العاصفة
١
وما دام كَالِيبان، على الرغم من أنه لا يتكلم إلا مائة سطر في العاصفة، قد استولى الآن على المسرحية في نظر عدد بالِغ الكثرة من النُّقَّاد فسوف أبدأ به. وتأمُّل حظوظه على خشبة المسرح تاريخيًّا يُقدِّم لنا درسًا ويُعَزِّيني عمَّا أراه لحظة غير مواتية للعاصفة. فقد أَعد الكاتبان دافنانت ودرايدن مسرحية موسيقية عنوانها الجزيرة المَسحورة بناءً على مسرحية شيكسبير، وظَلَّت تُقدَّم على مسارح لندن في الفترة من ١٦٦٧م إلى ١٧٨٧م، ويظهر فيها كَالِيبان في صورة السِّكِّير الذي لَعِبَت الخمر برأسه فلم يُدبِّر مُؤامَرة ضد بروسبرو، وظَلَّت شخصية كَالِيبان الجديدة (التي تُمثِّل مُحاكاة ساخرة أبعد ما تكون عن صورته الحديثة باعتباره ثائرًا نبيلًا) تُعْتَبر لمُدَّة زادَت على قَرْن كامل دورًا رئيسيًّا للكوميديِّينَ الذين يقومون بالغناء. وعندما حَلَّت الحقبة الرومانسية وبَلغَت أَوجَهَا، اختفى التهريج والتَّواثُب والصراخ أخيرًا، وحلَّ مَحلَّه دَورُ «العبد الوحشي الشَّائِه» ذي الكلام اللاذع عند شيكسبير. وكما يُوحِي النص، كان تصوير كَالِيبان لا يزال يَحتفِظ له بطابع المخلوق شبه البرِّمائي، ولكن بعض التَّحوُّلات العجيبة تَلَت ذلك، فقد كان يَظهَر في صورة أحد الحيوانات الرخوية البحرية الذي يمشي على أربع، أو الغوريلا، أو الحَلْقَة المفقودة بين القِرد والإنسان، وأخيرًا (في لندن عام ١٩٥١م) إنسان نياندرتال [أي من العصر الحجري القديم]. وشهدتُ في الستينيات صورة بشعة للمسرحية من إخراج بيتر بروك، ظَللتُ أُحَدِّق فيها ما بين مُصدِّق ومُكَذِّب، مُتطلِّعًا إلى كَالِيبان في صورة إنسان «جاوه»، [نسبة إلى جزيرة جاوه في إندونيسيا] وهو شخص بدائي مُتوَحِّش، قام باغتصاب ميراندا، واستولى على الجزيرة، واحتفل بانتصاره بانتهاك عرض بروسبرو. ومن التقاليد الحديثة الأخرى — التي أصبحت للأسف سائدة — إسناد الدَّور لمُمثِّل أسود، وكان مِن بين مَن شَاهدتُهم في هذا الدور كندالي، وإيرلي هايمان، وجيمز إيرل جونز، في أوائل عهدنا به. وفي عام ١٩٧٠م تَفتَّق ذِهْن المخرج جوناثان ميلر عن جعل المسرحية تقع في عصر بَعْض الغزاة الإسبان؛ مثل: كورتيز وبيزارو [اللَّذَين غَزَوا المكسيك وبعض مناطق أمريكا الجنوبية]، وتصوير كَالِيبان في صورة عامِل زراعي من الهنود الحُمر في أمريكا الجنوبية، وآرييل في صورة عَبدٍ من عبيد الأرض [الأقنان] الهنود المُتعلِّمِين. وكانت غرابة التفسير كافية لجعل المسرحية مُسَلِّية، على العكس من العرض الفظيع الذي أخرجه جورج سي. وولف، ونجح نجاحًا أغاظني؛ إذ جعل كَالِيبان وآرييل من العَبيد السود، يتنافسان في كراهية بروسبرو. ولما كانت طُرز الإخراج قد وصَلَت إلى مرحلة الإرهاق، فربما حمل لنا القرن الحادي والعشرون باحِثِين وهميين يندبون الاستعمار الجديد، لكنني أتصور أن كَالِيبان وآرييل سوف يَكُونان من سُكَّان كوكب آخَر. وربما أصبَحَا فعلًا كذلك.
