الفصل الرابع والثلاثون
هنري الثامن
كُلَّما أعدتُ قراءة مسرحية هنري الثامن غدوتُ أشكُّ في صحة الفرضية التي تقول إن
جانبًا كبيرًا منها يمكن أن تُنْسَب كتابته إلى جون فلتشر. وعلى الرغم من أن محاسنها
تزداد إذا اعتبرناها أقرب إلى القصيدة الدرامية منها إلى المسرحية، فإن هنري الثامن
تتمتع فيما يبدو بوحدة متماسكة، ولا يوحي بأسلوب جون فلتشر غير لمسات قليلة. وتُعْتَبر
هنري الثامن تجربة في رسم المَناظر المسرحية الباهرة، وتقدم أدوارًا عظمى — مثل وولزي،
وكاثرين، وهنري — لا شخصيات مسرحية، ويرجع سِحْرُها الرئيسي (على الأقل بالنسبة لي) إلى
انفصال شيكسبير عن جميع الأبطال، وهم الذين لا يثيرون اهتمامه إلا حين يَبدءون الانحدار
والأفول (مثل بكنجهام، ووولزي، وكاثرين، وإلى حدٍّ بعيد كرانمر) ولكنهم يثيرون في
الشاعر وفينا قدرًا كبيرًا من التعاطف.
وأحجية المسرحية تنحصر في الملك، الذي يختلف عن الصورة التي رسمها له هولباين (ت.
١٥٤٣م) وقام بدوره تشارلز لوتون (ت. ١٩٦٢م)، والذي يظل غامضًا على الدوام. إذ إن
شيكسبير، بما أُثر عنه من حذر سياسي، يتجنب أدنى إيحاء بأن هنري يتحمل أي ذنب عندما
يسقط من يحبهم، وإن كان الكاتب المسرحي يُحْجِم عن تبرئة الملك تبرئة تامة. بل إن
المُواجَهة بين الكاثوليك والبروتستانت لا يُسْمَع لها صوتٌ إلى الحد الذي يبدو فيه
شيكسبير غير منحاز إلى أحد الطَّرفَين. وتَتميَّز المسرحية بفصاحة ذات جرس حزين، على
الرغم من أنها تقصد أن تختتم بنزعة وطنية احتفالية عندما يتنبأ كرانمر بالحكم المَجيد
للملكة إليزابيث التي وُلِدَت لتوِّها. وعلى الجمهور أن يتأمل كيف لحقت الملكة آن بولين
بكرومويل وبتوماس مور (الذي تقول المسرحية إنه حل محل وولزي) إذ قُطِعَت رءوس الثلاثة،
وكيف عفا هنري عن كرانمر آنذاك ثم حُرِقَ حيًّا في وقت لاحق. ولا يوجد في المسرحية شخص
وهبه شيكسبير أية حياة باطنة، فالجميع صور للحَسَب والنَّسب وذوو أصوات جميلة، وهو كل
ما أراد شيكسبير لهم أن يكونوا. وينفرد الملك وحده بأنه ليس صورة تتكلم، وأما إن كان
يزيد على ذلك أو ينقص فالحكم عليه عسير بسبب مراوغة شيكسبير. والواقع أن هنري الذي يكاد
يَتمتَّع بسُلطة مُطلَقة، يفلت من المسئولية عن الشرور التي باركها عند وولزي، وارتكبها
ضد بكنجهام وكاثرين. والمؤلِّف لا يُقدِّم إلينا حتى منظورات مُتضارِبة للملك، فهو
يفتقر إلى الاتساق البشع الذي كان يمكن أن يُثير اهتمامنا، وللمُخرِج والممثل أن يفعلا
أي شيء يُريدانه بدور الملك، فكل عرض مسرحي شاهدتُه لم يَتخلَّ عن نمط صورة هولباين
وأداء لوتون، على الرغم من أن النص لا يكاد يتضمن ما يبرره.
