الفصل الخامس والثلاثون
النبيلان القريبان
يَكْمُن تَفوُّق شيكسبير، في آخِر المطاف، في طاقَتِه التي لا تُجارَى على التفكير،
وما دام هذا تفكيرًا شِعْريًّا، وعادة ذا طابع درامي، فنحن نميل إلى اعتباره رسمًا
للصور لا إقامة للحجج. ولكن شيكسبير المُبتَكِر يَدفعُنا من هذه الزاوية إلى الحيرة.
فإنَّ شَكْل تمثيله للفكر، وللفعل أيضًا، أكبر شَكْل نعرفه، فهل نستطيع حقًّا تمييز
تفكيره عن الصور التي تُمثِّل تفكيره؟ فهل المُفكِّر شيكسبير أم هاملت، هذا الذي يفكر
لا أكثر مما ينبغي بل أفضل من كل تفكير آخَر؟ إن هاملت هو ياجو الخاص به، مثلما هو
فولسطاف الخاص به؛ لأن شيكسبير قد جعل هاملت أكبر شخص يَتمتَّع بحريته بين «الفَنَّانين
الأحرار في ذواتهم» إذا اسْتعَرْنا عبارة هيجيل. ويَرجِع تَفوُّق هاملت على فحول
الشعراء جميعًا إلى أنه، حتى بالمقارَنة بدانتي أو تشوسر، يَتمتَّع بأقصى درجة من
الحرية في تشكيل فَنَّاني الذات الأحرار، وإظهار هذه الحرية. وكان نيتشه يُوحِي بأن
هاملت الديونيسي أصابته الحقيقة بالفناء، ونظن أن ذلك كان بعد هَجْر الفن. والواقع أن
هاملت في الفصل الخامس ليس بالقطع الشاعر الدرامي والمُخْرِج الذي كانه في الفصلين
الثاني والثالث، ويسمح شيكسبير للأمير المحتضر أن يُلْمِح إلى أن لديه نوعًا جديدًا من
المعرفة لم يُصبِح بعدُ متاحًا لنا. ومثل هذه المعرفة لا بد أن تأتي من تفكير مُختلِف
بدأ بالتَّغيُّر الذي أصاب هاملت في رحلته البحرية، أثناء سفره الذي لم ينجح إلى
إنجلترا. والدليل الوحيد الذي نملكه على الاختلافات التي طرأت على تفكير شيكسبير الخاص
يقوم على ما نراه من أن أعظم مسرحياته أدَّتْ إلى تغييرات «بحرية» في مُؤلِّفها. فإن
خبرة تأليف هاملت، والملك لير، ومكبث، وأنطونيو وكليوباترا، وحكاية الشتاء، والعاصفة
تركَتْ آثارًا نستطيع رؤيتها في عمله الأخير، النبيلان
القريبان، وتَدلُّ على وجود شيكسبير جديد، كاتِب يختار أن يهجر الكتابة
بعد أن لَمَس حدود الفن. وربما حدود الفكر أيضًا، وتَخطَّاها.
في حدود ما نعرف، تُمثِّل الأجزاء الشيكسبيرية من النبيلان
القريبان (١٦١٣م) الكتابة النهائية من أي نوع لمؤلِّف هاملت والملك لير.
ولم أشهد في حياتي عرضًا ﻟ «النبيلان القريبان» إلا وشعرتُ بأنني لا أريد ذلك بصفة
خاصة؛ لأن مساهمات شيكسبير في المسرحية لا تكاد تُعتَبر درامية. ويختلف نُقَّاد
النبيلان القريبان بصفة عامة، لكنَّني أرى أن
أسلوب شيكسبير في هذه المسرحية أبرعُ وأدقُّ مما سبق، وإن يكن استيعابه بالِغ الصعوبة.
وأغراضُه هنا ملغزة إلى حدٍّ بعيد؛ إذ يَتخلَّى عن انشغاله طول عمره بالشخصية الأدبية
والشخصية الإنسانية ويُقدِّم رؤية للحياة الإنسانية أكثر حلكة وبُعدًا أو غُربة عَمَّا
سبق له تقديمه. فإن نصيب شيكسبير في المسرحية القائم على المشاهدة الخَلَّابة، أو
الطقوس، أو الاحتفالات أو غير ذلك مما يحلو لك أن تُطلِق عليه، يَتمثَّل في شِعْر
مُدهِش حتى بالقياس إلى المُؤلِّف نفسه، ولكنه شِعْر بالِغ الصعوبة، لا يكادُ يُلائِم
المسرح. وهو مُضاد تضادًّا غريبًا مع بقية المسرحية، التي كتَبها فلتشر، ربما فيما
يُعْتَبر حالة التعاون الثالثة بينهما. ولما كانت كاردينيو التي اشتركَا في تأليفها
مَفقودة، وكان إسهام فلتشر في كتابة هنري الثامن قليلًا نسبيًّا أو حتى مُنعدمًا، فإن
النبيلان القريبان تُمثِّل مشروع مشاركتهما
المُؤكَّد الوحيد. وقد أدرج زملاء شيكسبير الذين حَرَّرُوا طبعة الفوليو الأولى، هنري
الثامن ضمن أعمال شيكسبير، لا هذه المسرحية الأخيرة، وبذلك كانوا يُسَلِّمُون بأنها من
تأليف فلتشر (الذي كان يُعْتبَر المؤلِّفَ المسرحي المقيم خَلَفًا لشيكسبير). ويَتَّفِق
مُعظَم الباحثين اليوم على أن شيكسبير كتب الفصل الأول، والمشهد الأول من الفصل الثالث،
والفصل الخامس (باستثناء المشهد الثاني). فالواضح إذن أن ثلاثة أخماس المسرحية من تأليف
فلتشر، وهي أجزاء ذات حيوية وإن تكن بلهاء إلى حدٍّ ما. وأما خُمْسَا المسرحية اللذان
كتبهما شيكسبير فيتسمان بالرَّزانة والعُمق، وربما يُقدِّمَان مدخلًا أيسر إلى حياة
شيكسبير الباطنة مما نجده في سيمبلين، وحكاية الشتاء، والعاصفة.
وتُعتَبر الأجزاء الشيكسبيرية في النبيلان القريبان
أقرب إلى الطابع الغنائي منها إلى الطابع الدرامي، ولا تكاد تَتضمَّن أي حدث، ويهبط
تصوير الشخصية فيها إلى أدنى مستوياته. لكننا نسمع صوتًا لا يكاد يشبه ما نسمعه في هنري
الثامن «بأسلوب الشيخوخة» إذ كان شيكسبير في التاسعة والأربعين لكنه مُصاب بالمَلل من
العواطف المَشبوبة الكبرى ومن ضروب معاناة «الأرواح العظيمة في الأصفاد» على نحو وصف
تشيسترتون. وكان بروسبو، الشخصية المضادة لفاوست عند شيكسبير، آخِر روح عظيمة
يُصوِّرها. فأما ثيسيوس الذي يكاد يصبح بديلًا عن شيكسبير بحلول نهاية النبيلان القريبان، فلا يزيد في ذاته عن كونه صوتًا وحسب،
وهو صوتٌ مختلف إلى حدٍّ بعيد عن صوت ثيسيوس الذي نسمعه في حلم
ليلة صيف، فإن ثيسيوس الأول كان أدنى منزلةً من هيبوليتا، وأما هذا
الأخير فهو مُعادِل لها على الأقل. إنه آخِر شاعر يرسم شيكسبيرُ صورتَه، وربما كان
يَتجَلَّى فيه ما أتَصوَّر أنه لا بد أن يُوصَف بأنه التقاعد المُرهِق والعسير للكاتب
المسرحي. ويبدو أن شيكسبير قد عاد إلى موطنه مرة أخرى، في ستراتفورد، في أواخر عام
١٦١٠م أو أوائل ١٦١١م، ثم دأَب على العودة بصورة مُتقطِّعة إلى لندن حتى وقت مُعيَّن
في
١٦١٣م. وبعد ذلك لم يُغادِر ستراتفورد، في الأعوام الثلاثة التالية تقريبًا التي سبقَتْ
وفاته، من دون أن يكتب شيئًا. وساد الصَّمتُ بعدها، ولكن ما سبب ذلك؟
ليس أمامنا إلا التَّكهُّنات، وأظن أن أفضل مفاتيحنا مُتاحة في النبيلان القريبان. ويُعْتبَر هَجْر شيكسبير لِفَنِّه أمرًا فريدًا
تقريبًا في تاريخ الأدب الغربي، بل ولا أستطيع أن أذكر مؤلِّفًا موسيقيًّا عظيمًا، أو
رسامًا عظيمًا اعتزل فَنَّه بصورة مُماثِلة. نعرف أن تولستوي أقلَع عن عمله الحقيقي
فترة ما، وجعل يكتب كتابات دينية، لكنه ما لبث أن عاد عودة باهرة في النهاية بكتابة
روايته القصيرة الحاج مراد، ونحن نعرف مِن الشعراء مَن كان ينبغي أن يَتوقَّفوا لكنهم
لم يَتوقَّفوا؛ مثل: وردزورث بعد عام ١٨٠٧م، وويتمان بعد ١٨٦٥م اللذين كَتبَا شعرًا
ضعيفًا بل بالِغ الضَّعف في الواقع. وتوفي موليير في سن الخمسين بعد أن كَتب مسرحية
المَريض بِالْوَهم وأخرَجها للمسرح بالتمثيل فيها. ومن المُحتمَل أن شيكسبير أقلعَ عن
التمثيل في وقت مُبكِّر، قُل في عام ١٦٠٤م مثلًا، ما دام قد استقَر آنذاك في ستراتفورد.