أيَّة راحةٍ يمكنك أن تنالها من هذا الكابوس، كابوس العُزلة عن الناس وانتظار ما لا يجيء أبدًا؟ أيَّة راحةٍ يمكن أن تَجِدَها في هذا الرَّكْض الجماعي الذي يأتي بدُوار ما فَتِئ يزداد، وعَين تفيض بالعَبَرات، ومسار شارد نحو الأفق الأغبر للرُّؤية التي تَزداد حلكة؟ أيَّة مَعالم على الطريق إلا الأنهار الميتة الأربعة، نهر انعدام الفرح، والنهر الدفَّاق، والنهر الناعي، ومُستنقَع الدموع؟ أي هدف سوى الصخرة السوداء التي تتكسر فوقها العظام؟ ففي صرخة ألمها المبرِّح وحْدَها هل يستطيع وجودك أن يجد معنًى لا لبس فيه ولا غموض، أو يستطيع رفضك بأن تكون ذاتك أن يُصبحَ يأسًا جادًّا، ويصبح الحبُّ عدمًا والخوف كل شيء؟
هذا في المقام الأول ما يقول أودين عن أودين، مُتأثِّرًا تأثُّرًا شديدًا بفلسفة كيركجارد الوجودية، ولكنه يقتنص معضلة كَالِيبان «الحب عدم، والخوف كل شيء.» وفيما بين مُعالَجة كَالِيبان عند جونسون وأودين يأتي براونينج العظيم، في المونولوج الدرامي المدهش «كاليبان يتحدث عن سيتيبوس» حيث نرى المعاناة النفسية الهائلة التي تسبب فيها فَشَل كَالِيبان في أن يتبناه بروسبرو، والتي يُعَبِّر عنها براونينج تعبيرًا يفوق كثيرًا ما سمح به شيكسبير:
وكما هو الحال في قصيدة براونينج كلها، يشير كَالِيبان إلى نفسه بضمير الغائب، باستثناء إشارته في السطر الأخير إلى سيتوبوس بضمير الغائب، وسيتوبوس هو رَبُّ الساحرة سايكوراكس. وأما الوحش البحري ذو الثِّقل الشديد الذي ينتظر اللحظة المناسبة لعض عضته، فما هو إلا ألعوبة يعذبها طفل مريض. فبعد أن يقدم بروسبرو على نبذ كَالِيبان، يظل الأخير في انتظار الفرصة السانحة ولكنه يخاف خوفًا شديدًا، وخائب لا يستطيع العَض. والذي يراه براونينج في كَالِيبان طُفولِيَّته الأساسية، وحساسية ضعيفة رنَّانة لا تستطيع احتمال إخراجه من جنة تَبَنِّي بروسبرو إياه. وأما مُحاولة كَالِيبان اغتصاب ميراندا فقد وجد الباحثون المُعجَبون به في جامعاتنا الحالية مَدْخلًا مُيَسَّرًا لتَبرِئَته، وإن كنتُ أعجب أحيانًا لانضمام الناقدات النِّسْوِيَّات إلى زمرة المُدافِعِين عن كَالِيبان. وفي هذه القضية يجب أن يتفق منظور الجمهور مع منظور ميراندا وبروسبرو، لا مع الفرحة المخبولة عند كَالِيبان الذي يقول إنه لولا أن مُنِعَ لملأ الجزيرة كلها بنسل كَالِيبان. وما دام كَالِيبان نصف إنسان بَرِّي ونصف وحش بحري، فمن المشروع أن ينال قدرًا من التعاطف معه، لا بالتفسير الذي يقول إنه جدير بالإعجاب بصورة ما.
٢
إن كانت أية مسرحية تخلو تقريبًا من الحبكة، فلا بد أن ينصبَّ اهتمام مُؤلِّفها على شيء آخر، ولكن شيكسبير في العاصفة مشغول، فيما يبدو، بما يمكن أن يخطر على بال بروسبرو أكثر من انشغاله ببرود هذه الشخصية الإنسانية المُضادَّة لشخصية فاوست. وآرييل أيضًا شخصية ذات إيحاءات شاسعة أكثر من كونه شخصية ذات حياة باطنة متاحة لنا إلا في لَمَحات عابرة. ويرجع جانب من افتتان كثرة بَالِغة من مُشاهِدي العاصفة وقُرَّائها افتتانًا دائمًا، في عَدَد لا يُحصَى من الثقافات القومية، إلى وضعها ماجوسيًّا موتورًا يَتحوَّل إلى الصفح جنبًا إلى جنب مع روح النار والهواء، ونِصف إنسيٍّ من التراب والماء. ويبدو أن بروسبرو يجسد عنصرًا خامسًا، شبيهًا بعنصر الصوفية، المُنْحَدِرة مثله من الهِرْمِسِيِّين القدماء. فَفنُّ بروسبرو [أي علمه] يتحكم في الطبيعة، على الأقل بمعناها الخارجي. وعلى الرغم من أن فَنَّ بروسبرو ينبغي أن يُعلِّمه التَّحكُّم المُطلق في ذاته، فمن الواضح أنه لم يُحقِّق ذلك، حتى في ختام المسرحية. والنزعة الأفلاطونية عند بروسبرو، في أحسن حالاتها، مُلغِزة، فمعرفة النفس في تقاليد الأفلاطونية الجديدة لا يَتوقَّع أحد أن تُؤدِّي إلى اليأس، ومع ذلك فإن بروسبرو تَستولي عليه في النهاية حالةٌ نفسية حالكة تَتجلَّى لنا خصوصًا في الإبيلوج الختامي الذي يلقيه.
ما الذي كان شيكسبير يُحاوِل تحقيقه لنفسه باعتباره كاتبًا مسرحيًّا، إن لم يكن بالضرورة باعتباره شخصًا، بتأليف العاصفة؟ نستطيع أن نصل إلى نتيجة معقولة تقول إنه لم يَكُن يقصد أن تكون هذه المسرحية عملًا نهائيًّا؛ إذ كان آنَئِذٍ؛ أي في عام ١٦١١م، في السابعة والأربعين وحسب. وكان قد كتب أجزاء كبيرة، على الأقل، من ثلاث مسرحيات أخرى هي هنري الثامن، وكاردينيو المفقودة، والقريبان النبيلان، بالاشتراك — على الأرجح — مع جون فلتشر فيها جميعًا. ولا يُعتَبر بروسبرو ممثلًا لشيكسبير نفسه أكثر مما يُعْتَبر الدكتور فاوستوس صورة شخصية لكريستوفر مارلو. ولكنَّ القُرَّاء والمُشاهدِين الرُّومانسِيِّين كانوا يَشعرون بغير ذلك، وما زال عندي من الرومانسية المتأخِّرة ما يجعلني أتمنى أن أحدس ما دفعهم إلى هذه المغالاة.