لماذا كتب شيكسبير هنري الثامن؟ والعنوان الذي
يَتردَّد وهو الكل صحيح يمكن تفسيره بطرائق شتَّى، وليس أي منها مُقْنعًا إلى حدٍّ
كبير، فالبعض صحيح والبعض غير صحيح، وربما كان شيكسبير يُدرِك ذلك. وتمثيل الملك غير
مرجح، وإن يكن غير قائم تقريبًا. فإن هنري في البداية ليس ذكيًّا على الإطلاق؛ إذ يخدعه
وولزي، ولا ينتبه للخداع إلا حينما يخطئ الكاردينال الذي يَشْغَل منصب كبير أمناء القصر
الملكي، وهو الخبيث الطَّوِيَّة، فيفشي أسراره في مُراسلاته. وينقذ هنري الذي تَغيَّر
كرانمر في وقت مُتأخِّر في المسرحية، ولكننا لا نعرف شيئًا عمَّا أدَّى إلى تحسين حُكْم
المَلِك عليه. بل ولا نعرف حتى إن كان هنري قد نبذ كاثرين بسبب مزاجه الذي لا يرتوي قط،
وإن يكن من غير المقبول اعتبار وولزي مسئولًا عن ذلك. وشيكسبير يَقبَل كل شيء. «فكل شيء
صحيح» عبارة تُترْجَم إلى: لا تصدر أحكامًا خلقية، فليس ذلك مأمونًا ولا مفيدًا، بل
أبصر هذا المشهد الجليل الرائع، واستمع إلى أنغام الرثاء الحزينة، وشارك في الحنين إلى
المجد الذي تمثله إليزابيث.
وتُعتبَر مسرحية هنري الثامن تراتيل موكبية، ونكوصًا إلى المسرح قبل عهد شيكسبير،
فإن
شيكسبير الذي أرهَقَتْه عبقريته يَهْدِم هنا معظم ما ابتكره. فلسنا فوق خشبة المسرح في
هنري الثامن، إلا إذا كان أحدنا يعتقد أنه هبط من ذروة العظمة. فالمسرحية قصيدة درامية
عن وداع الأشياء الآفلة، وهي مُخصَّصة للعرض الباهر، وربما كانت هِتاف وداعٍ (على الرغم
من أن «النبيلان القريبان» لشيكسبير وفلتشر تلتها).
وفي غضون امتداح رَسِلْ فريزر لشيكسبير لأنه «أحكم صوغ أَنْبَل بلاغة صِيغَت على
الإطلاق باللغة الإنجليزية»، يشير بسخرية مريرة إلى أن أبطال هنري الثامن «يرقصون على
النغمة نفسها عندما تحل بهم آخر نوبة من نوبات العظمة». فأثناء الانهيار يَتَّسِم كل
فرد بالنبل حقًّا في هذه المسرحية، «فالمتميزون» عند شيكسبير قد ذهبوا. وكان الدكتور
جونسون يرى أن «عبقرية شيكسبير تأتي وترحل مع كاثرين» وهو حُكم يدهشني؛ إذ إنَّ النوبات
الأخيرة عند بكنجهام ووولزي تُشبِه كلمات النَّعي من فم كاثرين، ومع ذلك فإن الدكتور
جونسون ذلك الأخلاقي العظيم، يقول إنه تأثَّر «بالأحزان الوديعة والأشجان الفاضلة»
للملكة المنبوذة، وليس بكنجهام وديعًا ولا وولزي فاضلًا. فهذه القصيدة الدرامية مالَتْ
إلى أحد جانبي جونسون الذي كان يُفضِّل كورديليا على جميع بطلات شيكسبير. ومع ذلك فإن
هنري الثامن، لو اقتصرنا على النظر في شِعْرها، جديرة بتقديرٍ جَماليٍّ أكثر مما
حَظِيَت به. فهذه المسرحية، مثل النبيلان القريبان،
تمثل أسلوبًا جديدًا وأصيلًا، وهو أسلوب يتجاوز الصور المسرحية التي تُنْشِدُهَا. ونحن
نسمع أول ذروة له عندما يذهب بكنجهام حيث «يهوى النصل الفولاذي الصارم على رقبتي»
ويقارن مصيره بمصير والده الذي قُتِلَ بأمر أصدره ريتشارد الثالث، يقول بكنجهام:
عندما قدمتُ إلى هنا كنتُ دوق بكنجهام ورئيس جهاز الشرطة
أما الآن فأنا إدوارد بوون — فرد لا حول له ولا طول!
