حين يَتحَرَّق شوقًا إلى عزل «جانب المرأة في داخلي»، وهو شوق يحاكي استسلام لير في جنونه للعاطفة الهيستيرية. ويقول بعض النقاد إن شيكسبير يلقي نظرة ساخرة على كُتَّاب الهجاء المُعاصِرين له عندما يقسم بوستيوماس، وإن لم يكن كاتبًا، بأن ينتقم أدبيًّا من النساء: «سأكتب في هَجْوِهن/أمقتهن وألعنهن». وليس من قبيل المُصادفة أن الذين يَمقُتون النساء ويلعنونهن هم دومًا مَرضَى الغرام، أو المُنحَلُّون، أو الأزواج المَجانين الذين أصابهم الخرف بسبب الرُّعب من مصير الديوث. ونحن لا نشعر قط أن شيكسبير نفسه أصيب بالمرض الذي أصاب طرويلوس، وعطيل، وبوستيوماس، وليونتيس، وكثيرًا غيرهم، ومع ذلك فإن بوستيوماس يوحي لي بأنه يكاد يكون عقابًا ذاتيًّا من جانب شيكسبير.

تُعْتبَر محاكاة المُؤلِّف الساخرة لنفسه دفاعًا، وهو دفاع لا يسهل تصنيفه قط. وتُعْتَبر رواية العجوز والبحر بمنزلة سيمبلين الخاصة بهمنجواي، ولدى فوكنر أمثلة يصعب إحصاؤها. ومن خلال الطَّنْطنة الوطنية، يلجأ شيكسبير في سيمبلين إلى محاكاة ساخرة صادمة لشخصيات جون أوف جونت، والنَّغْل فوكونبريدج، وهنري الخامس، وذلك بأن يعهد بمهمة التَّحدِّي البريطاني لروما في الفصل الثالث المشهد الأول، إلى الملكة الخبيثة وكلوتن العفن. وتُعْتَبر الملكة خصوصًا عقابًا ذاتيًّا من جانب شيكسبير بسبب استغراقه السابق في أحاديث الوطنية الطنانة:

تِلك فُرْصة
سنَحَتْ لهم فأخذوا منَّا، واستردادُها
واجبنا الآن. تَذكَّرْ، مولاي المليك،
أسلافك الملوك، إلى جانب
الطبيعة المَنيعة في جَزيرَتك، القائمة
في عُرْض البحر، المُسوَّرة المُحصَّنة
بصخور شَمَّاء ومِياه صَخَّابة،
ورمال لن تَتحَمَّل سَفائنَ أعدائك،
بل تَمتصُّها حتى الصواري. نوعٌ من الغلبة
أصاب قيصر هنا، لكنه لم يَتفاخَرْ هنا
بقوله «جئتُ، رأيتُ، غَلبتُ»، بالخزي
(وذاك أول عهده به) أزيح
بعيدًا عن ساحلنا، وهُزم مرتين: وسفائنه
(يا لها من دُمًى مسكينة غريرة)! كانت على بحارنا المتلاطمة
كقشور البيض تطفو على كواسر الموج، متداعية
كأنها ترتطم بالصخور. وابتهاجًا بذلك،
راح كاسبيلان الشهير، الذي كاد
أن يستحوذ على سيف قيصر (يا لَلحظ القُلَّب)!
ينير العاصفة بمشاعل الفرح،
وراح البريطانيون يَخْتالون بما أبْدَوا من شجاعة.
(٣ / ١ / ١٥–٣٤)

إنها تشير إلى «عُرْض البحر» بعبارة «متنزه نبتون» [رب البحر] وهي مُبالَغة مَمجُوجة، والجُمَلُ الاعتراضية في حديث المَلكة تَجعل باقي الحديث ذا بشاعة خالصة. وتَشبيه تَكسُّر سفن الأسطول الروماني مثل قشر البيض لمسة جروتسكية طريفة، وتظهر سخرية شيكسبير في قولها «والبريطانيون يختالون بشجاعتهم». ويستمر أسلوب شيكسبير اللاذع في المشهد التالي، حيث نرى الخادم المُخلِص بيزانيو الذي يشعر بالصدمة حين يأمُره بوستيوماس التَّعِس بقتل إيموجين، في اللحظة التي تَنطَلِق فيها راحلة إلى مرفأ ميلفورد، حيث يتظاهر بوستيوماس بأنه يَتوقَّع مقابلتها هناك. ونحن نشعر في كل مرة تتكلم فيها إيموجين أن المحاكاة الذاتية قد تَوقَّفَت، وعاد إلينا الصوت الجميل الذي أعاد ابتكار الشخصية الإنسانية:

يا لَيْتَ أنَّ لي حِصَانًا ذَا جَنَاحَيْنِ هُنَا!
سَمِعْتَ يا بيزانيو؟ فإنَّهُ يُقِيمُ في مَرْفَأِ مِيلْفُورْد
فاقْرَأْ وقُلْ ما بُعْدُهُ عَنَّا.
إنْ كَانَ فَرْدٌ مِنْ سَوَادِ النَّاسِ يَسْتَطِيعُ أنْ يُكَابِدَ الطَّرِيقَ
لِلْوُصُولِ في أُسْبُوعْ … فكَيْفَ لا أَطِيرُ لِلْمَكَانِ في يَوْمٍ ولَيْلَةْ؟
يا أَيُّهَا الصَّدِيقُ بيزانيو … يا مَنْ لَدَيْهِ الشَّوْقُ مِثْلِي كي يَرَى سَيِّدَهُ
أَقُولُ مَنْ لَدَيْهِ الشَّوْقُ (لكنْ يَنْبَغِي التَّحْدِيدْ)
فَشَوْقُكَ الأَصِيلُ لَيْسَ مِثْلَ شَوْقِي بَلْ أَقَلُّ شِدَّةً!
بالْقَطْعِ لَيْسَ مِثْلَ شَوْقِيَ الَّذِي يُجَاوِزُ الحُدُودَ كُلَّهَا.
قُلْ لِي إذَنْ واصْدُقِ المَقَالْ (فإنَّ مُسْتَشَارَ الحُبِّ مُلْزَمٌ
بِمَلْءِ ثُغْرَاتِ الأُذُنْ … حَتَّى لَيَخْنُقَ الحَوَاسَّ كُلَّها.)
مَا بُعْدُ تِلْكَ البُقْعَةِ المُبَارَكَة … مِيلْفُورْد؟ وبالمُنَاسَبَة
ما سِرُّ سَعْدِ وِيلْزَ أَنْ حَبَاهَا اللهُ مَرْفأً كهذَا؟
قُلْ أَوَّلًا كَيْفَ التَّسَلُّلُ مِنْ هُنَا؟ … ومَا الذَّرِيعَةُ التي لا بد مِنْ
تَقْدِيمِها لِكي نُبَرِّرَ الغِيَابَ فَتْرَةً بَيْنَ الذَّهَابِ والإيَابْ؟
لا بَلْ أَجِبْنِي أوَّلًا كَيْفَ الرَّحِيلُ مِنْ هُنَا؟
فِيمَ انْشِغَالِي بالذَّرَائِعِ؟ كَيْفَ تُولَدُ أوَّلًا أوْ كَيْفَ تُنْجَبْ؟
فَلْنُرْجِئ الحَدِيثَ في هَذَا إلَى مَا بَعْدُ
انْطِقْ إذَنْ أَرْجُوكْ: كَمْ يا تُرَى طُولُ المَسَافَةِ إنْ قَطَعْنَاهَا
علَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ بِعِدَّةِ العَشَرَاتِ مِنْ أَمْيَالِنَا؟
مَا بَيْنَ أَيَّةِ سَاعَةٍ في اليَوْمْ … ونَظِيرِهَا في الغَدْ؟٢
(٣ / ٢ / ٤٩–٦٩)