تتسم العاصفة بإيجاز يوحي بأنها مسرحية رمزية أكبر مما كتبه شيكسبير، فعلى عكس هاملت، لا يختتم بروسبرو المسرحية قائلًا إن عنده المزيد مما يمكن أن يخبرنا به، ولكنه يكتفي بأن يقول «فليكن» ونحن على صواب حين نشعر أن هاملت كان يمكنه أن يقول لنا شيئًا مهمًّا عمَّا كان يمثله هو نفسه، لو أنه استطاع انتزاع قلب اللُّغز الذي يكتنفه، ولو تَوافَر له من الوقت والرغبة ما يتيح له أن يفعل ذلك. وأما قصة بروسبرو فتبدو قصة بَالِغة الاختلاف عن نفسه: فإذا كان هاملت داخل الحقيقة، فإن بروسبرو يعيش فيما يمكن أن يكون ذهولًا أو على الأقل حيرة شديدة.
ولمَّا لم تَكُن قصة بروسبرو تراجيدية، بل كوميدية على نحو ما، بالمعنى القديم للكوميديا أي النهاية السعيدة (أو الناجحة على الأقل)، فإنه، فيما يبدو، يفقد السُّلطة الروحية حتى وهو يستعيد السُّلطة السياسية. وأنا لا أقول إن بروسبرو يفقد المَهابة التي نُرْجِعُها عمومًا إلى التراجيديا، وإلى هاملت بصفة خاصة، بل أقول إن سُلطة «فاوست الضد» الذي يستطيع أن يبتاع المعرفة بلا تكاليف روحية، تَتخلَّى عنه. وليست مُغادرة الجزيرة المسحورة في ذاتها خسارة لبروسبرو، ولكن كسر عصاه وإغراق كتابه يُمثِّلان بالقطع إقلالًا من منزلة الذات. فإن هذه من رموز السحر الصافي وهي أيضًا دلالات على الحياة في المنفى، وهكذا فإن العودة للوطن حاكمًا لميلانو تبتاع استرجاع ما فَقَده بثمن باهظ. وفي أثناء وداعه لفنه يقول لنا بروسبرو إنه قد نجح حتى في إحياء الموتى، وهو دور تقصره المسيحية على الله وعلى يسوع — عليه السلام. ومعنى أن يصبح دوق ميلانو لا يعني أكثر من أنه أصبح أحد الحكام، ولكن الفن الذي تَخلَّى عنه كان ذا سطوة هائلة إلى الحد الذي يجعل السياسة سخفًا بالقياس إليه.
تنتمي العاصفة إلى آرييل أكثر مما تَنتَمِي إلى كَالِيبان، وتنتمي إلى حدٍّ أكبر إلى بروسبرو. بل إن بروسبرو يصلح عنوانًا أنسب كثيرًا من العاصفة، وهو الذي يجعلني أُناقِش الآن ما يبدو لُغزَ المسرحية الحقيقي. لماذا تثير المسرحية بدهاءٍ شديدٍ قصة فاوست ولكن كي تغير الأسطورة تغييرًا يصعب معه التَّعرُّف عليها؟ تقول المصادر المسيحية إن سايمون ماجوس (في غيبة أي غنوصي) عانى السخرية المتمثلة في كونه ليس «المصطفى» على الإطلاق عندما ذهب إلى روما. وقد حاول هذا «الفاوست» الأول، في مباراة مع المسيحيين، أن يثبت قدرته على الصعود في الهواء لكنه سقط ومات. ومعظم شخصيات فاوست التي صورها الأدباء بعد ذلك يبيعون أنفسهم للشيطان ويدفعون أرواحهم ثمنًا لذلك، والاستثناء الأعظم فاوست الذي صوره جيته؛ إذ إن روحه يحملها إلى السماء ملائكة صغار ذوو أرداف سمينة ينتشى لها إبليس (مفيستو فيليس) بشهوة جنسية مثلية فلا يتبين إلا بعد فَوات الوقت سَرِقَة جائزته المشروعة.
ولكن ما عسى ذلك أن يعني إلا أن كَالِيبان، الذي استبدل ستيفانو بالرَّب سيتيبوس، قد تَحوَّل الآن إلى عبادة بروسبرو؟ ولا يحدث إلا بعد أن تنتهي المسرحية، ويتقدم الممثل الذي كان يقوم بدور بروسبرو أمام ستار الختام، أن نسمع ألفاظًا منه تُذكِّرُنا بالمعاني المسيحية، وإن تكن لا تزال بعيدة بدرجة كافية عن الدين السماوي:
وهذا الكلام مُوجَّه إلى الجمهور الذي يطلب المُمثِّل من أفراده التصفيق:
ممثلًا ومديرًا للفرقة، يَتعرَّض لضغوط، ويُعاني من أعباء العمل المُجهِد، فهو يُؤنِّب الممثلين الكسالى، ويمتدح المُجِيدين منهم بِلُغة الذَّوَّاقة الحصيف، ويبتكر أعمالًا يقوم بها العاطلون، واعيًا على الدوام بالمُهْلَة المحدودة المتاحة قبل بدء العرض، وأعصابُه تتوتَّر منتبهًا لأية سقطات مفاجئة أثناء العرض، وهو يَتطلَّع في شوق إلى التَّقاعُد الهادئ عن عَمَله، لكنه ريثما يَحِين ذلك يجد أن عليه أن يَخرُج ويَسأل الجمهور التصفيق.
