الفصل الثاني والثلاثون

حكاية الشتاء

١

بعد الجرح الذاتي الجمالي في سيمبلين، تنطلق حكاية الشتاء بقوة شيكسبير الكاملة، على الرغم من اختلاف هذه القوة اختلافًا كاملًا عن أية صورة تَجلَّت بها من قبل، وأود أن أحكم بأن حكاية الشتاء «أغنى» مسرحية كتبها شيكسبير منذ أنطونيو وكليوباترا، بل وأفضلها على العاصفة ذات الإشكاليات الأكبر. ومع ذلك فإن حكاية الشتاء لها صعوباتها الأصيلة، النابعة من أصالتها القوية. ولكم أَتمنَّى لو أن التقاليد لم تُطلِق صفة «الرومانسات» على مسرحيات شيكسبير الأخيرة، على الرغم من أن هذه التسمية لن يغيرها الآن أي شيء، فالواقع أن ما تمنحه صفة «الرومانس» بإحدى اليدين، تسلبه باليد الأخرى، وشيكسبير، على نحو ما أصر على توكيده، لم يلتزم بنوع أدبي مُعيَّن فيما يكتب. فإن ترويض الشرسة تشبه الهزلية، لكنها ليست كذلك، ومسرحيات فولسطاف «التاريخية» تراجيكوميديات، وهاملت، «القصيدة غير المحدودة»، هي المعيار السائد وحسب، لا الاستثناء، بين مسرحيات شيكسبير، وحكاية الشتاء، مثل الليلة الثانية عشرة، ومثل الملك لير، «قصيدة غير محدودة» أخرى، ونحن لا نستطيع أن نصل إلى نهاية مسرحيات شيكسبير العظمى؛ لأننا كلما اكتسبنا منظورًا جديدًا، ظهرت لنا مجالات قشيبة تفلت من توقعاتنا.

حكاية الشتاء قصيدة غنائية رعوية شاسعة، وهي أيضًا رواية سيكولوجية، فهي قصة ليونتيس، الذي يعتبر عطيل وياجو الخاص به معًا. ويكتشف معظم النقاد فيها أيضًا احتفالًا أسطوريًّا بالبعث والتجديد، وهو حكم لا أجد له مبررًا كافيًا، على الرغم من أن المادة الشعرية التي تثير أمثال هذه التفسيرات موجودة بوفرة ملتبسة الدلالة. ولم نشهد شاعرًا، ولا حتى شيكسبير، يُبَرِّئُ الزمن من طابعه المدمر، وحكاية الشتاء، وفقًا لهذا الاسم نفسه، تخضع للتكرار وللتبديل. وقد تمكن ويلسون نايت من تحاشي تعالِيَّته العميقة، من طرف خفي، فحكم بأن الرَّب في المسرحية ليس الإله المسيحي ولا الرب الكلاسيكي، بل ما يسميه «الحياة نفسها»، فشهد مُحِقًّا على المذهب الطبيعي في حكاية الشتاء وهو المذهب ذو النطاق الرائع. وأما الواقعية فهي مصطلح نجد صعوبة بَالِغَة في استعماله في مناقشات الأدب الخيالي، لكنني أرى أن حكاية الشتاء أشد واقعية، وإلى حدٍّ كبير، من روايتي الأخت كاري أو تراجيديا أمريكية [للكاتب ثيودور درايزر]. فإن درايزر أقرب إلى الرومانس، وشيكسبير أصدق شاعر يكتب عن الأشياء كما هي في الواقع.

والأيديولوجيون لا يجتمعون حول حكاية الشتاء مثلما يجتمعون حول العاصفة، وهكذا فنحن لا نجد تسييسًا كثيرًا للأداء المسرحي أو التعليق النقدي، حتى في هذا الزمن الأغبر. وأنا أعتز بذكرى مشاهدتي جون جيلجود وهو يؤدي دور ليونتيس في إدنبره، في صيف ١٩٥١م، متفوقًا في تجسيد الغيرة الجنسية، ملمحًا من طرف خفي إلى معاناته من البارانويا [خلل الإحساس بالعظمة والاضطهاد] التي تنبع من التماهي المغالى فيه مع بوليكسينيس، ولا تزال أذني الباطنة تحتفظ بالإيقاع المضطرب العجيب لألفاظ جون جيلجود التي تُمثِّل أولى كلمات ليونتيس في المسرحية، والموجهة إلى بوليكسينيس والمفترض أن الغرض منها تأجيل رحيله إلى مملكة بوهيميا:

أَجِّلْ شُكْرَكَ حَتَّى يأتيَ مَوْعِدُ سَفَرِكْ.
(١ / ٢ / ٩–١٠)
والتصدير١ ذو الأهمية الحاسمة في حكاية الشتاء يظهر في الإعلان الشهير الذي يقدمه بوليكسينيس ويصف فيه فترة الصبا التي قضاها في صحبة ليونتيس:
كُنَّا كِمثْلِ تَوْأَمٍ مِنَ الحُمْلَانِ لَاهِيَيْنِ قَد تَوَاثَبَا
في الشَّمْس! ثُغَاءُ كُلٍّ يُرْجِعُ الصَّدَى لِلْآخَرْ
وما تَبَادَلْنَا سِوَى بَرَاءَةٍ بِبَرَاءَةٍ
وما عَرَفْنَا قَطُّ مَعْنَى الشَّر
كَلَّا ولا حَلُمْنَا أنَّ غَيْرَنَا يَعْرِفُهُ
وَلَوْ ظَللْنَا مِثْلَمَا كُنَّا ولَمْ يُقَلِّلْ عُنْفُوَانُ نضْجِنَا
أوِ اشْتِدَادُ بَأْسِنَا كَذَاكَ مِنْ بَرَاءَةِ الطُّفُولَة
لكانَ في مَقْدُورِنَا أنْ نُعْلِنَ الطُّهْرَ العَفِيفَ لِلسَّمَاءْ
كَأَنَّما بَرِئْنَا مِنْ وِرَاثَةِ الخَطِيئَةِ الأُولَى.
(١ / ٧ / ٦٧–٧٥)

ماذا كانت تلك البراءة المُتبادَلة؟ وأما الإشارة إلى الخطيئة الأولى فتعني خطيئة آدم وحواء. فهل يعرف بوليكسينيس على وجه الدِّقَّة ما يقوله؟ أتصور أنه يعني لو أنهما تَمكَّنا من البراءة من الخطيئة الأولى حيث ابتدءَا حياتهما، وهي التي تُصِر المسيحية على أنها خطيئتهما، بالرغم من أنها ارتكبت قبل عصرهما بزمن طويل من جانب آدم — عليه السلام — فقد كان يمكنهما أن يزعما أنهما «غير مذنبين» للسماء. ولكن شيكسبير يجعل بوليكسينيس يقول أكثر مما يعنيه، وهكذا فإننا نجد الكلام يشير إلى براءة فعلية من خطيئة آدم. ربما لم يكن الحب بين طفلين لم يَبْلُغا الحُلم بعدُ قد أثَّر في بوليكسينيس، ولكنه قد يكون السبب الأصلي لجنون ليونتيس. وتقول هرميون، زوجة ليونتيس، بنبرات هازلة: «أنا وزوجتك من الشياطين!» وليس ذلك قطعًا رأي بوليكسينيس، ولكننا نتساءل عن موقف ليونتيس، الذي يسأل زوجته «فهل نَجحَت في إقناعه؟» فتلجأ إلى الهزل بصدد نشأة غرامهما، ولكن التباس الدلالة يعود في رد ليونتيس عليها:

قد كانَ عِنْدَمَا ظَللْتُ صَابِرًا لأَشْهُرٍ ثلَاثَةٍ مَرِيرَةٍ حَتَّى ظَنَنْتُ
أنَّني هَلَكْتُ قَبْلَ تَوْفِيقي … فَتَحْتِ أنتِ هذه اليَدَ البَيْضَاءْ
وعِنْدَهَا صَافَحْتِنِي … بَادَلْتِنِي عَهْدَ الوفاءِ ثم قُلْتِ لِي
«أصبحتُ منذُ الآنَ لَكْ … إلى الأَبَدْ!»
(١ / ٢ / ١٠١–١٠٥)

نشعر بحقد خفي غريب في وصف الأشهُر بالمرارة، وصورة المصافحة التي تعلن الخطبة الرسمية سرعان ما تصبح مؤلمة عند تصوير هرميون وهي تمد يدها لمصافحة بوليكسينيس مصافحة صداقة وحسب. والحديث الجانبي الذي يقوله ليونتيس يدشن الحدث الحقيقي للمسرحية:

شَبَقٌ بالغْ، شَبَقٌ بالغْ! الخُلْطَةُ إنْ زَادَتْ بَيْن الأَصْحَابِ
أَتَتْ بالخُلْطَةِ في العِشْقِ! قلبي مُضْطَرِبُ الخَفَقَانْ
قلبي يَتَوَاثَبُ لكنْ لَيْسَ مِنَ الفَرْحَة … لَيْسَ مِنَ الفَرْحَة!
هذا الترحيبُ البالغُ قد تَكْسُو ظَاهِرَهُ بَرَاءَة
بَلْ قد يكْتَسِبُ الحُرِّيةَ مِنْ فَرْطِ الُودِّ وفَرْطِ الكَرمِ وفَرْطِ سَخَاءِ
الصَّدْرِ وقد يُمتَدَحُ الفَاعِلُ لَهْ! هذا قَطْعًا جَائِزْ. لكنَّ تَشَابُكَ
هذِي الأيدي الآنَ ودَغْدَغَةَ أَصَابِعِهَا … ما أَشْهَدُهُ في هذِي
اللَّحْظَة … والبَسَمَاتُ الصَّادِقَةُ العَاكِسَةُ كِمْرآةٍ ما في النَّفس!
واسْمَعْ ما يَتْلُوهَا مِنْ أَنَّاتٍ كَتَأَوُّهِ ظَبْيٍ سَاعَةَ مَوْتِهْ!
هذَا تَرْحِيبٌ لا يَرْضَاهُ الصَّدْرُ ولا يَرْضَاهُ جَبِيني (إذ
تَنْبُتُ فيه قُرونْ!) ماميليوس! هَلْ أنتَ ابْني؟
(١ / ٢ / ١٠٨–١٢٠)