من يمكنه أن يستمع لهذا ولا يحب المتكلم؟ ومع ذلك فإن الأنغام الباطنة جهمة قاتمة: فإنَّ تمنِّي وجود بيجاسوس، الجواد الطائر ذي الجناحين، يعني المُخاطَرة بمصير بيليروفون [الذي قُتل بعد أن ركب ذلك الجواد] في حين أن نبرات المرأة التي تضمر حُبًّا حقيقيًّا تَصطَدِم بما نذكره من المونولوج الفظيع الذي ألقاه بوستيوماس. وبينما تَرحَّل إيموجين لمُقابَلة بوستيوماس، يعمد شيكسبير في منتصف مسرحيته إلى إهدائنا «حركة» مسرحية جميلة؛ إذ يصحبنا إلى ويلز، حيث نقف أمام كهف رجل شديد البأس يحب الحياة خارج المنزل، ويُدعَى بيلاريوس، إلى جانب ابنين تَبنَّاهما، وهما الأميران اللذان اختُطِفا منذ زمن طويل، وهما جويديريوس، وأرفيراجوس، وأصبح الثلاثة يُعرَفون بأسماء أخرى؛ هي: مورجان، وبوليدور، وكادوول على الترتيب. ويَحْيى مورجان حياة الصياد لمَباهجها، مُفضِّلًا إياها على حياة رجال القصر والجنود، وهي التي عاشها يومًا ما وكابَدها، ولكن الشَّابَّيَن حزينان؛ إذ يَتُوقان إلى حياة السُّلطة والقتال التي لم يَعيشاها. وأما بوليدور، وَلِيَّ عهد بريطانيا وإن كان يجهل هذه الحقيقة، فَيُؤكِّد بنبرات ضارية الاختلاف بين الهَرَم والشباب:

قد تكونُ هذه الحياةُ أفضل
(إن كانت الحياة الهادئة أفضل) وأحلى من حياة
عَرَفْتُها أشدَّ قسوة، أو قد تكونُ أكثر مُلاءمة
لما بلغت من العمر، لَكِنَّها بالنِّسْبة إلينا
صَومَعة جهل، أسفار في المنام،
سجن، أو مَدِين لا يَجْرُؤ على تَخطِّي الحدود.
(٣ / ٣ / ٢٩–٣٥)

وصورة المَدِين المحبوس صورة جَهْمَة لابن الملك، ولها مرارة خاصَّة هنا؛ إذ تُوحِي بخيال غلام اختطفَتْه الجن، وإن لم يكن خيالًا. وأما كادوول، الأخ الأصغر فيقول كلامًا أشدَّ مَرارة؛ إذ يَنزِع الملامح المثالية من حياة الصياد:

ما الذي سَنتَحدَّث عنه
عندما نبلغُ من العُمْر ما بلغتَ؟ عندما نسمع
المطر والريح تَضْرِب عَتْمات الشتاء؟ وكيف
في هذا الكهف الخانق سنقطع بالحديث
ساعات الجماد؟ نحن لم نرَ شيئًا،
نحن مُتَوحِّشُون: مُتوثِّبون كالثعلب نحو الطريدة،
مُقاتِلون قِتال الذِّئب من أَجْل ما نأكل،
شَجاعَتُنا في مُطارَدة كل ما يَطير، مَحبسنا
نجعله غِنَاء في قَفَص، كما يفعل الطائرُ الحَبيس،
ونُغنِّي بِحُرِّية عُبودِيَّتِنا.
(٣ / ٣ / ٣٥–٤٤)

أتصور أن هذا النواح «مُنعِش» لأنه اخترق الحالة النفسية للمحاكاة الذاتية الساخرة ونفذ من خلالها، وأما مرارة مورجان التي يَتَّسم بها ردُّه على ذلك فَتتحدَّث بلسان شيكسبير وتُعَبِّر عن ملاحظاته التي طالما عَبَّر عنها، واجتَمعَت له من حياته وحياة ساوثامتون، عن ضروب القذارة والدناءة في المدينة وفي القصر الملكي:

لكَ أن تَتكلَّمَ هكذا!
هل أتاكَ حديثُ المُرابِين في المدينة؟
هل عَرفْتَهم عن كَثب، أم عرفت فنون البلاط
الذي يَصْعُب تَركُه صعوبة البقاء فيه؟ إذ بلوغ القمة فيه
سُقوطٌ مُحقَّق: أو هو زَلِق بحيث
يكون الخَوف فيه لا يَقِل خطرًا عن السقوط: أعرفتَ
جُهْد الحرب،
تعبًا يبدو أنه لا يطلب سوى الخطر
بِاسْم صِيتٍ وشَرَف يَهْلك آناء الطَّلَب،
ويغلب ألَّا يذكر إلا بسوء
يُسجِّل الفِعْل الحَميد. بلى، في غالبِ الأحيان
يَكسِب الشَّرُ مِن فِعْل الخَير، والأسوأُ من ذلك
عليك أنْ تَنحَني أمام اللائم. أوَّاه يا أولادي! هذه قصة
قد تَتجسَّد للعالَم فيَّ؛ فَعلَى جسدي آثارٌ
من سيوف الروم، وكانَت سُمْعَتي ذات يوم
الأعلى، بين خَيْر المَشاهير. كنتُ أثيرًا عند سيمبلين،
وإذا جَرى الحديث عن صِنْدِيد، كان اسمي
عنه غير بعيد، يَومَها كنتُ كشجرة
أَثْقلَتْ أغصانَها الثِّمار. ولكن ذاتَ ليلة،
إذ بِعاصفةٍ، أو هَجْمَة لصوصٍ (سَمِّها ما تشاء.)
أطاحَتْ بما حَملْتُ من أطايبِ الثِّمار، بل من أوراق،
وخَلَّفَتْنِي عاريًا بوجه الأنواه.
(٣ / ٣ / ٤٤–٦٤)

لقد تَخلَّص شيكسبير في هذه السطور من المحاكاة الذاتية الساخرة، وتَتجلَّى فيها قطعًا ملاحظاته طوال عمره. ولما كان مرابيًا هو نفسه فإنه لا يستثني جريرته التجريبية: «هل عرفتَ المرابين في المدينة/وشعرتَ بهم واعيًا.» والحديث ذو مَعانٍ دقيقة رائعة: «فن البلاط/الذي يَصُعُب تَرْكُه مثلما يَصُعُب البقاءُ فيه.» وحكمة التضاد تُقصِي وتُزيل باليدين معًا «يتساوى الخوف في السوء مع السقوط»؛ «الصِّيت والشرف: أيهما يهلك أثناء طلبه»؛ «يذكر بالسوء لأنه أحسن صنعًا». ليس «بيلاريوس - مورجان» وعيًا، على عكس إيموجين؛ ولا يمكن أن تكون هذه التأملات صادِرة إلا من شيكسبير نفسه. وعلى الرغم من كون هؤلاء الصيادين الويلزيين تسرية لطيفة، فإن شيكسبير لا يَمنَحُهم كيانات فردية تُذْكَر، والفصل الثالث، المشهد الثالث، ينجح إلى حدٍّ كبير باعتباره مفاجأة مسرحية.