إن في هذا الرأي من الجاذبية ما يُكسِبه الدِّقَّة، وربما كان الكاتب، والمدير المسرحي الذي تَنقض ظهره شواغله (والواضح أنَّه أقلَع عن التمثيل قُبَيل كتابة عطيل) قَد أدرك أنه تَقدَّم في السن، ولم يَعُد «صاحب الطبيعة الحرة الصريحة» التي امتدحها بن جونسون. لا تَتضمَّن مسرحية العاصفة، ولا المسرحيات الأخيرة الأخرى لشيكسبير قدرًا كبيرًا من البشاشة، باستثناء دور أوتوليكوس في حكاية الشتاء. وبروسبرو، كما يقول فراي، ليست لديه أيَّة ميول تَعاليَّة، على الرغم من تَعامُله بكثرة مع الأرواح. تُرى ماذا كان بروسبرو يَسعى إليه، إلى جانب الانتقام الذي يَتخلَّى عنه، في دراساته الهِرْمِسِيَّة، وهي التي كان قد بدأها على أية حال في ميلانو قبل أن يقع ما يتطلب منه أن يثأر له؟ كان الهرمسي في عصر النهضة، مثل جوردانو برونو أو الدكتور جون دي، يسعى إلى معرفة الله، وهو مطلب جميع الغُنُوصِيين. وذلك باستثناء بروسبرو؛ إذ لا يُلْمِح لنا لمحة واحدة إلى أن الأسرار الخالدة تَدفَعه لمواصلة العمل. فعلى عكس برونو، لا يُجدِّف بروسبرو، ذلك «الفاوست الضد»، في الدِّين، بل إنه لا يكترث للدين المسيحي السماوي، حتى وهو يدرس حكمة أسرار الوجود التي كان المجوس الآخَرون يُفضِّلونها على المسيحية (لو كانوا، مع برونو، يتجاسرون) أو في معظم الحالات يأملون أن يجعلوها تحقق أغراضًا مسيحية. ومن جديد نجد أننا نعيش في أحجية. هل فن بروسبرو، مثل فن شيكسبير، جمالي لا صوفي؟ إن من شأنه أن يجعل بروسبرو مجرد تضخيم لاستعارة فاشلة، ويكذِّبُ خبرتنا بالمسرحية. فعلى الرغم من أنه ينظم بعض الحفلات، وهو ما يربكه، فإن بروسبرو ليس بن جونسون ولا شيكسبير.
الواضح أن بروسبرو باحث علمي حقيقي، يطلب الحكمة لذاتها، ولكن ذلك يندر أن يكون نشاطًا دراميًّا، وبروسبرو تمثيل درامي ناجح إلى حدٍّ بعيد. ولكن ما الذي يمثله؟ إن سَعْيَه فِكريٌّ، بل ولنا أن نقول إنه عِلميٌّ، على الرغم من أن عَلمَه شخصيٌّ ومُميِّز له مثل علم الدكتور فرويد. وكان الدكتور فرويد عندما يَتحدَّث إلى تلاميذه يحب أن يصف نفسه بأنه من الفاتحين الغُزاة، وهي صفة توحي بطبع بروسبرو، فإن بروسبرو كان، مثل فرويد، من المُصْطَفَين، ومن المحتوم أن يفوز. ولقد ثبت أن انتصار فرويد مشكوك فيه؛ إذ مات جانب كبير منه في القرن العشرين. وبروسبرو يشعر بالجذل عندما يقترب من النصر الشامل، ثم يصبح ذا أسى شديد. لا توجد شخصية عند شيكسبير تُحقِّق مثل هذا النجاح تقريبًا، باستثناء الملك هنري الخامس. والانقلاب الذي يُكابِده ابن فولسطاف لا يحدث إلا في التاريخ، خارج حدود المسرحية، ويفتتح شيكسبير في شَبابِه مسرحية هنري السادس بجنازة الملك هنري الخامس، وبالثورات الفرنسية ضد الإنجليز، وبوادر الحرب الأهلية في إنجلترا. ولا ينتظر بروسبرو عودته لدخول التاريخ، فالخسارة التي يواجهها، ولو أنها ساخرة، تكاد تكون مباشرة، حتى على الرغم من أن أعداءه الذين صفح عنهم، ومن بينهم كَالِيبان، يعترفون بسلطته وسيادته، الزمنية والصوفية. والزواج الملكي بين ميراندا وأمير نابولي سوف يوحِّد البلدين ويحول دون وقوع أية متاعب سياسية من الخارج. ولكن ما القوى الروحية الخفية التي لا يزال بروسبرو يتمتع بها بعد أن كسر عصاه السحرية وأغرق كتابه؟ أظن أن كلمة «كتاب»، اللفظ المفرد، قد قُصد به التضاد مع صيحة فاوستوس «سوف أحرق كتبي» عندما يحمله إبليس [مفيستوفيليس] والشياطين الآخرون ويخرجون به إلى الأبد، فليس لدى فاوست إلا مكتبته، الزاخرة بكتب لكورنيليوس أجريبا والآخرين جميعًا، ولكن بروسبرو لديه ما يقول إنه «كتابي»، أي الكتاب الذي كتبه، والذي كلل به جهوده الطويلة في القراءة والتأمل وممارسة السيطرة على الأرواح. ويوضح هذا جانبًا من الأحجية ويزيد من المرارة من إغراق الفاتح الغازي للعمل الذي قضى فيه عمره. فكأنما تخلص فرويد من كتاب لم ينشر، وكان يمثل النسخة المعتمدة بإلقائها في بحر المكان والزمن.