لقد أصاب ليونتيس خبل كامل بسبب مرض الغيرة الجنسية، وهو يمثل صورة مُهذَّبة لذلك المرض الرهيب، بل صورة تَفوَّق في تهذيبها ما يَتجلَّى عند عطيل. ولقد كان شيكسبير الحُجَّة العالمية في مسألة الهوس [بالخوف من] خيانة الزوجة، وربما كان يعاني بعض الخَبَل إزاء هذه المسألة هو نفسه. وأما بروست الذي درس في المدرسة نفسها مع شيكسبير لإحكام صوغ كوميديا الغيرة الجنسية، فيَتفَوَّق حتى على شيكسبير في التفكه بهذا الهوس، لا في الجنون القتَّال الذي يؤدي إليه:

يا أَيُّهَا الوَهْمُ المُسَيْطِرْ! لَدَيْكَ قُوَّةٌ نَفَّاذَةٌ وتَطْعَنُ القُلُوبَ
والدُّنيَا وتَجْعَلُ المُحَالَ مُمْكِنًا كما تُجَسِّدُ الأَحْلَامْ.
قُلْ كيفَ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ هذَا؟ فَأَنْتَ تَرْبِطُ الإنْسَانَ
بالمُحَالِ في الأَذْهَانِ والعَدَمْ. إِذَنْ يَجُوزُ تَصْدِيقُ الذي فَعَلْتَهُ
بِتَحْوِيلِ الخَيَالِ في أَذْهَانِنَا إِلَى وَاقِعْ! وذَاكَ ما وَجَدْتُهُ
يا أَيُّهَا الوَهْمُ! تَجَاوُزًا لِكُلِّ ما يكُونُ مَشْرُوعًا!
وهكَذَا سَمَّمتُ مُخِّي فَتَهَاوَى مَنْطِقِي
ونَمَا عَلى الجَبِينِ قَرْنَانْ.
(١ / ٢ / ١٣٨–١٤٦)

«الوهم المسيطر» يعني هنا الرَّغْبة الشهوانية والغيرة الجنسية، وكل مِنهُما فعَّال إلى الحد الذي يُشجِّع حاجة ليونتيس العميقة إلى الخيانة. «العدم» هو المِفتاح، أي الشوق المَكبوت، والرُّعب الفوار، من خيانة هرميون مع بوليكسينيس، وهذان قائمان على الإدراك العدمي لِهُوَّة العدم الشخصية، العدم ليس إلا ما ليس له وجود، والحلم يقدم مزيجًا من الدجل والوهم. لسوف يقول ليونتيس لزوجته هرميون «أفعالك أحلامي». وهو يتقدم على ياجو وإدموند في عبادته العدمية لما لا يوجد. ويثير شيكسبير فينا الخوف من الوقوع في جحيم الغيرة، وتعاطفنا مع إحساس ليونتيس بأنه قد أسيئ إليه، مع أنه وحده الذي يقوم بالإساءة:

ذهبَا معًا!
أَدِلَّةٌ عَمِيقَةٌ وصُلْبَةٌ وغَامِرَة … على القَرْنَيْنِ في رَأْسِي!
اذْهَبْ غُلَامِي والْعَبْ! فإنَّ أُمَّكَ تَلْعَبْ! وأنَا كذلِكَ أَلْعَبْ
لكنَّ دَوْرِي شَائِنٌ وجَالِبٌ لِلْعَارْ، وسَوْفَ يُفْضِي آخِرًا إلى
الصَّفيرِ سَاخِرًا مِنِّي ويَقْفُونِي إلى القَبْرِ! والاحْتِقَارُ والتَّجْرِيسُ
بِي نَاقُوسُ مَوْتِي. اذْهَبْ غُلَامِي والْعَبْ! الْعَبْ إذَنْ! قد كانَ
قَبْلَ الآنَ دَيُّوثونَ غَيْرِي، إنْ لَمْ أَكُنْ ضَلَلْتُ كُلَّ ضَلَالْ.
بَلْ بَيْنَنَا الكثيرُ مِنْهُمُو، في اللَّحظَةِ التي أَقُولُ فيها هذَا،
وكُلُّهُمْ أَحَاطَ بالذِّرَاعِ زَوْجَتَهْ … ولَيْسَ فيهِمْ مَنْ يَرَى
بأَنَّ شَخْصًا قد أَتَى يَصِيدُ في غِيَابِهِ بِمَاءِ بِرْكَتِهْ،
وأَنَّ جَارَهُ اللَّصِيقَ يَأْخُذُ الأَسْمَاكَ مِنْ مَائِهْ
فَجَارُه اسْمُهُ «بَسَّام»! في ذَاكَ لِي بَعْضُ العَزَاءِ … نَعَمْ!
وغَيْرُهُمْ لَدَيْهِ أَبْوَابٌ وقَدْ فُتِحَتْ كَبَابِي كَرْهًا.
وَلَوْ أَصَابَ الَيأْسُ كُلَّ مَنْ لَدَيْه زَوْجَةٌ تَمَرَّدَتْ
لَقَامُ عُشْرُ مَنْ في الأَرْضِ مِنْ بَشَرْ … بِشَنْقِ أَنْفُسِهِمْ!
فإنَّهُ لَدَاءٌ لَا دَوَاءَ لَهْ! وكَوْكَبُ الفُجُورِ إنْ طَغَى
تَأْثِيرُهُ أصَابَ كُلَّ مَنْ يكونُ طالِعَهْ! أَدْرِكْ إِذَنْ جَبَرُوتَهُ
شَرْقًا وَغَرْبًا وَشَمَالًا وَجَنُوبَا! ومُوَجَزُ المَقَالِ أَنَّهُ
لا يَسْتَطِيعُ حِصْنٌ حِفْظَ عِفَّةِ امْرَأَة! اعْلَمْ وثِقْ في هذَا
فِمِثْلُ هذَا الحِصْنِ يَسْمَحُ لِلْعَدُوِّ بالدُّخُولِ والخُرُوجِ
بِقَضِّه وقَضِيضِهِ! وقَدْ أُصِيبَتِ الآلَافُ مِنَّا بالمَرَضْ
مِنْ دُونِ أَنْ نَدْرِي! ما الحَالُ يا وَلَدِي؟
(١ / ٢ / ١٨٥–٢٠٧)

إن الحماس الرهيب الرائع الذي يغذو هذه السطور ذو تأثير بالغ، بمعنى أن شيكسبير يهب الخيال الجنسي المريض عند ليونتيس قوة لا تقاوم، ويتجلى خوف الذكور ورفضهم للمرأة في بلاغة خبيثة وَلَّدَتْها العبقريةُ الفكاهية:

… ولَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَرَى
بِأَنَّ شَخْصًا قَدْ أَتَى يَصِيدُ في غِيَابِهِ بِمَاءِ بِرْكَتِهْ
وأنَّ جَارَهُ اللَّصيقَ يَأْخُذُ الأَسْمَاكَ مِنْ مَائِهْ
فَجَارُهُ اسْمُهُ «بَسَّامْ»!
(١ / ٢ / ١٩٤–١٩٦)

ويقدم ليونتيس، في غضبته لجميع الأزواج المجانين شعارهم الدائم «إنه لكوكب الفجور»، والصورة الجذابة «لا يستطيع حصن حفظ عفة امرأة». ونوبة حماسه العدمي، الذي يجمع بين الخبل وبين النشوة، يصل إلى ذروته في ترنيمة عن ضروب العدم:

أَفَلَا يُوجَدُ شيء في الهَمْسِ الدَّائِرِ بَيْنَهُمَا؟
في مَيْلِ الخَدِّ علَى الخَدِّ؟ وتَلَامُسِ هذَيْنِ الأَنْفَيْن؟ والتَّقْبِيلُ
بِدَاخِلِ كُلِّ شَفَة؟ في إِيقَافِ مَسَارِ الضَّحِكِ بِتَنْهِيدَة؟
لَحْنٌ لا يُخْطِئُ لخِيَانَةِ شَرَفِ المَرْءِ! في وَضْعِ القَدَمِ علَى
القَدَمِ؟ أنْ يَنْزَوِيَا في رُكْنٍ مِنْ تِلْكَ الأَرْكَانِ مَعًا؟
وتَمَنِّي أنْ يُسْرِعَ عَقْرَبُ تلكَ السَّاعَة؟ وقَضَاءُ السَّاعَاتِ مَعًا
وتَمَلِّي كُلِّ دَقِيقَة؟ ظُهْرًا أوْ في مُنْتَصَفِ اللَّيْل؟ وتَمَنِّي
أَنْ تُغْشَى كُلُّ عُيُونٍ إلَّا عَيْنَيهِ وعَيْنَيْهَا بِغِشَاوَة؟ وهُمَا
مِنْ دُونِ النَّاسْ؟ أَفَلَا يُعْتَبَرُ تَجَاهُلُ رُؤْيَةِ هذَا خُبْثًا؟ هَلْ
هذَا عَدَمٌ؟ وإِذَنْ هذِي الدُّنْيا وجَمِيعُ الأَشْيَاءِ بِهَا عَدَمُ!
فَسَمَاءُ الكَوْنِ عَدَمْ! وكذا بُوهِيميا عَدَمْ! وقَرِينَتُنَا عَدَمُ!
والعَدَمُ إذَنْ لا شيء بِهِ غَيْرُ العَدَمِ!
(١ / ٢ / ٢٨٤–٢٩٦)