وما يتلو ذلك في المشهد الرابع ألطف إلى حدٍّ بعيد؛ لأن إيموجين في مركزه، فإنها حين قرأَتْ خطاب بوستيوماس الذي يأمر فيه بيزانيو بقتلها، راوَدها نازع انتحاري، ولكنَّها تَتغلَّب عليه ببراعة، وتُوافِق على خطة بارعة تقوم على محاكاة ذاتية ساخرة مُزدَوجة أخرى مما يدبره شيكسبير. وتَقضِي الخطة بإبلاغ بوستيوماس بأنها ماتت، ومن ثم تَتنكَّر في ثياب شاب صغير، وتنطلق حتى تجد آخِرَ الأمر وظيفة خادم في معية لوشيوس، الجنرال الروماني، الذي كان تَقدَّم بطلب الجزية ولكن سيمبلين رفَض دفعها. وتلتحق بهذه الخطة دورة أخرى من المحاكاة الساخرة؛ إذ يُقَدِّم بيزانو الشراب الذي أَعدَّته الملكة الشريرة إلى إيموجين، وهو الذي يقول الإعلان عنه إنه موصوف لعلاج دُوار البحر أو سوء الهَضْم، ولكنه في الحقيقة مُهَدِّئٌ بالِغ القوة وحسب. أي إن شيكسبير يُحَمِّلُنا بحبكة ثقيلة، ولكنْ له غرَض مُعَيَّن. فإن كنا نعرف أفضل ما ينبغي لإيموجين، فلا بد لها مِن لَمِّ شَملِها مع أخويها المَفقودَين، في إطار الخطة السحرية الخَفِيَّة في سيمبلين للمُصالَحات الأسرية. وأظن أيضًا أن تعقيدات الحبكة التي تَتكدَّس، بثراء، من هنا وحتى النهاية، تُعتَبر في ذاتها محاكاة ساخرة؛ إذ إن شيكسبير، بعد سيمبلين، يسأم الحبكات ورسم الشخصيات. فإن حكاية الشتاء تتمتع ببناء أبسط، ولا تكاد توجد حبكة في العاصفة.

ما إن تتنكر إيموجين في ثوب ذَكَر حتى تَتفجَّر سيمبلين بفيض من الحبكات؛ إذ يرحل كلوتن البَشِع إلى مرفأ ميلفورد، وقد ارتدى بخُبْث ملابس بوستيوماس، عاقدًا العزم على قَتل بوستيوماس ومُضاجَعة إيموجين. وها هي ذي تقف في سعادة أمام كهف بيلاريوس، حيث تمتعنا بحديث من أفضل أحاديثها.

أرى أنَّ حياةَ الرَّجل حياةُ مَشَقَّة،
لقد أجهدتُ نفسي، وعلى مَدَى ليلتين معًا
كنتُ أَفترشُ الأرض. وقد يغلبني المرض
لولا أن عزيمتي تحميني منه. ملفورد،
عندما أشارَ إليك بيزانيو من قِمَّة الجبل،
بَدوْتَ في حدود الرؤية. أواه يا رب أَحْسَب
أن المَعونة تَهرُب من وجه التُّعساء، أَقصِدُ
حيثُ يَجِب أن يَجِدوا راحة. أخْبَرَني شَحَّاذان
أنَّنِي لا يمكن أن أَضِلَّ الطريق. هل يَكذِب الفقراءُ
الذين أصابَتْهم المصائب، عارفين أنها
عُقوبة أو بَلوى؟ بلى، ولا عجب،
إذ يَندُر أن يَنطِق الأغنياءُ بحقيقة. كَذِبُ أصحاب النِّعْمة
أشدُّ إيلامًا منه عند ذوي الفَاقة. والزَّيفُ
أسوأُ عند الملوكِ منه عن الشَّحَاذِين. مولاي العزيز
أنتَ واحد من الزَّائفِين! أما وقد فَكَّرتُ فيك
فقَدْ ذهَب عَنِّي الجوع، ولكن قبل ذلك، كنتُ
على وشك السُّقوط جوعًا، ولكن ما هذا؟
أجِدُ طريقًا نحوه، قد يكون مَعْقِل وحش!
يَحْسُن بي ألا أنادي، لا أَجْرُؤ على النداء، لكنَّ الجوع،
قبل أن يَتغلَّب على الطبيعة، يَمنحُها الشجاعة
الخَيْر والأمانُ يُورثان الجُبْنَاء، والفاقة دائمًا
تُولِّد الصمود. ها! مَنْ هنا؟
إن كنتَ مِمَّن يألَف البَشَر، تَكلَّمْ، أو كنتَ وحشًا
فخُذ، أَوِ اعْطِ. ها! لا جوابَ؟ إذن سأدخل
يُفضَّل أنْ أسْتلَّ سيفي، فإن كان عَدوِّي
يخاف السيف مثلي، فهو لَنْ يجرؤ على النظر إليه.
عدوًّا كهذا، أَيَّتُها السموات الرحيمة.
(٣ / ٦ / ١–٢٧)

إن سحر هذا الكلام عظيم، ويستطيع أن يرفع من قَدْر مسرحية أفضل من سيمبلين القائمة على المحاكاة الساخرة، والتي تَتميَّز بِذَوْق رفيع يَحُول دون منح إيموجين ولو محاكاة ساخرة واحدة. أما سخريتها اللطيفة الخاصَّة، الحافلة بالعِزَّة والإباء مهما ازداد الضغط عليها، فهي مُوَجَّهة أساسًا إلى ذاتها، وإن لم تُعْفِ زَوجَها وأباها والذُّكُور بصفة عامة. ولكن أروع ما نراه هنا هو النَّغَمة؛ وتُحافِظ إيموجين على الصوت المُتمَيِّز الوحيد في المسرحية. وكلماتها الختامية «مثل هذا العدد! يا ربي الأكرم!» التي تُشير إلى نفسها، تُعْتَبر أفضل لحظة كوميدية في سمبلين، حيث نادرًا ما يُغادر البريق عين شيكسبير، ومع ذلك فإن التَّهكُّم الذاتي الذي لا يَكادُ يَتوقَّف نادرًا ما يجعلنا نبتسم. ولحُسْن الحظ يَرفَع المشهدُ التالي مُباشرةً الروح المعنوية لإيموجين وجمهورها المُتعاطِف معها. فنحن نعرف بِالْتِئام الشمل بينها وبين أَخَويها، حتى وإن لم يكونا يُدرِكان أنها أنثى. وهكذا نجد أن شيكسبير عاد أخيرًا إلى طبيعته الكاملة في هذه المسرحية، فَغَدا يَكتب كلامًا زاخرًا بالإيحاءات الفائقة، أثناء وقوع الأشقاء الثلاثة في حب بعضهم بعضًا، مُقْترِبِين معًا من الحقيقة، وامتداح إيموجين للخِصال المُهذَّبة الطبيعية لأخويها تُدعِّم الجدال الذي لم يَتوقَّف، والمُوجَّه ضد النبلاء، وهو الذي يمثل النغمة الخفية غير المتوقعة (على قوة تأثيرها) في سيمبلين:

الرِّجَال العِظام،
الذين يُقِيمون في بلاط لا يزيد على حَجْم الكهف،
ويَقُومون على خدمة أنفسهم، ويَتمَتَّعون بقدر من الفضيلة
أَسبَغَتْها عليها نُفوسُهم، مُعرِضِين عن
تلك المِنحَة التافهة التي تُقدِّمها الجماهير المُتقَلِّبة،
لا يمكنهم أن يَتفَوَّقوا على هذين. غُفرانَكِ أيَّتُها الآلهة!
وَدِدت لو أَغَيِّر جنسي لأرافق هذين،
بعد خيانة لوناتس.
(٣ / ٨ / ٥٤–٦١)

ولكنَّ كَلامها لا يُثْنِي على الشعب، وينشد السلامة بِتجَنُّب رغبة غشيان المَحارم. وعندما نَصِل إلى الفصل الرابع يكون شيكسبير، فيما يبدو، قد انتظَمَت خطواته، وعلى الرغم من أن الفصلين الختاميين يَتَّسمان بالمَزيد من الطابع الباروكي والمحاكاة الساخرة، فإن حدة المرارة أقل وضوحًا فيهما.

٤

يتنفس الجمهور الصعداء عندنا ينجح بوليدور/جويديريوس، أكبر أبناء سيمبلين، في قطع رقبة كلوتن، ثم يُحيِّي الوغدَ السَّخِيف بكلمات وداعٍ مناسبة:

بِسَيفه بِالذَّات،
إذْ كان يُلوِّح به أمام حنجرتي، انْتزَعتُ
رأسَه عن جَسَده، وسوف أُلْقِي به في الخليج
وراءَ جبلنا؛ لِأدْفَعَه نحو البحر،
وأقول للأسماك إنه ابن الملكة، كلوتن،
وهذا كل ما يَهمُّني.
(٤ / ٢ / ١٤٩–١٥٤)

ما دمنا نعرف أن المتحدث هنا سوف يعيش ليصبح ملك بريطانيا، فمن المُحتَمَل أن ذلك قد سمح لشيكسبير بهذه الجرأة، أي إلقاء رأس ابن الملكة للأسماك، وإلا لكان التَّعبير قد أغضب الرقيب على المسرح. ويعتزم شيكسبير الانتفاع على خير وجه بجُثمان كلوتن الذي قُطِع رأسه، وهو يرتدي ملابس بوستيوماس، عندما تفيق إيموجين من نوم عميق كأنه الموت، فتتصور خطأً أن رُفات زوجها إلى جوارها. ومن الغريب، فيما يبدو، أن تخطئ إيموجين فتتصور أن جسم كلوتن جسم زوجها، ولكنها على أية حال تُعانِي صدمة هائلة. ويرى القائد الروماني لوشيوس ثِقَل أحزانها، فيعطف عليها ويأمر بحملها إلى خارج المسرح، ولن تتكلم مرة أخرى في مشهد التَّعرُّف الطويل الذي تختتم به المسرحية.

وفي وقتٍ سابق كان أصدقاء إيموجين يَعتقِدون أن صديقتهم الصدوق قد تُوُفِّيَتْ، فَينتابُهم حزن شديد وينشدون نشيدًا فوق جثمانها المُسجَّى، وهو الذي يعتبر أفضل أنشودة بين جميع الأغاني في مسرحيات شيكسبير:

جويديريوس :
لا تَخْشَ بعدَ اليومِ من حرارة الشمس،
ولا مِنَ الهُوج التي تَعْصِف في الشتاء،
دَورُك في دنياك قد قَضْيتَ بالأمس،
وعُدتَ للدار بما حَمْلتَ من جزاء.
خَيْر الشَّباب والصَّبايا ساعةَ الإياب،
مَصِيرُهم، مثل الفتى الكَنَّاس، في التراب.
أرافيراكوس :
لا تَخْشَ بعد اليوم مِن تَجهُّم الكبار،
فقد أَمِنْت ضربة ينزلها الطغاة،
لا تُلقِ بالًا للطعام، لا ولا الدِّثار
ما عَندك البلوط يَعلو قَصَب الرُّعاة
فالصولجان، العِلْم والصِّحَّة في الإياب
جميعها تَتبَع هذا الدرب، للتُّراب.
جويديريوس : لا تَخشَ بعد اليوم مِن تَخاطُف البروق.
أرافيراكوس : ولا مِنَ الهَدير في دَحرجة الرُّعُود.
جويديريوس : لا تَخْشَ من نميمةٍ أو لائمٍ صَفِيق.
أرافيراكوس :
كَفَاك ما نِلتَ من الإقبال والصُّدود.
الاثنان معًا: كل المحبين الشباب، الكل في الإياب
يَتَّبعون خَلْفَك الدَّرْب إلى التراب.
جويديريوس : حُميتَ من شرور كل ساحر أثيم!
أرافيراكوس : ومِن فتون السِّحْر والمُشَعوِذ الرَّجِيم!
جويديريوس : مَلائِكُ الرَّحمةِ تَحمِيك ولا تَريم!
أرافيراكوس :
ولا يُصِيبَنَّك شَرُّ فاعِل ذَميم!
الاثنان معًا، وَلْيكُنِ الرَّفِيق في الموت لكَ السَّلام،
وَلْيشتَهِر لَحدُك في الدنيا لدى الأنام!٣
(٤ / ٢ / ٢٥٨–٢٨١)
على الرغم من جمال هذه المَرثِيَّة، فإنها من أشد المراثي اكْفِهرارًا بِسبَب تركيزها على «الخوف لا أكثر» باعتباره العَزاء الوحيد للموت. وذكَرَت إحدى طَالباتي ذات يوم أنها ترى أن سيمبلين لم تُكْتَب إلا من أَجْل هذه الأنشودة. وأنا أُسَلِّم بأنها أجمل شيء في مسرحية تَتَّسِم بقَدْر عَجِيب من التَّفاوُت، وأضيف أنها تُمثِّل مفتاح جَوِّ سيمبلين الذي أراه جَهْمًا وعدميًّا، وإنها تُشبِه في ذلك المرثية الجنائزية لشخص يُدعَى وِلْ بيتر، التي كَتبَها شيكسبير بعد نحو عامين، وإن كانت ذاتَ رَوعة جمالية أقل كثيرًا مِمَّا يَتجلَّى هنا، للأسف، وما دامَت سيمبلين، مثل الملك لير، تَعُود بنا إلى بريطانيا القديمة، فإن المَواقف المَسيحية إزاء الخُلود لا صِلَة لها بالموضوع، وإن كنتُ لا أعرف المَواقع التي يبدو فيها تأثيرها في أعمال شيكسبير. ولما كانت عبارة «لا تخش بعد اليوم» أعلى وأرفع من سياقها (إذ إن إيموجين نائمة وحسب) فلا أجد صعوبة في أن أسمع فيها صوت شيكسبير نفسه الذي يُعَبِّر عن موقفه تُجاه الموت، وأراها مقولة مأثورة (locus classicus) تَعَبِّر عن نظرة شيكسبير إلى الموت. إن القيمتين الأوليين عند شيكسبير هما الشخصية الإنسانية والحب، ومعنى كل منهما مُلتَبس في أفضل الأحوال، وهما يتحولان هنا، مع كل ما عداهما، إلى تراب. إن هذه القصيدة سلوان حالك الطلعة، ولكن وقارها الجمالي الفذ هو السلوان الوحيد الذي ينبغي أن نطلبه أو نجده عند شيكسبير.