إن كان يوجد تشابه بين شيكسبير وبروسبرو، فلا بد أن يتمثل في تفوقهما المتبادَل، فشيكسبير هو الأول بين الشعراء كُتَّاب المسرح، وبروسبرو المتفوق بين أصحاب السحر الأبيض، أو الهِرْمِسِيِّين. نعرف أن بن جونسون جمَع أعماله، ومن بينها المسرحيات، ونشرها عام ١٦١٦م، الذي تُوفِّي فيه شيكسبير. ولم يَحدث حتى عام ١٦٢٣م أن قام أصدقاء شيكسبير ورفقاؤه في العمل بإصدار كتابه الخاص في طبعة الفوليو الأولى، حيث طُبِعَت ثماني عشرة مسرحية للمرة الأولى، وعلى رأسها تزهو العاصفة، كما ساعد بن جونسون الذي قَلَّت غيرته وأَحسَّ بالفخر في إنجاز المشروع، وهو الذي أكَّد على أية حال رفضه أن يغرق كتابه. وكان على بروسبرو أن يُقْدِم على هذا العمل الانتحاري، وهو عمل يحتاج إلى إيضاح حتى نرى العاصفة على حقيقتها، أكثر من رؤيتها من خلال الهالة الأسطورية التي أنشأتها.
٣
٤
قد يكون الغياب المتعمد للصور الشعرية في العاصفة الدافع الذي جعل أودين يجعل البحر والمرآة عنوانًا «لتعليقه» عليها. إذ يقول بروسبرو، عند أودين، لآرييل إنه سوف يسلم مكتبته الهِرْمِسِيَّة «إلى الذوبان الصامت في البحر/الذي لا يسيء عمل شيء لأنه لا يرى قيمة لأي شيء.» فالمسرحية التي تبدأ بعاصفة في البحر وتنتهي بوعد بروسبرو «ببحار هادئة ورياح مواتية»، مسرحية تسمح لنا بأن نَتحرَّر من الصور الشعرية، وتلك من المواهب الكثيرة للكوميديا. فنحن ميراندا التي يناشدها أبوها أن «تجلس في هدوء وتُصغي إلى آخِر أحزاننا البحرية». وإذا كان البحر لا يقدر قيمة أي شيء، ويبتلع كل شيء، فإنه أيضًا لا يحتفظ بشيء، ويلفظنا بعدها. وأفضل أنشودة لآرييل، وأشهرها، تحيل عظامنا الغارقة إلى مرجان، وتحيل ما يسميه هارت كرين «أعين صاحبنا المفقودة» إلى لآلئ.
لم تكن القصة الرمزية نوعًا شيكسبيريًّا، ولا أكاد أجد في العاصفة شيئًا منها. وقد أشار و. ب. سي. واطكينز، الناقد الرائع، إلى بعض عناصر من سبنسر في مشهد «الهاربي» الذي يقدمه آربيل وفي الماصك الخاص بالربة كيريس، وليس أيهما مما تسمو به المسرحية. فالعاصفة تثير التكهنات، خصوصًا لأننا نتوقع حكمة خفية عميقة من بروسبرو، على الرغم من عدم تلقينا أيًّا منها. فإن فنه المهيب لا يتناسب مع أغراضه بصورة عبثية، وخصومه مجموعة مؤسفة، ويمكن أن تَهزِمَهم الساحرة سايكوراكس وحدها، من دون حاجة إلى أشد المجوس قوة. وأظن أن التضاد مع المذهب الفاوستي يعتبر من جديد أفضل مفتاح لفهم بروسبرو؛ إذ نادرًا ما يحتمل السحر التمثيل الدرامي، إلا إذا توافر أيضًا عامل ينتقص منه. كان شيكسبير مهتمًّا بكل شيء، ولكن اهتمامه بالحياة الباطنة كان يزيد كثيرًا عن اهتمامه بالسحر. وعندما تَحوَّل فنه القويُّ عن الحياة الباطنة، من بعد الشهور الأربعة عشر الفذة التي ألف فيها الملك لير، ومكبث، وأنطونيو وكليوباترا، بدأ نوع من تفريغ الذات يسود كوريولانوس، وتيمون الأثيني. والتدفق الواضح للأساطير والمعجزات التي يحتفل به الباحثون أَيَّما احتفال في المسرحيات الأخيرة يتسم بتورية ساخرة بل بروح هزلية أكبر مما نراه فيها. فإن سحر بروسبرو ليس دائمًا بديلًا مُقْنِعًا عن ذبول الحياة الباطنة، ويقدم شيكسبير إلينا علامات تدل على أنه كان يدرك هذه المشكلة.