ونبرات صوت ليونتيس تَتميَّز بشدة مُتصاعِدة لا نظير لها حتى عند شيكسبير، وعلى الرغم من أنه سوف يهدأ فَيتعَقَّل ويتوب في الفصل الثالث، المشهد الثاني، فإن الاهتمام الهائل من جانب الجمهور والقراء به يرجع إلى خصيصته التي تبث الحيوية في النصف الأول من المسرحية. سوف نرى في النصف الثاني أوتوليكوس، وبيرديتا، ولكن ليونتيس يظل مهيمنًا على المسرحية حتى نصل إلى ساحل البحر في بوهيميا (وهو الذي ابتكره فأثار حنق بن جونسون). وسواء كان جنونه أو عدميته العامل الذي يعتبر نقطة الانطلاق الأصدق، فإنه أحد كبار كهنة العدم عند شيكسبير، والخليفة العظيم لياجو ولإدموند. ويعتبر فرانك كيرمود على حق عندما يشير إلى «ضروب العذاب الذهني عند ليونتيس» بالقياس إلى صور المعاناة غير المنطوقة عند عطيل، فإن ليونتيس يتمتع بذهن وقَّاد يتيح له أن يصبح عدميًّا، ولكن ما سبب إضفاء شيكسبير أيضًا على ملك صقلية امتيازًا حالكًا بجعله أبرز كاره للمرأة في جميع المسرحيات؟ والواقع أن الجمع بين كراهية المرأة والعدمية يمثل نظرة من أعمق نظرات شيكسبير في طبيعة الذكر، وهو الذي ألهم نيتشه بعض جوانب تأملاته الغريبة. ويفتتح ليونتيس خطاب هجومه العظيم قائلًا هل هذا الهمس عدم؟ ثم يتبع ذلك بعشرة أسئلة إنكارية قبل أن تعود كلمة «عدم» في السؤال الثاني عشر «هل هذا عدم؟» وإجابته ستقدم لنا سبع كلمات «عدم» في ثلاثة أسطر ونصف:

وإذَنْ هذِي الدُّنْيا وجَمِيعُ الأَشْيَاءِ بِهَا عَدَمُ
فَسمَاءُ الكَوْنِ عَدَمْ! وكذَا بُوهِيمْيَا عَدَمُ
وقَرِينَتُنَا عَدَمٌ والعَدَمُ إذَنْ لَا شيء بِهِ إلَّا العَدَمُ
إنْ يَكُ هذَا عَدَمَا!
(١ / ٢ / ٢٩٣–٢٩٧)

إن ليونتيس، وهو في ذاته لا شيء (وذلك ما يخافه سرًّا) يرى ما ليس موجودًا، إلى جانب العدم الموجود! فحكاية الشتاء التي يحكيها شيكسبير تقدم لنا ذهن شتاء لا يستطيع الكف عن اختزال كل شيء، حتى تصدمنا وفيات الآخرين (وهي وفيات حقيقية وظاهرية) فتعيدنا إلى الواقع. وأتذكر جيلجود الذي كان في حاجة إلى التعامل مع تدهور دوره حتى أصبح توبة لا تنتهي؛ إذ أدى دور ليونتيس في الفصل الخامس بانتباه حذر من نوع ما، يوحي إيحاءً رائعًا بأنه رجل يخشى أن تبتلعه موجة عارمة من العدم. وسواء كان انحراف ليونتيس يتضمن أو لا يتضمن ميولًا جنسية مثلية مكبوتة، فإن المفتاح الرئيسي في أيدينا لفهم جنون الغيرة عند الملك يتمثل في فكرة الطغيان، وهو ما حكم به أعضاء القصر الملكي لليونتيس، وما حكمت به عرافة معبد أبوللو في ديلفوس:

الضابط (يقرأ) : هرميون عفيفةٌ، وبوليكسنيس بريءٌ، وكاميلو من أبناء الرعية المخلصين، وليونتيس طاغيةٌ غيور، وابنتُه البريئةُ مِنْ صُلْبه، وقُضِي على الملك أنْ يَعِيشَ دُونَ وَرِيثٍ إذا لمْ يُعْثَرْ على مَنْ فُقِدَ.
(٣ / ٢ / ١٣٢–١٣٦)

رؤية الغيرة الجنسية والعدمية الميتافيزيقية باعتبارهما من صور الطغيان رؤية لها طرافتها، ولكنها لا توضح سبب جنون ليونتيس. يقول نيتشه إن العلة والمعلول خرافة، وهو بها يسير في أعقاب شيكسبير. وباعتبار شيكسبير أعمق دارسينا للهيمنة الخطرة للخيال، نراه يخطو خطوة نهائية يتجاوز بها عبقرية رؤية المستقبل عند مكبث، وذلك في أضغاث تخيلات ليونتيس، فحيثما يوجد العدم يصبح كل شيء ممكنًا، وقد أحس شليجيل بالضيق من هذه اللاعقلانية، وتصور أنه يمكن أن يقدم درسًا لشيكسبير بسبب عدم وجود دافع لليونتيس، قائلًا: «ربما كان الشاعر يريد في الواقع أن يوحي إيحاءً طفيفًا بأن هرميون، على الرغم من عفافها، أبدت حرارة أكثر مما ينبغي في جهودها لإرضاء بوليكسينيس». وكان كولريدج أقرب إلى الحقيقة عندما ذكر أن وصف شيكسبير لغيرة ليونتيس «وصف فلسفي كامل»، وهو ما أفهم منه أن شيكسبير قد عزل الأساس الميتافيزيقي للغيرة الجنسية، أي خوف المرء من عدم توافر ما يكفي من المكان والزمن له. ويشبه بروست العاصفة المشبوبة للعاشق الغيور بحماس دارس تاريخ الفن؛ إذ إن طغيان الفضول الذي لا يرتوي يتحول إلى هوس «بالممكن»، ذلك أن المرء يحاول أن يصد فناءه ومن ثم يخاطر بقبول الخلود البشع عند مالبيكو [رمز الغيور في قصيدة ملكة الجان للشاعر سبنسر] ومصيره الذي لا شك أن شيكسبير نظر فيه مليًّا؛ يقول سبنسر:

لكنَّه لَا يَسْتَطِيعُ أنْ يَمُوتَ بَلْ يَعِيشُ عَيْشَ مَنْ يَمُوتْ
مُجَدِّدًا بَقَاءَهُ بِحُزْنِهِ الذي غَدَا لِنَفْسِهِ كَالْقُوتْ
أوْ قُلْ عَطِيةً مِنَ الحِمَامِ والحَيَاةِ في تَزَامُنِ مَمْقُوتْ
إذْ تَسْتَحِيلُ كُلُّ مُتْعَةٍ أَلِيمَةٍ إلَى الأَلِيمِ مِنْ كُلِّ هَنَاءْ
وفِيه سُكْنَى العَاشِقِ الوَلْهَانِ مِسْكِينًا ودَوْمًا دُونَمَا انْتِهَاءْ
فإذْ بهِ يَكْرَهُ ذَاتَهُ وغَيْرَهُ مِنَ الشَّبَابِ والأَحْيَاءْ
فَمِنْ خِلَالِ حُزْنِهِ الدَّفِينِ والمَخَاوِفِ البَوَاطِنِ الرَّعْنَاءْ
يَبِيتُ شَائهًا وخَائِرًا ونَاسِيًا بأنَّه مِنَ الإنْسَانْ
لأنَّ غَيْرةَ الفُؤَادِ قد نَمَتْ وأَصْبَحَتْ تُقِيمُ كالسُّلْطَانْ.

٢

الداعية العظمى «لقانون الطبيعة العظمى ومسارها» في حكاية الشتاء هي بولينا الجسور الضارية، وهي التي تَترَمَّل حين يقع زوجها أنتيجونوس التَّعِس ضحية لأشهر إرشاد مسرحي عند شيكسبير وهو يخرج ومن خلفه دُب يتبعه. وهكذا يصبح أنتيجونوس واحدًا من اثنين فَقدَا روحيهما بسبب جنون ليونتيس، وأما الآخَر فهو الأمير الصغير ماميليوس، وَريث عرش والده. وتنجو هرميون وبيرديتا، الزوجة والابنة، وإن تَكُن مسألة وفاة هرميون قد تركها شيكسبير دون حَسْم، كما ينبغي؛ إذ رفض أن يُوضِّح لنا إن كانت قد ماتت فعلًا ثم بُعِثَت فيما بعد، أو أنَّ بولينا هَرَّبَتْها، وسَهِرَت على رعايتها ستة عشر عامًا. وما دام ليونتيس قد تَعقَّل وتاب طيلة هذه المدة، فلا بد أن ندرك مدى قسوة جهله باستمرار وجود زوجته وقربها منه، إلا أن نبوءة دلفي لا بد من تحقيقها أولًا. ومن المُتصَوَّر أن شيكسبير أراد أن يَعتقِد جمهوره، أو يعتقد جانِب كبير منه، بمعجزة بَعْث هرميون، ومع ذلك فهو يُقدِّم بعض اللمحات التي تَدلُّ على أنه هو نفسه كان يتشكك في صحة هذه المُعجزة، وإن كان يُؤَجِّل تقديم هذه المفاتيح حتى الفصل الخامس.

ربما تَعلَّم شيكسبير من بيريكليس، فيما أتصور، أن مَشهد تعرُّفٍ واحد يكفي، ما دام اجتماع بيريكليس ومارينا قد قَلَّل من تأثير مشهد اجتماع الشمل التالي مع تاييسا. وأما في سيمبلين فنجد أن كثرة حالات تَعرُّف الأشخاص بعضهم على بعض تقلل من تأثيرها، لكننا قد رأينا كم يقترب شيكسبير من الطابع الهزلي في تلك المسرحية الغريبة، وبدلًا من تَعتِيم عودة هرميون، يسمح شيكسبير برواية جمع الشمل بين ليونتيس وبرديتا على ألسنة ثلاثة من السادة العاملين في البلاط، ويقول أحدهم إن بولينا كانت ترعى أكثر من مُجرَّد تمثال في السنين الست عشرة التي انقضت منذ الوفاة الظاهرية لهرميون:

لطالما اعتقدُ أن لديها مشروعًا عظيمًا هناك — إذ إنها كانت تذهب وحدها مرتين أو ثلاثًا كل يوم، منذ وفاة هرميون، لزيارة ذلك البيت المنعزل.