وليس في طَوقِنا إلا أن نحدس إن كان قد أشرف على تقديم العاصفة عام ١٦١١م، أو إن كان
حاضرًا عند احتراق مسرح الجلوب أثناء عرض هنري الثامن يوم ٢٩ يونيو ١٦١٣م. ويحدس
كُتَّاب سيرته بعض أنشطته العائلية والمالية في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته،
ولكنهم لا يساعدوننا على التَّكهُّن بأسباب اختياره التَّوقُّف بعد ربع قرن من الكتابة
للمسرح. ويكرر رسل فريزر، كاتب سيرة شيكسبير المُفضَّل عندي، تكرارًا ملتويًا ما
تَخيَّله ثيودور سبنسر من أن وفدًا من أعضاء الفِرقة المَلكية زاروا صَديقهم القديم
وأقْنَعوه بِتَرْك الكتابة لِجُون فلتشر الذي أصبح بحلول عام ١٦١٣م يُمثِّل الطراز
المَطلوب أكثر من شيكسبير الذي عَفَى عليه الزمن. بل إنني أستطيع أن أتَخيَّل الممثلين
الذين أصيبوا بقدر كبير من الحيرة والإحباط حين اطلعوا على الخُطَب التي قدَّمَها لهم
شيكسبير في النبيلان القريبان، ولكنهم كانوا يعرفون
أيضًا أن فلتشر لم يكن يزيد عن بُقْعة من الحبر بالقياس إلى شيكسبير، الذي كان نجاحُه
الهائل مصدر ثراءٍ لهم أيضًا.
وقد اتَّجَه هذا الشاعر المُؤمِن بالتجريب وذو الخِصْب اللامتناهي، في جهده الأخير،
إلى تَجاوُز الرومانس أو التراجيكوميديا وابتداع طراز جديد غريب، أقامه على أسس تشوسر،
أصدق مَن أرهَص بمَقْدِمه، والذي لا يزال منافسه الحقيقي الوحيد باللغة الإنجليزية.
وهكذا عاد شيكسبير إلى حكاية الفارس عند تشوسر، التي كان قد استعان بها في كتابة
حلم ليلة صيف، لكنه تناولها هذه المرة تناولًا
مباشرًا، ويقول تشسترتون، الذي أدرك بذكاء علاقة تشوسر بشيكسبير، ما يلي عن حكاية
الفارس:
لا يذهب تشوسر نفسه إلى السجن مع بالامون وأرسايت، مثلما يذهب شيكسبير، من
زاوية مُعيَّنة إلى السجن مع ريتشارد الثاني. كَلَّا! فإن شيكسبير يبدو من
زاوية خَفِيَّة مُحدَّدة، وإلى حدٍّ ما، يُماهِي بين ذاته وبين هاملت الذي كان
يرى أن الدنمارك سجن أو أنَّ العالَم كله سجن. فنحن لا نجد هذا الإحساس
بالأشياء التي تُطبِق على النفس وتَحصُرها عند تشوسر، في تراجيدياته البسيطة،
بل ويكاد المرء أن يصفها بتراجيديات الشَّمس المشرقة. ففي دنياه لا تزيد حالات
سوء الحظ عن كونها حالات سوء حظ كالغمام في السماء، ولكن السماء موجودة.
ولكن شيكسبير، عندما وصل إلى مرحلة النبيلان
القريبان، لم يَعُد يَعنيه أن يذهب إلى السجن (أو أي مكان آخَر) مع
بالامون وآرسايت، والمسرحية (أو نصيب شيكسبير فيها) غمام كلها بلا سماء. وإذا كان
شيكسبير قد بنى شخصية ثيسيوس في حلم ليلة صيف على
أساس صورة الفارس عند تشوسر أكثر من استلهامه صورة ثيسيوس عند تشوسر، فإن ثيسيوس في
النبيلان القريبان شخصية قاسية طوال المسرحية حتى يصل إلى الخاتمة؛ إذ يبدو تَحَوُّله
إلى شخص يُشبِه شيسكبير نفسه. فالواقَع أن الفارس عند تشوسر وثيسيوس القديم عند شيكسبير
يُؤمِنان بمذهب الشَّك في تقاليد الفرسان، وأما ثيسيوس الأخير فيمكن أن يُوصَف بأنه
عدمي غاشم، وإن يكن يَتظاهَر بالحفاظ على السمات الخارجية للفروسية. والجو الأخلاقي
لقصيدة تشوسر يُجَسِّده أحد مُزدَوجات الفارس، الذي يقول:
خيرٌ لِلْمَرْءِ تَحَلِّيهِ بهُدُوءِ البَالِ الأَمْثَلْ
إذْ دَوْمًا يَدْفَعُ للنَّاسِ كَثِيرًا مِمَّا لَمْ يَتَحمَّلْ.
(It is ful fair a man to bare himself
evene,
For alday meeteth men at unset
stevene).
ويشرح صديقي القديم طولبوت دونالدوسون، المتخصص العظيم في تشوسر، هذين
السطرين قائلًا إن المقصود: «من الخير للمرء أن يسلك سلوكًا يتسم برباطة الجأش، فالمرء
دائمًا ما يفي بوعود لم يسبق أن قطعها على نفسه.»
وليس هذا بالقطع موقف ثيسيوس في السطور الأخيرة من النبيلان
القريبان، وهي في حدود ما نعرف آخِر سطور من الشعر الجاد الذي كتبه
شيكسبير في حياته:
… يا سَاحِرَاتِنَا السَّمَاوِيَّة:
ما أَعْجَبَ الذي صَنَعْتُمُوهُ هَا هُنَا بِنَا!
إذْ إنَّ ما يَنْقُصُنَا يُضْحِكُنَا، وما لَدَيْنَا مَصْدَرٌ
لِبُؤْسِنَا
وهَكذَا نَظَلُّ كالأَطْفَالِ مِنْ نَوْعٍ مُعَيَّنٍ.
فَلْنَغْتَبِطْ بِكُلِّ ما يَكُونُ حَاضِرًا
ولْنَتْرُكِ النِّزَاعَ حَوْلَ كُلِّ ما يُجَاوِزُ السُّؤَالْ
ولْنَنْطَلِقْ ولْنَكْتَسِبْ مَلَامِحَ الزَّمَانْ.
١
وسوف أعود إلى هذه الفقرة في ختام هذا الفصل، ولكنْ دَعْنِي أذكر أن
السطر الأخير يَتضمَّن عبارة «ولنكتسب ملامح الزمان» التي تَعنِي ما يقصده تشوسر بدفع
المرء كثيرًا مما لم يَسبِق أن تَحَمَّل «أو الوفاء بعهود لم يقطعها على نفسه» من دون
الإشارة إلى رَباطة الجأش «أو هدوء البال»، وهو ما يعني الانحراف عن مَرمى تشوسر.
فالشاعر تشوسر يكتب الهجاء بنبرات بشوشة، ويُقيم التَّوريات الساخرة ببسمات مُشرِقة،
وأما التَّوريات الساخرة في النبيلان القريبان فهي
وَحْشِيَّة، كما سوف نرى. وقد يَتصوَّر المرء أن شيكسبير قد لمس أقصى حدود المرارة في
طرويلوس وكريسيدا، وفي دقة
بدقة، ولكنه يُوسِّع من هذه الحدود في مسرحيته الأخيرة. إن مارس ربَّ
الحرب، وفينوس رَبَّة الحب يحكمان النبيلان القريبان،
ومن الصَّعب أن نُقَرِّر مَن منهما يَتفوَّق على الآخَر في فظاعته، أو حقًّا إن كانت
المسئولية البرجماتية تُتيح لنا التمييز بينهما. كانت عبارة «ادعوا لِلحُبِّ لا للحرب!»
عبارة شائعة في الستينيات، ولكنها تصبح خاوية إلى أقصى حدٍّ في القريبان النبيلان؛ إذ إن شيكسبير، وقد بلغ التاسعة والأربعين يُبعثِر
العنف المُنظَّم، وأرباب الحب في فوضى من المُحال أن تَخضَع للانضباط.
كان عمل شيكسبير، من زاوية المزاج ورُؤى الواقع، من نحو عام ١٥٨٨م حتى الليلة الثانية
عشرة في عام ١٦٠١م، تشوسري في أعماقه. فالكاتب المسرحي الذي أَبْدَع المسرحيات المشكل،
والتراجيديات الرفيعة، والرومانسات الأخيرة، كان لا يزال يكشف عن فضل تشوسر عليه،
ولكنَّ لجوءه الأخير إلى أعظم مَن أرهص بقدومه، يُلْمِح لنا بوجود شيكسبير ثالث
هَجَرَته روح البشاشة حتى في التَّورية الساخرة. لو كان لديه مسرح يكتب له، فربما كان
شيكسبير قد تَركَ لنا ثلاث مسرحيات أو أربعًا أخرى، لكنه كان يُحِسُّ بوضوح أن أي مسرح
لن يَقْبَل — أو لن يقدر — أن يُقدِّمها، ولنا أن نَتشكَّك في أن صيته الدَّاوي نفسه
كان سيجد آنئذٍ مسرحًا لعدمية تَفُوق عدمية النبيلان
القريبان، حتى ولو كان ذلك الديجور ممكنًا. إن حكاية الفارس عند تشوسر
تَتحاشَى هُوَّة العدمية، على الرغم من إيحاءاتها الحالكة بما يكفي، وأهمها أن النزوع
الهوائي المحض يحكم الحياة.
إن بَطلَي تشوسر، بالامون وآرسايت، شَقيقان تَعاهَدا على الحب، ويُؤمِنان بمثالية
الفروسية حتى شاهدَا ذات يوم إيميلي ذات الفتنة الطاغية، أخت هيبوليتا التي غدَت زوجة
ثيسيوس دوق أثينا. ومنذ تلك اللحظة المصيرية، لحظة الوقوع في الحب، يُصبِحان خَصمَين
متنافسين، وقد اعتزم كل منهما أن يقضي على الآخَر، بحيث يفوز الناجي منهما بإيميلي.
ويعلن ثيسيوس عن إقامة مباراة هائلة للفصل في الأمر، يفوز فيها آرسايت فوزًا ساخرًا إذ
إنه يسقط من جواده أثناء احتفاله بالنَّصر ويُصاب بجرح قاتل. ويحظى بالامون بالفتاة،
ويُلقِي ثيسيوس خُطبة يُؤكِّد فيها أن كل هذا كان الإله قد كَتَبه وقدره.
ولكن ثيسيوس لا يَتكلَّم بلسان الفارس الذي يروي الحكاية، ولا يَتكلَّم الفارس بلسان
الشاعر تشوسر، على الرغم من دقة الاختلافات بين الثلاثة. أما الفارس فيرى أن الحب حدَث
عارِض، وأن الحياة كلها عوارض، بما في ذلك انهدام الصداقة بين بالامون وآرسايت.