ومع ذلك فأنا أَغْنَى نفسًا من الحقراء الذين رموني بالتُّهَم
والذين لم يُدرِكوا يومًا معنى الصدق
إنني أضعُ خاتَم الدم عليه، وسوف أجعلهم بهذا الدم
يَصرُخون ذات يوم ألمًا وندمًا!
كان والِدِي النَّبيل هو هنري دوق بكنجهام
الذي كان أول مَن عارَض ريتشارد المُغتصِب.
ولما أَحْدَق به الخطر طَلَب الغوث من خادمه بانيستر،
ولكن ذلك الوغد خانه ووشى به،
فكان مَصيرُه الإعدام دون محاكمة! عليه رحمة الله!
ولذلك فلمَّا تولى هنري السابع حُكْم المملكة
أحزنه مصير أبي وفَعَل ما يفعله كل أمير شريف؛
إذ رَدَّ لي شرفي ومنزلتي.
ومن بين الأطلال أعاد بناء اسمى النبيل الشامخ،
وها هو ابنه هنري الثامن يُجَرِّدني بضربة واحدة
من الحياة والشَّرف والألقاب وسعادة الدنيا كلها!
ولكنَّني قد مَثلتُ للمحاكَمة على أي حال
وهي مُحاكَمة قانونية لا شك جعلتني أسعد حالًا
من أبي المسكين، وإن كانَا كِلانَا قد لَقِي نفس المصير؛
إذ إنَّ كُلًّا منا قد راح ضحية خدمه،
وضَحِيَّة للرجال الذين أحْبَبْناهم حبًّا جمًّا،
فيا لها من خِدمة خَئُون تُنافي الطبيعة،
لكن للسماء حكمة في ذلك!
ولذلك فإنني أقول لكم قولًا ثابتًا
يا من تستمعون إليَّ الآن وأنا على شفا الموت
حَذارِ ممن تُحِبُّونهم كل الحب وتُسِرُّون إليهم بأسراركم
لا تُسرِفوا في الحب وتُقْبِلُوا عليهم دون رَوِيَّة
فالذين تَتَّخِذُونهم أصدقاء وتُقدِّمُون لهم أفئدتكم
سوف يَخذلُونكم عندما يُدْبِر الحَظُّ عنكم
ويفلتون كالماء لا تنضم عليه الأصابع!
ولن يعودوا إليكم إلا حين يريدون القضاء عليكم.
أرجو من جميع الأخيار أن يرفعوا الدعوات لي
فلقد آنَ أوان رحيلي، وحانَتِ الساعة الأخيرة
في هذه الحياة المريرة الطويلة! وداعًا!
وإذا أردتُم يومًا ما أن تَذكُروا ما يُثِير الأشجان
فاذكروا هذه النهاية التي انتهيتُ إليها!
لقدِ انتهيتُ حقًّا ولَيْشَملْني الله بعفوه ومغفرته.
وانشغال شيكسبير الذي يبلغ حد الهوس بخيانة أحد الأصدقاء يبدو بالِغ
القوة في هذا الحديث، وهو ما يُذكِّرنا بالموقف في السونيتات، وبخطاب ممثل دور الملك
عن
تَناقُض إرادة الإنسان مع أقداره في هاملت، كما توجد صلة أيضًا بالمرثية الجنائزية ﻟ
«وِلْ بيتر»، وهي التي كُتِبَت مُباشَرة قبل كتابة هنري الثامن، حيث نجد التعبير اللاذع
عن المرارة التي يحسها الشاعر إزاء ما يتعرض له من مفتريات، إلى جانب عدة تعبيرات
تَستَبِق حسرات المسرحية. ربما كان شيكسبير نفسه يحس بأنه «أسعد قليلًا من والده
التَّعِس». ونحن لا نعرف على وجه اليقين، كما أنَّنا لَسْنا واثقين من أن وحش الثرثرة
الصارخ قد افتأتَ على الشاعر فيما يَتعلَّق ﺑ «ول بيتر»، ربما في علاقة مثل تلك التي
تُعَبِّر السونيتات عنها. إننا نسمع موسيقى روحية في الشكاوى «الرسمية» في هنري الثامن
وهي التي تحمل لحنًا باطنًا من الشجن الشخصي، على الأقل فيما تَسمعُه أذني. والخطب
العصماء التي يلقيها وولزي عن الفُقْدَان تكاد تَبدو أعظم مما يصدر عن هذا الشخص
المرتشي، وجرس الألفاظ الرَّنَّانة يُلْمِح مرة أخرى إلى الحزن الخاص، يقول
وولزي:
وكذا وداعًا للخير القليل الذي تُكِنُّونَه لي!