(٥ / ٢ / ١٠٤–١٠٧)

وعندما تتطلع هرميون إلى ابنتها، فإنها تتكلم كلامًا يتسم بغموض أكبر قليلًا، ولكن بأسلوب امرأة لم تعرف الموت:

فَسَوْفَ تَسْمَعِينَ أَنَّني … مِنْ بَعْدِ أنْ عَلِمْتُ مِنْ بولِينَا
أنَّ النُّبُوءَةَ العُلْيَا أَبْقَتْ علَى أَمَلِ النَّجَاةِ لَكْ
رَعَيْتُ نفسي كي أرَى تَحْقِيقَ ذلِكَ الأَمَلْ … وأَرَاكِ.
(٥ / ٣ / ١٢٥–١٢٨)

نسيت هرميون (أو نسي شيكسبير) أنها قد سَمِعَت النبوءة بنفسها، وهذه الزَّلَّة تشير إلى وقوع كمٍّ كبير من التشاور بين صديقين قديمين على امتداد ست عشرة سنة من الزيارات التي كانت تَحدُث مرتين أو ثلاثًا في اليوم. ومن السمات المُحبَّبة عند شيكسبير أنه يريد الجمع بين البعث الخارق للطبيعة، والوعي القائم على الشك في أن الطبيعة لديها ما يشغلها عنَّا. ولما كان شيكسبير يريد الجمع بين هذا وذاك، فإنه يُلَمِّح أيضًا إلى أن علينا أن نلقي نظرة فاحصة في محنة هرميون طيلة الفصل الثاني والمشهدين الأَوَّلَين من الفصل الثالث، وهو التتابع الذي يعاني إلى حدٍّ ما من التجاهل «النقدي» ولو لم يكن السبب إلا أننا، نحن القراء، يَسُرُّنا كثيرًا بلوغُ ساحل البحر في بوهيميا، وذِكْر الدُّب وما لَفَّ لَفَّه؛ لأن خَرَف ليونتيس، وإن لم يكن مملًّا، يُرْهِقنا رغم ذلك. وما إن يَفِر بوليكسينيس مع رجل البلاط كميلو، بناء على نصيحة الأخير، من صقلية طلبًا للنجاة من القتل، حتى يكتسب الجنون القاتل عند ليونتيس إلحاحًا جديدًا، وعنفًا بلاغيًّا مخيفًا حقًّا:

لَكَمْ وُفِّقْتُ في حُكْمِي الصَّحِيحِ المُنْصِفِ! وفي رَأْيِي الحَصِيفِ
الصَّائِبِ! ولَيْتَ أَنِّي مَا عَرَفْتُ كُلَّ هذَا!
وما أَشَدَّ ما أَشْقَى بِمَا أتَى التَّوْفِيقُ بِهْ!
قد يَشْرَبُ الإنْسَانُ مِنْ كَأْسٍ وفيها عَنْكَبُوتٌ سَامَّةٌ
لكنَّهُ يَبِيتُ سَالِمًا مِنْ دُونِ أنْ يَنَالَ السُّمُّ مِنْهُ
إنْ كانَ لَمْ يَعْرِفْ بأنَّ العَنْكَبُوتَ فِيهَا
أمَّا إذَا أَرَاهُ ذلِكَ الشيء الكَرِيهَ رَأي العَيْنِ شَخْصٌ ما
مُبَيِّنًا لَهُ حَقِيقَةَ الذي تَجَرَّعَهْ
فَإِنَّهُ سَرْعَانَ ما يَنْشَقُّ حَلْقُهُ بِغُصَّةٍ وتَعْتَرِيهِ في الجَنْبَيْن
أَهْوَالُ التَّهَوُّعْ! ولَقَدْ شَرِبْتُ أنَا كمَا رَأَيْتُ العَنْكَبُوتَ بَعْدَهَا!
وكانَ كَامِيلُو مُساعِدًا لَهُ في ذَاكَ بَلْ وقَوَّادَهْ!
هذَا تآمُرٌ علَى حَياتي بَلْ وتَاجِي،
وصَحَّ كُلُّ ما اشْتَبَهْتُ بِهْ. ذلِكَ الوَغْدُ الخَئُونْ!
ذَاكَ الذي اسْتَخْدَمْتُهُ فإذْ بِهِ مُعَيَّنٌ مِنْ قَبْلُ عِنْدَهْ!
أَفْشَى الذي دَبَّرْتُهُ فَجاءَنِي بالوَيْلِ والعَذَابْ!
أجَلْ! غَدَوْتُ لُعْبَةً لَهُمْ يَلْهُونَ حَسْبَمَا شَاءُوا بِهَا!
(٢ / ١ / ٣٦–٥٢)
ولما كان ليونتيس قد أمر كاميلو بَدسِّ السُّم لبوليكسينيس، فإن هذا الخطاب المُخيف يدل على جنونٍ أشدَّ مما توحي به ألفاظه. فإن صورة العنكبوت في الكأس تُثير الدهشة، حتى في إطار عبقرية المجاز المُطْلَقة عند شيكسبير، وتصل البارانويا إلى ذروتها الرائعة عندما يقول ليونتيس: «ولقد شربتُ أنا كما رأيتَ العنكبوت.» لقد تَجرَّع كأس الغيرة حتى الثمالة، وأما العنكبوت في النبيذ فرمز لجنونه. وأفضل جملة قالها المرحوم ويليام سيوارد بَرَزْ (Burroughs) فتؤكد أن «معنى البارانويا الحصول على جميع الحقائق.» وتلك عقيدة شخص آخَر شاهَد العنكبوت في الكأس.

ويصاب ليونتيس بصدمة تُعيد له صوابه عند موت ابنه والوفاة الظاهرية لزوجته، وهو ما يُعْتَبر انتقالًا أبعد ما يكون عن التصديق في حكاية الشتاء، إن لم نَقُل في كل ما كتبه شيكسبير، بل إن الممثل جيلجود قد بدا مأخوذًا، في نظري، بالمشهد الثاني من الفصل الثالث، حيث يُجَسَّدُ على المسرح الشفاء المثير المفاجئ من البارانويا. وتنشأ المشكلة الدرامية من إغداق شيكسبير لِفَنِّه على جنون ليونتيس، وهو مُقْنِع إقناعًا شديدًا إلى الحد الذي يَحُول دون شفائه بَغْتة. ومع ذلك فهذه حكاية شتاء، قصة قديمة تحكى بجوار المدفأة، ودمدمة الريح والجو العاصف في الخارج. ويريد شيكسبير مِنَّا أن نمنحه السُّلطة المُطلقة التي يتمتع بها القصاص، وربما كان يرى (مثلنا) أن ليونتيس العاقل أقل إمتاعًا من ليونتيس المخبول. وقبل أن نَحتَجَّ على ما يبدو زَلَّة في البناء الدرامي، نجد أننا انتقلنا إلى ذلك الساحل «الخرافي» لبوهيميا، حيث تُواصِل حكاية الشتاء انطلاقها لتحقيق أصدق عظمة لها، مع برديتا، أميرة الفتيات الراعيات، وأوتوليكوس، أمير اللصوص.

٣

تتميز حكاية الشتاء باتساع نطاقها اتساعًا فذًّا؛ فإن أوتوليكوس الرائع، ألطف الأوغاد الشيكسبيرية قَاطبة، عنصر أساسي في المسرحية؛ مثل: ليونتيس وبرديتا. كان الناقد الأيرلندي، ابن القرن التاسع عشر، إدوارد داودن، أَوَّل مَن أطلق مُصطَلح الرومانس على آخِر مسرحيات شيكسبير، ولا نستطيع الآن الإفلات من هذا المصطلح، ولكن حكاية الشتاء كوميديا رومانسية، إذا قَبِلْنا منظور أوتوليكوس. ولهذا الموقف تقاليد طويلة، إذ يقول هوميروس إن أوتوليكوس كان أمهر اللصوص بين الرجال، ويقول أوفيد إنه ابن هيرميس، الرَّب الخَدَّاع الزِّئْبَقي. ويُعْلي شيكسبير كثيرًا من شأن هذه التقاليد، فيجعله مُغَنِّيًا ولصًّا، والأغنيات الجميلة في المسرحية تنتمي إليه. ولكن أفضل ما يَتحلَّى به شخصيته الإنسانية الحيوية والفريدة. وقد حَظِي برضى الدكتور جونسون عنه: «شخصية أوتوليكوس تقوم على تَصوُّر طبيعي إلى حدٍّ بعيد، وهي مُمثَّلة تمثيلًا قويًّا.» ولا أستطيع أن أزيد من دِقَّة هذا الحكم، بل أستمتع دائمًا بشرح رأي جونسون وتفصيل القول فيه، بادئًا بقولي إن أوتوليكوس، مع إيموجين وكَالِيبان، أقوى تمثيل للشخصية في أعمال شيكسبير الأخيرة. ونحن لا نقابل أوتوليكوس حتى الفصل الرابع، المشهد الثاني، حيث يدخل في بهاء وهو يغني:

إذَا ابْتَدَتْ زَهْرَاتُ نَرْجِسٍ صَفْرَاءُ في إِطْلالِها
صَحِبْتُ مَنْ أُحبُّهَا بِصَيْحَةِ الأَفْرَاحِ في حُقُولِهَا.
وعِنْدَهَا يأتي مَدَارُ العَامِ بالعَذْبِ البَدِيعْ؛
كي يَهْزِمَ الشُّحُوبَ في الشِّتَاءِ ذِي الصَّقِيعْ،
ويَنْبِضَ الدَّمُ القَانِي بِقُوَّةِ الرَّبِيعْ!

•••

مُلَاءَةٌ مَنْشورَةٌ علَى سِيَاجِ الرَّوْضِ نَاصِعَةُ البَيَاضْ
صِحْ فَرْحَةً بِهَا واسْمَعْ طُيُورَ الصُّبْحِ في غِنَائِهَا الفَيَّاضْ.
إنِّي سَأَسْرِقُهَا فإنَّها لَتَدْفَعُنِي إلى هذَا السُّلُوكْ
كَيْمَا أَفُوزَ بالشَّرابِ دَافِقًا وَوَجْبَةٍ تَلِيقُ بالمُلُوكْ!