ويُفسِّر الناقد طولبوت دونالدسون ما يقوله تشوسر بأن المعنى المُضْمَر أن المُصادَفة
الخالصة تحكم كل شيء، بما في ذلك الحب والموت، وهو ما يَهدِم مُعظم حجة ثيسيوس في تبرير
العدالة الإلهية (theodicy) بل يؤكد صحة القبول
الرِّواقي عند الفارس للوفاء بالعهود التي يقطعها المرء على نفسه. ولما كان بالامون
وآرسايت لا يكاد يتميز أحدهما عن الآخر، في حين أن إيميلي المسكينة سلبية، فربما لم
يكترث القارئ كثيرًا لولا ما يورده تشوسر من إشارات منفية خفية. ويُصلِّي بالامون
وآرسايت وإيميلي في معابد فينوس، ومارس، وديانا على الترتيب، وجميعها معابد ألَم، حافلة
بالصور الممثلة للضحايا وقَهْر الآخَرِين. والفارس يَصِف هذا كله بصدر مُنشَرِح وفَم
بَاسِم، ولكننا نَجْفل منها، والواضح أن تشوسر يقصد أن نشعر بالبشاعة.
ويشير طولبوت دونالدسون إشارة مُلتوية تقول إنه «إذا كان تشوسر يَنسِب هذه الأهوال
في
معظمها إلى الأرباب العُلَى، فإن شيكسبير يُرجِعُها إلى حيث ابتدأت، أي في قلوب البشر.»
وإذا طَبَّقْنا هذا على النبيلان القريبان وَجَدْنا
أنه يقصر عن وصف الواقع؛ إذ إن إيروس، رب الحب، هو الرُّعْب الحقيقي، فهو المرض الأقصى
الذي لا ينتهي، والعامل العالمي الذي يصيب الرجال والنساء من جميع الأعمار، بِمجرَّد
أن
يَتجاوزُوا الطفولة، ويُكابدوا أشجان الحياة الجنسية. والواقع أن شيكسبير في الأجزاء
التي كتبها من النبيلان القريبان قد يجعلنا نستريب في
أن الحياة ليست سوى أشجان. إذ يستهل الفصل الأول بثلاث ملكات نادبات، يُلْقِين أنفسهن
على أقدام ثيسيوس، وهيبوليتا، وإيميليا على الترتيب. وهذه النساء بملابس الحِدَاد
السوداء أرملات لثلاثة ملوك من بين الأبطال السبعة [الذين صَوَّرَهم أيسخولوس في
مسرحيته سبعة ضد طيبة] والذين تحيط جثامينهم العفنة بأسوار المدينة التي يحكمها كريون؛
إذ يرفض هذا الطاغية أن يسمح بدفنهم. وتوسلات الملكات الناعيات ذات طابع طقسي، وتتسم
بالشكل الباروكي [أي الزخرفي الهائل] في تقديم تفاصيل القضية:
نحنُ ثَلَاثٌ مِنْ مَلِكَاتٍ سَقَطَ الزَّوْجُ لِكُلِّ مِنَّا
إذْ ثارَ الغَضَبُ الجَائِحُ عند القَاسِي كِرْيُونْ!
قَدْ كَابَد كُلٌّ مِنْهُمْ مِنْقَارَ الطَّيْرِ الجَارِحِ وبَرَاثِنَ
حِدَآتِ الجَوِّ ونَقْرِ الغِرْبَانِ بكلِّ حُقُولٍ خَبُثَتْ في
طِيبَة!
لا يَرْضَى أنْ نُحْرِقَ جُثَثَ المَوْتَى كي نَضَعَ بآنِيةٍ كُلَّ رَمَادٍ
كَانُوهْ!
لا يَقْبَلُ أنْ نَنْزِعَ عَنْ نَظَرِ الشَّمْسِ القُدْسِيَّةِ
وبِعَيْنٍ
جِدِّ مُبَارَكَةٍ إِثْمَ إِشَاعَةِ رَائِحَةِ عَفَنْ
يَنْشُرُ مَقْتًا لِلْبَشَرِ الفَانِي! بَلْ دَأَبَ علَى
تَلْوِيثِ الأَنْسَامِ بِرَائِحَةِ المُنْتِنِ بِجَثَامِينِ بُعُولَتِنَا
القَتْلَى.
أشْفِقْ يا دُوقُ عَلَيْنَا! يا مَنْ طَهَّرْتَ المَعْمُورَة!
سُلَّ حُسَامًا يَخْشاهُ الخَلْقُ لِتَصْنَعَ مَعْرُوفًا في
الدُّنْيَا!
هَبْنَا أَعْظُمَ أقْيَالٍ قُتِلُوا حَتَّى نَدْفِنَهُمْ
بِمَعَابِدِهِمْ
وبِمَا أُوتِيتَ مِنَ الخَيْرِ المَمْدُودِ بَلَا أي حُدُودْ
لاحِظ أنَّ رُءُوسَ المَلْكَاتِ بلا تَاجٍ بلْ لا سَقْفَ لَهَا
لا بَيْتَ لَهَا إلا مَثْوًى بِعَرِينِ اللَّيْثِ وكَهْفِ الدُّبِّ
وسَماءٍ هي سَقْفُ جَمِيعِ الأَشْيَاءْ!
يستطيع المرء أن يصب صُلب هذا الاسترحام في أسطر تَقِلُّ عشرة أسطر،
ولكن أسلوب صوغها أهم، فالتَّدفُّق والثراء لا في الحزن بل في الإحساس بالغضب
مُهَيْمِن. والاستهجان هو النَّغمة البلاغية التي تسود النهج الأخير عند شيكسبير؛ إذ
تَحْمِل مُعظم الأصوات عبء التَّعبير عن إحساسها بالضيق الشديد: بسبب الظلم، أو تَصاريف
الزمن، أو الحب، أو الموت. وكان توماس دي كوينسي، الناقد الرومانسي المُتمَتِّع بأعظم
ذائقة بلاغية، يقول إن الفصلين الأول والخامس من
النبيلان
القريبان «أعظم عمل باللغة الإنجليزية» ويمتدح شيكسبير مُثنيًا على
«أسلوبه الممتاز الذي يزهو بتفاصيله». ما الدَّوافع الشعرية إلى حشد هذه التفاصيل بهذا
الأسلوب الفذِّ؟ إن ثيودور سبنسر يُحاوِل تفسير الحيرة التي أحسَّ بها في هذه
«الإيقاعات البطيئة»، وهذه «الرشاقة الشكلية»، بِتصوُّر وجود تأثير كورالي، مُنفصَل عن
الحدث:
لا يمكن أن يفوتنا إدراك وُجود طابع ترنيمي ونَغَمي ونِظام مُعَيَّن في
الأجزاء التي كتَبَها شيكسبير من النبيلان
القريبان، فالترنيم إيقاع يَقبَل الوهم، والطابع النَّغَمي
يَنْسى التراجيديا، والنظام المشار إليه يَعني الانصهار في الأطراف خالقًا
وَحدةً أكبر من القبول والدهشة.
يبدو لي أن سبنسر، الذي كانت أشعاره الغنائية تُحاكي أشعار ييتس، يَصِف هنا أواخر
أشعار ييتس لا أواخر شِعر شيكسبير. فليس الوهم ولا القبول ولا الدَّهشة مادة أو أسلوبًا
في النبيلان القريبان. فأسلوب الشيخوخة يناسب ييتس
مُؤلِّف قصائد ومسرحيات أخيرة وتوماس هاردي مؤلِّف كلمات شتوية، أو ستيفنز مؤلِّف
الصخرة، لا شيكسبير في هذه المسرحية الأخيرة. فإذا كان أعظم الشعراء قد سَئِم العاطفة
المشبوبة، فقد انفصل أيضًا عن العدة الكاملة الهائلة من الأساليب التي كان قد ابتكرها
من قبل. فالحذف — أي الإيجاز بالحذف (ellipsis) — يصبح
شكلًا بلاغيًّا مُفضَّلًا لديه، وهو ما يثير الحيرة في هذا الأسلوب الباروكي إلى حدٍّ
بعيد، أي إن الاتكاء على التفاصيل مع الحذف طريقة غريبة في الكتابة، ومع ذلك فهي
مُلائِمة تمامًا لهذه المسرحية التي تُعالِج الرَّغْبة المُدمِّرة والصَّداقة
المُنَظَّمة. ويرد ثيسيوس على ترنيمة الملكة الأولى بأن يَتذكَّر اليوم الذي انقضى
دَهْرٌ عليه، يوم زفافها إلى كابانيوس القتيل:
كمْ كُنْتِ في ذَاكَ الزَّمَانِ جَمِيلَة
ولمْ يكُنْ وِشَاحُ جُونُو رَبَّةِ البَنَاتِ أَبْهَى
مِنْ جَمَالِ الشَّعْرِ في كُلِّ جَدِيلَة.
كلَّا ولَا زَهَا بِوَفْرَةٍ تَفُوقُ هذِهِ الخُصْلَاتْ
فَحِنْطَةُ الإكْلِيلِ فيكِ لمْ تَمَسَّها يَدٌ لِدَارِسٍ أو جَاءَ مَنْ
يَذْرُوهَا!
وعندما رَأَتْكِ رَبَّةُ الحُظُوظِ ابْتَسَمَتْ،
وكُلُّ بَسْمَةٍ غَدَتْ غَمَّازَةً في كُلِّ خَد.
وعندما يوشك ثيسيوس نفسه على الزواج، إذا به ينعى فجأة (أمام عروسه
بأسلوب جارح) ما فَقدَتْه الملكة الأولى من جمالها:
يا أيُّها الحُزْنُ العَمِيقْ! يا أَيُّها الزَّمَانْ!
يا آكِلَانِ مُرْعِبَانْ! فَأَنْتُمَا للكُلِّ مُلْتَهِمَانْ.
وأما ما يجعل ثيسيوس يُقَرِّر تأجيل زواجه ابتغاء الزحف على كريون
وطيبة فهو ذلك الإحساس بالفقدان، أكثر من تَوسُّلات المَلكات بل وهيبوليتا وإيميليا.