وداعٌ؟ بل وداعٌ طويل لجميع أطراف العظَمة!
هذا هو حال الإنسان! ينشر في يومه أوراق الأمل الغضة
على أغصان حياته، ويشهد في غده البراعم وهي تتفتح،
وزهرات المَجْد وهي تزهو بألوان المَجْد الكثيفة من حوله،
ولكن الصَّقِيع القاتل يَنقضُّ عليها في اليوم الثالث!
وعندما يقول واثقًا، وهو يَتقلَّب في أعطاف النعيم،
إن ثمار عَظمَتِه أَوشكَت على النضج،
يرى الصقيع وقد نَخَر جذورها
والشجرة تهوي ساقطة مثلما أسقط الآن!
لقد نزلتُ البحر سابحًا مثل الصِّبْية اللاهين
بعَوَّامات من القِرَب المنفوخة
وَظللتُ في بحر المَجْد صيفًا من بَعْد صيف
حتى ابتعدتُ عن شاطئ الأمان ووصلتُ لمنطقة أعمق من طاقتي!
وهنا انفجَرتْ عوَّامة كبريائي المُنتفِخة، وتَركَتْني خائر القوى،
مُنهَكًا من طول الخدمة، وتحت رحمة بحر هائجٍ مُتلاطِم،
لا بد أن يبتلعني آخِرَ الأمر إلى الأبد.
أيَّتُها الأُبَّهة الزائفة! يا مجدَ الدنيا الخاوي!
لكم أُبْغِضُك الآن! أشعر أن قلبي يَتفتَّح الآن من جديد!
ما أتعس حياة الإنسان المسكين الذي يَعتمِد على حظوة الأمراء!
وفيما بين الابتسامة التي نُحاول أن نحظى
بها من الأمير، ومَخايِل الرِّضا على مُحيَّاه،
وبين إسقاطنا وإهلاكنا، ألوانٌ من الألم والفَزَع
لا تَعْرِف الحروب ولا النساء! وعندما يَهْوِي الواحد منا
فإنه يَسقط سقوط إبليس؛ إذ يفقد الأمل إلى الأبد!
وليس من الممكن للسامع أو القارئ أن يُحِب وولزي، فهو كاهن وَضِيع
النَّفْس ويَستحِقُّ أي شيء يمكن أن يناله من الفَضْح والإذلال. وهنا أيضًا، كما نرى
في
المرثية الجنائزية، يبدو لحْنُ العار قريبًا وعميقًا. هل الأمير هنا ليس حقًّا هنري
الثامن بل هنري ريوثيزلي، لورد ساوثامتون الثالث؟ وعلى الرغم من أن السؤال لا إجابة له،
فله فائدة نقدية، وإنِ اقتصرَتِ الفائدة على أن الشعر الذي يُصوِّر سقوط وولزي بالِغ
الفخامة ويزيد عَمَّا يَستحِقُّه مثل هذا الدَّوْر الحقير. ولا تَكمُن المشكلة في شُرور
وولزي بل في صَغاره. فليس هذا ياجو أو مَكبث بل رجل إدارة مُنحرِف وحسب، النمط التقليدي
لرجل السياسة. لا يستطيع وولزي أن يَسقُط مثل لوسيفر (إبليس) فليس كوكب الصبح الذي
يَهوِي إلى الهَلاك. ومع ذلك فإنَّ المَوارد المُدهِشَة لأسلوب شيكسبير في أسْمَى درجات
نُضجِه يَستدعيها الشاعر لصوغ ترنيمة حول مَتاعِب مُجرَّد منافق. والمشهد المسرحي
الخَلَّاب يقوم بوظيفة المَشهد الخَلَّاب من الزاوية التجارية، ومن حق أقوى أُسلُوب في
اللغة أن يُضفِي ثراءه وبريقه على ما يشاء. وهكذا نرى وولزي وهو يُخاطِب مساعده
كرومويل، ويَحثُّ هذا الخادم المُخلِص على تَركِه، بنبرات لا تَليقُ على الإطلاق بما
يَقتضِيه سقوطُ أي سياسي، يقول وولزي:
كَفْكِفْ دُموعَك ودموعي!