•••

اسْمَعْ غِنَاءً بَارعًا وسَاحِرًا لِلْقُبَّرَة،
وصَيْحَةَ الهَزَارِ والطُّيُورِ الشَّادِيَاتِ الآسِرَة،
فإنَّها أَهَازِيجُ المَصِيفِ لِي وعَشِيقَتِي.
إنِّي هُنَا في جَنَّةِ التِّبْنِ الوَفِير حِضنِ حَبِيبَتِي!
(٤ / ٣ / ١–١٢)
التضاد بين ليونتيس وأوتوليكوس بالِغ الحيوية؛ فإن ليونتيس يمثل سِيَاج الشِّتاء، أو حظيرته المُسَوَّرة، وأوتوليكوس يُعْلِن أن «الدم القاني يحكم داخل سياج الشتاء». والكلمة المستعملة للسياج pale قد تَتضمَّن تورية توحي بمعناها الآخَر وهو «الشاحب»، ومن ثم فقد تُوحِي بِتغَيُّر شحوب الخدود الشاحبة في الشتاء إلى حُمْرة الصيف، مع الانتقال الرهيف من الوجوه الشاحبة إلى المُلاءات البيضاء التي يدأب أوتوليكوس على سَرِقَتها. ولكن التضاد هنا يتمثل في تناقُض تخيلات ليونتيس البشعة للزنا «الكامن في الزوايا» وبين تَمَرُّغ أوتوليكوس في التِّبْن الوفير مع حبيبته التي يُشير إليها بتعبير aunts التي تَعني بالعامية القديمة عاهرات الخلاء، وأغاني الصيف المَرِحة لِلقُبَّرة والهَزار والطيور الأخرى. ولكن أوتوليكوس ليس بوهيميًّا بل شاعر رعوي إنجليزي، فهو يُرْدِف أغنيته بترديد عقيدته بنبرات عالية صاخبة، تبلغ ذروتها بصيحة ظفر عجيبة «صيد سهل!» عندما يلمح المُهَرِّج الريفي، ابن الراعي الذي يُعْتَبر والد برديتا في العماد. يقول أوتوليكوس:

أعيش على سرقة المُلاءات وبيعها، فاحذروني مثلما تَحذَرُون الحدأة التي تسرق قِطَع الملابس الصغيرة. أَسمَاني والدي أُتوليكوس؛ إذ كان مثلي مولودًا أثناء طُلوع كوكب عُطارد المُسمَّى بِاسم الرَّبِّ ميركوري، وكان مِثْلي يسرق الأشياء الصغيرة التي لا يلتفت إليها أصحابها، ومن طريق القُمار والعمل قوَّادًا اشتريتُ هذا اللباس الفاخر (يشير إلى أسماله البالية) ودَخْلِي يعتمد على سرقة أشياء المُغَفَّلين! الشَّنق والضرب عقوبات أشد من أن أتَحَمَّلها لو سِرتُ في الطرق الرئيسية، فأنا أخاف أنْ أُضْرَب أو أُشْنَق! أما الحياة الآخِرَة فلا أعمل لها حسابًا. (يرى المهرج) هذا صيد سهل! صيد سهل!

(٤ / ٣ / ٢٣–٣١)

ليس أوتوليكوس قَاطِعَ طريق فهو يَكْره العنف، ويَسْعَد بممارسة القمار والقِوَادة، ناسبًا إلى ما يكسبه من ذلك ملابس السمكري التي يرتديها، والمُغَفَّلون الذين يخدعهم مصدر دخله، وهذه الدنيا تُسْعِده وتكفيه، وهو ما يناسب الفرد الطبيعي. وهو يمارس «النَّشْل» والمُخاتَلة لكنه أيضًا يُنْشِد المواويل ويَبيعها، ومن أظرف جوانب عمله بيع لوازم الزِّينة والتَّبَهْرج للنساء، كما نرى في هذه الأغنية، أفضل ما غَنَّى، ومن أبدع ما كتب شيكسبير:

لَدَيَّ مَنَادِيلُ بَيْضَاءُ في لَوْنِ ثَلْجِ الشِّتَاءْ،
وأَقْمِشَةٌ حَالِكَاتُ السَّوَادِ كَغِرْبَانِ هذَا الفَضَاءْ،
وقُفَّازُ كُلِّ يَدٍ ذُو أَريجٍ يَفُوحُ بِرَوْحِ الوُرودْ،
وأَقْنِعَةٌ لِلْوُجُوهِ وكُلِّ الأُنوفِ وكُلِّ الخُدُود،
أَسَاوِرُ مُحْكَمَةٌ مِنْ عَقِيقٍ، قَلَائِدُ مِنْ كَهْرَمَانْ،
عُطُورٌ يَزِينُ شَذَاهَا الرَّهِيفُ خُدُورَ الحِسَانْ،
وأَوْشِحَةٌ وُشِّيَتْ بالنُّضَارِ، وأَحْزِمَةٌ لِلْخُصُورِ النَّحِيلَة
يُقَدِّمُها العَاشِقُونَ الشَّبَابُ إلى كُلِّ بِنْتٍ جَمِيلَة،
دَبَابِيسُ أوْ قُضُبٌ مِنْ حَدِيدٍ وصُلْب
فَذلِكَ عِنْدَ العَذَارَى شَدِيدُ الطَّلَبْ
تَعَالُوا اشْتَرُوا أَقْدِمُوا أَقْدِمُوا واشْتَرُوا
وإلَّا سَتَبْكي أَحِبَّتُكُمْ، يا شَبَابُ اشْتَرُوا.
(٤ / ٤ / ٢٢٠–٢٣٢)

مَنْ مِن أفراد الجمهور يستطيع أن يُقاوِم هذا البائع المُتجَوِّل بألحانه الجميلة؟ وعندما يبيع الأغاني والمواويل المطبوعة يبلغ أوتوليكوس أقصى درجات مرحه:

المهرج : ماذا لديكَ الآن؟ مواويل مطبوعة؟
موبسا : أرجوك أن تشتري لي بَعْضَها! فأنا أحب المواويل المطبوعة، وأُقْسِم بحياتي، فإننا نَثِق عندها في صدق ما تحكيه.
أتوليكوس : هذا مَوَّالٌ يحكي قصة وُضِعَتْ على لَحْن بالِغ الحُزن؛ إذ يقصُّ كيف وَلَدَتْ زوجة أحد المرابين عشرين كيسًا من النُّقود في بطن واحد، وكيف كانت تَتوحَّم على أَكْل رءوسِ ثعابينَ سامةٍ وضفادعَ مُقَطَّعةٍ مشوية!
موبسا : وهل هذه قِصَّة حقيقية في رأيك؟
أتوليكوس : بَلْ حقيقية فعلًا، ولم يَمْضِ عليها إلا شهر واحد.
دوركاس : لا قَدَّر الله أن أَتزَوَّج مُرَابِيًا!
أتوليكوس : وها هو ذا اسم الداية المطبوع على المَوَّال: السيدة ثرثارة هانم، إلى جانِب أسماء خمس زوجات مُحْترَمات أو ستٍّ كُنَّ حاضرات. ولماذا أَتجوَّل حاملًا أكاذيب؟
موبسا (إلى المهرج) : أرجوك أن تشتريها الآن!
المهرج : دعك من هذه الآن! ولْنَرَ المزيد من المواويل أوَّلًا. سوف نشتري الأشياء الأخرى حالًا.
أتوليكوس : هذا مَوَّالٌ آخرُ يحكي قصة سمكة ظَهرَت يوم الأربعاء، في اليوم الثمانين من شهر إبريل، على ارتفاع أربعين ألف قامَة فوق الماء، ويُنْشَدُ هذا المَوَّال لانتقاد قسوة قلوب العذارى. وكان يقال إن هذه السمكة كانت امرأة ثم مُسِخَتْ سمكةً باردةً؛ لأنها رفضت التجاوب جسديًّا مع عاشق لها. إن قصة الموَّال مُؤلِمة جدًّا، وحقيقية.
دوركاس : حقيقيةٌ فِعلًا في رأيك؟
أتوليكوس : أَقَرَّ بِصِدْقها خَمسةُ قضاة ووَقَّعوا على ذلك، إلى جانِب عَددٍ مِنَ الشُّهود يزيد عمَّا تَتَّسِع له حقيبتي.
(٤ / ٤ / ٢٦٠–٢٨٥)

إنَّ جعبة أوتوليكوس تَتضَمَّن كلامًا يُمثِّل أكثر ما يفيض بالحيوية عند شيكسبير؛ إذ يَتهَكَّم على سخافات القصص التي ترويها مواويل الشارع في عصره، كما أن أوتوليكوس يُحاكي الأغاني مُحاكاة ساخرة، ويَمتَزِج صوته بصوت شيكسبير، مستمتعًا أيَّما استمتاع بَتخَيُّلاته عن زوجات المرابين (فشيكسبير نَفْسُه مُرابٍ) والمسخ الذي تعرضت له امرأة «تَحوَّلَت إلى سمكة باردة؛ لأنها رَفضَت التجاوب جسديًّا مع عاشق لها».

وتَزدَاد لَذَّة الاستماع إلى ذلك من جانِب جمهورٍ كابَد الإصغاء إلى شتائم ليونتيس الغَيور الكَارِه لِلعَلاقة الجسدية، ومِن ثَمَّ فهو يَزداد تقديرًا لكلام أوتوليكوس البريء على دَهاء مَقصده. وبعد ذلك، بعد أن يَتبادَل المَلابس مع الأمير فلوريزيل، حتى يَتمكَّن فلوريزيل وحبيبته برديتا مِن الفِرار من بوليكسينيس، يَحظَى أوتوليكوس بتوكيد رِضانا عنه بأن يُعْلِن شِرعَته الأخلاقية الشبيهة بِشِرْعة الشاعر الفرنسي، سَيِّئ السُّمعة فيون (Villon) ابن القرن الخامس عشر قائلًا:

الأمير نفسه سوف يرتكب إساءةً مُعَيَّنة؛ إذ يمضي خِلسة تاركًا أباه ومُحْتِملًا القيد الخشبي في عَقِبَيْه المُتمَثِّل في الفتاة. لو كنتُ أرى أن الأمانة تقضي بإطلاع المَلك على ما يجري ما فَعلتُ ذلك. بل أَعتقد أن إخفاءه يُمثِّل خيانة أكبر، وبهذا أُخْلِص لمبادئ حرفتي.