ويُؤدِّي هذا المشهد الأول ذو التكثيف الخاص بالحسب والنَّسب إلى مَشهد مُتعَمَّد
بالدرجة نفسها، ويتضمن تقديم بالامون وآرسايت. ولا يَبذلُ شيكسبير أيَّ قدر من فَنِّه
في التمييز بينهما على الإطلاق، فالحق أنهما، بِصفتِهما أبناء عمومة لا ينفصلان،
يشاركان، فيما يبدو، في الطابع الأخلاقي الرفيع نفسه، وإن يَكُن مُتزَمِّتًا بعض الشيء،
من دون أن تظهر لهما شخصية إنسانية من أي نوع. ويرجع اهتمام شيكسبير، واهتمامنا بهما،
إلى هجومها الجدلي على لندن عام ١٦١٣م، وهي المدينة التي هَجرَها الكاتب المسرحي مفضلًا
ستراتفورد عليها، وإن يكن ذلك بدرجة مُعَيَّنة من القلق، ما دام قد احتفظ لنفسه بمكان
في العاصمة. ففي عام ١٦١٢م كان المُهَرطِقون والسَّحرة لا يزالون يُعْدَمون، وأما في
العام التالي فإن السير توماس أوفربري قد قُتِل بِالسُّم في برج لندن، بناء على طلب
كونتيسة إيسيكس، بعد أن اعترض أوفربري على زواجها من روبرت كار اللواطي الخاص بالملك
جيمز الأول. وقرر شيكسبير الحَذَر، كدأبه على الدوام، أن يجعل تعليقاته عويصة غامضة
وغير مُحدَّدة، على الرغم من وُضوح إشارة طيبة في ظل حكم كريون إلى لندن العَفِنَة في
ظل حكم الملك جيمز الأول؛ يقول آرسايت:
هَذِي فَضِيلَةٌ
ولَيْسَ تَحْظَى باحْتِرَامٍ عِنْدَنَا في طِيبَة … إنِّي أَقُولُ
طِيبَة!
لَشَدَّ مَا يوَاجِهُ الأخْطَارَ فِيهَا مَنْ يَصُونُ شَرَفَهْ.
قُلْ إنَّها مَكَانُ عَيْشِنَا وحَيْثُ كُلُّ شَرٍّ يَكْتَسِي أَلْوَانَ
خَيْر
وكُلُّ ما يَبْدُو لَنَا خَيْرًا هُوَ الشَّرُّ بِعَيْنِهْ،
وحَيْثُ إنْ لَمْ تَلْتَزِمْ بمَا عَلَيْهِ النَّاسُ عَدُّوكَ
غَرِيبًا.
فإِنْ بَدَوْتَ هكَذَا أَصْبَحْتَ وَحْشًا شَائِهًا.
أي إنك إذا التزمت على وجه الدِّقَّة بطبيعة الأحوال في طيبة/لندن فسوف
تهبط بسرعة من حالة البراءة التي يُواصِل بالامون، وآرسايت الاحتفال بها. إنهما
مُقاتلان أخلاقِيَّان، فهما ابنا أخي كريون الذي غَضِب عليهما، وهُما يَنعَمان معًا
«بلمعة الشباب»، وبِكونِهما «لم تَشتَدَّ سواعدهما/في جرائم الطبيعة». ومع ذلك فهُما
من
الشُّبَّان الوطنيين، ويَهُبَّان للدفاع عن طيبة عندما يعرفان أن ثيسيوس بدأ الزَّحْف
عليها، مَهْمَا يكن نُبْلُ قضيته. ويرفض شيكسبير، بِجَهامة تَزيد عَمَّا سبق، تمجيد
الحرب، ويقدم حديثًا صادمًا حقًّا تلقيه الأمازونة هيبوليتا، أثناء وَداعها مع أختها
إيميليا للشاب بيرثيوس، ابن عم ثيسيوس وصَدِيقه الصدوق، قبل انطلاقه لِلِّحاق بالدوق
في
ساحة القتال:
كُنَّا مُحَارِبَاتْ … لا نَسْتَطِيعُ أنْ نَبْكِي
إذَا ارْتَدَى أَحْبَابُنَا خُوذَاتِهِمْ أوْ أَبْحَرُوا
أوْ إنْ حَكَوْا لَنَا عَنْ بَعْضِ طِفْلٍ مَزَّقَتَهْمُ الحِرَابْ
أوْ عَنْ نِسَاءٍ قَدْ سَلَقْنَ رُضَّعًا لَهُنَّ
فيمَا ذَرَفْنَ مِنْ دُمُوعٍ مَالِحَاتٍ عِنْدَ قَتْلِهِمْ
ثمَّ الْتَهَمْنَ لَحْمَهُمْ.
إذا لم يَستطِع المرء أن يبكي عندما تَسْلُق الأمهاتُ أطفالَهن
الرُّضَّع في دموعهن الملحة لأكلهم في العشاء، فربما استطاع المرء أن يَضْحَك في دفاع
ذاتي سيكولوجي. ولما كانت هذه الرؤية الجروتسك لا تدعو إلى الألم أو إلى الدهشة من جانب
هيبوليتا، فنستطيع أن نحدس أن شيكسبير قد حَقَّق من جديد تأثير التغريب بالأسلوب الذي
اتبعه في مسرحية تيتوس أندرونيكوس قبل عقدين. ولكن تلك المسرحية كانت مُواجَهة شنيعة
لمارلو وكيد. وإذنْ فما شأن هذا الشعور في النبيلان
القريبان؟ ولا تستطيع هيبوليتا نفسها ولا إيميليا أن ترى هذه الصورة
الفظيعة، فيما يبدو، إلا بصفتها مُجرَّد حقيقة واقعة، وهذه علامة أخرى على التغريب
الشيكسبيري في هذه المسرحية الغريبة. وسوف تكون ذات صعوبة مُعادِلة على الأقل لقياس
عدَم غيرة هيبوليتا عندما تنظر في عمق العلاقة بين بيريثوس وثيستوس:
كَمْ عَاشَا في أَكْوَاخٍ تَجْمَعُ بَيْنَ الخَطَرِ وضِيقِ اليَدْ
فَكأَنَّ الخَطَرَ يُنَافِسُ فَاقَتَها.
كمْ رَكِبَا سُفُنًا تُبْحِرُ في تَيَّارَاتٍ تَزْأَرُ طَاغِيةً
أو تَهْدِرُ بالجَبَرُوتِ وأَدْنَاهُ رَهِيبٌ مُفْزِعْ
واشْتَرَكَا في الحَرْبِ مَعًا بمَعَارِكَ يَسْكُنُ فِيهَا المَوْتُ
بِنَفْسِهْ
لكنَّ القَدَرَ قَضَى بِنَجَاتِهَمَا مِنْها. عُقْدَةُ حُبِّهِمَا
رُبِطَتْ بَلْ نُسِجَتْ مُتَشَابِكَةً بِفُنُونٍ صَادِقَةٍ طَالَتْ
زَمَنًا
بِأَصَابِعَ بَارِعَةٍ ذَاتِ دَهَاءٍ ذِي عُمْقٍ بَالِغْ
حَتَّى أنَّ العُقْدَةَ قَدْ تَبْلَى لكنْ لَنْ تَنْفَكَّ علَى مَرِّ
الأَيَّامْ
لا يُمْكِنُ أنْ يُصْبِحَ ثِيسْيُوسْ في ظَنِّي حَكَمًا
يَحْكُمُ بالعَدْلِ على ذَاتهِ
إذْ يَقْسِمُ في الحَالِ إلى قِسْمَيْنِ ضَمِيرَهْ
كي يَتَسَاوَى الإنْصَافُ المَمْنُوحُ لِكُلٍّ مِنْ هذيْنِ
القِسْمَيْن
فَيَنَالُ بِذلِكَ أَفْضَلَ ما يَهْوَاهْ.
أن تقول امرأة إن زواجها قد يظل قائمًا بعد أن تبلى علاقة زوجها بأقرب
رفقائه الذُّكُور، لكن زواجها لا يستطيع أن يهدم تلك العلاقة، يعني أنها تُبْدِي خواءً
عاطفيًّا غريبًا، خصوصًا ما دامَتْ هيبوليتا لا تَكتَرِث، كما هو واضح، لتحديد أفضل
الرجال الذين يحبهم ثيسيوس. وتجيب إيميليا إجابة مُؤدَّبة ولكنها أشد خواءً عاطفيًّا؛
إذ تقول: «لا شك/في وجود مَن هو أفضل، والعقلُ لا أخلاقَ له/إذ يقول إنه ليس أنت.» إن
لم يكن شيكسبير يَقصِد المحاكاة الساخرة لانطلاقاته الكبرى في دنيا الغيرة، بما في ذلك
عطيل وحكاية الشتاء، فإنه يُقدِّم إلينا مَدخلًا إلى وعي الأمازونات [النساء المحاربات]
يختلف اختلافًا شاسعًا عن أي شيء صَوَّره في النساء حتى تلك اللحظة. وما ذاك كله إلا
مُقدِّمة لوصف شيكسبير للحب بين صغار الفتيات، وهو أشد أوصافه إثارة للمشاعر في هذا
الصدد. كانت روزالند وسيليا، حسبما يشهد على ذلك اشتهاؤهما لأورلاندو وأوليفر، على
الترتيب، صَديقتَين لا تنفصلان، وإن كانتَا تختلفان اختلافًا كبيرًا عن إميليا الأكبر
سنًّا وفيلافينا الراحلة، وهي التي فُقدت عندما كانت كل فتاة لا تتعدى الحادية عشرة من
عمرها:
إيميليا
:
أنْتِ تَكَلَّمْتِ عَنِ الحُبِّ الرَّابِطِ بَيْنَ فُؤَادَيْ
بيرِيثُوسَ وثِيسْيُوسْ
ذلِكَ حُبٌّ يَسْتَنِدُ إلَى أُسُسٍ أَكْبَرْ … ونَمَا فَازْدَادَ
النُّضْجُ بِهِ
وتَرَابَطَ بالحُكْمِ الرَّاشِدْ. كانَتْ حَاجَةُ كُلٍّ مِنْ هذَيْنِ
لِصَاحِبِهِ
مَاءً يَرْوِي كُلَّ جُذُورِ الحُبِّ المُشْتَركَةِ بَيْنَهُمَا.