أَنصِت إلى ما سوف أقوله يا كرومويل:
غدًا سيطويني النِّسْيان، وأَرقُد في ضريح من الرُّخام البارد
الصَّلْد
ولن يَتردَّد اسمي على لسانِ أحدٍ، بل ستُمْنَع الألسنةُ من ذِكْرِه!
وعندها اذْكُر أنَّنِي عَلَّمتُك درسًا مفيدًا! قُل إنَّ وولزي
عَلَّمَني!
ذاك الَّذي وَطِئتْ أقدامُه سُبُل المَجْدِ، وسَبَر جميعَ الأغوار،
ورأى حِيتانَ الشَّرف سابِحةً قبل أن تَتحطَّم سفينَتُه!
قل إنَّه رسَم لك طريقًا تَبلُغ به مَراتب العُلا
طريقًا مُؤكَّدًا آمنًا! وإن كان مُعلِمُّك نفسه
لم يُفلِح في انتهاجه! ما عليك إلا أن تتأمَّل سقوطي
والأسباب التي هَوتْ بي من حالق!
إني آمُرُك يا كرومويل أن تَطرَح الطموح والطمع!
فهذه هي الخطيئة التي أَحالَت بعض الملائكة إلى شياطين!
فكيفَ يَستطيع الإنسان، الذي خُلِقَ في صُورَة بارئِه،
أن يرجو الفَلاح بفضلها؟ ضَعْ حُبَّ نَفسِك
في المَرتَبة الأخيرة، وأَضمِر الإعزاز للقلوب التي تَكرهُك!
ولا يفوزُ الخبيث بأكثر مِمَّا يفوزُ به الطَّيِّب
واحمل في يَدِك اليمنى دومًا غُصْن الزَّيتُون الرقيق
فهو قادِر على إخراس أَلسِنَة الحُسَّاد.
كُن مُنصِفًا ولا تَخشَ أحدًا! ولْتَكُنْ جميعُ الغايات التي
تَرمِي إليها هي صَالح بِلادك وذِكْر ربك وإحقاق الحق.
فإذا هويتَ يا كرومويل هويتَ كما يَهْوِي الشهداءُ الأبرار!
أَخلِصِ الخِدْمة للمَلِك، وأرجو أن تَصْحبَنِي
إلى حيثُ أُسلمُكَ قائمة بجميع ما أَملِكُ حتى آخَر بِنْس،
فقد أصبحَتْ من حَقِّ المَلِك. لم يَعُدْ لي غيرُ ثَوبي
وصفاءُ طَوِيَّتي لله! هذا كل ما أَجرُؤ على ادِّعاء مِلْكِيَّتِي له!
أواه يا كرومويل! يا كرومويل العزيز!
لو أنَّني عبدتُ الله الذي خلقني بنصف الإخلاص والحماس
الذي خدمتُ به المَلِك، لما تَخلَّى عني في شيخوختي
دُونَ دِرعٍ يَحميني من أعدائي.
هذه فَصاحة فوق الفصاحة، وهي رِفْعة لا تنطبق بالقطع على شيكسبير نفسه،
الذي لم تَكُن طموحاته الدنيوية تتجاوَز تَجديدَ دِرع النَّبالة الخاصِّ بانتمائه إلى
السَّادة، وتأمين دَخْل يَكفُل له حياة الرَّخاء عند عودته إلى ستراتفورد. بل ولم يَكُن
الحماس الرَّبَّاني يناسب شيكسبير، على الرغم من وجود خليط عجيب من الورع والتقوى
باعتبارهما دِرْع المؤمن وشُكوك متناثرة حول البَعْث في الرِّثاء الجنائزي لوليم بيتر.