ونجد بهجة أكبر عندما ننتقل إلى الفصل الرابع، المشهد الثالث، حيث يُحاط سيمبلين علمًا بأن الملكة مصابة بمرض خطير، وأنها تَنْعى اختفاء كلوتن، وكذلك حين ننتقل إلى المشهد التالي. حيث يُقْسِم بيلاريوس والأميران اللذان لم يُعْتَرف بعدُ بهما أن يلتحقوا بزملائهم البريطانيين في المعركة ضد الغزاة الرومان. ولا يظهر بوستيوماس إلا زاد من إحساسي بالنَّعْي، وهو يُبدِي بلاهة شديدة في المونولوج الذي يفتتح به الفصل الخامس، حيث يَتأمَّل «الخرقة الدامية» الزائفة التي أرسلها بيزانيو دليلًا على قتل إيموجين.

إيه يا خِرْقَة دامية، سأحتفظُ بِكِ؛ لأنني أردْتُ
أن تكوني بهذا اللون. أيُّها المُتزوِّجون،
لو كان واحد منكم اتَّبَع هذا السبيل، فكم مِنكم
سَيقْتُل زَوجاتٍ أفضلَ منهم بكثير
بِسبَب قليلٍ من الزَّلل؟ آه يا بيزانيو!
ما كلُّ خادِم مُخلِص ينفذ جميع الأوامر!
فالعهد لا يشمل إلا تنفيذ العادل منها. أَيَّتُها الآلهة،
لو أنَّكِ انتقْمْتِ لذنوبي، قَطُّ
ما عِشتُ لِأجُرَّ هذا على نفسي، ولأنْقذْتُ
إيموجين النبيلة، وأنزلْتِ عقابك عليَّ
أنا التعيس، الذي يَستحِقُّ نِقْمتَك أكثر، لكن وا أسفاه،
أنتِ تَختطفين بعضهم من بيننا لِذنوب صغيرة، ذاك هو الحب،
لِتمنَعِيهم من السقوط بعد ذلك، وتسمحي لبعضهم
أن يُلْحِق الذُّنوب بأخرى، وكل لاحق أسوأ من سابقه،
وتَجعَلِيهم يَخْشَوْنها، ليستقيم بَعْدَها المُذنِبون،
لكن إيموجين بضعة منكم، فافعلوا مشيئتكم،
واجعلوني مبارَكًا في طاعتكم. لقد جاءوا بي هنا
بين أشراف إيطاليا، لكي أُحارِب
ضِدَّ مملكة سَيِّدَتي. يَكفِي أَنَّنِي
يا بريطانيا، قَد قَتلتُ سَيِّدَتَك! مهلًا
فلن أُوجِّه نحوك طعنة؛ لذا، أيتها السموات الرحيمة،
استمِعي إلى مُرادي صابرة. سأتَخلَّص
من هذه الأسمال الإيطالية، وأرتدي ثيابًا
مما يرتديه قُرَوِي بريطاني، ولسوف أحارب
ضد الجماعة التي جئتُ معها، وهكذا أموت
من أَجْلِك يا إيموجين، التي من أَجْلِها تكونُ حياتي،
وكلُّ نَفَس فيها موتًا، وهكذا سأُكرِّس نَفْسي
لمواجهة الخطر، دون أن يعلم بي أحد،
فأكون مَثار إشفاق لا كراهية. وسأبين للناس
مَا تَنطوي عليه جَوانحي من شجاعة دونها ما تُظْهِره عوائدي.
(٥ / ١ / ١–٣٣)

ويرجع سبب استشهادي بهذا المونولوج، في جانب منه، إلى رداءته الغريبة، ولكنني أوردته أيضًا حتى أعيد فتح مسألة الشخصية الإنسانية غير المستكمَلة عند بوستيوماس؛ إذ إن توبته تقوم على ذائقة مَشكُوك فيها، ما دام لم يَتخلَّ عن اعتقاده أن زَوجته خانَتْه مع ياكيمو، وإن كانت تلك الجريمة، التي كانت تُوصَف من قبلُ بأنها جهنمية، أصبحت «تؤلم قليلًا» وتُعْتَبر «غلطة صغيرة». وأُكرِّر تَعجُّبي من السبب الذي جعل شيكسبير يبذل جهدًا متسقًا حتى يبدو بوستيوماس بطلًا مَثار شك كبير، وبعيدًا عن الجمهور إلى الحد الذي يجعلنا عاجزين عن التَّرحيب بمصالحته الأخيرة مع إيموجين، ويحز في نفوسنا أن نسمع أن الأرباب كان ينبغي أن تنقذ إيموجين، حتى تستطيع التوبة، ويزعجني إلى درجة أكبر أن يغدو بوستيوماس مُحاكاة ساخرة لإدجار؛ إذ يتنكر في صورة «فلاح بريطاني». وتستمر سيمبلين في القيام بدور الثأر من جانب شيكسبير ضد منجزاته نفسها، كما أن أفضل فهم لبوستيوماس يقول إنه الفاعل الأول لذلك الثأر الذاتي القائم على المحاكاة الساخرة.