لكنِّي مَعَ صَاحِبَتِي
- مَنْ أَتَأوَّهُ إذْ أَذْكُرُهَا — كُنَّا أَطْفَالًا وذَوَاتِ
بَرَاءَة
كَانَتْ كُلٌّ مِنَّا مُغْرَمَةً بالأُخْرَى …
كنَّا مِثْلَ عَنَاصِرِ هذَا الكَوْنِ المُتَمَازِجَةِ
الفَعَّالَة
لا تَعْرِفُ «مَاذا» و«لماذَا» بلْ تَخْتَلِطُ لِتُنْتِجَ ثَمَرَاتٍ
نَادِرَةً
هذَا مَا فَعَلَتْ رُوحَانَا، كُلٌّ مِنْها لِلْأُخْرَى
إنْ عَشِقَتْ شَيْئًا أَحْبَبْتُهْ … إنْ نَبَذَتْهُ لمْ أَلْبَثْ
أنْ أَنْبُذَهُ
مِنْ دُونِ نِقَاشٍ أو جَدَلٍ. إنْ أَقْطُفْ يَوْمًا زَهْرَة
وأَدُسَّ الزَّهْرَةَ بَيْنَ النَّهْدَيْنِ — وَقَدْ كَادَا
يَرْتَفِعَانِ
هُنَالِكَ عِنْدَ البُرْعُمْ — حَتَّى تَشْتَاقَ إلَى أنْ تَقْطِفَ
أُخْرَى
وَتدُسَّ الزَّهْرَةَ في المَهْدِ الزَّاهي بِبَرَاءَتِهِ
فَإِذَا هي مِثْلُ العَنْقَاءِ تَمُوتُ بأَحْضَانِ شَذَاها
لَمْ يَكُ فَوْقَ الرَّأْسِ لَدَيَّ حُلِيٌّ لكنْ
نَسَقُ الحُبِّ لَدَيْهَا يَكْفِي
مَلْبَسُها كانَ جَمِيلًا مُؤْتَلِفًا غَيْرَ مُعَقَّدْ
وأَنَا حَاكَيْتُ مَلَابِسَهَا قَاصِدَةً أَقْصَى الزُّخْرُفْ
وإذَا اسْتَرَقَتْ أُذُنِي بَعْضَ غِنَاءٍ مُسْتَحْدَثْ
أوْ غَامَرْتُ بِدَنْدَنَةٍ خَافِتَةٍ بِلُحُونٍ مِنْ وَضْعِي
أَصْبَحَتِ الأَنْغَامُ لَدَيْهَا كالمَسْكَنِ تَنْزِلُ فِيهِ — بَلْ
لا تَبْرَحُهُ —
بَلْ تُنْشِدُهَا في كُلِّ نُعَاسْ. كانَ التَّكْرَارُ لَهُ يعني
هذِي الغَايَة
— إِذْ يَعْرِفُ كُلُّ بَرِيءٍ أنَّ التَّرْدِيدَ ابنُ سِفَاحٍ
للِتَّمْكِينْ —
والغَايَةُ أنَّ الحُبَّ المُتَبَادَلَ بَيْنَ صِغَارِ
الفَتَيَاتْ
قد يَتَفَوَّقُ بالحَقِّ على حُبٍّ بَيْنَ الجِنْسَيْنِ
المُنْفَصِلَيْن.
وهكذا نرى السبب الذي يجعل إيميليا — وإلى درجة أكبر مما نشهده في
إيميلي عند تشوسر — سلبية إلى حد اليأس إزاء منحها بصفتها جائزةً إلى آرسايت أو إلى
بالامون. وطولُ الإعلان المقتطف أعلاه، وثقله وتعقيده أمر فريد عند شيكسبير، وجدير بأن
يشتهر بأنه الحجة التي يستشهد بها دفاعًا عن مثل هذا الحب باللغة الإنجليزية. وحديث
إيميليا ينطق بأقوى عاطفة مشبوبة في المسرحية على نحو ما تقول هيبوليتا دون انفعال،
وسخرية هيبوليتا المهذبة لا تستطيع تخفيف القوة اللاذعة لامتداح إيميليا لفلافينا
الراحلة، أو إن شئنا مزيدًا من الدقة، امتداحها للحب الكامل بين الفتاتين في الفترة
السابقة للمراهقة، حيث تجد كلٌّ منهما هويتها الكاملة في الأخرى. والتضاد بين هذه
الوحدة بين الطابعين الرزينين وبين العنف القاتل في صرح بالامون وآرسايت للظفر بإيميليا
مُقنع إلى أقصى حد. ويختتم شيكسبير المشهد بلماحية لاذعة؛ إذ يُقدِّم مُناظَرة بين
الأختين تتميز بالتهذيب الرصين، وإثارة قلق معادل له في الوقت نفسه:
هيبوليتا
:
تَقَطَّعَتْ أَنْفَاسُكِ! وسُرْعَةُ الكَلَامِ في حَدِيثِكْ
تُؤَكِّدُ الذي أَرَاهُ: مِنَ المُحَالِ أنْ تُحِبِّي مَنْ يُسَمَّى
رَجُلًا
علَى غِرَارِ تِلْكُمُ العَذْرَاءِ … مَنْ مَاتَتْ فلافينَا.
إيميليا
:
إنِّي وَاثِقَةٌ مِنْ ذلِكْ.
هيبوليتا
:
وَا أَسَفَاهُ إذَنْ يا أُخْتِي الوَاهِنَةُ المِسْكِينَة!
لا بُدَّ بأنْ أُقْلِعَ عَنْ تَصْدِيقِكِ في هذَا الأَمْر
حَتَّى وأنَا أَعْرِفُ أَنَّكِ صَدَّقْتِ كَلَامَكْ
أَكْثَرَ مِمَّا أُودِعُ ثِقَتِي في شَهْوَةِ نَفْسٍ
مُعْتَلَّة
تَكْرَهُ حَتَّى ما تَشْتَاقُ إلَيْه! كُوني وَاثِقَةً يا
أُخْتِي
لوْ كُنتُ تَهَيَّأْتُ لأنْ أَقْتَنِعَ بِقَوْلِكْ
فَلَقَدْ قُلْتِ كَلَامًا يَكْفي كي أَتَحرَّرَ مِنْ أيدي
ثِيسْيُوسْ
أنْبَلِ خَلْقِ الله! فَأَنَا أُشْرِكُ نفسي الآنَ بِمَا قُدِّرَ
لَهْ
رَاكِعَةً وَاثِقَةً كُلَّ الثِّقَةِ بأنَّا نَمْتَلِكُ العَرْشَ
العالي
في قَلْبِهْ … أكْثَرَ مِمَّا يَمْلِكُهُ بيرِيثُوسُ
حَبِيبُه.
إيميليا
:
لَسْتُ أُعَارِضُ ما آمَنْتِ بِهِ
لكنِّي لَنْ أَتَخلَّى عَمَّا أُومِنُ بِهْ.
الصيغة اللغوية الرئيسية هنا هي «شهوة نفس معتلة/تكره حتى ما تشتاق
إليه» فهي تعبير رائع عن التَّضاد الحادِّ في الدلالة. ومن الصعب ألا نستنتج من ذلك أن
التضاد كان إلى حدٍّ بعيد ينتمي إلى شيكسبير الذي كان في التاسعة والأربعين، والذي يشعر
بالحرية التي وجدها أخيرًا — إن لم يكن من الرغبة فمن طغيانها — فيما يبدو، مثلما يتجلى
في موقفه حنين إلى أشكال أخرى من الحب. والطابع المركَّب للحياة الجنسية عند شيكسبير،
وهو الذي ربما كان يلوم نفسه في رثاء وليم بيتر، يَتجاوَز الحدود في النبيلان القريبان، وإن اقتصر ذلك على بعض الإشارات الساخرة
إلى الإحساس بالرضى، ما دام يتجنب الاحتفال بأي شيء مثل نشوة التوحد بين إميليا
وفلافينا في وصفه للعلاقة بين بيريتوس وثيسيوس، والعلاقة بين بالامون وآرسايت.
ويقسم ثيسيوس الظافر، بعد أن أسر بالامون وآرسايت الجريحين، أن يعالجهما ثم يواصل
أسرهما لأسباب لا يشير إليها شيكسبير إلا إشارات مضمرة توحي بوجود لذة الامتلاك
الصادية، والتي تشي بميول جنسية مثلية، والزهو بالسيطرة على مثل هذين المحاربين
الرائعين المنهزمين. ويدور الفصل الأول الذي كتبه شيكسبير دورة كاملة، عندما تعود
الملكات الثلاث إلى الظهور، وهن يقمن بدفن رفات أزواجهن، ونعي فقدانهم بمزدوج غامض لا
ينسى:
الدُّنْيا بَلَدٌ زَاخِرَةٌ بِشَوَارِعَ شَارِدَةٍ وتُضَلِّلُنَا
والمَوْتُ السُّوقُ مَكَانُ تَقَابُلِ كُلِّ مِنَّا.
وقد نجد في هذا أكبر استجابة مباشرة من جانب شيكسبير للتحذير الوارد في
حكاية الفارس والذي يقول إننا دائمًا ما نفي بمواعيد لم نقطعها على أنفسنا قط. ثم نذهب
بعد ذلك إلى السجن مع بالامون وآرسايت، ولكن ذلك جزء من نصيب جون فلتشر في المسرحية،
ونستطيع أن نتجنبه باستثناء الإشارة إلى أن المذكوريْن، وهما من أبناء العم، يقعان في
حب إيميليا من أول نظرة، وبذلك يهدمان صداقتهما إلى الأبد، على نحو ما نرى عند تشوسر.
وعاد شيكسبير إلى الكتابة فوضع مشهدًا أول للفصل الثالث، حيث نرى آرسايت، بعد أن تحرر
منذ فترة طويلة بفضل أحد المعارف القدماء لبريتسوس، صديق ثيسيوس، ونجده يتجول وقد أضناه
شوق المحب الوامِق وسط الغابة، بينما يتنزه الجميع مُحتفلِين بالربيع. وفي عيد أول
مايو، ذلك اليوم المصيرى، نرى بالامون بعد أن هرب من السجن والأصفاد لا تزال في قدميه،
وهو يواجه آرسايت، ويتفق الاثنان على مبارزة لا بد أن تنتهي بموت أحدهما، بحيث يظفر
الفائز بإيميليا. ويتسم المشهد بجاذبية جنونية وغير واقعية؛ إذ يضع شيكسبير بلاغة
الفروسية الرفيعة عندهما جنبًا إلى جنب مع حاجتهما المخبولة المتبادَلة لإحراق بعضهما
بعضًا. ومن العسير وصف كوميديا لقائهما، فأمثاله قليلة، ولكن بعض سطور آرسايت تعبر عن
نكهة ذلك اللقاء. يقول آرسايت:
قُلْ إنني أَعْتَزُّ بالَّذِي لَدَيَّ مِنْ أمَانَةٍ ومِنْ شَرَفْ
فإنَّما هُمَا رَكِيزَتِي. ولَنْ أُبَالِي يا ابْنَ عَمِّيَ الَّذِي
يَمْتَازُ بالإنْصَافِ إنْ طَرَحْتَ أَيَّهُما …
إذْ إنَّنِي مُحَافِظٌ علَى الْتِزَامِي بِهِمَا في كُلِّ ما
أَفْعَلْ.