(٤ / ٤ / ٦٧٨–٦٨٣)

ويناقش أوتوليكوس باعتباره قُوَّة خير في حكاية الشتاء شخصية بولينا، ما دام ينقذ برديتا مثلما تنقذ بولينا هرميون، ونحن نشعر بالبهجة في تأمُّل اختلاف طريقة عمله عن طريقتها في العمل ما دمنا على حق في تفضيل ما هو كوميدي على ما هو تراجيكوميدي، إذ يقوم أوتوليكوس، برجماتيًّا، بالكشف عن سِر مَولد برديتا، ويصطحب الراعي والمُهرِّج ببَراهِينِهما إلى بوليكسينيس. وربما نشعر بلمسة حزن عندما نرى أوتوليكوس آخِر مَرَّة، إذ تُقرِّر أن يعيد الالتحاق بخدمة الأمير واعدًا إيَّاه بأن يلتزم بالأمانة والشرف، لكننا نَسعَد لتذكرنا أن الدكتور جونسون كان على حق في قوله إن أوتوليكوس، ما دام «يقوم على تَصوُّر طبيعي إلى حدٍّ بعيد» من جانب شيكسبير، فسوف يرجع حتمًا إلى طبيعته الحقة ويهرب من جديد، فيسرق المُلاءات، ويبيع مواويله العجيبة.

٤

لا بد أن تضم كل قائمة للمَشاهد المُفضَّلة في مسرحيات شيكسبير الفصل الرابع، المشهد الرابع من حكاية الشتاء، فهو مشهد ذو طول مُدهِش (٨٤٠ سطرًا) ويَتضَمَّن أجمل المَشاهد الغرامية قاطبة عند شيكسبير، في مُستَهَلِّه، حيث تعلن برديتا وفلوريزيل عاطفتهما المشبوبة المُتبادَلة ويحتفلان بها. ولما كان احتفال العاشِقَين ذا جمال فَذِّ وذا أهمية حيوية للجوانب الخفية من حكاية الشتاء فسوف أُبَطِّئ مَساري وأُقدِّم تفسيرًا دقيقًا إلى حدٍّ ما لهذه البداية.

نحن في احتفال رعوي؛ إذ نحتفل بجز صوف الأغنام، حيث نرى برديتا تلبس إكليلًا من الزَّهر وتُمثِّل دور فلورا، الرَّبة الإيطالية القديمة للخصب، وهكذا تصبح ابنة الراعي، وهي الأميرة الصقلية التي لا تعرف هُويَّتها مضيفة الحفل، وتكتسي برديتا منذ البداية إيحاءً بأنها بروزربينا (بيرسيفوني) — ابنة كيريس (ديميتر) وجوبيتر (زيوس) — والتي عَرَف شيكسبير قِصَّتها من شعر أوفيد. وتقول الأسطورة إن بلوتو (ديس) أرسل بروزربينا إلى العالم السفلي، وإن الرَّبَّة كيريس تنقذها نصف إنقاذ، التي تَتفاوض حتى تُحقِّق حرية ابنتها في مُقابِل الربيع والصيف وحسب. والواقع أن برديتا، كما سوف نرى، لن تستسلم لذلك الحط من مكانتها، في إطار الهالة التي لنا أن نسميها الهالة الأسطورية، ولكن شيكسبير الذي انبهر بها يصورها في صورة حية متميزة باعتبارها شخصية إنسانية مثل ليونتيس وأوتوليكوس، بل إن فلوريزيل، الخاضع لتأثير برديتا، يكتسب ملامح حيوية لا ينعم بها والده بوليكسينيس. ويستهل فلوريزيل المشهد الرابع من الفصل الرابع بِتحِيَّة برديتا بحماس العاشق المُعجَب بِتحَوُّل ملبسها، لا بتحويله جمالها الفتان:

هَذِي المَلَابِسُ الغَرِيبَةُ التي لَبِسْتِها تَبُثُّ رُوحًا نَابِضًا
بِكُلِّ شِبرٍ مِنْك! فَلَمْ تَعُودِي رَاعِيَة …
بَلْ أنْتِ هكَذَا فَلُورَا رَبَّةُ الزُّهورِ
قَدْ أَطَلَّتْ فوقَ جَبْهَةِ الرَّبيعْ! فَحْفلُ جَزِّ الصُّوفِ عِنْدَكُمْ
لِقَاءٌ للِصِّغَار مِنْ أَرْبَابِكُمْ وفَوْقَهُمْ فُلُورا المَلِكَة!
(٤ / ٤ / ١–٥)

وعبارة «تبث روحًا نابضًا/بكل شبر منك» تُوحِي بإيحاءات جنسية لطيفة، ولكن برديتا التي تكره الملابس التي تزينها، وملابس فلوريزيل التي تَحطُّ من قَدْره، لا تستجيب لمديحه:

يا سَيِّدِي ومَوْلَاي الكَرِيمْ! قد لا يَلِيقُ بي بأَنْ أُعَاتِبَكْ
على مُبَالَغَاتِكْ! أَرْجُوكَ فاصْفَحْ إنْ أنَا سَمَّيْتُها:
فَذَاتُكَ العُلْيَا ومُلْتَقَى عُيُونِ النَّاسِ قَدْ
طَمَسْتَهَا بِزِيِّ ذلِكَ الرَّاعِي! أمَّا أنَا الفَقِيرَةُ المِسْكِينَة
فَقَدْ رَفَعْتَها إلَى مَرَاتِبِ الأَرْبَابْ! لَوْلَا مُيُولُ ضُيُوفِنَا في الحَفْلِ
لِلْغَرَائِبِ الحَمْقَاءْ … ومَيْلُهمْ لهَضْمِ ذاكَ كُلِّهِ وفي
إطَارِ أَعْرَافِ احْتِفَالِ النَّاسْ … لكُنْتَ قد شَاهَدْت
حُمْرَةَ الخَجَلِ التي سَتَصْبُغُ وَجْنَتَيَّ إذَا شَهِدْتُ مَلْبَسَكْ
بَلْ قَدْ أَبَاتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ إذَا نَظَرْتُ في المِرْآة!
(٤ / ٤ / ٦–١٤)

وتحقق برديتا توازنًا دقيقًا بين احترامها لولي عهد بوهيميا، فهو يعلوها في المنزلة الاجتماعية عُلُوًّا لا رجاء في تعديله، ويبين حصافة الفَلَّاحة وفِطْنَتها؛ إذ تعترض على «وليمة الحمقى» التي كُتِب عليها، على الرغم من ذلك، أن تَتولَّى رئاستها. ويحضر الحفل بوليكسينيس وكاميلو مُتنكِّرَيْن. وهكذا تشهد حوارًا يفوق كل ما عداه عند شيكسبير في الجمال والعمق بين برديتا وبين بوليكسينيس، بعد أن تحييه بتقديم زهر الفيجن وزهر السذاب، وفيما يلي الحوار:

بوليكسينيس :
إنَّكِ فَاتِنَةٌ يا رَاعِيَةُ وقَدْ أَحْسَنْتِ بِتَقْدِيمِ زُهُورِ شِتَاءٍ
تَتَّفِقُ وما نَحْنُ عَلَيْهِ بِشِتاءِ العُمْر!
برديتا :
قد مَالَ هذَا العَامُ للشَّيْخُوخَةِ! فالصَّيْفُ لَيْسَ يُحْتَضَرْ
ولَمْ يُولَدْ شِتَاءُ الزَّمْهَريرِ بَعْد! وأَجْمَلُ الأَزْهَارِ في المَوْسِمْ
هي القَرَنْفُلُ والزُّهُورُ الخَارِجَاتُ مِنْهُ ذَاتُ الأَشْرِطَة
وهي التي يَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ إِنَّها نَغِيلَاتُ الطَّبِيعَةِ؛ أي بَنَاتُ
سِفَاحْ! ولَسْتُ أَزْرَعُ في حَدِيقَةِ رِيفِنَا هذِي الزُّهُور!
ولَا أُحِبُّ أنْ آتِيَ بِشَتْلَاتٍ صَغِيرَةٍ مِنْها.
بوليكسينيس : ولِمَاذَا يا آنِسَةً فَاتِنَةً تَتَجَاهَلُ يَدُكِ زِرَاعَتَها؟
برديتا :
لِأَنَّنِي سَمِعْتُ أنَّ لَوْنَهَا يُشَارِكُ الإنْسَانُ فيه بالصَّنْعَة …
مُهَجِّنًا لَهَا مُنَافِسًا يَدَ الطَّبِيعَةِ الخَلَّاقَةِ العُظْمَى.
بوليكسينيس :
فلْيَكُنْ! لكنَّ أي تَحْسِينٍ لمَا صَاغَتْهُ هذِهِ الطَّبِيعَةْ
يكونُ بالصَّنَائِعِ التي أَوْحَتْ بِهَا الطَّبِيعَة! وهكَذَا فإنَّ هذِهِ
الصَّنْعَةُ — وهي التي ذَكَرْتِ أَنَّهَا تُضِيفُ لِلطَّبِيعَة —
فنٌّ تُعَلِّمُنَا مَنَاهِجَهُ الطَّبِيعَة! وهكَذا تَرَيْنَ يا فَتَاةً رَائِعَة
أنَّا نُزَوِّجُ دَوْحَةً بَرِّيَّةً مِنْ غُصْنِ نَبْتٍ سامٍ
فإذْ بِهَا قَدْ حَمَلَتْ وأَنْبَتَتْ بَرَاعِمَ رَفِيعَةً سَامِيَة.
وهكَذَا فإنَّ هذَا الفَنَّ يُصْلِحُ الطَّبِيعَة … لا بل يُغَيِّرُها،
لكنَّ هذَا الفَنَّ نَفْسَهُ مِنَ الطَّبِيعَة.
برديتا : هذا صَحِيحْ.
بوليكسينيس :
إِذَنْ لِتُثْرِي يا فَتَاةُ حَدِيقَتَكْ … بَكُلِّ زَهْرٍ خَارِجٍ مِنَ القَرَنْفُلْ
ولا تَقُولِي إنَّهَا نَغِيلَاتْ!
برديتا :
بَلْ لَنْ أَشُقَّ الأَرْضَ كي أَغْرِسَهَا! ومَوْقِفي هذَا يُمَاثِلُ مَوْقِفِي
لَوْ أَنَّنِي لَوَّنْتُ بالأَصْبَاغِ وَجْهي ثُمَّ قُلْتُ إنَّنِي أَرْجُو رِضَاءَ
هذَا الشَّابِّ عَنْها … وإِنَّهُ لَوْلَا وُجُودُ هذِهِ الأَصْبَاغِ
ما تَزَوَّجَنِي! هذِي إذَنْ بَعْضُ الزُّهور، هذِي
خُزَامَى العِشْقِ والنَّعْنَاعُ والصَّعْتَرُ والعِتْرَة.
هذا أَذَرْيُونُ الجميلُ وَهْوَ زَهْرٌ يُغْلِقُ الجُفُونَ عِنْدَمَا تَنَامُ الشَّمْسُ
ثُمَّ يَصْحُو عِنْدَمَا تَصْحُو وقَدْ عَلَتْهُ أَدْمُعُ النَّدَى! هذِي
زهُورُ وَسْطِ الصَّيْف! وأَظُنُّ أَنَّها تُهْدَى لمَنْ في أَوْسَطِ العُمُرْ!
أهْلًا ومَرْحَبًا بِكُمَا!