وتَستمرُّ هذه المحاكاة الساخرة الذاتية في مشهد صامت في بداية الفصل الخامس، المشهد الثاني، حيث ينجح بوستيوماس، المُتنكِّر في زِي الفلاح، في هزيمة ياكيمو وتجريده من سلاحه، ثم تركه، فيما يُعتَبر صورة مُنحطَّة من المُبارَزة بين إدجار وإدموند. وأما ياكيمو، الذي لا يشبه إدموند ولا ياجو، فإنه يقول إن اتهامه لإيموجين ظلمًا من وراء هزيمته على يدي مُجرَّد فلاح ويبدأ التوبة في حياته العملية. وعند نجاح بيلاريوس والأميرين وبوستيوماس في إنقاذ سيمبلين، وتَحوِيل الهزيمة البريطانية إلى انتصار، وسَحْق الرومان سحقًا تامًّا، ينبغي لنا أن نكون على استعداد لأي شيء، ومع ذلك فإن شيكسبير يحرص على مفاجأتنا، وإن تكن أصالته، هذه المرة وحدها، جائزة مشكوكًا في قيمتها من الزاوية الجمالية. ويعود بوستيوماس إلى اللباس الروماني، ويُقبض عليه، وينتظر الإعدام بروح من يريد التكفير عن ذنبه. ويغلبه النعاس في السجن، ويمنحه شيكسبير رؤية مزدوجة، الأولى لأسرته والثانية لهبوط جوبيتر على مَتن عُقاب، مُطلِقًا الصواعق على أشباح الأُسرة. ولم يُحاوِل إلا ويلسون نايت، بكرمه المعتاد، أن يُقدِّم دفاعًا جماليًّا عن هذا المشهد. فقال لي ذات يوم إن عدم تقدير الأشباح وجوبيتر يعني عَدَم فَهْم شيكسبير. إن ويلسون نايت ناقد عظيم، وشيكسبيري مُتدَيِّن، ولقد دأبتُ على قراءة المشهد وإعادة قراءته باستمرار، محاولًا إقناع نفسي أنه ليس رديئًا، ولكنه بَشِع، وأعتقد أن شيكسبير تَعمَّد ذلك. لماذا ينتقل شيكسبير إلى الشِّعر الركيك هنا؟ لا أدري، لكنه بالقطع جعَلَه يتصف بكل رداءة ممكنة. فانظر مثلًا إلى ما يقوله أحد الإخوة الأشباح في امتداح بوستيوماس:

الشقيق الأول :
وعندَما بلَغَ سِنَّ الرجولة،
مَن الذي كان في بريطانيا
يستطيع الوقوف نِدًّا له،
أو يَكون مغنمًا
في عَين إيموجين، وهي خير
من يستطيع تقدير منزلته؟
(٥ / ٤ / ٥٢–٥٧)

قد يكون هذا ملائمًا تمامًا لمُنتخَباتي المُفضَّلة من النَّظم الرديء، وعنوانها البُومة المُحَنَّطة، ولا بد أن يكون محاكاة ساخرة لمحاكاة ساخرة أخرى. إنَّ شيئًا أَبْلَه ينطلق بلا زمام عند شيكسبير، ويهبط جوبيتر إلى مستوى من الموسيقى اللفظية يُرسِي معيارًا مُنحطًّا جديدًا لم يَسبِق له مثيل في رؤى الإشراق الربانية:

كفى، يا أرواحًا ضئيلة من عالِم أدنى،
لقد آذيتم سَمْعَنا: صمتًا! كيف تجرؤ أطياف
فَتَتَّهِم سَيِّد الرُّعود، الذي صاعِقَتُه (كما تعلمون)
مزروعة في السماء، تَمْحَقُ مُتمرِّدَ الشطآن جميعًا؟
اغْرُبوا يا طُيُوف الجِنان المسكينة، واستريحوا
عند ضِفافكم حيث لا تذوى الزُّهور،
لا تَغتَمُّوا لما يحدث للبشر الفاني،
فليس ذلك من همومكم؛ إذ هو شأن يَعْنِينا.
أنا أَمتَحِن الذين أُحبُّهم، فاجعل نعمتي
بطيئة في الوصول، فَتزْداد بهجة. اطمئنوا
فَابنُكم الذي تَدنَّى سيرَفع شأنه ذو الجلال،
تَزدَهِر نُعْماه، وتنتهي بلاياه،
فقد أشْرَق نَجمُنا العُلْوي لدى مولده، وفي
معبدنا جرى زواجه. انْهضُوا وتلاشَوا
سيكون زوجًا للسيدة إيموجين
ويَزداد سعادة بما لَقِي من عذاب
ضَعوا هذه التميمة على صدره؛ فهي
تُقرِّر إرادتنا أن تكون سعادته بلا حدود،
وبعد ذلك اغربا: ولا تزيدوا بضوضائكم
تعبيرًا عن البَرَم، لئلا تثيروا بَرَمي
اصعد، يا نَسر، إلى قصري البلور.
(٥ / ٤ / ٩٣–١١٣)
من المحال أن نفترض أن شيكسبير الذي يتمتع بأُذن ذات حساسية لا مثيل لها، لا يدرك سخافة هذا الكلام، والأحجية لا حل لها، إذا أصررنا على أخذ هذا الكلام مأخذ الجد، ولكنه بالقطع محاكاة ساخرة فظيعة لهبوط أي إله من آلة [أي أية وسيلة تعسفية لاختتام مسرحية ما في التراث اليوناني] والمتوقع منا أن نقبلها باعتبارها تمثيلًا ساخرًا؛ إذ يستيقظ بوستيوماس فيجد نصًّا مكتوبًا يعده بالحظ العظيم، فيستجيب له بمحاكاة ساخرة لما يقوله ثيسيوس في حلم ليلة صيف:
هذا حلمُ ما يزال، وإلا فهو شيء مما يَلُوكُه
المَجانين ولا يُدركُونه: كِلَاهما معًا، أو لا شيء،
أو كَلام هُراء، أو قَولٌ مما
لا يَستَبِينُه المعنى، ولْيَكُن ما يكون،
فمَسِيرة حياتي شَبِيهة به، وسوف
أَحتَفِظُ به ولو لِلذِّكْرى.
(٥ / ٤ / ١٤٦–١٥١)
ولا يستطيع شيكسبير أن يُرغِم نفسه على التوقف، في تقديمه المتواصل لأمثال هذه المحاكاة الساخرة، فإذا بنا نعود فجأة إلى دقة بدقة، مع بومبي المرح، القَوَّاد الذي أصبح مساعدًا للجلاد، وإذا هو يخبر برنردين، بحيوية فيَّاضة بأن السيف على النِّطع. وهكذا يقول سجان مبتهج لبوستيوماس إنَّ شنقه وشيك، وبوستيوماس أكثر من مُستَعد للشنق. يقول السجان:
ثَمَن ثقيلٌ عليكَ يا سَيِّد! لكن الذي
يريح أنك لن تُطالَب بتقديم المزيدِ
من الدُّفْعَات، ولن تَخافَ المزيد من قوائم الحان، وهي
غالبًا حُزْن الفِراق؛ مِثل تدبير الملاذ:
تَدخُل مُتهالكًا من حاجَة لِمَذاق اللَّحم، وتَخرُج
مُترَنِّحًا مِن فَرْط الشَّراب: يُؤسِفُني أنَّك قدْ
دَفعْتَ كل هذا، ويُؤْسِفني أنَّك قدِ انْدفَعْتَ إلى
كل هذا. الجيبُ والعَقل، كِلاهُما فارغ، العَقْل
أثْقَل لكونه أخفَّ، والجيبُ أخفُّ
لكونه أُفْرِغ من ثِقَله. آه، مِن هذا
التَّناقُض! سوف تَتخلَّص الآه. آه، ما أرحمَ
الحَبْل الرَّخِيص الثمن! يَجمَع ألوفًا بلمح البصر،
ليس غَيرُه مِن دائن ولا مَدِين فِعْليٍّ،
فهو الخلاص من الماضي والحاضر والمُستَقْبَل.
رَقَبتك سيدي، هي القَلَم والدَّفتْر ولَوْح الحساب،
وهكذا يأتي الخلاص.٤
(٥ / ٤ / ١٥٨–١٧٣)