مهما يكن فلن أحبه أكثر من نفسي. أنت من كبار المسئولين، فإذا استطعت أن تأمر الريح والأمواج بالسكون حتى يعود الصفاء، فلن ألمس حبلًا آخر. استعمل سلطتك! أما إذا لم تستطع، فاحمد الله على نجاتك حتى الآن، وتهيأ في حجرتك لأسوأ ما قد يحدث، إذا قدر الله حدوثه! [إلى البحارة] وأنتم يا أحبابي، أسرِعِوا! [إلى الرُّكَّاب] ابتعدوا عن طريقنا أقول!
وما دام بروسبرو، مستعينًا بآرييل وعفاريته الأدنى مرتبة، يتحكم في الطبيعة على الجزيرة وبالقرب منها، فلا يستطيع الجمهور أن يثق قط في حقيقة ما يشاهده. وعندما يقول لنا بروسبرو إن «ربة الحظ الكريمة» قد أتت بأعدائه إلى الشاطئ، لا يسعنا إلا أن نعجب من «وكالة الاستخبارات الكونية» التي تمارس عملها في المسرحية. ودخول آرييل أول مرة «قبل كَالِيبان» لا يزيل أي غموض. إن هذا الروح الجبار كان محبوسًا في شجرة صنوبر، حبسًا فرضته الساحرة سايكوراكس، وكان يمكن أن يظل هناك إن لم يكن قد حَرَّرَه فَنُّ بروسبرو. والواضح أن آرييل لا يملك من الموارد ما يُمكِّنه من حماية نفسه من السحر، فالسحر هنا ذو قوة جبارة تفوق سلطة أي فرد في عالم الملائكة. فالنار والهواء، مثل التراب والماء عند كَالِيبان، تستسلم للعنصر الخامس عند الحكماء الهِرْمِسِيِّين وساحرات شمال إفريقيا. والعلاقة الطريفة من شد وجذب بين بروسبرو وآرييل مضادة لغضبة الكراهية بين بروسبرو وكَالِيبان، ومع ذلك فإن آرييل يتمتع بالحرية في أن يتحاشى إرادة بروسبرو، غير متفوق على كَالِيبان في ذلك. وقبل انتهاء الفصل الأول تنجح تلك الإرادة القوية في تحويل الأمير فرديناند إلى خمود مجمد، وبهذا تثبت أن البشر، مثل الكائنات الخارقة وما وراء الطبيعة، يخضعون لفن بروسبرو.
٥
لا نكاد نُدرك أن العاصفة كوميديا كلما كان بروسبرو على خشبة المسرح. وربما يكون ذلك نتيجة لتقاليدنا في التمثيل والإخراج، وهي التي فشلت في استغلال التناقض بين السُّلطة الخاصة «بفاوست الضد» وبين «الحركات» المخبولة لأعدائه المساكين. ولما كان بروسبرو لا يظهر في الفصل الثاني، فإن الفكاهة اللذيذة تَتبدَّى لنا، حتى في بعض العروض الأيديولوجية الساذجة التي نشهدها حاليًّا باعتبارها عروضًا لمسرحية العاصفة. وتَتَّسِم الحوارات التي يديرها شيكسبير بين الناجين من الغرق والموجودين في الجزيرة ببشاشة دقيقة وحصافة تكاد تخفى:
انزِلي واجْلِسي على التراب أيتها العذراء ابنة بابل، اجلسي على الأرض لا على العَرْش يا ابنة الكلدانيين؛ لأنك لن تُدْعَيْ من بعدُ الناعمة المُتَرفِّهَة.
وينصهر قول إشعياء مع فكر مونتاني في حديث جونزالو التالي عن الدولة المثالية التي يعتزم إنشاءها لو أصبح ملكًا على الجزيرة. والسخرية اللاذعة من جانب سباستيان وأنطونيو من ذلك المستقبل الساحر تهيئاننا لمحاولتهما قتل ألونزو وجونزالو أثناء نومِهما، ولكنَّ تَدَخُّل آرييل ينقذهما، وهي حادثة فيها من الميلودراما أكثر مما يسمح لنا السياق الكوميدي بفهمها فهمًا جادًّا. وتعود الكوميديا في اللقاء بين كَالِيبان وترينكولو، مُضْحِك الملك ألونزو، وأخيه ستيفانو الذي لا يُفِيق من السُّكْر. وأما كَالِيبان المسكين، بطل أحاديثنا الراهنة عن الاستعمار، فإنه يحتفل بالحرية التي نالها أخيرًا من بروسبرو من خلال عبادته ترينكولو واتخاذه ربًّا له.