(تعطيه بعض الزهر.)

(٤ / ٤ / ٧٧–١٠٨)

مَن يَقُل مع بوليكسينيس إنَّ «الفن نفسه الطبيعة» لم يَزِد على ترديد فكرة شائعة من أفكار عصر النهضة الأوروبية، ولكنَّ هذه الفكرة لا تُمثِّل ما يُعْتبَر أصيلًا وقويًّا في هذه المناظَرة الوهمية الكوميدية المُتحضِّرة. لا ولا هي سخرية من جانب بوليكسينيس، يَحثُّ فيها العاملين بغرس البساتين بفعل ما يُنكِره على ابنه، أي أن «يُزوِّج دوحة بَرِّيَّة من غصن نبت سامٍ». فالنزاع لا يدور بين الطبيعة والفن، بل بين الجنون السابق لليونتيس والحيوية الشجاعة لابنته التي تُجسِّد مذهبًا طبيعيًّا بطوليًّا يَتجَلَّى في غير هذا المكان من أعمال شيكسبير، وإن لم يَكن ذلك بمثل هذا الشكل النابض بالحيوية والسالب للألباب. لقد اسْتسلَمَت بارانويا الغيرة إلى الخير الفَيَّاض الظافر، وهو الذي يَتَّسم بالإصرار الخاص به إصرار هَوَس ليونتيس. فإن برديتا تُشِبه والدها إلى حدٍّ كبير، ولا شك أن شيكسبير يقصد الإشارة إلى أن طابعها الملكي يَتجلَّى لنا مثلما يَتجلَّى عند بوليدو وكادوال في مسرحية سيمبلين.

ولكن مَذهَبها الطبيعي يَتجاوَز حتى شخصيتها الإنسانية القوية، ويبدو أنه يرمز لشيء عند شيكسبير نفسه. وأعتقد، على عكس ما يرى الكثير من النقاد أن الكاتب المسرحي يُناصِرها أكثر من مناصرته لبولكسينيس؛ إذ إن الأخير ينتمي إلى معسكر بن جونسون أكثر من انتمائه إلى شيكسبير. ويقول جونسون في قصيدته الرائعة التي يقدم بها طبعة الفوليو الأولى لأعمال شيكسبير، ما يفيد أن «الفن نفسه هو الطبيعة» عند شيكسبير، ويُؤكِّد جونسون أن الطبيعة تَعتزُّ بتدابير شيكسبير ولكن «الفن … لا بد أن يَتمتَّع بجانب» من جوانب عظمة شيكسبير. ويتنبأ جونسون بالتوكيد الأكاديمي الحديث لظاهرة التنقيح الذاتي عند شيكسبير، ولكننا نشعر في امتداحه لشيكسبير بوجود حُكم مُضْمَر أشد تمييزًا لمَوقِفه وهو أنَّ مُنافِسَه الذي حقَّق نجاحًا أكبر «يفتقر إلى الفن». لقد أَهْدَى الزَّمن قَصب السَّبْق إلى فن شيكسبير، متفوقًا على بن جونسون، ولكن التَّفرُّد الواضح لشيكسبير يكمن في الانصهار المُدهِش بين الفن والطبيعة في نحو أربع وعشرين مسرحية من مسرحياته التسع والثلاثين. ولا تُبدِي برديتا اهتمامًا بفنٍّ يُعَدِّل الطبيعة أو يُغَيِّرها، بل تهتف مُطالِبةً بطبيعة لم تسقط [أي لم تخرج من الجنة مثل آدم وحواء] بحيث تُمثِّل الفن الخاص بها:

يا بُروزِرْبينا! يا بِنْتَ رَبَّةِ الزِّرَاعَة!
يا مَنْ أَخَافَها هُجُومُ دِيسٍ — رَبِّ مَوْتَانَا — فَأَسْقَطَتْ زُهُورَها
مِنْ حِجْرِهَا علَى مَرْكَبَتِهْ! مِنْ بَيْنِهَا زُهُورُ النَّرْجِسِ الأَصْفَرْ
تِلْكَ التي تَجِيءُ قَبْلَمَا نَرَى تَجَاسُرَ الخُطَّافِ عِنْدَنَا علَى العَوْدَة
وتَأْسِرِينَ بالجَمَالِ كُلَّ رِيح عَاتِيَة … في شَهْرِ مَارِسْ!
مِنْها البَنَفْسَجُ في تَوَاضُعِهِ وإنْ زَادَتْ مَحَاسِنُه علَى
أَجْفَانِ رَبَّةِ الأَرْبابِ جُونو … وفَاقَ عِطْرُهُ
أَنْفَاسَ رَبَّةِ الهَوَى فِينُوسْ! مِنْها زُهُورُ رَبِيعِنَا الحَمْرَاءْ
تِلْكَ التي تَمُوتُ قَبْلَ زَوَاجِهَا وقَبْلَ أنْ تَرْنُو إلى الشَّمْسِ التي
عَلَتْ واشْتَدَّ بَأْسُها! وتِلْكَ عِلَّةٌ تَشِيعُ ما بَيْنَ العَذَارَى!
مِنْها وُرُودُ رَبِيعِنَا الصَّفْرَاءْ … بِكُلِّ تَاجٍ مَلَكِيٍّ! مِنَ الزَّنَابِقِ مِنْ
جَمِيعِ صُنُوفِهَا والسَّوْسَنُ الفَتَّانُ مِنْها! يا لَيْت عِنْدي ما
أُشَكِّلُ بَاقَةً مِنْهُ لِكي أُبَعْثِرَهَا مِرَارًا فَوْقَ صَاحِبيَ الرَّقِيقْ!
(٤ / ٤ / ١١٦–١٢٩)

وأزعم، بما أَتَّسِم به من تَهوُّر، أن برديتا تتكلم بلسان شيكسبير في هذه الفقرة الرائعة. فالمعنى الذي تضمره أنها لو قُدِّر لها أن تكون بروزربينا لما تَعرَّضَت لفقدان رباطة جأشها، وهو الذي أدى إلى أن أصبحَت زهورنا موسمية، أي لو أن بروزربينا كانت تَتحلَّى بشدة المِراس وبأس برديتا، لأمكن تَزامُن الربيع ووقت الحصاد على الدوام. ففي إطار المشاعر الرهيفة النابضة في هذه الفقرة، تتجاوز برديتا دور ابنة ليونتيس، وتُبشِّر بالحساسية الخاصة بالمذهب الطبيعي عند الشاعر الرومانسي جون كيتس:

 [هَذِي] زهور النَّرْجِس الأصفرِ التي
تَجِيء قَبْلَما نرَى تَجاسُر الخُطَّاف عِنْدَنا على العودة
إذْ تَأسِرِين بالجَمَال كل ريح عاتية … في شهر مارس!

فالطبيعة نفسها هي الفن عند برديتا وشيكسبير وكيتس، وهي تَتحدَّانا مثلما تَتحَدَّى فلوريزيل في دعوة برديتا إلى عاشِقها. ويَرُدُّ فلوريزيل على أمنيتها بأن تَنثُر الزهور فوق حبيبها، مستنكرًا ذلك بقوله: «كَمِثْل نَثْر الزَّهْر فوق جسم ميت.» فتجيب برديتا إجابة جسورة قائلة:

لَا بَلْ كَمِثْلِ رَبْوَةٍ يُطَارِحُ الغَرَامَ بَعْضُنَا بَعْضًا عَلَيْها!
لا مِثْلَ جِسْمِ مَيِّتٍ … إلَّا إذَا مَا لَمْ يكُنْ لِلدَّفْنِ
بَلْ لِيَعُودَ حَيًّا نَابِضًا وفي أَحْضَانِي! هَيَّا خُذُوا زُهُورَكُمْ!
(٤ / ٤ / ١٣٠–١٣٢)

وتشعر برديتا بالخَجَل بسبب جسارتها وتَكاد تلوم نفسها بنبرات أسًى قائلة:

لا شَكَّ أنَّ هذَا الثَّوْبَ مِنْ فَوْقي
قَدْ غَيَّر المُيُولَ والمِزَاجَ عِنْدي!