أَرْجُوكَ أنْ تُفْضِي بلا ضَغِينَةٍ إليَّ بالذي يَسُوُؤُكْ!
أَسْهِبْ فإنَّ ذلِكَ النِّزَاعَ قائمٌ معَ الذي يُعَادِلُكْ.
وإنَّهُ ليُعْلِنُ الْتِزَامَهُ بأنْ يَشُقَّ في غَدٍ طَرِيقَهُ
بِفِكْرِ سَيِّدٍ مُهَذَّبٍ وسَيْفِهِ المَسْلُولْ.
ولا يلبث هذا الخلط الدقيق بين الطنطنة وبين المجاملة أن يختفي حين
يستأنف فلتشر الكتابة ليصف المبارزة التي يقاطعها ثيسيوس وحاشيته التي تضم إيميليا،
وبعد أن يهدد الدوقُ الغاضب العاشقين المخبولين بالإعدام أو النفي، يوافق على تنظيم
مسابقة بينهما بحيث يستند كل مبارز إلى نصرة ثلاثة فرسان من اختياره، وبحيث ينال
المنتصر إيميليا، وأما المهزوم (ومساندوه) فتقطع رقابهم، وهكذا يتحتم أن يحقق ثيسيوس
رضاه المشكوك فيه، ويتقرر عندها أن يكتب شيكسبير الفصل الخامس (باستثناء المشهد الثاني
الضعيف الذي يكتبه فلتشر) لكنه لا يتفوق على تشوسر إلا بأن يجعل آرسايت وبالامون يدعوان
الرَّبَّ مارس والرَّبَّة فينوس، على الترتيب، بأدعية فظيعة رائعة، قبل بدء المباريات.
ويتلو هذه الأدعية الشنيعةَ دعاءُ إيميليا العفيف إلى ديانا، وهو الذي من المحال أن
ينافس شيكسبير الذي لا يتراجع عن عزمه على إثارة بعض القلقلة في الأشعار السابقة
للنزال. ويبدأ آرسايت بأقوال تمهيدية يشجع فيها الفرسان المناصرين له ويحثهم على
الاستعداد («باعتبارهم ضحايا له!») لطلب الغوث من مارس رب الحرب:
لا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الشَّفَاعَةِ مِنْهُ!
ذَاكَ الذي يَذَرُ المُعَسْكَرَ مِثْلَ صِهْرِيجٍ عظِيمْ
مَلَأَتْهُ حتَّى الحَافَّةِ العُلْيَا دِمَاءُ القَوْم
مُدُّوا سَوَاعِدَكُمْ لِعَوْنِي وانْشُدُوا بالرُّوحِ ذَاكَ الرَّب.
وصورة الصهريج الممتلئ بدماء الناس تعتبر تمهيدًا لذروة ترنيمة آرسايت،
حتى نرى شيكسبير يستمتع بوضوح بتصوير الشر فيبالغ مبالغة تكاد تحول دون إثارة
الضحك:
يا مَنْ يُصَحِّحُ في عُلَاهُ كُلَّ أزْمَانٍ أُصِيبَتْ بالوَرَمْ!
يا مَنْ يُزَلْزِلُ كُلَّ حَالٍ زادَ فِيهَا العَفَنُ!
يا أَيُّهَا الحَكَمُ العَظِيمُ لِكُلِّ أَلْقَابٍ طَوَاهَا الدَّهْرُ
طَيًّا
في التُّرَابِ! يا مَنْ يُعَالِجُ بالدِّمَاءِ الأَرْضَ إنْ مَرِضَتْ!
يا مَنْ لَدَيْهِ شِفَاءُ هذَا العَالَمِ المُكْتَظِّ بالبَشَرِ اكْتِظَاظَ
العِلَلِ!
إنِّي قد اسْتَبْشَرْتُ بالآيَاتِ حينَ بَعَثْتَهَا لِي
بَلْ إنني أَنْجَزْتُ باسْمِكَ خُطَّتِي ذَاتَ الجَسَارَةِ في
النِّزَالِ.
هَيَّا بِنَا لِلزَّحْفِ يا خَيْرَ الرِّجَالِ!
ويطل اشمئزاز شيكسبير من لندن في ظل حكم الملك جيمز الأول من خلال هذه
المبالغات، وهي التي كان يمكن أن تكون «مُتطرِّفة» لو قالها حتى تمبرلين الأعظم في
مسرحية مارلو. والأزمان «المتورمة» تعني غير المنتظمة وغير الطبيعية، و«الأحوال التي
زاد فيها العفن» تتضمن بلاط الملك جيمز، الذي زاد نضجًا إلى حد التعفن. وأما العلاج
«بالدماء» فيشير إلى الممارسات الطبية السيئة القائمة على فصد الدم، وأما العبارة التي
يسهل تذكرها [لغرابتها] وهي pleurisy of people فتعني
اكتظاظ السكان باعتبارها عِلَّة؛ أي إنها تجمع بين الدلالة على الكثرة الكثيرة والعلل
التي زادت عن الحد. والطبع الفولسطافي عند شيكسبير الذي يمتاز بالدقة والخفاء في هنري
الخامس [هكذا: ربما يقصد هنري الرابع] يغالي في سخريته هنا، لإحداث تأثير كبير، وإن يكن
ذلك مجرد «تسخين» لتقديم أشد أحاديثه بذاءة، بحيث يتفوق فيه حتى على ثيرستيز في طرويلوس
وكريسيدا، ومع ذلك فكله في إطار «تسبيح» مثالي. هذا ما يقوله بالامون الذي يحتفل
بفينوس:
هذَا سَلَامِي مَلْكَةَ الأَسْرَارِ يا ذاتَ السِّيَادَة!
يا مَنْ بِطَوْقِكِ أنْ تَرُدِّي الطَّاغِيَ الجَبَّارَ عَنْ غَضَبِهْ
كي يَذْرِفَ العَبَرَاتِ كالطِّفْلَة.
يا مَنْ لَدَيْكِ القُدْرَةُ العَلْيَاءُ في لَمحِ اللِّحَاظْ
كي تَخْنُقَ الطَّبْلَ المُدَمْدِمَ عِنْدَ رَبِّ الحَرْبِ مَارِسْ
وتُحَوِّلَ البُوقَ الرَّهِيبَ إلى حُروفٍ هَامِسَة
يا مَنْ بِبَأْسِكِ يَسْتَحِيلُ العَاجِزُ المِسْكينُ جَبَّارًا
بِعُكَّازِهْ
مِنْ بَعْدِ أنْ عَالَجْتِهِ في حَضْرَةِ الرَّبِّ أبولُّلو!
قَدْ تُرْغِمِينَ العَاهِلَ الجَبَّارَ أنْ يُبْدِي الخُضُوعَ لمَنْ
يَسُودُهْ
أوْ تُقْنِعِينَ فَتًى لَهُ طَبْعٌ وَقُورٌ خَامِدٌ بالرَّقْصِ
مَرَحًا!
أوْ تَرْقُبِينَ فَتًى أَصَرَّ علَى قَضَاءِ حَيَاتِهِ عَزَبًا
مِنْ بَعْدِ أنْ يَنْجُو بِأَيَّامِ اليُفُوعِ مِنَ السُّقُوطِ
بمَوْقِدِكْ
— فكأنَّهُ الصِّبْيَانُ تَلْهُو بالوُثُوبِ بِخِفَّةٍ مِنْ فَوْقِ
نَارٍ
أُوقِدَتْ بِحَدِيقَةِ المَنْزِلْ — حتَّى إذَا كانَ الفَتَى
قَدْ حَلَّ بالسَّبْعِينَ مِنْ عُمْرِه … فَأَنْتِ تَصْطَادِينَهْ!
إذْ ذَاكَ قَدْ لا تَأْبَهِينَ بأنَّهُ قَدْ بُحَّ صَوْتُهْ! بَلْ
تَجْعَلِينَهْ
يَشْدُو بأَلْحَانِ الغَرَامِ اليَافِعَاتِ النَّاشِزَاتِ!
أَتُرَاكِ يا فينُوسُ تَفْتَقِدِينَ أيًّا مِنْ قُوَى الأَرْبَابْ؟
بَلْ أَنْتِ تُضْفِينَ علَى الشَّمْسِ لَهِيبًا نَارُهُ أَكْبَرْ
إذْ إنَّ نِيرَانَ السَّمَاءِ قَدِ اكْتَوَى وَلَدُ الشُّمُوسِ
بِحَرِّهَا
ثُمَّ اكْتَوَى بِلَهِيبِكْ! حَتَّى لَقَدْ بَدَتِ التي خَرَجَتْ تَصِيدُ
وقَدْ
عَرَاهَا زَمْهَرِيرٌ ومَطَرْ! بلْ قِيلَ إنَّ لَهِيبَكِ الضَّارِي أَلَمَّ
بِهَا
فَأَلْقَتْ قَوْسَهَا وتَنَهَّدَتْ! فَلْتَشْمَلِيني بالرِّضى!
إذْ إنَّني جُنْدِيُّكِ المُخْلِصْ … وأُحِسُّ نَيْرَكِ لا كَقَيْدٍ حَوْلَ
هذَا العُنُقِ
لَا بَلْ كَطَوْقٍ مِنْ وُرُودٍ وَزْنُهُ أكْبَرُ مِنْ وَزْنِ
الرَّصَاصِ
ولَذْعُهُ أَشَدُّ إيلامًا مِنَ الأَشْوَاكْ!