لَربَّما شَعر الكاتب المسرحي بأنه أصبح «عاريًا أمام أعدائه» في الفترة ١٦١٢-١٦١٣م،
ما
دامت هذه هي الهالة الخاصة بالرثاء الجنائزي، ولكن إذا كان لهؤلاء الأعداء وجود على
الإطلاق، فإننا لا نعرف، مرة أخرى، من كانوا. ربما كان شيكسبير، عندما اقترب من عيد
ميلاده الخمسين، يعاني من مرض جسدي أو من صدمة نفسية إلى حدٍّ ما، بسبب المُفترَيات
المُوجَّهة إليه، أو من هذا وذاك معًا. ونحن نذكر أنه، على عكس مارلو أو بن جونسون، كان
دائمًا ما يَحمِل في يده اليمنى «غصن الزيتون الرقيق/القادر على إخراس أَلْسِنة
الحُسَّاد». والمرء لا يحتاج إلى أن يكون الدكتور صمويل جونسون الصالح والعظيم حتى
يَتأثَّر تأثرًا عميقًا بآخِر كلمات الملكة كاثرين:
عندما أموتُ أيَّتُها الفتاة الكريمة
فاعْمَلي على تكريمي في الممات، وانْثُري فوق جسدي
زهورًا نَضِرَة بيضاء حتى يَعرِف العالَم كله
أنني كنتُ زوجةً طاهرة حتى دخلتُ القبر!
وبعد الحَنُوط أرجو أن يُسَجَّى جسدي
حتى بعد فَقْد المُلْك، بِما يَدلُّ على أنني كنتُ مَلكة
وابنةَ مَلِك، وبعدها أُدْفَن في قبري
لم أَعُد أَقْوى على قول المزيد.
ومع ذلك فإن هذه السطور هي التي تُؤثِّر فِينَا، فالمسكينة كاثرين في
حال من الضَّعف لا تَسمح لها بالحفاظ على هذا التوافق الخفيض النبرات، ولنا أن نتساءل
من جديد عمَّا أوحى لشيكسبير بذلك. ومن المُفارَقات أنه وصل إلى حالة كانت الدراما التي
كان قد انفصل عنها لا تزال تُذكي طاقاته، بينما كان الحزن الصادق في الرثاء الجنائزي
قد
أوحى بقصيدة تتكرر فيها الأقوال المُبتَذَلة (وإن لم يكن ذلك دائمًا) إلى الحد الذي جعل
كثيرًا من الباحثين يرفضون نسبتها إليه باعتبارها دون مستواه.
لا أستطيع حل أحجية هنري الثامن ويصعب عليَّ أن أستجيب إلى الجَذَل الشديد،
والنَّشْوة البالِغة في نبوءة كرانمر الختامية بشأن الرضيعة إليزابيث. لقد تُوفِّي
شيكسبير في الثانية والخمسين، ولم يَشعُر قط بالشيخوخة. ومع ذلك فإن أسلوب الشَّيخُوخة
يُهَيمِن على هنري الثامن. ونَحن نَعرِف أن فولسطاف، أحد الناطقين باسم شيكسبير — وربما
إلى درجة أكبر في هذا الصدد من هاملت — كان يَرفُض الاعتراف بِسِنِّه، وهو يُثير
ضَحِكات أكثرَ بُطولِيَّة بسبب ذلك. ولكن الدنيا تَبدُو كأنَّما بلغت من العمر عتيًّا
في هنري الثامن وفي المَشاهد التي كَتبَها شيكسبير في مسرحية النَّبِيلان القريبان.
وبفضل دهاء شيكسبير الغريب، كان يعرف نهاية حِقبَته، أو أي اسم آخَر نختار إطلاقه على
ذلك الزمن. أي إن هنري الثامن مرثية لإنجاز شيكسبير في تَنبِيه العالَم من خلال الدراما
الشعرية، وهي تودع واعية أعلى طاقات الكاتب المسرحي.