ولكن فلوريزيل يرد عليها بألفاظ باهرة، ينقذها فيها من الحرج، ثم ينطلق لِيُقدِّم أجمل إطراء يقدمه رجل إلى حبيبته عند شيكسبير:

وكُلُّ شَيءٍ تَفْعَلِينَهُ يَفُوقُ سَابِقَهْ! وعندما تُكَلِّمِينَنِي حَبِيبَتِي
وَدِدْتُ لَوْ كَلَّمْتِنِي إلَى الأَبَدْ! فَإِنَّمَا تَنْسَابُ مِنْ شِفَاهِكِ الأَلْحَانُ.
لَيْتَهَا تَنْسَابُ دَائِمًا في البَيْعِ والشِّرَاءِ، في الإحْسَانِ والصَّدَقَة،
وفي الصَّلَاةِ بَلْ في كُلِّ تَنْظِيمٍ لأَحْوَالِكْ.
وإنْ رَقَصْتِ يا حَبِيبَتِي وَدِدْتُ لَوْ أَصْبَحْتِ مَوْجَةً
في البَحْرِ حَتَّى تَرْقُصِي علَى الدَّوَامِ بَلْ لا تَفْعَلِي سِوَاهُ!
أي أنْ تَظَلِّي دَائِمًا تَتَقَدَّمِينَ كالأَمْوَاجِ لا سِوَاهَا!
وكُلُّ شَيءٍ تَفْعَلِينَهُ فَرِيدٌ نَابِهٌ في كُلِّ شَيء
وهكَذَا يُتَوِّجُ الذي قَدْ تَفْعَلِينَهُ في هذهِ اللَّحْظَة
بِحَيْثُ يَغدُو كُلُّ فِعْلٍ تَفْعَلِينَهُ مَلِكَة!
(٤ / ٤ / ١٣٥–١٤٦)
وقد كُتب على النشوة التي يُثيرُها هذا الإعلان المَشبوب للحب أن يلهم شِلِي بكتابة قصيدته الطويلة «إبيسايكيديون» (Epipsychidion) [ومعناها باليونانية «الروح الصغرى»] ولكن تلك الأنشودة الغرامية الرائعة لا تستطيع مُنافَسة الموسيقى المُركَّبة التي يضفيها شيكسبير على فلوريزيل. والشاعر ييتس، في ديوانه قصائد أخيرة، وخصوصًا في مناجاته لهيلين الطروادية في يفوعها، في قصيدة عنوانها «ذبابة طويلة الساقين» [التي تُعالِج حركة الذهن أثناء الصمت]٢ يقترب من الإيقاعات القوية للتَّسبيح بِرشاقة حَرَكة المرأة في أبيات شيكسبير:
وإنْ رَقَصْتِ يا حَبِيبتي وَدِدْتُ لَوْ أَصْبَحْتِ مَوْجَةً
في البَحْرِ حَتَّى تَرْقُصِي علَى الدَّوَامِ بَلْ لا تَفْعَلِي شَيْئًا سِوَاهْ.
أي أنْ تَظَلِّي دَائِمًا تَتَقَدَّمِينَ مِثْلَ مَوْجٍ في مِيَاهْ!

ويقصد شيكسبير أن يُقدِّم لنا الصَّدمة العنيفة عند إدراك التضاد بين الولد وأبيه، عندما يُخاطِب بوليكسينيس برديتا في وقتٍ لاحِق بهذا المشهد مخاطبة وحشية تُذكِّرُنا بضروب القسوة البلاغية عند ليونتيس المخبول:

يَا سَاحِرَةً فَائقَةً شَابَّة! لا شَكَّ بِعِلْمِكِ أنَّ المَأْفُونَ أَمِيرْ!
وَغَدًا سآمُرُ أنْ يُشَوَّهَ حُسْنُكِ البَاهي لِكَيْ
يَزْدَادَ حِطَّةً عَنْ مَوْقِعِكْ!
(إلى فلوريزيل.)
وأَنْتَ أيُّها الغُلَامُ الأَحْمَقُ! لَوْ أَنَّني عَرَفْتُ يَوْمًا مَا
بِأي آهَةٍ تَنِدُّ مِنْكَ بَعْدَ أنْ تُفارِقَ الصَّغِيرَةَ التَّافِهَة
وذَاكَ ما سَأكْفُلُهْ؛ فَسَوْفَ تُحْرَمُ المِيراثَ لِلْعَرْشِ
وسَوْفَ أُنْكِرُ الأُبُوَّة … لا بَلْ وكُلَّ أَلْوَانِ القَرَابَة،
كَأَنَّمَا ابْتَعَدْتَ عَنَّا في الزَّمَانِ أَشَدَّ مِنْ نُوحٍ وطُوفَانِهْ!
فَلْتَنْتَبِهْ لمَا أَقُولُ واتْبَعْنِي إلَى البَلَاطْ.
(إلى الراعي.)
وأَنْتَ أَيُّها الفَلَّاحْ! نُعْفِيكَ مِنْ عُقُوبَةِ الإِعْدَامِ هذِهِ المَرَّة
بِرَغْمِ كُلِّ ما مَلَأْتَنِي بِهِ مِنَ اسْتِيَاءٍ.
(إلى برديتا.)
وأنْتِ يا ذَاتَ الجَمَالِ السَّاحِرِ! لا تَجْدُرِينَ إلَّا بالرُّعَاة!
وَبِالَّذِي — لَوْلَا دِمَاؤُهُ المَلَكِيَّةُ — مَا كَانَ يَجْدُرُ بِكْ!
إذَا فَتَحْتِ بابَ كُوخِكِ الرِّيفي بَعْدَ الآنَ لِلْأَمِيرْ
وكَذَاكَ إنْ طَوَّقْتِ جِسْمَهُ بِهذِهِ الأَحْضَانِ يَوْمًا مَا
دَبَّرْتُ أُسْلُوبًا لمَوْتِكِ فيهِ أَقْصَى قَسْوَةٍ؛
كَيْمَا يُجَارِي طَبْعَكِ الحَسَّاسَ لِلْآلَامِ.
(٤ / ٤ / ٤٢٣–٤٤٢)

وبعد هذا يُصبِح مِن بالِغ الصعوبة أن يحب المرء بوليكسينيس الذي كان لا لون له من قَبلُ، تمامًا مثلما يعجز ليونتيس عجزًا مُطلقًا عن الفوز بحبنا. ووصف حكاية الشتاء بأنها «رومانسة رعوية» وصف شديد الغرابة، بل وتزداد غرابته في حين أن وصفها «بالكوميديا الجروتيسك» أشد ملاءمة. وأقولُ مَرَّة أخرى إن شيكسبير لم يكن يقصد اتِّفَاق ما يكتبه مع المفاهيم الخاصة بالأنواع الأدبية، فطريقته الحقة هي الإسراف والتجوال خارج الحدود، فهو لا يقبل أن يُحبَس في أية تقاليد، أو في أي مشروع فكري.

٥

وتُمثِّل العودة إلى صقلية في الفصل الخامس ذروة حكاية الشتاء، في مشهد التمثال الشهير، حيث يجتمع شمل هرميون وليونتيس وبرديتا. وما دام كل شيء يَتَّسِم بإشكالية كبيرة، يَسُرُّ شيكسبير أن يُذكِّرَنا بأننا نشهد (أو نقرأ) تمثيلًا أكثر من مُسْتعِد لإدراك أنه خياليٌّ وحسب. وتلخص بولينا الأحوال قائلة للأسرة التي الْتَأمَ شَمْلُها، وللجمهور معها: «فلتذهبوا جميعًا/يا فائزون بالثمين الغالي.» لا أحد يخسر في حكاية الشتاء، في النهاية على الأقل، فقد مات ماميليوس حزنًا من مدة طويلة، ولا شك أن أنتيجوس قد الْتَهَمه وهَضَمه هضمًا تامًّا دبٌّ من الدِّبَبة التي تَكثُر على ساحل البحر في بوهيميا. وتُوضِّح لنا بولينا، بلا مِراءٍ، أنها لا تؤمن بالسِّحر، لكنها أيضًا تحرص على إقامة مسافة بيننا وبين الواقعية:

ولَوْ سَمِعْتُمْ قِصَّةَ الرُّجُوعِ لِلْحَيَاةِ رُبَّما ظَنَنْتُمْ أَنَّها
أسْطُورَةٌ، ورُبَّمَا سَخِرْتُمْ وضَحِكْتُمْ! لكِنَّما الحَيَاةُ ظَاهِرَة!
حَتَّى وإِنْ لَمْ تَنْطِقْ! فاصْبِرُوا وانْتَبِهُوا!
(٥ / ٣ / ١١٥–١١٨)

ويقول ليونتيس: «فإن يكن ذلك سِحْرًا فليكن سحرًا حلالًا كالطعام!» ولما كانت هرميون قد كَبرت ستة عشر عامًا؛ فقد بَدَت على بَشرتها بعض الغضون — باعتبارها امرأة وتمثالًا معًا — لكنها باستثناء ذلك لم تَكَد تَتغَيَّر. وأعتقد أننا نُخطِئ في إدراك النغمة الصحيحة حين نجد أن هذا المشهد كهنوتي أو منذر بالسوء، ولكن لِمَ يُصِرُّ شيكسبير إذَنْ على وجود تمثال على الإطلاق، ناهيك بتمثال نَحَته جوليو رومانو؟ وربما أكون النَّاقد الوحيد الذي يرى أن هذا المشهد ليس من روائع حكاية الشتاء بل أراه لُغْزَها الرئيسي، ما دام شيكسبير لا يسخر من نفسه هنا. إنه لا شك «ضربة معلم» مسرحية، فالتماثيل التي تَدبُّ فيها الحياة تنجح على خشبة المسرح. أما أعاجيب حكاية الشتاء ففي غير ذلك: في الغيرة الجنونية عند ليونتيس، وأغاني اللص أوتوليكوس، وقبل كل شيء في اجتماع برديتا وفلوريزيل؛ إذ يستمتع كل منهم بالآخَر في نشوة مُتبادَلة. وهكذا نرى أن شيكسبير في ختام المسرحية يَتعمَّد إلى أقصى حدٍّ أن يلعب دور «الحاوي» أي مَن يَزعُم أنه ساحِر بتقديم الخدع المسلية للجمهور، مدركًا أنها خدع وحسب، وأن يُبيِّن أنه يَستريب بأية عقيدة تقول إن الفن في نفسه هو الطبيعة.

١  يستخدم المؤلِّف مصطلح التصدير هنا (foregrounding) بمعنى إيلاء الصدارة في بداية المسرحية لما سبق أحداثها، أي تبيان خلفيتها (background) وهذا هو ما يقدمه المتحدث هنا، أي إن المتحدث يقدم الخلفية في مستهل المسرحية، بدلًا من تأخيرها على نحو ما يفعل كُتَّاب آخرون.
٢  الصورة التي يرسمها ييتس للذبابة توحي بأنها فَراشة ذات أجنحة دقيقة وأَرجُل طويلة، وليست ذبابة من النوع المألوف لدينا، وهي تخطو فوق الماء كالراقصة، ويشير إليها ييتس في سطرين يصبحان قرارًا أي يَتكرَّران ما بين فقرة وفقرة في القصيدة وهما:
يَمُرُّ ذِهْنُهُ علَى سَطْحِ السُّكُونِ صَامِتًا كَأَنَّهُ فَرَاشَةٌ
تَمُرُّ فَوْقَ مَاءِ جَدْوَلٍ بِسَاقَيْهَا الطَّوِيلَتَيْن. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