أنَا مَا شَتَمْتُ بأي يَوْمٍ شَرْعَكِ الأَعْلَى
بَلْ لَمْ أَبُحْ يَوْمًا بِسِرٍّ مَا … فَكَأنني بَعْضُ جَهُولْ
أوْ قُلْ: كَتُومٌ عَامِدٌ حتَّى وإنْ كُنْتُ عَلِيمًا بالخَبَايَا
كُلِّهَا
إذْ مَا خَدَعْتُ زَوْجَةً لأي رَجُلْ
بَلْ مَا أَحَطْتُ بالسِّبَابِ إذْ تَلُوكُهُ شِفَاهُ كُلِّ لَمَّاحٍ
وتَنْشُرُهْ
مَا بُحْتُ يَوْمًا في ذرَا كُبْرى الوَلَائِمِ بالخِبيءِ المُرِّ في دُنْيَا
الحِسَانْ
بَلْ كُنْتُ أَخْجَلُ حِينَ أَلْمَحُ في وُجُوهِ الآخَرِينَ تَبَسُّمًا
مُصْطَنَعا
ويَنمُّ في صَمْتٍ علَى ما قَدْ أَذَاعُوا!
ولَكَمْ قَسَوْتُ علَى كِبَارِ الكَهَنَة
مِمَّنْ يَلُومُونَ النِّسَاءَ علَى اعْتِرَافَاتِ الخَطِيئَة
بَلْ كُنْتُ أَسْأَلُهُمْ بإلْحَاحٍ أمَا كَانَتْ لَدَيْهِمْ
أُمَّهَاتْ
أَمَّا أنَا فَلَقَدْ أَتَتْ بِي وَالِدَة … أَعْنِي امْرأَة
وهُمُو يُسيئُونَ الكَلَامَ عَنِ النِّسَاءْ
قَدْ كُنْتُ أَعْرِفُ صَاحِبًا وعُمْرُهُ كانَ ثَمَانِينَ شِتَاءً
وَذَاكَ ما قُلْتُ لهم … ولَقَدْ تَزَوَّجَ مِنْ عَرُوسٍ لَمْ تَزِدْ
في السِّنِّ عَنْ أَرْبَعَ عَشْرَة
تِلْكَ يا فينُوسُ كَانَتْ سُلْطَتَكْ
إذْ أَنْتِ نَافِثَةُ الحَيَاةِ بِمَنْ غَدَا صِنْوَ التُّرَابْ
إذْ قَلَّصَتْ عَضَلَاتَهُ شَيْخُوخَةٌ مَالَتْ بِهِ حَتَّى انْحَنَتْ
قَدَمُهْ
والنِّقْرِسُ المَعْهُودُ قد شَبَكَ الأَصَابِعَ في عُقَدْ
وبَدَتْ بِعَيْنَيْهِ الكِبَارِ تَشَنُّجَاتٌ مُؤلِمَة
فَتَضَاءَلَتْ أَفْلَاكُهَا وتَكَادُ أَنْ تُطْوَى
حَتَّى أَحَسَّ بأنَّ مَا كَانَ الحَيَاةَ غَدَا عَذَابَا
وإذَا بِصَاحِبِ ذلِكَ الجِسْمِ العَجِيبِ غَدَا أَبًا
إذْ أَنْجَبَ الشَّيْخُ الكَرِيمُ مِنَ الفَتَاةِ ابْنا!
وأَنَا هُنَا صَدَّقْتُ أنَّ الطِّفْلَ لَهْ … إذْ أَقْسَمَتْ تِلْكَ
العَرُوسُ
بِأَنَّهُ وَلَدُه … مَنْ ذَا الذي في طَوْقِهِ تَكْذِيبُها؟
والقَوْلُ أُوجِزُهُ بأَنِّي لَسْتُ صَاحِبَ مَنْ يُثَرْثِرُ وانْتَهى
أَمْرُهْ
وأُنَاهِضُ المُتَفَاخِرَ المَزْهُوَّ مِنْ دُونِ عَمَلْ.
وأُحِسُّ فَرْحًا وابْتِهَاجًا بالذي يَرْجُو ويَطْلُبُ ثُمَّ لا
يُفْلِحْ.
لكنَّما عِنْدِي نُفُورٌ مِنْ فَتًى يُفْشِي خَبَايَا النَّاسْ
وَبِأَبْشَعِ الأَلْفَاظْ … أوْ مَنْ يُسَمِّي ما اخْتَفى وبِأَحْرُفٍ
رَنَّانَة!
هذَا أنَا! لكنَّنِي أَقْسَمْتُ أنْ ما فَاقَنِي في صِدْقِ آهَاتِي مُحِبٌّ
مُخْلِصٌ
وإِذَنْ أَقُولْ: يا أَلْطَفَ الرَّبَّاتِ يا ذَاتَ العُذُوبَة
فَلْتَمْنَحِينِي النَّصْرَ في هذِي القَضِيَّة.
وهْوَ الذي مِنْ حَقِّ قَلْبِ العَاشِقِ المُخْلِصْ.
أَصْغِي إليَّ وَبَارِكِيني أَرْسِلِي لِي آيَةً
حَتَّى تُعَبِّرَ عَنْ رِضَاكِ الحَقِّ عَنِّي!
[تُسْمَع أصوات موسيقى، وترى بعض الحمائم وهي ترفرف
بأجنحتها. يسجدون من جديد ثم يركعون.]
يَا مَنْ عَلَيْنَا تَحْكُمِينَ وذَاتَ سُلْطَانٍ علَى كُلِّ
الصُّدُورْ
مِنْ سِنِّ حَادِيَةٍ وعَشْر … حَتَّى إلَى التِّسْعِينْ
يا مَنْ جَعَلْتِ مَسارِبَ الدُّنْيا مَجَالَ الصَّيْدِ لَكْ
وإذَا بِنَا القُطْعَانُ مَنْ وَقَعَتْ طَرَائِدَ لَكْ!
إنِّي لأَشْكُرُ ما بَعَثْتِ إلَيَّ مِنْ آيَاتْ
إذْ إنَّها حِينَ اسْتَقَرَّتْ في فُؤَادِي المُخْلِصِ البَرِيءِ
أَضْحَتْ
عِنْدَهَا دُرُوعًا حَوْلَ جِسْمِي مِنْ ثِقَة
أَحْتَاجُهَا حَتَّى تُسَاعِدَنِي علَى خَوضِ القَضِيَّة
هَيَّا إِذَنْ نَنْهَضْ … كي نَنْحَنِي بَيْنَ الأَيَادِي لِلْآلهة!
[يركع الجميع.]
الآن حانَ الوَقْتُ.
لما كنتُ في السابعة والستين فقد ارتسم الألم على وجهي وأنا أقرأ هذا
الكلام، وأُدرِكُ ما فيه من رؤًى للسبعين والثمانين والتسعين، وهي التي تذكرني، من جانب
مُعيَّن، بأن شيكسبير، الذي كان في التاسعة والأربعين، لم يكن يستبق أو يرحب بالوصول
إلى تلك المراحل «المفرحة» من مراحل الوجود! وهذه الترنيمة العجيبة إلى فينوس تتجاوز
التورية الساخرة، وتُعْتَبر خاتمة ذات رفعة سلبية للشِّعر الدرامي الذي كتبه شيكسبير
على مدى رُبع قرن. كيف يمكن للمرء أن يُدرِك ما يفعله شيكسبير، فيما يشبه شكلًا
دراميًّا جديدًا حتى بالقياس إليه، وهو الشكل الذي رفض أن يُطوِّرَه؟ لن نجد مدخلًا
نقديًّا يساعدنا على مُواجَهة هذا الشعر المُتجدِّد باستمرار واستيعابه، قل إنه صوت
الوداع لشاعر بلغ من زيادة قُوَّته على الجميع أن أصبح هذا الاختلاف في الدرجة عنهم
يُحْدِثُ تأثيره باعتباره اختلافًا برجماتيًّا في النوع. وإذا كان الرجال يتألمون وهم
يَقرءون دعاء بالامون (وينبغي أن يتألموا) فلا بد أن السبب يرجع إلى أن الدعاء
يُفَعِّلُ إحساسًا بالذَّنب والعار يكاد أن يكون عالميًّا، فلم أقرأ فقرة أخرى في كل
ما
كتبه شيكسبير تُضارِع هذه في جمعها بين الإيلام الشديد والطابع الشخصي العميق، ما دام
بالامون يتكلم بلسان الأبرياء مثله فقط، لا بلساننا جميعًا، ومن بيننا شيكسبير. وهكذا
نرى أن بالامون قد وُهِبَ فجأة شخصية إنسانية، وأصبح يتميز جذريًّا عن آرسايت، وعن
أفراد الجمهور الذكور في المسرح، باستثناء قلة قليلة، إن وجدت. إننا نعيش الآن في جو
يجمع ما بين ثقافة الإحساس بالذنب وثقافة العار، وسوف يثير هذا الخطاب ذو القوة
الغريبة، بلا مراءٍ، إحساسًا بالعار والذنب في كثير منا، إن كانت قد بقيت لنا آذان
باطنة بعد الهجوم البصري علينا في حقبتنا الراهنة. ولستُ ناقدًا أخلاقيًّا على وجه
الدقة، وحبي لشيكسبير ينبثق من موقف جمالي، وهكذا أنتقل الآن إلى التقدير الجمالي المحض
لهذا الخطاب الفائق.