كاليبان [يغني]:
وتتكاثر تعقيدات شخصية كَالِيبان في الفصل الثالث، حيث تجتمع وحشية ذلك الجبان بالكراهية التي يضمرها لبروسبرو لِتَضَع مشروع اغتيال أثيم:
ويتضاد هذا الشر مع اللذعة الجمالية في استجابة كَالِيبان لموسيقى آرييل الخفية:
أما الذي يجمع بين الفقرتين فهو الطابع الطفولي عند كَالِيبان، فسِنُّه ما زالت صغيرة، وعدم استكمال تعليمه أدَّى إلى صدمة فشل تَبنِّيه. ويدهشنا أن شيكسبير، في ابتكاره ما يُمثِّل نصف الشخصية الإنسانية عند كَالِيبان، يمزج الموقف الطفولي بسذاجة صغر السن. ونحن أفراد الجمهور ننفر من الطابع الطفولي الذي يُصوِّر تَخيُّلات مرعبة مثل كسر جمجمة بروسبرو، أو غرس وتد في بطنه، أو قطع حنجرته بالسكين، لكننا ما نلبث بعد لحظات أن نتأثر إلى حدٍّ بعيد بالمشاعر الرائعة الساذجة الخاصة بالصغار في حلم كَالِيبان الذي يُذكِّرنا بالكاتب تشارلز ديكنز. إذ إن صورة كَالِيبان هنا أبعد ما تكون عن المتمرد البطولي الذي يرغب أصحابنا الأيديولوجيون الجامعيون والمسرحيون أن يمثله كَالِيبان، فما كَالِيبان إلا التمثيل الشيكسبيري للرومانس الأُسَرِي في أشد حالاته استماتة ما دمنا نرى كائنًا يجمع فعلًا بين خصائص البشر وخصائص الجن لا يطيق نبذه واستبعاده.
وهكذا فإن كَالِيبان الذي يعتبر ضحية للنبذ يُعتَبَر حالة إرهاص ساخرة تُمهِّد للشعور بصدمة التشويش التي سوف يفرضها بروسبرو وآرييل على جميع الأمراء والنبلاء الذين ألْقَى البحر بهم على هذه الجزيرة. فإن آرييل يُطارِدُهم متنكرًا في صورة الوحش هاربي [وهو كائن خرافي له وجه امرأة وجذعها وجناحان وأرجل طائر ذواتا مخالب وذيل] حتى يجمعهم في دغل بالقرب من صومعة بروسبرو، في انتظار ما يحكم به عليهم. ويعلن المجوسي أولًا الاحتفال بخطبة ميراندا إلى فرديناند، بعرض ماصك وهو الذي تمثله الأرواح تنفيذًا لأمره. ويبدو لي هذا العرض أضعف جانب من جوانب العاصفة من الزاوية الشعرية، وأظن أنه يمثل في بعض أجزائه محاكاة ساخرة مُتعمَّدة لعروض الماصك التي كان بن جونسون يؤلفها لبلاط الملك جيمز الأول في الوقت الذي كان شيكسبير يكتب فيه هذه المسرحية. وأهم من هذا العرض كثيرًا أسلوب فضه بصورة غير مُتوقَّعة؛ إذ يَتعرَّض بروسبرو بَغتة للامتحان الحاسم لِفَنِّه، فهو يَهبُّ فجأة ليتكلم وما إن ينطق حتى يختفي الماصك:
يندر أن نجد «حركة» مسرحية تماثل هذه «الحركة» حتى عند شيكسبير. فالواقع أن بروسبرو ظل متوترًا طيلة المسرحية، في انتظار قدوم اللحظة الملائمة، شاغلًا نفسه بالجانب «الاستعراضي» من فنه، ناشدًا فيه الاطمئنان، حتى كاد أن يهلك وكل ما لديه. ويميل النقاد إلى الاستخفاف بقلق بروسبرو هنا، والتشكيك في ضرورته، كأنما كانوا يمثلون فرديناند الذي وجد ذلك «غريبًا». وترد ميراندا عليهم قائلة إنها لم تشهد والدها قبل اليوم غاضبًا هذا الغضب الشديد ومبديًا هذا الكرب. والواقع أن غضبه غير مقصور على «كاليبان الوحش»، ابنه المُتَبَنَّى المنبوذ، بل إنه غاضب من نفسه بسبب عدم انتباهه، أي بسبب عجزه عن السيطرة على وعيه، بحيث أحس بأن تفانيه في الانضباط الصارم الذي تقتضيه المعارف الهِرْمِسِيَّة طوال عمره لم ينجح إلا بشق الأنفس، وبأن شيئًا ما قد تَغيَّر إلى الأبد في ثقته بنفسه.