لن تجد المحاكاة الذاتية الساخرة التي يُضطرُّ إليها المُؤلِّف في أي نص آخَر لشيكسبير، وأما في سيمبلين فهي تَتجاوَز كلَّ الحدود. ومن المُحتمَل أن شيكسبير لا يستطيع أن يَتوقَّف، أو قُل إنَّه إذا لم يَتوقَّف فإن ذلك لنْ يُغيِّر السؤال الحاسم، ما سبب انطلاقِ المُحاكاة الذاتية بلا هوادة؟ إن بوستيوماس لا يَتصرَّف وفق ما تمليه شخصيته في الفَصْل الخامس، المَشهد الرابع، بل يَبدُو أنه يُصبِح بديلًا عن شيكسبير في الإجابات التي يُقدِّمها السَّجَّان ويُرحِّب فيها بالموت. وقُبَيل مَجيء السَّجَّانِين إلى بوستيوماس، نسمع منه أشد كلمات المسرحية غموضًا، وهي التي كان الدكتور جونسون يرى أنها أتْفَه من أن تُفْهم، ومع ذلك فإن رَنِينها يطعن في حكم جونسون، وأقتطفها مرة ثانية بسبب أهميتها:

هذا حلم ما يزال: وإلا فهو شيء مما يَلُوكه
المَجانين ولا يُدرِكُونه، كلاهما معًا، أو لا شيء،
أو كَلامُ هُراء، أو قولٌ مِمَّا
لا يَستبِينه المعنى، ولْيَكُن ما يكون،
فمَسيرة حياتي شَبيهَة به، وسوف
أَحتَفِظ به ولو للذِّكْرى.
(٥ / ٤ / ١٤٦–١٥١)

ربما يكون شيكسبير يَتخطَّى حتى حُدود تَعبيره، وأنا أشكُّ في صحة شرح جونسون، الذي لا يُواجِه عبارة «سوف أحتفظ به، ولو للذِّكْرى». إنني أسمع شيكسبير، من خلال بوستيوماس، يقول إن فِعْلَ حياتنا يُعاش لنا، وإن أفضلَ ما يُملِيه اليأس هو أن نقبل («نحتفظ») بما يحدث كأنَّنا نحن الذين أَحدَثْناه، ولو كان ذلك من أَجْل التَّعاطُف الساخر مع أنفسنا، إنَّ هذا تَعرُّف غريب آخَر يَتجاوَز فيه نيتشه سلفًا.

٥

يَبلغُ طولُ المشهد الأول من الفصل الخامس في سيمبلين نحوًا من خمسمائة سطر، ويُنافِس المشهد الأخير في دقة بدقة في التَّعقِيد وتأخُّر التعرف على حقيقة ما حدث. وقد تكون المُنافَسة مُتعَمَّدة، وتُمثِّل المحاكاة الذاتية الساخرة أيضًا عنصرًا من عناصرها، والطابع الأخلاقي المعكوس في خاتمة دقة بدقة له أصداؤه في خاتمة سيمبلين. وقام برنارد شو، السليل الغيور لشيكسبير، بإعادة كتابة الفصل الأخير بعنوان نهاية أخرى لسيمبلين، شَوَّه فيها المشهد الأخير إلى حدٍّ بعيد. إذ إن إيموجين تصبح امرأة من الطراز الذي يرسمه برنارد شو، بحيث يستعصي التَّعرُّف عليها، وعلى الرغم من أنني أحيانًا ما أشعر بالحيرة إزاء نهاية سيمبلين، فإنَّنِي أُفَضِّل الحيرة على تشويه برنارد شو. ويفتتح المشهد الأخير بإعلان بهيج يقول إن الملكة، التي تُعْتَبر في ذاتها محاكاة ساخرة لليدي مكبث، «ماتت في جنون ميتة رهيبة» مثل ليدي مكبث. وعلى عكس تلك الشخصية الإنسانية الهائلة، تموت الملكة، زوجة سيمبلين، وهي تُرَدِّد أنها لم تُحِبَّ زوجها قط.

ويُؤتَى إلى المسرح بالرومان الأسرى، ولوشيوس وخادِمه فيديل (إيموجين المُتَنكِّرة في زِي غلام) ويا كيمو، وبوستيوماس، من بينهم. وما دام بيلاريوس والأميران يَقِفُون وقفة الظَّافرين المُكَرَّمِين من بين البريطانيين، فنحن نَتوقَّع — مُحِقِّينَ — أن نرى مَوجَة كاملة مِن تَعرُّف الأشخاص على بعضهم البعض، والمُصالحات والشرح لما حدث. ويُعَقِّدُ سيمبلين الأمور بتعيين فيديل خادمًا خاصًّا له. ويرى بيلاريوس وشقيقَا إيموجين «المِلِك المُتوَفَّى نفسه وقد عاد إلى الحياة» لكنهم لا يُعلِنُون اكتشافهم المذكور. ويُقدِّمُنا شيكسبير إلى ياكيمو، الذي يعترف ويعلن عن توبته بإسهاب بالِغ إلى الحد الذي يجعلنا نفتقد ياجو الحقيقي الذي يَتحدَّى ما سوف يناله من العقاب ولا يَنبِس ببنت شفة. ويكاد ياكيمو الذي تَتدفَّق من فمه الألفاظ أن يُلخِّص المسرحية كلها، ويَتدهوَر من كونه نموذجًا ساخرًا لياجو إلى أن يصبح محاكيًا ساخرًا للجوقة. ومع ذلك فالحصافة الدرامية لا تزال فعَّالة عند شيكسبير؛ إذ إن انهيار ياكيمو يُبيِّن لنا المدى الذي نستطيع الهبوط إليه تحت عظمة ياجو السلبية، ونجد أنفسنا في الوقت نفسه مُجسَّدِين في شخص شرير. إن ياجو، مثل هاملت ومكبث، يَتجاوَزنا، ولكننا نحن ياكيمو. إن شجاعتنا الظاهرية، وخبثنا، وتخوفنا، وتخبطنا، قائمة كلها عند ياكيمو، الذي لا يزيد سوءًا عنَّا، والذي يعتزم شيكسبير أن يبقيه حيًّا، وربما يكون شيكسبير قبل عامين تقريبًا من كتابة سيمبلين قد شاهد مسرحية فولبوني الرائعة لبن جونسون، حيث يَصدِمُنا المؤلِّف، المُؤمِن إيمانًا شديدًا بالأخلاق، في آخِر المسرحية (أو يصدمني أنا على الأقل) بإنزال عقوبة قاسية بالبطل فولبوني وخادمه موسكا، وهُمَا وَغْدان يأسران القلوب أسرًا رائعًا، وعفو بوستيوماس عن ياكيمو يُمثِّل في نظري ردًّا ضاحكًا آخَر على التَّشدُّد الأخلاقي عند جونسون.