يكاد وصف السُّلطة الرهيبة التي تتمتع بها فينوس هنا أن يقتصر تمامًا على صور شعرية
«جروتسك» [غريبة مخيفة مضحكة] وفاجعة، ومع ذلك فهي مُبرَّأة من إيذائنا، على الرغم من
التصوير الذي لا يُنسَى لتعاستنا. لقد علَّم تشوسر درسًا أخيرًا لشيكسبير يَتجاوَز به
مُجرَّد التورية الساخرة، فإن بالامون رائع كل الروعة، لكنه لا يعرف تمامًا ما يقوله؛
إذ لا يستطيع إلا الممثل الصادق لشرعة الفروسية أن يتكلم بسُلطَتِه الخاصة من دون أن
يبدو سخيفًا. فإذا لم تكن فينوس مُذنِبَة، وكنا نحن وحسب المسئولين عن الجنون الذي
تثيره فينا، كان علينا أن نسأل (وبالامون لا يسأل) عن سبب عَجزِنا للحفاظ على سيطرتنا
من دون إحداث كوارث والإحساس بالخزي والعار. ربما كان بالامون يَتمتَّع بفضيلة أصلية،
ولكن معظمنا ما بين الحادية عشرة والتسعين من عمرنا لا نتمتع بها، ولا يوجد في هذه
المسرحية، ولا في باقي ما كتبه شيكسبير، ما يؤيد المذهب الذي يُنسب إلى القديس بولس
والقديس أوغسطين، وهو مذهب الخطيئة الأصلية، فإذا استندنا إلى الدليل المرجح الذي يقدمه
النبلان القريبان والمرثية الجنائزية لوليم بيتر، وجدنا أن شيكسبير تَلقَّى من الضربات
ما يكفي لإحساسه بالسرور للخلاص من هموم الحياة برمتها، ولكن دعوته إلى أن نؤمن وحسب
«بمزية الحب المخلص» غير ملائمة، فيما يبدو، للزوج ذي الموقف الملتبس إزاء زوجته آن
هاثاواي [زوجة شيكسبير]. وبالامون واقعي في نظرته للحب، فهو يقدم تقديرًا دقيقًا، ويصف
بِدِقَّة سلطان فينوس الرهيب علينا، بما له من آثار فظيعة على الرجال من سن الحادية
عشرة حتى التسعين، حتى وهو يُؤكِّد مُحِقًّا فضله باعتباره العابد العفيف لها. ولا يسمح
شيكسبير في الخطاب كله بظل دلالة واحدة تَشِي بنبرته الكبرى التي تَتجاوَز التورية
الساخرة؛ إذ إن بالامون، على غرار إيميليا من بعده، يمكن اعتباره مستلهمًا لديانا [ربة
العفاف] ما دامت في الواقع الربة التي يؤمن بها.
إن بالامون لديه رؤية مزدوجة لفينوس، وشيكسبير، مثل معظمنا، يُؤمِن بالوحدانية في
الحب، وعلى الرغم من أنه يصون حديث بالامون من أية ظلال توحي بالسخرية البلاغية، فإنه
يحرص على أن يَمنحنَا لحنًا باطنًا يعدل تعديلًا شديدًا من صورة فينوس غير المذنبة
والبريئة من العيوب. ربما لم يكن تشوسر، على الرغم من تَمكُّنه من التورية الساخرة، يثق
في جمهور سامعيه (الذين كان يقرأ شِعْره عليهم في البلاط وخارج البلاط) ثقة شيكسبير في
جمهوره، على ما يبدو، هنا، وإن كنتُ أُرجِّح أن شيكسبير قد وصل في هذه المرحلة إلى
اليأس من جميع أنواع الجماهير، وأظن أنه يُقدِّم المُفارَقة في خطاب بالامون لنفسه
ولعدد ضئيل من خُلَصائه. ومثل هذا الموقف يؤدِّي إلى الامتناع عن كتابة المسرحيات، وكان
ذلك فعلًا مقدمة شيكسبير إلى السنوات الثلاث التي سادها الصمت الدرامي واختتم بها
حياته. إن المُصادَفة هي الرَّبة الحاكمة في حكاية الفارس عند تشوسر، وفينوس، لا مارس
ولا ديانا هي الطاغية التي تحكم النبيلان القريبان.
أما فيما يتعلق بخطبة بالامون العصماء، فينبغي أن نثق في الأنشودة لا في المُنشِد،
مَهمَا يَكُن تَصوُّر هذا المحارب الشاب والكامل الإخلاص، لنفسه. فإن فينوس عنده
مُدمِّرة باطنة، على عكس مارس المُدمِّر لما في الظاهر، وترنيمة السحق والطمس مُطلَقة،
ما دامت فينوس تُطارِدُنا وتقضي علينا جميعًا. والشيوخ الفانون [«الوقور الخامد»]
يرقصون رقصة الموت. والعزب العاطل في السبعين من عمره يُنشد بصوت مبحوح أناشيد غرام،
والمُقْعَد يَتخلَّص من عُكَّازه. وفيبوس أبولو، رب الشمس، يسمح لابنه فايثون بأن يقود
عَرَبة الشمس في مُغامَرة مُهلِكة. وديانا تقع في غرام إندميون وتتخلص من قوسها. وأفضل
صورة يرسمها صورة صاحب الجسد العجيب ابن الثمانين وعروسه في الرابعة عشرة، فنحن هنا
نشهد محاكاة ساخرة للخَلْق؛ أي كيف بَثَّ الله روحًا في آدم الذي كان ترابًا، فتلك
سُلطة تُنسَب لفينوس، ويتبعها قُبْح مُتعمَّد لا يشبه أي شيء آخر عند شيكسبير:
إذْ قَلَّصَتْ عَضَلَاتَهُ شَيْخُوخَةٌ مَالَتْ بِهِ حَتَّى انْحَنَتْ
قَدَمُهْ
والنِّقْرِسُ المَعْهُودُ قد شَبَكَ الأَصَابِعَ في عُقَدْ
وبَدَتْ بِعَيْنَيْهِ الكِبَارِ تَشَنُّجَاتٌ مُؤلِمَة.
فَتَضَاءَلَتْ أَفْلَاكُهَا وتَكَادُ أَنْ تُطْوَى
حَتَّى أَحَسَّ بأنَّ مَا كَانَ الحَيَاةَ غَدَا عَذَابَا.
المُقْلتان مُتهدِّلتان والقدمان والكَفَّان مشوهة، وصاحب العضلات
المتقلصة المسن الَّذي تَدفَعُه الشهوة يبدو أقرب إلى أن يكون ضحية للتعذيب من
التَّمتُّع بالملذات. ونبرة بالامون تُعَبِّر عن الازدراء، ولكننا نَشعُر بالرعب. وكان
أكثر من أَعْرَب عن غضبه من هذه الفقرة المُستفِزَّة طولبوت دونالدسون الذي يقول:
الجانب الذي لا يُكرِّسه بالامون للحديث عن قُدرة فينوس على الإذلال والإفساد
في مناجاته إياها، يكرسه لامتداح نفسه لأنه لم يتآمر جنسيًّا ضد المرأة قط، أو
صاغ فكاهات بذيئة تسخر منها، فهو يُذكِّر نفسه دائمًا، مثل كل وَلَد صالح بأنه
كانت له والدة.
المسألة بالقطع تتعلق بالمسافة التي أقامها شيكسبير بيننا وبين أبطاله، وهي التي تعني
هنا تحاشي التوريات الساخرة عند تشوسر. ولكن شيكسبير يحاكي تشوسر في إتاحة النصر
لآرسايت، والإشارة إلى أن ثيسيوس يصر على الاستعداد لإعدام بالامون ومساعديه الأبطال
الثلاثة. ولكن جواد آرسايت يلقي براكبه المنتصر عن ظهره، ويصاب عندها بجرح قاتل، يجعله
وهو نصير مارس رب الحرب، يبدي كرمه بالتنازل عن إيميليا لبالامون. وما دام شيكسبير قد
أكد أن قلب البطلة في القبر مع فلافينا التي تُوفِّيَت وهي في الحادية عشرة، فنحن لا
نكاد نَغتبِط بالتغير في موقف ربة الحظ. وشيكسبير يمنح الكلمة الأخيرة لثيسيوس الذي
يبدو واعيًا بسخف القضية كلها، بحيث يخلط صوته بصوت شيكسبير:
أرْجُو أنْ يَبْدُو الحُزْنُ عَلَيْنَا يَوْمًا أوْ يَوْمَيْن
حَتَّى نَمْنَحَ كُلَّ مَظَاهِرِ تَكْريمٍ لجَنَازَةِ أرْسَايتْ
ولْنَحْمِلْ أَوْجُهَ عِرْسَانٍ مع بالَامُونْ
أي أنْ يَتَبَسَّمَ كُلٌّ مِنَّا مَعَهُ!
مِنْ زَمَنٍ ما زَادَ علَى السَّاعَة
كُنْتُ شَدِيدَ الحُزْنِ عَلَيْهِ
شَدِيدَ الفَرْحِ بِنَصْرِ الفَارِسِ أَرْسَايِتْ
والآنَ أُحِسُّ الفَرْحَ مَعَ النَّاجِي
وبِقَدْرِ الحُزْنِ السَّالِفْ.
وبشاشة هذه المُراجعة تُؤدِّي إلى الفقرة الختامية الرائعة، التي يختفي
ثيسيوس على ما يبدو، فيها، بحيث نشعر كأنما يودعنا شيكسبير نفسه الوداع الأخير:
… يا سَاحِرَاتِنَا السَّمَاوِيَّة:
ما أَعْجَبَ الذي صَنَعْتُمُوهُ هَا هُنَا بِنَا!
إذْ إنَّ ما يَنْقُصُنَا يُضْحِكُنَا، وما لَدَيْنَا مَصْدَرٌ
لِبُؤْسِنَا
وهَكذَا نَظَلُّ كالأَطْفَالِ مِنْ نَوْعٍ مُعَيَّنٍ.
فَلْنَغْتَبِطْ بِكُلِّ ما يَكُونُ حَاضِرًا
ولْنَتْرُكِ النِّزَاعَ حَوْلَ كُلِّ ما يُجَاوِزُ السُّؤَالْ
ولْنَنْطَلِقْ ولْنَكْتَسِبْ مَلَامِحَ الزَّمَانْ.
ليست تلك الساحرات السماوية، فيما يبدو، فينوس ومارس وديانا، بل إن
المناجاة موجهة إلى شيء ذي طابع هوائي أكبر. لقد صُرِفَتِ الشخصيات الكرتونية الأربع
جميعًا؛ أي بالامون، وآرسايت، وإيميليا، وثيسيوس، ولا يَتبقَّى إلا شيكسبير وإيانا.
فلقد تَعلَّم أن يضحك على ما ينقصه، ويبتئس بما لديه، وهكذا فإن النقص والامتلاك
بالِغَا الخفة، على نحو ما نشعر به في أفضل حالاتنا النفسية عندما كنا أو لا نزال
أطفالًا. ولا يجوز أن نقول إذن «لا يَتبقَّى إلا الصمت» بل ولا أن نقول «لم يَبقَ إلا
اعتدال المزاج»، ما دمنا نواصل الوفاء بوعود لم نقطعها قط على أنفسنا، فإن اكتساب ملامح
الزمان لا يعني مجرد الحفاظ على لحظة خاصة، بل مسايرة كل ما يظل قائمًا على مر الزمن.
لا يبدو لي أن أية أسطر ختامية أخرى كتبها شيكسبير تضارع هذه الأسطر فيما تجلبه من
العزاء والسلوان.