ولم يَتَّضِح لي قط السبب الذي يجعل النقاد يَرَون في هذا الموقف لغزًا، فإن شيكسبير يَبتكِر سيكولوجية المغالاة في التمهيد للحدث، وهو ما يُعانيه مُعظَمنا. ويخطر على بالي هنا «الفارس رولاند» عند براونينج، أحد ورثة شيكسبير؛ إذ يصل فجأة إلى البرج المظلم ويلوم نفسه قائلًا: «مُغفَّل!/وأبْلَه وذاهل في اللحظة المنشودة/من بعد أن قضيتُ عمري في دراسة المشهد!» وتعتمد سيادة بروسبرو على وعيٍ مدربٍ تدريبًا صارمًا، ولا بد ألا يلين قط. ولحظة «الفوات» في نظره تزيد عن كونها إشارة إلى الخطر، وتقدم لنا حديثه الذي يعتبر أشد ما نذكره له، الذي يوجهه إلى فرديناند الذي سيصبح زوج ابنته، ووارثًا لعرش نابولي وميلانو معًا:
وما دام بروسبرو وآرييل يسهل عليهما إلى حدٍّ ما طرد كَالِيبان، وستيفانو، وترينكولو الذين يَفِرُّون أمام كلاب من العفاريت، فإننا نتساءل ما عسى آرييل أن يفعل لو لم يستشط بروسبرو غضبًا. فلم يحدث مرة واحدة في المسرحية أن فعل آرييل شيئًا من دون أمر خاص من بروسبرو وإذن فربما كان الخطر من مؤامرة كَالِيبان أقرب للواقع مما يقول به كثير من النقاد. ونحن نشعر بوجود جَوٍّ مُعيَّن من الراحة في لغة بروسبرو عندما يخاطب آرييل، مفتتحًا الفصل الخامس، بعد أن اقتربت الذروة:
وبعد أن يصدر بروسبرو الأمر إلى آرييل بإطلاق سراح ملك نابولي وغيره من العظماء، يصل إلى ذروة تضاده مع فاوست في خطاب تَنازُل رائع، رغم أنه يطرح من الأسئلة الجديدة أكثر مما يُقدِّم من إجابات:
إن القوة الشِّعْرية للعاصفة، وربما أيضًا لشيكسبير، تَمَسُّ حدًّا من حدود الفن في هذا الكينوسيس؛ أي الإخلاء أو التفريغ الظاهر لربوبية بروسبرو البشرية، وأنا أقول «الظاهر» لأن القُوى غير المُقدَّسة عند المجوسي تتجاوز أي شيء كان يمكن أن نتوَقَّعه، ونحن نتساءل إن كان ذلك الإعلان يستطيع فعلًا تحطيم طبيعته المكتسبة، وهو في ذاته فن. والأرواح التي طُرِدَت يُستهان بها باعتبارها «ضعيفة» وعلينا أن نسأل متى وكيف أحيا بروسبرو الموتى؟ لو توافر له الفن لأصبح أكبر كثيرًا من الوصف بالقوة، وتسميته «السحر الفظ» تسمية لا تمثل حقيقته على الإطلاق. وما الكتاب الذي سوف يغرقه من بين عَدَد الكتب في مكتبة بروسبرو، أم أن هذا يختلف عن مخطوطه الخاص؟
وتوحي الألفاظ التي يستعملها بروسبرو للتعبير عن التَّنحِّي بأنها توكيد شديد للسُّلطة أكثر مما توحي للسامع بأنه يَتخلَّى عن الفاعلية، ولا يقول بروسبرو كلامًا يفصله عن شيكسبير أكثر مما تفصله هذه الألفاظ؛ أي إننا لا نستمع إلى شاعر يكتب المسرح بل إلى ساحِر عَجيب بلغ من استيعابه لفنه أنه لا يستطيع التَّخلِّي عنه، على الرغم من إصراره على أنه سوف ينبذه. وسوف يَستمِرُّ المشهد الواحد الذي يستغرق الفصل الخامس كله لنحو ٢٥٠ سطرًا آخَر، ولا تَتعرَّض سُلطة بروسبرو في غُضون ذلك لأي انتقاصٍ منها. ولماذا يمتنع أنطونيو وسباستيان، اللذان لا يُبدِيان أية توبة على الإطلاق، عن القيام بأي إجراء ضد بروسبرو ما دام قد فَقَد القدرة على إصدار أوامره للأرواح؟ وعندما يقول بروسبرو لسباستيان وأنطونيو إنه يعرف مؤامراتهما ضد الملك ألونزو لكنه «في هذه اللحظة/لن أشي بشيء» لماذا لم يَفْتِكَا به في تلك اللحظة؟ كل ما يقوله سباستيان جانبًا هو «الشيطان تكلم بلسانه!» والحق أن منظور الوغدين يقول إن الشيطان يسكن بروسبرو، الذي يُخيفهما ويرعبهما. وقد يحاول بروسبرو مرة أخرى التَّخلِّي عن فنه، ولكنه لا يتضح لنا قط أن سُلطته الخارقة سوف تَتخلَّى عنه يومًا ما. وأما شَجنُه العميق في ختام المسرحية فلا يجوز ربطه بتنحيه المفترض عن السلطة.
ومُعظَم الذي نسمعه فيما بقي من العاصفة ينحصر في الاحتفال واستعادة ما ضاع وبعض المُصالحة، بل وفي بعض لمحات تفيد بأن بروسبرو وكَالِيبان سوف يصلحان من علاقتهما الفظيعة، ولكن مسائل كثيرة تظل في عداد الألغاز. ونحن لا نعرف إن كان كَالِيبان سوف يُسْمَح له بالبقاء في الجزيرة، أم أنه سوف يصحب بروسبرو إلى «بلدي ميلانو/حيث أتهيأ في فكري وقلبي لملاقاة الموت»، إن تَصوُّر وجود كَالِيبان في إيطاليا شبه مستحيل، والذي لا يكاد يُقْبَل هو وجود أنطونيو في ميلانو، ووجود سباستيان في نابولي، والمفترَض أن زواج فرديناند وميراندا سوف يحمي نابوليو وميلانو من المُغتصِبِين، ولكن مَن يدري؟! فمن بعض الزوايا تبدو عودة بروسبرو إلى حُكم ميلانو مُستقبَلًا مقلقًا مثل مواصلة كَالِيبان تعليمه في تلك المدينة. ويقول لنا جونزالو في حديث رائع إن فرديناند:
وجونزالو يشمل في حديثه أكثر مما يقصده، فدوقية بروسبرو الحقة ستظل دائمًا تلك الجزيرة الفقيرة «إذ لا يملك أحد فيها ذاته»، ما دام كل شيء ينتمي لبروسبرو، ولا يملك فيها نفسه إلا هو. كيف يستطيع المجوسي، مَهْما تَكُن قُواه التي بقيت له، أن يجد ذاته، هو نفسه، في ميلانو؟