ونُلاقِي المحاكاة الذاتية الساخرة من جديد عندما يضرب بوستيوماس إيموجين فيُوقِعها أرضًا وهي تحاول أن تكشف عن هُوُيَّتها له، وهي محاكاة ساخرة واضحة من دفع بيريكليس مارينا بِيَده عندما تبدأ في مُخاطَبَته. وأخيرًا نسمع بوستيوماس (وهو أشد أبطال شيكسبير إرهاقًا، بالقطع) وهو يَتحدَّث بفصاحة عندما يدرك أنه يُعانِق زوجته التي عادَت للدنيا:

الآنَ يا رُوحي تَعَلَّقِي علَى الأَغْصَانِ مِثْلَ الثَّمَرة
حَتَّى تَمُوتَ الشَّجَرَة.
(٥ / ٥ / ٢٦٣-٢٦٤)

بل إن سيمبلين نفسه يُسمح له بأن يقول كلامًا لا يُنسى عندما يُعاد إليه أولاده الثلاثة كلهم مرة واحدة:

ما أنَا الآنَ إذَنْ؟
هَلْ غَدَوْتُ الآنَ أُمًّا
أَنْجَبَتْ يَوْمًا ثَلَاثَة؟
لَمْ تَنَلْ أُمٌّ مِنَ الإنْجَابِ فَرْحًا
فَاقَ فَرْحِي بالمَخَاضْ!٥
(٥ / ٥ / ٣٦٩–٣٧١)
والعفو العام الذي يُقدِّمه سيمبلين لجميع أسراه الرومان ينبع من هذا الفرح ويناسبه، ولكن شيكسبير الذي لا يستطيع التوقف فيما يبدو عن المحاكاة الساخرة، هنا وفي ختام دقة بدقة، يخلط الأمور في نظرنا بأن يجعل سيمبلين يُقْدِم على خطوة أخرى تحيل جانبًا كبيرًا من المسرحية إلى بلاهة خالصة، الأمر الذي يؤكد إحساس الدكتور جونسون بالضيق؛ إذ إنه بعد أن يقهر الإمبراطورية الرومانية قهرًا سُفِكَتْ فيه الدماء، في حرب انْدلَعَت بسبب رفضه الاستمرار في دفع الجزية؛ إذ به يعلن فجأة أنه سوف يُواصِل دَفْع الجزية على أية حال! لقد بَيَّن لنا شيكسبير شجاعَة القتال التي أبداها بوستيوماس، وبيلاريوس، والأميران، ولكنه يعكس الأوضاع بنبرة فولسطافية قائلًا لنا «ذلك ما يُدَّعى شرفًا!» وبعد تلك الخطوة، لنا أن نتساءل إن لم تكن سخرية شيكسبير تُحَلِّق فوق المشهد إذ يبدأ سيمبلين خطابه الختامي في المسرحية قائلًا:
فَلْنَحْمَدْ كُلَّ الأَرْبَابِ وتَصْعَدْ
أَدْخِنَةٌ تَتَلَوَّى مِنْ شَيِّ قَرَابينِ المَعْبَدْ
مِنْ كُلِّ مَذَابِحَ بُورِكَ فِيهَا
لَمنَاخِرِها.٦
(٥ / ٥ / ٤٧٧–٤٧٩)
ما الذي تحمده في الأرباب هذه «الأدخنة التي تتلوى» نتيجة لشواء القرابين؟ كانت الملك لير مسرحية وَثَنِيَّة تُعْرَض على جمهور مسيحي، فلم تَحْفَظ أي عزاءٍ لنا، وثنيًّا كان أو مسيحيًّا. وأما سيمبلين التي تُعتَبر محاكاة مختلطة أكثر مما تُعْتَبر رومانسة، فإنها تَتوخَّى الحذر الذي يُلطِّف من غرابة حالات التصالح ولمِّ الشمل. لا تُبدِي أية مسرحية أخرى لشيكسبير، ولا حتى دقة بدقة أو تيمون الأثيني مدى ابتعاد الكاتب المسرحي عَن فَنِّه مثل سيمبلين. قد تكون طرويلوس وكريسيدا ذات عفن أشد سفورًا من سيمبلين، ولكننا، فيما يبدو، نواجه روح المُؤلِّف المُعْتلَّة في مسرحية إيموجين، وهو الاعتلال الشبيه بالقلق الذي يَسود هاملت. وليس ذلك إلا طريقة أخرى لتفسير مدى ابتعاد طبع المسرحية عن إيموجين، فهي الجديرة بالوجود في مسرحية أفضل. لا يكاد يبدي شيكسبير القدرة على قمع عظمته، حتى في سيمبلين، ولكنها طاقة تعتبر، في هذه الحالة وحْدَها، طاقة لا يستطيع احتمالها أو الصفح عنها.
١  ترجمات شعر شيكسبير في هذا الفصل مُقتبَسة من ترجمة عبد الواحد لؤلؤة مسرحية سيمبلين المنشورة في الكويت عام ١٩٩٢م، في سلسلة المسرح العالمي، إلا حين يُنَصُّ على غير ذلك.
٢  هذه ترجمة جديدة مَنظومة، مثل الأصل، اضطررتُ إليها بسبب سوء طباعة النص المنشور لهذه الفقرة.
٣  الأنشودة نموذج رائع لترجمة النَّظْم نظمًا (مقفًّى) عند الدكتور عبد الواحد لؤلؤة، الأستاذ العظيم، وهي تدل على تَمكُّنه من العروض والقافية والزحافات والعِلَل، كما أنه يحاكي قافية شيكسبير بما يدعو للإعْجَاب. (المترجم)
٤  نص هذا الحديث الذي يقوله السَّجَّان مطبوع نثرًا في الكتاب وفي طبعات المسرحية الأصلية، ففي طبعة آردن يوجد في ٥ / ٤ / ١٢٨–١٤١، وفي طبعة نيوكيمبريدج يُوجَد في ٥ / ٣ / ٢٢٠–٢٣٠، وفي غير هاتين الطبعتين يَرِد منثورًا أيضًا، كما في هذا الكتاب، وأما قول الدكتور لؤلؤة إنه اعتمد على طبعة آردن فيعني بها طبعة ١٩٥٥م، وقد تَداركَت طبعة آردن ٢٠١٧م هذا الخطأ في اعتبار الخطاب نَظْمًا وأعطته أرقامَ سطور مُخْتَلِفَة. (المترجم)
٥  هذه الأبيات ترجمة جديدة، مثل السطرين السابقين، أَمْلَتْها ضرورة النظم القادر على إلصاقها بالذاكرة. (المترجم)
٦  ترجمة جديدة منظومة. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